مسرحية لجبران خليل جبران
تنشر للمرة الأولى بالعربية

نقلها عن الإنكليزية
قيصر عفيف

... فقال لها يسوع ألم أقل لك انك إن آمنت فسترين مجد الله. فرفعوا الحجر. فرفع يسوع عينيه إلى فوق وقال يا أبت أشكرك لأنك سمعت لي. وقد علمت انك تسمع لي في كل حين لكن قلت هذا لأجل الجمع الواقف حولي ليؤمنوا انك أنت أرسلتني. ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم يا لعازر هلم خارجاً، فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطة بلفائف ووجه ملفوف بمنديل. فقال لهم يسوع حلّوه ودعوه يذهب.
انجيل يوحنا 40:11-41

جبران خليل جبران الأشخاص: لعازر
أخته مريم
أخته مرتا
أمه
فيليب، أحد التلاميذ
المجنون
المكان: الحديقة خارج دار لعازر في بيت عنيا حيث أمه وشقيقتاه.
الزمان: بعد ظهر يوم الاثنين الذي يلي احد القيامة.

(يُرفع الستار ومريم جالسة على يمين المسرح تحدق إلى التلال ومرتا على اليسار قرب الباب جالسة إلى النول. وفي زاوية الدار في أقصى اليسار، جلس المجنون إلى الجدار).
مريم: (تلتفت إلى مرتا) لا أراك تحوكين. منذ فترة لا تحوكين.
مرتا: أنت لا تفكرين في ما أعمل. كسلي جعلك تفكرين في ما قاله المعلم. يا للمعلم الحبيب.
المجنون: يأتي زمان لا حائك فيه ولا من يلبس ما حاك من قماش. سنقف جميعاً عراة تحت الشمس.
(فترة صمت تطول. لم تسمع المرأتان ما قاله المجنون. لا تسمعانه أبداً).
مريم: نحن في ساعة متأخرة.
مرتا: نعم، نعم اعرف أننا في ساعة متأخرة.
(تطل الأم خارجة من باب الدار)
الأم: هل عاد؟
مرتا: لا يا أماه، لم يعد بعد.
(تنظر النساء الثلاث باتجاه التلال)
المجنون: هو نفسه لن يعود. ما قد ترونه ليس غير نَفَس يجاهد في جسد.
مريم: يبدو لي أنه لم يعد بعد من العالم الآخر.
الأم: إن موت المعلم أثّر عليه كثيراً. فمنذ أيام لا يأكل، وفي الليل لا ينام. أنا متأكدة إن موت صديقنا وراء كل ذلك.
مرتا: لا يا أماه. ثمة شيء آخر، شيء لا أفهمه.
مريم: نعم. نعم. ثمة شيء آخر. اعرف ذلك أيضا. عرفت ذلك من أيام ولكني لا أستطيع إن أشرحه. عيناه أكثر عمقاً. يحدّق إلي كأنه يرى شخصاً آخر من خلالي، محبّ ألا إن محبته لشخص ليس هنا. صامت وكأن ختم الموت لا يزال على شفتيه.
(صمت يلف النساء الثلاث)
المجنون: كل إنسان يرى شخصاً آخر من خلال الشخص الذي ينظر إليه.
الأم: (قاطعة الصمت) أتمنى إن يعود. أمضى مؤخراً الساعات الطويلة وحيداً بين هاتيك التلال. يجب إن يكون معنا هنا.
مريم: أماه، منذ زمن طويل وهو ليس معنا.
مرتا: كان دائماً معنا. غاب عنا هذه الأيام الثلاثة فقط.
مريم: الأيام الثلاثة؟ ثلاثة أيام! نعم يا مرتا، أنت على حق. ثلاثة أيام فقط.
الأم: أتمنى إن يعود ابني من التلال.
مرتا: سيعود قريباً يا أمي. لا تقلقي.
الأم: من عاد من القبر، يرجع من التلال. يصعب عليّ أن أتصوّر يا ابنتي كيف قُتل بالأمس الذي أعاد ابني للحياة.
مريم: أي هذا وأي وجع!
الأم: آه كم كانوا قساة مع الذي أعاد ابني إليّ. (صمت).
مرتا: ولكن يجب ألا يبقى لعازر طويلاً بين التلال.
مريم: سهل على الحالم إن يضيع بين بساتين الزيتون. أعرف مكاناً أحبه لعازر يطلبه وفيه يجلس ويحلم ويستكين. يقع هذا المكان يا أمي قرب جدول صغير لا يصل إليه الا من يعرفه. أخذني مرة معه في الربيع وجلسنا على حجرين كالأطفال والأزهار حولنا. وفي فصل الشتاء كنا نتذكر هذا المكان وكان كلما تحدّث عنه لمع في عينيه نور غريب.
المجنون: بلى، ذاك النور الغريب، ذاك الظل بعيداً عنا مع انه كان دائماً معنا.
مريم: تعرفين يا أمي إن لعازر كان دائماً بعيداً عنا مع انه كان دائماً معنا.
الأم: تقولين أشياء كثيرة لا أفهمها. (فترة توقف) أتمنى إن يعود ابني من التلال، أتمنى أن يعود! (توقف) عليّ أن أذهب الآن فطبق العدس على النار ولا يحتمل المزيد من الطهي.
(تخرج الأم من باب الدار).
مرتا: أتمنى لو أستطيع إن أفهم كل ما تقولينه يا مريم، تتكلمين كأن شخصاً آخر يتكلم.
مريم: (بصوت غريب) أعرف ذلك يا أختي، أعرفه. دائماً ثمة شخص آخر يتكلم عندما نتكلم.
(فترة صمت طويلة. مريم تسهو بعيداً ومرتا تراقبها ببعض الفضول. يعود لعازر من التلال ويدخل من الخلف من الجهة اليسرى. يرمي بنفسه على الحشيش تحت أشجار اللوز قرب الدار).
مريم: (راكضة نحوه) أراك متعباً منهوك القوى يا لعازر. يبدو أنك مشيت مسافة طويلة.
لعازر: (يتكلم وكأنه غائب) نمشي، نمشي ولا نصل إلى مكان، نطلب ولا نجد شيئاً. من الأفضل أن نكون بين التلال.
المجنون: كيف لا، والمكان اقرب إلى التلال الأخرى قدر ذراع فقط.
مرتا: (بعد برهة صمت) لست على ما يرام وتتركنا طوال النهار فنقلق عليك. فرحنا لعودتك يا لعازر. ولكن عندما تتركنا وحدنا هنا تُبدّل فرحنا قلقاً.
لعازر: (يدير وجهه صوب التلال) هل تركتكم طويلاً هذا النهار؟ أعجب كيف تُسمّون لحظة بين التلال انقطاعاً. أحقيقة إني بقيت أكثر من لحظة بين التلال؟
مرتا: تركتنا طوال النهار.
لعازر: دعني أفكر! يوم كامل بين التلال! من يصدق؟
(صمت. تدخل الأم خارجة من باب الدار).
الأم: إني مسرورة لعودتك يا بني. تأخرت والضباب ملأ التلال. خفت عليك يا بني.
المجنون: يخافون الضباب والضباب بدايتهم ونهايتهم.
لعازر: نعم عدت إليكم من التلال. يا للأسف. كل هذا يدعو للأسف؟
الأم: ما هذا الذي تتكلم عنه يا لعازر؟ ما الذي يدعو كله للأسف؟
لعازر: لا شيء يا أمي، لا شيء!
الأم: يا لغرابة ما تقول. لا أفهمك يا لعازر. قلت أشياء قليلة منذ عودتك لكن ما تقوله يبدو غريباً لي.
مرتا: يبدو غريباً حقاً.
(توقف)
الأم: الضباب يتكدّس هنا. تعالوا يا أولادي ندخل إلى الدار.
(تدخل الأم الدار بعد إن تقبل لعازر بحنان كئيب).
مرتا: في الهواء قليل من البرودة وعليّ أن أنقل النول والكتان إلى داخل الدار.
مريم: (جالسة على العشب تحت شجر اللوز تقول لمرتا) لا تصلح أمسيات نيسان لا للنول ولا للكتان. أتريدين أن أساعدك في إدخالها؟
مرتا: كلا، كلا. أستطيع إن احملها لوجدي. كنت دائماً أدخلها لوجدي.
(تحمل مرتا النول وتدخل إلى الدار. وحين تعود لتحمل نسيج الكتان تهبّ ريح تهزّ الشجر ويتساقط زهر اللوز على مريم ولعازر).
لعازر: الربيع يعزينا، والأشجار تبكي لأجلنا. لو تعرف كل الأشياء على الأرض سقوطنا وحزننا لأشفقت علينا وبكت من أجلنا.
مريم: لقد حل الربيع. حتى لو جاء محجوباً بحجاب الأسى يظل ربيعاً. دعنا من الكلام عن الشفقة. لنتقبّل ربيعنا وأحزاننا بالاعتراف بفضلها. ولنتأمل في صمت عذب ذاك الذي وهبك الحياة وسلّم حياته هو. دعنا من الكلام عن الشفقة يا لعازر.
لعازر: الشفقة، الشفقة إن أكون ممزقاً من ألف ألف سنة برغبة القلب. ألف ألف سنة بجوع القلب. الشفقة أن أعود ثانية وبعد ألف ألف ربيع إلى هذا الشتاء.
مريم: ماذا تعني يا أخي؟ لماذا تتكلم عن ألف ألف ربيع؟ كنت بعيداً عنا ثلاثة أيام فقط. ثلاثة أيام قصيرة. إلا أن أحزاننا استمرت أكثر من ثلاثة أيام.
لعازر: ثلاثة أيام؟ ثلاثة قرون، ثلاثة دهور! كل الزمان. كل الزمان مع الذي أحبّته روحي قبل أن يكون زمان.
المجنون: بلى، ثلاثة أيام، ثلاثة قرون وثلاثة دهور. غريب كيف أنهم دائماً يقيسون ويَزِنون، دائماً ساعة شمسية وميزان.
مريم: (بدهشة) الذي أحبته روحك قبل إن يكون زمان؟ لماذا تقول هذه الأشياء يا لعازر؟ انه مجرد حلم كنت تحلمه في حديقة أخرى. إما الآن فنحن هنا في هذه الحديقة على مرمى حجر من القدس. نحن هنا وتعرف يا أخي إن المعلم أرادك إن تكون معنا في هذه اليقظة لتحلم بالحياة والحب ولتكون التلميذ الغيور، والشاهد الحي على مجده.
لعازر: لا حلم هنا ولا يقظة. أنت وأنا وهذه الحديقة مجرد وهم، بل ظل للحقيقي. اليقظة هنا حيث كنت مع حبيبتي والحقيقة.
مريم: (واقفة) حبيبتك؟
لعازر: (يقف أيضاً) نعم حبيبتي.
المجنون: بلى، بلى. حبيبته، الفضاء البكر، حبيبة كل إنسان.
مريم: أين حبيبتك؟ من حبيبتك؟
لعازر: توأم قلبي التي بحثت عنها هنا ولم أجدها. وجاء الموت، الملاك ذو الأقدام المجنحة، وحمل شوقي إلى شوقها وعشت معها في قلب الله. اقتربت إليها واقتربت إليّ حتى صرنا واحداً. كنا كوكباً يتلألأ تحت الشمس وكنا أغنية بين النجوم. كنا كل هذا وأكثر يا مريم حتى جاء صوت، صوت من الأعماق، صوت العالم ناداني، والذي كان موحداً تطاير اربأ، وألف ألف سنة أمضيتها مع حبيبتي في الفضاء لم تحمني من قوة ذلك الصوت الذي دعاني للعودة.
مريم: (ناظرة إلى السماء) أيتها الملائكة المباركة، يا ملائكة الساعات الصامتة ساعدنني على فهم هذا! لن أكون غريبة في هذه الأرض الجديدة التي اكتشفها الموت. تابع كلامك يا أخي. أظن أنني في أعماقي أتابع حديثك.
المجنون: اتبعيه إن كنت تستطيعين أيتها المرأة الصغيرة. أتستطيع السلحفاة إن تتبع المهر؟
لعازر: كنت جدولاً انشد البحر حيث تقيم حبيبتي. ولما وصلت البحر أعادوني إلى التلال لأركض ثانية بين الصخور. كنت أغنية أسرها الصمت أتوق لقلب حبيبي ولما حررتني رياح السماء وأطلقتني في تلك الغابة الخضراء استردني صوت وأعادني ثانية إلى الصمت. كنت جذراً في غابة الأرض المظلمة وصرت زهرة في الفضاء ثم عطراً أرتفع لأغمر حبيبتي فتمسك بي يد وتعيدني جذراً من جديد، جذراً في الأرض المظلمة.
المجنون: إن كنت جذراً تستطيع أن تهرب من العواصف في الأغصان. خير لك إن تظل جدولاً يجري حتى بعد وصولك البحر وخير للمياه إن تجري صعداً.
مريم: (لنفسها) يا للغرابة! يا للغرابة ما يجري. (توجه حديثها إلى لعازر) ولكن يا أخي خير إن يكون الإنسان جدولاً يجري، وخير إن يكون أغنية لم تُغنَّ بعد، وخير أن يكون جذراً في الأرض المظلمة. عرف المعلم كل هذا وناداك لتعود إلينا حتى نعرف إن لا حجاب بين الموت والحياة. ألا ترى انك شاهد حي على البقاء؟ ألا ترى كيف إن كلمة واحدة أطلقت بمحبة تجمع العناصر التي بعثرها وَهْم سميناه الموت؟ آمن، آمن لأن الإيمان معرفتنا الأعمق به وحده تستطيع إن تجد العزاء.
لعازر: العزاء! العزاء الغادر المهلك! العزاء الذي يخدع حواسنا ويسخرنا للساعة العابرة. لن يكون عزاء لدي بل غضب. سأحرق في الفضاء البارد مع حبيبتي. سأكون في الفضاء الذي لا حدود له مع رفيقتي، مع ذاتي الأخرى. آه يا مريم. كنت مرة أختي يا مريم وعرف الواحد منا الآخر حين لم يكن أقرب المقربين إلينا يعرفنا. والآن اسمعيني. اسمعيني بقلبك.
مريم: أسمعك يا لعازر.
المجنون: ليسمع العالم كله فالسماء سُتحدّث الأرض الآن إلا أن الأرض صمّاء، الأرض تقريباً صمّاء، مثلي ومثلك.
لعازر: كنت مع حبيبتي في الفضاء، وكنا كل الفضاء. كنا في النور وكنا كل النور. كنا نطوف على وجه الغمر كما الروح الأزلية. وكان الزمان كله اليوم الأول. كنا المحبة نفسها تقيم في قلب الصمت الأبيض. وفجأة صوت كالرعد، صوت كأنه رماح عديدة تخترق الأثير، صرخ قائلاً: "تعال يا لعازر". وكان للصوت صدى ترجّع في الفضاء. ومع أني كنت مدّ الطوفان صرت جزره، صرت بيتاً منقسماً على ذاته، ثوباً ممزقاً، شباباً ضائعاً، برجاً سقط ومن حجارته المحطمة أقيم نصب. وصرخ صوت: "لعازر هلُمَّ خارجاً"، ونزلت من عرش السماء إلى قبر داخل قبر، هذا الجسد، في كهف مختوم.
المجنون: يا قائد القافلة، أين رجالك وأين جمالك؟ هل ابتلعتها الأرض؟ هل لفّتها ريح السموم بالرمال؟ لا. رفع يسوع الناصري يده وأطلق يسوع الناصري كلمة. أخبرني الآن أين جمالك ورجالك وكنوزك؟ في الرمال حيث لا أثر، في الرمال حيث لا أثر. إلا أن رياح السموم ستعود ثانية وتنبشها. ريح السموم دائماً تعود.
مريم: أوه. انه حلم حبل به على رأس جبل. أعرف يا أخي، اعرف العالم الذي زرته مع أني ما رأيته أبداً. ومع هذا ما تقوله يبدو غريباً. إنها قصة يرويها شخص في القاطع الآخر من الوادي وأكاد لا أسمعها.
لعازر: في القاطع الآخر من الوادي يختلف الأمر كثيراً. هناك لا وزن ولا قياس. هناك أنت مع حبيبك. (صمت) يا حبيبتي. يا حبيبتي، يا عطراً في الفضاء! يا أجنحة منشورة لي! أخبريني في سكون قلبي هل تطلبينني وهل آلمك الانفصال عني؟ هل كنت أنا أيضا عطراً وأجنحة منشورة في الفضاء؟ اخبريني الآن يا حبيبتي هل كانت القسوة مضاعفة. هل كان لك شقيق في عالم آخر ناداك من الحياة إلى الموت وهل كان عندك أم وشقيقات وأصدقاء اعتبرنها معجزة؟ هل كانت قسوة مضاعفة أعطيت ببركة؟
مريم: كلا، كلا يا أخي، ثمة يسوع واحد في عالم واحد. كل الأشياء الأخرى ليست أكثر من مجرد حلم تماماً مثل حبيبتك.
لعازر: (في انفعال كبير) كلا، كلا! إن لم يكن يسوع حلماً فهو لا شيء. إن لم يعرف ما خلف هذه القدس فهو لا شيء. إن لم يعرف حبيبتي في الفضاء لهو ليس المعلم. يا صديقي يسوع، مرة أعطيتني كأس خمر قائلاً: "اشرب هذه لذكري" وغمست كسرة خبز في الزيت وقلت: "كل هذا انه حصتي من الرغيف". يا صديقي، وضعت يدك على كتفي وناديتني "يا بني". قالت أمي وشقيقتاي في قلوبهن "يحب لعازر" وأنا أحببتك. بعد ذلك ذهبتَ لتبني أبراجاً جديدة في السماء، وذهبت أنا إلى حبيبتي. أخبرني الآن. اخبرني لماذا أعدتني؟ ألم تكن تعرف في قلبك العارف إني كنت مع حبيبتي؟ ألم تلقها وأنت تتجول فوق قمم لبنان؟ بالتأكيد رأيت صورتها في عيني حين عدت ووقفت أمامك على باب القبر. وأنت ألا حبيبة لك تحت الشمس؟ أتريد أن يأتي من هو أعظم منك ويفصلها عنك؟ وما عساك تقول بعد الفصل؟ وما عساي أقول لك الآن؟
المجنون: أمرني أيضا إن أعود لكني لم أطعه ولهذا يسمونني المجنون.
مريم: هل لي، يا لعازر، حبيب في السماء؟ هل أبدعت رغبتي كائناً خلف هذا العالم؟ وهل عليّ أن أموت لأكون معه؟ أخبرني يا أخي هل من رفيق لي أنا أيضاً؟ إذا كان الأمر كذلك فما أحلى إن نعيش ونموت ونعيش ونموت ثانية، إذا كان الحبيب ينتظرني حتى أحقق ذاتي وانتظره حتى يحقق ذاته؟
المجنون: لكل امرأة حبيب في السماء. إن قلب كل امرأة يبدع كائناً في الفضاء.
مريم: (تكرر في رفق كأنها تحدّث نفسها) هل من حبيب لي في السماء؟
لعازر: لا أعرف. ولكن إذا كان لديك حبيب، ذات أخرى في مكان ما أو زمان ما وتجتمعين به فبالتأكيد لن يفصلك عنه أحد.
المجنون: ربما كان هنا. ربما يناديها ولكنها مثل كثيرات سواها قد لا تسمع.
لعازر: (يتقدم إلى وسط المسرح) إن ننتظر، إن ننتظر كل فصل حتى يقهر فصلاً آخر. وبعد ذلك ننتظر إن يأتي فصل آخر يقهر هذا. إن تراقب كل الأشياء تنتهي قبل إن تأتي نهايتك - ونهايتك هي أيضا بدايتك. إن تصغي إلى كل الأصوات وتعرف أنها كلها تذوب في الصمت ما عدا صوت القلب الذي يبكي حتى في النوم.
المجنون: تزوج أولاد الله أولاد الإنسان. وبعد ذلك طلّقوهم. والآن يتوق أولاد الإنسان لأولاد الله. أشفق عليهم جميعاً، على جميع أولاد الله وأولاد الإنسان.
(صمت)
مرتا: (تبدو في مدخل الدار). لماذا لا تدخل الدار يا لعازر؟ حضّرت أمنا طعام العشاء. (بشيء من نفاد الصبر) عندما تكون مع مريم تتكلمان وتتكلمان ولا يعرف أحد ما تقولان.
(تقف مرتا لحظات قليلة ثم تدخل الدار)
لعازر: (يُحدّث نفسه كأنه لم يسمع مرتا) ضاع عمري سُدى، تبددت جوعان وعطشان. ألا أعطيتني قليلاً من الخبز والخمر؟
مريم: (تمشي إليه وتضمه بذراعها) سأعطيك ما أردته يا أخي ولكن تعال ندخل الدار فأمنا حضّرت طعام العشاء.
المجنون يسأل عن خبز لا يستطيعون خبزه وعن خمر لا تعرفها جراركم.
لعازر: أقلت لكم إني جوعان وعطشان؟ لست جائعاً لخبزكم ولا عطشان لخمركم. أقول لكم لن أدخل داراً إلا ويد حبيبتي على مزلاج الباب. لن أجلس إلى الوليمة الا وهي بجانبي.
(تطل الأم من باب الدار)
الأم: لماذا لا تزال في الضباب يا لعازر؟ وأنتِ يا مريم لماذا لا تدخلين الدار. أضأت الشموع ووضعت الطعام على الطبق وأنتما في الخارج تثرثران وتلوكان كلماتكما في الظلام.
لعازر: أمي تريدني إن أدخل إلى قبر. تريدني إن آكل وأشرب وحتى أنها تأمرني أن اجلس بين الوجوه المقنّعة وان أتلقّى الزبدية من أيدٍ ذابلةٍ وأستمد الحياة من كؤوس الطين.
المجنون: أيها الطائر الأبيض الذي طار جنوباً حيث الشمس تحب كل الأشياء، ما الذي أمسك بك في الهواء ومن أعادك؟ أعادك صديقك يسوع الناصري لأنه أشفق على الذين لا أجنحة لهم ليطروا معك. أيها الطائر الأبيض، الطقس بارد هنا وأنت ترتجف وريح الشمال تضحك بين لرياشك.
لعازر: تكون في الدار تحت سقف. تكون بين جدران أربعة وشبّاك. تقف هنا من دون إن ترى. عقلك هنا ونفسي هناك. كلكم على الأرض وأنا بكليتي في الفضاء. تزحفون إلى الدور وأطير خلف قمم الجبال. كلكم عبيد، الواحد منكم عبد الآخر وتعبدون أنفسكم. تنامون ولا تحلمون. تستيقظون ولكنكم لا تمشون بين التلال. بالأمس مللتكم ومللت حياتكم وكنت أتوق إلى العالم الآخر الذي تسمّونه الموت. وان كنت قد متّ فلتوقي. أما الآن فاني أقف ههنا في هذه اللحظة متمرداً على ما تسمونه الحياة.
مرتا: (تخرج من الدار ولعازر يتكلم) لكن المعلم رأى أحزاننا وآلامنا وناداك لتعود إلينا وأنت تتمرد. يا للثوب يتمرد على حائكه. يا للدار تتمرد على بانيها.
مريم: عرف قلوبنا وكان رفيقاً بنا، وعندما رأى أمنا ورأى في عينيها ابنها الميت. وقد دفنوه تحت التراب، أسره حزنها. هدأ لحظة وصمت. (وقفة) بعد ذلك لحقنا به إلى قبرك.
لعازر: بلى، كانت أحزان أمي وأحزانكما والشفقة، الشفقة على النفس هي التي أعادتني. كم من الأنانية في الشفقة على النفس وكم من العمق! أقول أني أتمرد. أقول إن الآلهة نفسها يجب إن الا تبدل الربيع شتاء. تسلقت الهضاب توقاً. الا إن أحزانكن أعادتني إلى الوادي. أردتن إن يرافقكم الابن والأخ في هذه الحياة. جيرانكن انتظروا أعجوبة. وانتن وجيرانكن مثل آبائكن وأجدادكن تنتظرن أعجوبة لتؤمن بأشياء الحياة البسيطة. يا قساة القلوب، كم مظلم هو الليل في عيونكن. لذلك تسقطن الأنبياء من مجدهم لتفرحن ومن بعد تقتلنهم.
مرتا: (بشيء من التوبيخ) تقول إن أحزاننا شفقة على النفس. وهل شكواك هذه غير شفقة على الذات. اهدأ واقبل الحياة التي وهبك إياها المعلم.
لعازر: لم يهبني حياة. وهبكم حياتي. أخذ حياتي من حبيبتي وأعطاكم إياها معجزة لتفتح عيونكم وآذانكم. ضحّى بي كما ضحّى بنفسه. (يكلم السماء) أغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون.
مريم: (في رهبة) انه هو الذي قال هذه الكلمات وهو معلق على الصليب.
لعازر: بلى، قال هذه الكلمات عني وعنه وعن جميع المجهولين الذين يَفهمون ولا يُفهمون. ألم يقل هذه الكلمات عندما طلبت دموعكم إن تعيدني؟ رغباتكم لا مشيئته هي التي أمرت روحه إن تقف على الباب المختوم وتحث الأبدية لتسلمني إليكم. إن هذا التوق القديم للابن والأخ هو الذي أعادني.
الأم: (تقترب منه وتضع ذراعها حول كتفيه) كنت دائماً يا لعازر الابن المطيع والابن المحب. ما حصل لك؟ تعال معنا وانس ما يقلقك.
لعازر (رافعاً يده) أمي وأخوتي وأخواتي هم الذين يسمعون كلماتي.
مريم: هذه أيضا كلماته هو.
لعازر: بلى، قال هذه الكلمات عني وعنه وعن جميع الذين اتخذوا الأرض أماً والسماء أباً وعن جميع الذين يولدون وقد تحرروا من قيود الشعب والوطن والعرق.
المجنون: يا رُبّان سفينتي، ملأت الريح أشرعتك فتحديت البحر وطلبت الجزر المباركة. أيّ ريح غيرت اتجاه سيرك ولماذا رجعت إلى هذه الشواطئ؟ أمر يسوع الناصري الريح بنَفَس من نفسه فملأ الشراع الفراغ وأفرغ الشراع الملآن.
لعازر: (فجأة ينسى الجميع، يرفع رأسه ويفتح ذراعيه) يا حبيبتي! كان فجر في عينيك وفي ذلك الفجر كان السر الصامت لليل العميق، والوعد الصامت ليوم كامل، وها أنا اكتملت وصرت وحدة تامة. يا حبيبتي، إن هذه الحياة حجاب بيننا الآن. هل علي أن أعيش هذا الموت وأموت ثانية لأعود إلى الحياة؟ هل على رغباتي إن تتريث حتى تصفرّ جميع الأشياء الخضراء وتعرى ثانية وثانية. (وقفة) لا أستطيع إن ألعنه. ولكن لماذا اختارني وحدي من دون سائر الرعاة للعودة إلى الصحراء من المراعي الخضراء.
المجنون: لو كنت من الذين يلعنون لما متّ صغيراً.
لعازر: يا يسوع الناصري، اخبرني الآن لماذا فعلت هذا بي. أمن العدل إن تضعني حجراًً حقيراً حزيناً يقود إلى أوج مجدك؟ تستطيع إن تُمجّد اسمك بإعادة أي ميت آخر إلى الحياة. لماذا باعدت بين هذا الحبيب وحبيبته؟ لماذا دعوتني إلى عالمٍ كنت تعرف في أعماق أعماقك انك ستتركه؟ (ويصرخ في صوت عال) لماذا، لماذا، لماذا دعوتني من قلب الأزل الحي إلى هذا الموت الحي؟ يا يسوع الناصري، لا أستطيع أن ألعنك! لا أستطيع أن ألعنك؟ بركتي أعطيك (صمت. يبدو لعازر كأن نهراً جرف قوته. يقع رأسه إلى الأمام ويستند إلى صدره. وبعد لحظة صمت هائلة يرفع رأسه ثانية ويبدو وجهه وقد تبدّل فيصرخ في صوت عميق مرتعد) يا يسوع الناصري! يا صديقي! كلانا صُلب. أغفر لي! اغفر لي. عليك البركة الآن وكل الأوان.
(وفي هذه اللحظة يبدو التلميذ راكضاً من جهة التلال)
مريم: فيليب!
فيلب: قام. قام المعلم من بين الأموات وذهب ناحية الجليل.
المجنون: قام ولكنه سيصلب من جديد آلاف المرات.
مريم: فيليب، يا صديقي، ماذا تقول؟
مرتا: (تركض في اتجاه التلميذ وتمسك بذراعيه) كم أنا سعيدة برؤيتك ثانية. ولكن من الذي قام؟ عمّن تتكلم؟
الأم: (تسير في اتجاهه) تعال يا بني. ستشاركنا هذه الليلة طعام العشاء.
فيليب: (من دون إن تؤثر فيه كلماتهم جميعاً) أقول لكم إن المعلم قام من بين الأموات وذهب ناحية الجليل.
(صمت عميق)
لعازر: ليسمعني جميعكم. إن قام من بين الأموات سيصلبونه ثانية. ولكن لن يصلبوه وحده. سأنادي به وسوف يصلبونني أيضا. (يدور، يتلفت مغتبطاً ويسير في اتجاه التلال) يا أمي واحتاي، سألحق بالذي أعطاني الحياة حتى يعطيني الموت. نعم، سأصلب أنا، وذاك الصلب سوف ينهي هذا الصلب. (صمت) سوف أطلب روحه الآن وسوف أتحرر. ولو أوثقوني بسلاسل من حديد فلن يقيدوني.
ولو تعلقت بألف أم وألف ألف أخت بثيابي فلن يوقفوني. سوف أرحل مع رياح الشرق أنّى تروح. وسوف أطلب حبيبتي عند الغروب حيث تجد السلام كل أيامنا. وسوف أطلب حبيبي في الليل حيث ينام كل صباح. وسأصبح الرجل الوحيد الذي عانى الحياة مرتين والموت مرتين وعرف الأزل مرتين.
(ينظر لعازر إلى وجه أمه ومن بعد إلى وجهي أختيه ثم إلى وجه فيليب ويعود فينظر إلى وجه أمه كأنه يمشي في نومه. يدور ويركض صوب التلال. يختفي. الجميع مذهولون يرتجفون).
الأم: يا ولدي، يا ولدي عد إلي.
مريم: إلى أين أنت ذاهب يا أخي؟ عد يا أخي، عد إلينا.
مرتا: (كأنها تحدث نفسها) الظلمة قاتمة ويبدو لي انه سوف يضيع.
الأم: (تكاد تصرخ) لعازر، يا ولدي.
(صمت)
فيليب: ذهب إلى حيث سنذهب جميعاً ولن يعود.
الأم: (تذهب إلى عمق المسرح قرب المكان الذي اختفى منه لعازر وتصرخ) لعازر، لعازر يا ولدي! عُد إليّ!
(صمت. خطوات لعازر المسرعة تضيع في المسافة).
المجنون: ذهب إلى حيث لا تستطيعون الوصول. على أحزانكم إن تبحث عن لعازر آخر. (يتوقف) مسكين لعازر. انه أول الشهداء وأعظمهم.

جريدة النهار
الثلاثاء 31 كانون الأول 2002