أحمد بشير العيلة
(فلسطين)

أحمد بشير العيلةما بين موتٍ لا يجئ وبين موتٍ واقفٍ
نحتاج موتاً ثالثاً للموت
وموتاً رابعاً للصحو
نجبلُ ما تقدم من نهاياتٍ بقائمة الوفيات الطويلة
ونخلط ما ترافق من جنازاتٍ بأرحام النساء
نهران يلتقيان في دلتا سريرٍ من ضباب
نام الرئيسُ على تحيته وغاب
نام الرئيسُ على الدخانِ
في دلتا تؤجج نفسها من ساعديه
دلتا توزِّعُ ، قرب باريسٍ ، ودائعَها وتذهبُ
في خطوط يديْن عاليتيْن في المنفى الأخير
ومن خطوط الطائرات تُصاغ أوردة الغبار
تحاصركَ المنيةُ في سُوارك
وتُخرِجُ من تواريخ الحصار رؤوسَها
قل لها :
          " لاشيء يُفزعنا سواكِ
          لاشيء يُفرحنا سواكِ"
هذا الترافق والتداخل والتطابق والتراكب
يرتاد شيئاً من خلايانا
يسجد للسنابل وهي تبكي
في ركام رئاسةٍ من فضةٍ ومن انكسار
هذي مواقيتُ الحيود عن الضلوع
كيف يمسِك خيطنا الضوئيّ
كُتَلَ المراجع والذخيرة
كيف نحبس إصبعاً في فوهاتٍ ذابلة
كيف نُنقص ما تبقى من سماءٍ ما يناسبُ قامةً
ذابت على سطح البكاء الساخن الذريّ
كيف نرجع من (مقاطعةٍ) تمرُّ من الثقوب ولا يمرُّ هواؤنا
كيف نسمع قبلةً صبغت تراباً لا ينام
كيف نفتحها الجفونَ ولا احتمالٌ للظلام.

قشِّر جنودك من كآبتهم
وطرّزهم على الجدران
آخر الكلمات لم تخرجْ لمؤتمر صحافيٍّ صباح اليوم
مرصدٌ فلكي في ( ناسا)
سجّلها على نجمٍ بعيد
باحثٌ في الطيرِ لم يعرف
ضياعَ السرب عن هدفٍ الرحيل
قوة الزلزال في الأصنام
تُعرِّف ( ريختر) الثورات
آخر الكلمات لم تنجُ من الهمِّ الفلسطينيّ
فارتحلت بعيداً في فرنسا
حيث النوافذ آخر الجند المحاصِر للذبول
آخر الكلمات
سجلها البخار على الزجاج
طبيبٌ في المكان
لاحظَ الطير تحطُّ على نقاطٍ من بخار
ترتوي... وتغيب عنه
ثم تأتي مرةً أخرى وتلعق ما تجدد من بخار
صورةٌ للمشهد الطوليّ قد نُشِرت على ( الياهو)
وواجهة ( الجزيرة)
أي تعليقٍ سيكتب هؤلاء
نحن أدرى بالعصافير الحميمة من سوانا
نحن أسياد الكلام وأرباب الحمام
وبوصلة الطيورِ
وأعشاش الأعالي
عرافون في لغز اللقالق و الحُبارَى والقطا
نحن من يسحب سرباً كاملاً بخيوط طائرةٍ ملونةٍ
تُجَرُّ من الشمال إلى الجنوب
هذي الطيور لغاتنا
لُعبتنا
طريقتنا المفضلة الأخيرة في التحادث
موضتنا الضليعة في التراث
لباسنا الشتويّ
ونهوضنا الصيفيّ
وجنوننا وبكاؤنا وجنودنا وأداؤنا
دفاترنا الصغيرة
فواتير الحساب
قنديل الغياب
تراتيل الصوامع والمدامع
هذي الطيور
خُلِقَتْ طويلاً من صلاة العصر
وماتت في فرنسا.

أي نهرٍ سوف يجري
بعد انسحابٍ ياسرٍ من مقلتينا
أيُّ مجرى سوف يسحبنا من الشعرِ إلى الشعر
من النبضِ إلى النبض
الموت يأكل نصفنا
رفقاً...
تعِبنا من ثقافات الرحيل
رحل الجدودُ إلى نهاية نسلهم
والنسلُ يرحل للجدود بلا مسير
رحل الصغارُ إلى نهاية نبضهم
والنبض طيرٌ لا يطير
رحلت قُرانا للشرايين المهيضة
ولا طريقٌ للنموِّ على تحيات العبور
رحلت حجارتنا إلى سحبٍ كثيفة
رحل السحاب إلى دفاترنا
رحلت دفاترنا لأضلاع الرفوف
رحلت رفوفٌ من دخانِ مجرةٍ ببكاء طفل
رحل البكاءُ عن العيون
رحلت عيونٌ
كم من الأعين ضاعت
وهي مصدرنا الوحيد من التمائم والمشاهد
رحلت بلادٌ للبلاد
دخلت خلايانا الخرائطُ والمفاتيحُ العتيقة
والبوصلات
كم فيكِ أيتها الخلايا من حديدٍ ونحاسٍ وورق
كم تحملين من الوسائد والقصائد والبلايا
كم تثقلين سيتوبلازمكِ بالحكايا
كم تقدرين وتقدرين وتقدرين
كم نام في هذي النوِّيات جنودٌ وسرايا
كم من الجدران مضروبٌ عليكِ
لا طير يفلتُ من نواتك
لا شعر يُنثَر كالشظايا من حصاتك
أيها المسكون بالأقداسِ والأقواسِ
والقبلاتِ والآهات
وقيامِ دولتنا التي تعبَ القيام ... ولم تُقام
لا تنتهِ يا سيدَ الطين بطينكَ وهو يبكي
لا تنتهِ
لا ريح هزّ جبالنا يا شيخنا الجبليّ
أرسيتَ فينا ما يفتّ الريحَ من حممِ الجروح
لا تنتهِ
وهناكَ شبلٌ من سلالتنا يحاصرهم
لا تنتهِ
تلكَ ( المقاطعةُ ) احتمالٌ للتعبّد والتحصّن والنفير
لا تنتهِ
يا فاتحَ القدس بأيدٍ لا تجيء
هذي طيورك غادرت
جسداً مليئاً بالبواخر والطعون
هذي طيوركَ تعبر البحرَ إلى بحرٍ فبحرٍ فاكتمال
هذي طيوركَ تستردُّ جناحها من آخر الكلمات لك
هذي طيوركَ إنها
تقتاتُ من سحب الطريق
وتمر من أضلاعنا فجراً
فلا تقلق عليها.

هذا رئيسٌ
عرَّف الكلمات والبلدان والأحجار
لم يُبقِ على حجرٍ إلاّ وعرّفه
عرَّف الشطآن والطيران والأنهار
عرَّف التوراة والإنجيل والرُّقيه
و عرَّف شُرفة التقوى
عرَّف الخطوات والأصحاب والأعداء والصلوات
والأخبار والأذكار
عرَّف كلَّ شيءٍ... كلّ شيء
غير أن الموتَ عُرْفٌ لا يُعرّف
غاب العجوز
ليتم دورته لتعريفٍ أخير
غاب العجوز
في رحلة الكشف الرهيبة
ليُتِمّ موسيقى الحقيقة
ليعرِّف الموتَ بشكلٍ لا يليق سوى بنا
مهمته الرئاسية
تُتَوَّج بالتعاريف الأنيقة
للموتِ تعريفٌ وحيدٌ لم يبُحْ به
أغمض العينين في غيبوبةٍ كبرى
كلّ هذا الكائن الثوريّ والجويّ والنجميّ يغفو
قشِّروا غيماً تكدّس فوقه
كلماته تطفو على لغة الجياد
طيورُ الرئيس
تفكّ طلاسم كاملةً في زجاج الغيوم
طيور الرئيس
تلمُّ مناقيرها أدمعاً في نهايةِ حربٍ ضروس
وتخفضُ أجنحةً فوق يافا بلمسِ الرسيس
فتنقر بيروتَ هنا
وأوسلو هناك
وغزة
تنقر كل العواصم
          وقد أتعبتها العواصمُ
تنقر روما
وقاهرةً
تنقرُ تونسَ
تنقرُ .. تنقرُ علَّّ الرحيق
يبلِّلُ ألسنةً أحرقتها المرارة
طيور الرئيس
هل تسمعُ اللغةُ العربية أصواتَها في حصار القواعد؟
طيور الرئيس
تحجُّ إلى جسدٍ غائبٍ في الحقائق
وتغفو الحقيقةُ في رتبةٍ رابعة
تلمُّ الطيورُ مناقيرها من هواءٍ يحيطُ بأسرارها
فتنقرُ باب الصعود
رتبةً .. رتبةً لتعود
تنامُ الحقيقةُ
لكنها لا تموت.

5/11/2004

Ayla_bou@yahoo.com
aylabou@hotmail.com


إقرأ أيضاً:-