زياد خداش
(فلسطين)

في الصباح الباكر جدا، تنهض المرأة الطفلة، مبتسمة دائما، لا تحتاج هذه المرأة إلى منبه ليوقظها، يكفيها نبض زهرة في مزهريتها، أو خفقة جنين في بطن أم جارة لها، أو شهقة شمس صغيرة تبزغ رويدا رويدا من عتمة أفق أو مواء مبحوح لقطة صغيرة جدا ولدت لتوها في بيت الدرج، أو صياح رقيق لعصفور عاشق وضئيل ينادي مستاء على عصفورته التي تأخرت في المجيء، أو أنين فراشة قديمة محبوسة، ومهروسة، منذ أشهر طويلة في صفحات كتاب، المرأة الطفلة، تفيض بالبراءة، والثقة الهائلة بالعالم، ولو حدث و ان تعثرت بشيء ما، ملاءتها أو كتبها، مثلا، تنحني بوداعة غزيرة، وترسم قبلة اعتذار حميمة على الشيء الذي تعثرت به، فيندلع فجأة في هذا الشيء، مطر حب لا ينقطع، العالم نائم، خشنا ومعاديا يغط في مؤامراته وجرائمه، وحساباته، تتكئ المرأة الطفلة على حافة شرفتها، المطلة بهدوء،و إصرار على شارع صامت، هذا هو أجمل أوقاتها، هي سيدة العالم الآن، أميرة أشيائه : الشوارع والنجوم والحدائق، صمت عميق، هدوء غريب، الآن يهطل داخلها حنين غامض إلى مدن بعيدة تناديها، كائنات مختلفة، عاشت معها ذات قرون بعيدة، لا تتذكر ملامحهم الآن، لكنها تتذكر انهم مصنوعون من نور وموج وليل، وشجر وشواطئ، وما ان تشرق الشمس، وينهض البشر يفركون عيونهم بأيدهم الفظة، يستعدون ليوم صاخب بالركض، وحافل بالسباب والصياح والقلق، وتتحرك العربات زاعقة ومستعجلة إلى مصالحها، وغبارها ودخانها المسموم، يموت أنين الفراشة، وتختفي العصافير ويندثر نبض الزهور وتصمت الأجنة في بطون الأمهات خوفا أو احتجاجا،، وتترك المرأة الطفلة الشرفة، تستعد ليوم عمل، في الشارع تمشي المرأة الطفلة وكأنها تسير في حقل ألغام فأينما تتحرك يلاحقها الناس بالعيون والإشارات، لاتفهم المرأة الطفلة ما الذي يريده الناس في الشارع منها، هي تبتسم لهم فيزادون ابتسامات ويلتهبون كلمات، وحركات، المرأة الطفلة لا تعرف كيف تتصرف، هي لا تحس بإزعاج، لكن شيئا ما يقلقها لا تعرفه، بودها ان تجمع كل هؤلاء الرجال الغريبين في الشارع، وتقول لهم انها تحبهم تماما كأبيها كصديقاتها، كقطتها، كمزهريتها، وشرفتها وفراشتها الميتة، كما تحب فيروز والسفر والهدوء الفجري، الشفاف والندي، لا تعرف المرأة الطفلة المعاني السيئة للأشياء، والتصرفات، لا تعرف ان ابتساماتها البريئة، ستحسب عند بعض الرجال سقوطا واستجابة لغريزتهم الجاهزة دائما والمتحفزة لانقضاض، لا تعرف ان وقوفها مع صديقة أو صديق تضحك ،أو تحرك بعفوية، سيحسب عند الرجال وقاحة وعيبا، المرأة الطفلة، لا تستطيع ان تفهم قلق أخيها أو صديقتها أو أبيها من براءتها الزائدة عن اللزوم،، صح أنت بريئة، بس الناس راح يفهموك غلط
لو كنا في بلد آخر متحرر، ولا ملاحقات أو حسابات فيه، والناس شبعانة جنس، لما قلقنا عليك، الرجال هنا وحوش، وبسبب براءتك ستفقدين مستقبلك ولن تتزوجي،

تستغرب المرأة الطفلة هذه الكلمات، اذ كيف تغير طبيعتها، انهم بذلك، كأنهم يقولون للفراشة كوني يا فراشة ذئبا،، أنا لا أفهمكم، لا أفهمكم، وتلوذ المرأة الطفلة، بغرفتها حزينة، تنتظر هبوب مملكتها، الفجر القادم، لتتكئ على شرفتها، تصغي برهافة وحب وبراءة لأنين الفراشة المهروسة في الكتاب، فتتألم، وتبكي بصمت، تتمنى لو يعيد التاريخ نفسه، لتمنع أخيها من هرس الفراش بين الصفحات، فيأتي الفجر، بكائناته وأجنته وعصافيره وزهوره، وعذبوبته البضة، ينام العالم، يحل السلام، يموت الغبار، آه لو يتجمد الوقت،: آه لو تغفو الشمس السنوات، تهمس المرأة الطفلة، وتتحرك باتجاه الكتاب، تفتح على الصفحة التي تنحشر فيها الفراشة الميتة بجسدها المهروس، تمسك المرأة الطفلة بالجسد الميت والرقيق، الذي يكاد يذوب بين أصابعها تقربه من عينيها العميقتين، الخرافيتين، العينان مبتسمتان كما هما دائما، جسد الفراشة يتحرك، الرأس النائم الصغير ينهض من إغماءة طويلة، والأجنحة الهشة تخفق خفق، مولود جديد، يا الهي، تهمس الطفلة، أو يهمس الليل، أو يهمس العصفور :

ما الذي يجري؟؟
الفراشة تعود إلى طبيعتها، زرقاء ومحبة للحياة وبريئة
تعود الطفلة إلى الشرفة، ممسكة الفراشة من جناحها الأيمن، تمد يدها وتطلق سراحها، تطير الفراشة إلى، حياتها، حقولها، أخوة آخرين، إلى الخطر، النور، الموت، إلى كتب أخرى تهرس في صفحاتها،

ziadkhadash@hotmail.com


أقرأ أيضاً: