إنجاز: صباح زوين خراط

مـقـدّمـة

أجيال كثيرة ومتنوعة توالت وتراكمت في المشهد الشعري اللبناني الحديث، مشهد يمتد تاريخه على ما يقارب الخمسة عقود، أي منذ أواخر الخمسينات إلى يومنا هذا. وإذا كان جبران خليل جبران أتى بالأثر الأول في جديد الكتابة من أميركا في فجر القرن العشرين، فإن الحركة الكبرى والتأسيسية قامت على يد يوسف الخال، الذي هو أيضاً أقام في أميركا في خمسينات القرن الماضي وعاد إلى بيروت بجديده، بالأثر الثاني والأكبر، تاركاً بصماته على أجيال بأكملها من خلال الترجمات التي قام بها عن الإنكليزية .
إذاً كما هو معلوم ولن نردّد مطوّلا الحكاية ذاتها في كل مناسبة، كانت "شعر"، مجلة يوسف الخال، هي البداية التأسيسية في الحركة الشعرية التجديدية التي ظهرت في أواخر الخمسينات ولا تزال آثارها حتى اليوم، بطريقةٍ أو بأخرى، راسخة في أذهان وكتابات الشعراء اللبنانيين الذين افادوا منها بطريقة مباشرة وغير مباشرة. كذلك انضم إلى المجلة آنذاك شعراء عرب كثر، وقد جذبتهم أجواء الحرية التي دائماً عرفتها بيروت. كانت إذاً مجلة "شعر" كما مدينة بيروت، ملاذاً آمنا للحريات الشعرية والفكرية على انواعها. فبينما كانت (ولا تزال) تعيش سائر المدن العربية أشرس الحروب بين أحقية وأولوية وأصدقية القصيدة الكلاسيكية على الحديثة منها، كانت بيروت تنعم بثورة الكتابة الشعرية الحديثة، متمرّدة ومتحركة بكل حرية ضمن الأسلوب الشعري الذي رأته مناسباً وملائماً للعصر. لا بل، وخلافاًً لما شهدته العواصم العربية، وهذا منذ البداية، تعايشت القصيدة الكلاسيكية وقصيدة النثر في لبنان في جو من الديمقراطية والقبول المتبادل والهادئ والعقلاني. أما السبب الرئيسي لإدراجي شعراء قصيدة التفعيلة جنباً إلى جنب مع شعراء قصيدة النثر في هذه الأنطولوجيا، فلكونهم أولاً شعراء أساسيين في الساحة الثقافية اللبنانية، وثانياً، وفي أي حال هذه هي النقطة الأهم، لكونهم يكتبون قصيدتهم بلغة جديدة الى حد كبير. إذا ً أولئك الشعراء حاضرون، كما هم حاضرون شعراء قصيدة النثر.
ومن باب الصدفة، معظم شعراء التفعيلة في هذا الملف بدأوا ينشرون في السبعينات من القرن العشرين، ما عدا الياس لحود الذي نشر كتابه الأول سنة 1962، وخليل حاوي الذي نشر ديوانه الأول "نهر الرماد" سنة 1957 ويعتبر من أهم كتبه.
وبما أن الأنطولوجيا، اعني كل أنطولوجيا، ليست دفتر إحصاءات، سوف تظلّ ناقصة، وهذا مصير كل ملف شعري مهما حاول أن يكون شاملاً. لكن من جهة أخرى، حاولت في هذا الكتاب أن أجمع معظم الشعراء الذين لهم حضور ثقافي في الساحة الشعرية اللبنانية. فأولئك الشعراء يمثّلون بطريقةٍ أو بأخرى، وكلٌ انطلاقاً من لغته، الشعر اللبناني الحديث.
أودّ أن أذكر من ناحيةٍ أخرى أني أدرجت الأسماء حسب أسبقية تاريخ صدور أول كتاب لكل شاعر، وذلك لكي اخرج عن نمط الترتيب التقليدي الذي يعتمد النظام الأبجدي، أو أيضاً كي لا اقع في مطبات الترتيب الأفضلي والأولوي الذي يعتمد أولوية الأهمية الشعرية او الأدبية للشعراء. وأعتقد أن الأسماء التي اخترتها تمثّل كل الأجيال اعتباراً من بدايات الروّاد في أواخر الخمسينات وبداية الستينات وصولاً إلى الألفية الثالثة، كما انها تمثّل التيارين الشعريين
البارزين ، اي قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة.
من هنا، وعودة الى البدايات، تكوكب حول مجلة "شعر" إذاً شعراء مميّزون فكان لهم العطاء الكثير في الشعر والترجمة، وذلك ما بين أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. فبرز شوقي أبي شقرا (الذي تولّى في ما بعد وخلال ثلاثة عقود ونيّف مسؤولية الصفحة الثقافية في جريدة "النهار" فأكملت وعبّدت الطريق التي شقّتها مجلة "شعر") وأنسي الحاج الذي انضم أيضا الى المجلة ( وفي ما بعد عمل رئيس تحرير جريدة "النهار" خلفاً لوالده لويس الحاج)، وفؤاد رفقه، وسواهم من العرب أمثال أدونيس ومحمد الماغوط والسيّاب وسركون بولس، ألخ.
يمكن القول إنّ هذا الجيل الأول والرائد في القصيدة الحديثة، إضافة الى كونه وريث اكتشافات يوسف الخال، هو أيضاً وريث جبران خليل جبران، وكان لهذا الوريث الشعري الرائد في الستينات أن يصنع بيديه جيلاً جديداً من القصيدة المغايرة.
في الجيل الثاني، أي في سبعينيات القرن العشرين، برزت كوكبة من الشعراء المهمّين على صعيد تأسيسٍ آخر للبنية الشعرية، خارجين على ما سبقهم من تجارب لبلورة خصوصية كتابية تمكّنت من القصيدة الحديثة فاستقلّت بها جاعلة منها صوتاً متفرّداً، أي متخطّياً تجربة الستينات، وأبرزهم، عبّاس بيضون.
الجيل الثالث، أي جيل ثمانينات القرن العشرين، أتى كخلاصة للجيلين السابقين حيث كل شاعرٍ، من ناحيةٍ أخرى، خاض تجربته الكتابية الذاتية، فتفرّعت الأنماط وتفرّقت على غرار شعراء الجيلَين السابقَين، لكن بعيداً عن أي محوريّة أي عن أيّ مجلةٍ أو حركةٍ شعرية ذات برنامج أو مشروع يضم حوله شعراء معينين كما فعلت مجلة "شعر".
الجيل الرابع أي شعراء التسعينات، خرجوا بدورهم، على ما أدرجه الجيل السابق من كتابة، فخاضوا تجربتهم حسب رؤيتهم الخاصة بهم إلى الحياة والكتابة، وغالباً ما اهتمت بكتابة التشييء وتفاصيل الحياة اليومية. وأعني بشعراء التسعينات أولئك الشباب الذين هم من مواليد السبعينات وأواخر الستينات. لكن يجب التمييز بينهم وبين شعراء آخرين في هذه الأنطولوجيا ممّن بدؤوا ينشرون أيضاً، من باب الصدفة، في التسعينات، رغم أنهم من جيل آخر، اي من مواليد الثلاثينات والأربعينات (وأذكر منهم قيصر عفيف وهنري فريد صعب ورلى صليبا ونور سلمان وغيرعم)، وقصيدتهم مختلفة طبعاً عن قصائد الشباب اولئك.
أمّا جيل أواخر التسعينات والألفية الجديدة فتتراوح تجربته بين متابعة نمط التشييء وبين محاولة الخروج عنها قليلا ً إلى فضاءاتٍ مختلفة بعض الشيء.
شعراء قصيدة التفعيلة، في معظمهم، ينتمون إلى سبعينات القرن العشرين. وإذا حرصتُ على إدراجهم في الأنطولوجيا كما قلت اعلاه ، فلأنّ قصيدتهم، على غرار قصيدة النثر التي يكتبها زملاؤهم، هي حديثة النبرة الى حد كبير، وذلك من حيث اللغة التي يستعملونها، وهي لغة نضرة وحيّة بعيدة عن الخطابة والأطناب والبلاغة.
إذاً أردت لهذه الأنطولوجيا أن تكون مرآة للشعر اللبناني الحديث في شقّيه النثريّ والتفعيليّ ومعظم الأسماء التي اخترتها لها حضورها ولو المتفاوت وذلك حسب كل شاعر، في المشهد الشعريّ اللبناني، كما في النشاط الثقافي.
من ناحيةٍ أخرى، هذه الأسماء التي اخترتها للأنطولوجيا، عرفتها على مدى سنوات، عبر مراحلها الشعرية المختلفة، بل تعرّفت إليها عن كثبٍ من خلال عملي الصحافيّ حيث نشرت مراجعاتي حول العديد من هذه الدواوين.

صباح زوين
17 أوكتوبر 2007

***

يوسف الخال

  • 1917-1987، مؤسّس مجلة "شعر"، بدأ ينشر سنة 1944، من

مجموعاته الشعرية:

  • الحرية (1944)
  • البئر المهجورة (1958)
  • قصائد في الأربعين (1960).

الحوار الأزليّ

متى تُمحى خطايانا؟
متى تُورق آلامُ المساكين؟
متى تلمسنا أصابعُ الشكّ؟
أأمواتٌ على الدرب ولا ندري؟
توارينا عن الأبصار أكفانٌ
من الرمل، غبارٌ ذرّه الحافرُ
في ملاعب الشمس.
تقول لي:
أنا لمّا أزل طفلاً، تأملني
فللطوفان آثارٌ على قميصيَ الرطب،
وفي عينيّ أسرار
عذارى لم تفق بعد، تباريحٌ
سكبنَ الدمعة الأولى، جراحات
ملأن جسميَ الغضَّ وما زلنَ.
أعطشانٌ؟ خذ الصخرة واضربها،
أفي العتمة؟ دحرجها عن القبر.
وإما عضّك الجوع فهاك المنّ والسلوى،
وإما صرتَ عرياناً
فخذْ من ورق التين رداءً
يستر الإثم، يواريه عن الناس.
وفي التجربة الكبرى
تصبّر صبر أيوبٍ ولا تهلع
إذا ما استفحل الشر:
صليبُ الله مرفوعٌ على رابية الدهر.
وفي الشطّ منارات متى ضاءت
ضربنا جبهة الفجر بأيدينا، وفجَّرنا
من الصخرة ماءً يجرف الرمل
إلى البرح. وفي الأفق جناحا طائرٍ
حطّا على جمجمة الليل،
وفيه نجمةٌ سمراء تروي قصة
المزود للرائح والغادي. وفي السرّ،
متى يعرى، إلهٌ ملأَ العينَ،
إلهٌ لم يمتْ بعدُ، إلهٌ سكبَ
الحبّ على الجرح.
وفي دربي
تماسيحُ وأشباه تماسيحٍ،
وبومٌ ملأ الدار، وغربان،
وغيمٌ أسود ينذر بالطوفان، بالموت
على قارعة الدرب: عظامٌ يبستْ
في الذلّ، في الوحدة، في الآن.
وهذا الزاحف العاري أإنسانٌ؟
أإنسانٌ على شاكلة الله؟
أراه قُدَّ من لحم الشياطين،
أراه ذبح التنين في الغاب وأجرى
دمه في الأرض يروي
غلَّةَ الظامئ للفتح، لكونٍ
يبدأ البدء به بعدُ.
أراه حمل الأرض بكفَّيه،
رماها في الدهاليز، بنى كوخاً
من الفولاذ لا يدركه الموت
أو السرّ. أراه أفرغ البحر
بعينيه، وأخفى رأسه في الرمل
خوفاً من أعاديه: ترى، هل يبصر
الأعمى أعاديه:
عروقٌ لم تعد
تنبض بالحب أو البغض،
لسانٌ ناطقٌ إلا
بما كان له النطق،
وعقلٌ تاه في الدرب، ولا دربُ.
عبيدٌ نحن للماضي، عبيدٌ نحن
للآتي، عبيدٌ نرضع الذلّ
من المهد إلى اللحد. خطايانا؟
يد الأيام لم تصنع خطايانا.
خطايانا صنعناها بأيدينا:
لعلّ الشمس لم تشرق لتحيينا:
هنا مقبرة النور، هنا الرمل،
هنا يستنسر البغاثُ، تفنى القمحة
الأولى. هنا ينعدم الشكّ،
يموت القول في الألسنة الحقّ.
صليب الله لم يمحُ خطايانا،
فهل تُمحى إذا ما سابق
الريح جناحانا، إذا ما انفضّ
ختم السر أو دانت لنا الدنيا؟
غدي ضربُ مواعيدٍ مع الوهم،
وهذا شأن أجدادي من البدء:
غراب البين لم يرحم ضحايانا
ولم ينهض من القبر سوى الله،
سوى شيءٍ هو الله. أكلنا لحمه
خبزاً، شربنا دمه خمراً،
فما أشبعنا الخبز
ولا أسكرنا الخمرُ.
وهلاّ ينفع الضوء
إذا ما خُبِّئَ الضوء بمكيال؟

***

خليل حاوي

  • (1919-1982). بدأ ينشر سنة 1957.

دواوينه:

  • نهر الرماد (1957)
  • الرعد الجريح (1979)
  • بيادر الجوع (1965)
  • نشأ في قرية ضهور الشوير
  • وعلّمَ في الجامعة الأميركية في بيروت.

بعد أن عانى دُوار البحر،
والضوء المداجي عبر عتمات الطريق،
ومدى المجهول ينشقّ عن المجهول،
عن موتٍ محيق
ينشر الأكفان زُرقاً للغريق،
وتمطّت في فراغ الأفق أشداق كهوفٍ
لفّها وهج الحريق،
بعد أن راوغه رُماه
الريح للشرق العريق.
حطّ في أرضٍ حكى عنها الرُّواة:
حانةٌ كسلى، أساطير، صلاة
ونخيلٌ فاتر الظلّ رخيُّ الهينمات
مطرحٌ رطبٌ يُميت الحسَّ
في أعصابه الحرَّى، يميت الذكريات،
والصدى النائي المدوِّي،
وغوايات المواني النائيات.
آه لو يسعفه زهدُ الدراويش العُراة
دوَّختهم "حلقات الذكر"
فاجتازوا الحياة.
حلقات حلقات
حول درويشٍ عتيق
شرَّشتْ رجلاه في الوحل وبات
ساكناً، يمتصُّ ما تنضحه الأرض الموات،
في مطاوي جلده ينمو طُفيليُّ النبات:
طحلب شاخ على الدهر ولبلابٌ صفيق.
غائبٌ عن حسِّه لن يستفيق.
حظُّه من موسم الخصب المدوِّي
في العروق
رُقَعٌ تزرع بالزهو الأنيق
جلده الرثَّ العتيق
- هاتِ خبِّرْ عن كنوزٍ سمَّرتْ
عينَيك في الغيب العميق
- قابعٌ في مطرحي من ألف ألفٍ
قابع في ضفّة "الكنجِ" العريق
طُرُقات الأرض مهما تتناءئى
عند بابي تنتهي كلُّ طريق،
وبكوخي يستريح التوأمان:
الله، والدهر السحيق.
... وأرى، ماذا أرى؟
موتاً، رماداً وحريق...!
نزلتْ في الشاطئ الغربيِّ
حدِّقْ ترَها... أم لا تُطيقْ؟
... ذلك الغول الذي يُرغي
فيُرغي الطين محموماً، وتنحمُّ المواني
وإذا بالأرضِ حُبلى تتلوّى وتعاني
فورةً في الطين من آنٍ لآن
فورةً كانت أثينا ثمّ روما...!
وهج حمَّى حشرجتْ في صدر فاني
خلَّفتْ مطرحها بعض بثُورٍ،
ورمادٍ من نفايات الزمان
ذلك الغول المُعاني
ما أراه غير طفلٍ
من مواليد الثواني
ويداً شمطاء من أعصابه تنسُلُ
أكفاناً له والموت داني
وتراني
قابعاً في مطرحي من ألف ألفٍ
قابعاً في ضفّة "الكنج" العريق
وبكوخي يستريح التوأمان:
الله والدهر السحيق
أتُرى حُمِّلتَ من صدق الرؤى
ما لا تطيق؟
- خلَّني! ماتت بعَمنيَّ
منارات الطريق
خلِّني أمضِ إلى ما لستُ أدري
لن تغاويني المواني النائيات
بعضها طينٌ محمَّى
بعضُها طينٌ مواتْ
آه كم أحرقتُ في الطين المواتْ
لن تغاويني المواني النائيات،
خلِّني للبحر، للريح، لموتٍ
ينشُرُ الأكفان زُرقاً للغريق،
مُبحِرٌ ماتت بعينَيه منارات الطريق
مات ذاك الضوء في عينيه مات
لا البطولات تنجِّيه، ولا ذكُّ الصلاة.

الكـهـف

وعرفتُ كيف تمطُّ أرجلها الدقائق
كيف تجمد، تستحيل إلى عصور
وغدوتُ كهفاً في كهوف الشطِّ
يدمغ جبهتي
ليلٌ تحجَّر في الصخور
وتركتُ خيل البحر تعلكُ
لحم أحشائي
تغيِّبه بصحراء المدى
عاينتُ رعب زوارقٍ
تهوي مكسَّرة الصدى،
عبثاً يدوِّي عبر أقبيتي الصدى
يلقي على عينيَّ ليل جدائلٍ
في الريح تعول، تستغيث، وترتمي
غبّ انسحاب البحر
يرسب في دمي
سمك مواتٌ،
بعض أثمار معفنة، قشور
ويدي تميع وتنطوي في الرمل،
ريح الرمل تنخرها،
وتصفر في العروق
ويحزُّ في جسدي وما يدميه
سكّين عتيق،
لو كان لي عصبٌ يثورْ
ربّاه كيف تمطُّ أرجلها الدقائق
كيف تجمدُ، تستحيل إلى عصور
يا من حللتَ وكنتَ لي
ضيفاً على غير انتظار
وملأتَ مائدتي
بطيب المنّ والسلوى
سكبتَ الخمر مما ليس تعرفه الجرار
أعطيتني مُلكاً على جنّ المغاور والبحار
ما يشتهي قلبي تجسّده يدي
في الطين يخفق ما تغيّبه الظنون:
حور، يواقيت، عمارات
بضربة ساحرٍ: "كوني تكون"
ألنار تزهر ملء موقدتي
وتثمر، والربيع
يحبو ويفرض غرفتي
غبّ الصقيع
والشمس تأوي من ضباب القُطب
أدفئها، وتمضي مطمئنّه
أني بغيبتها أحرُّ الجمرةَ الخضرا
وأخصب أرضنا من غير مِنَّه
يا مَن حملت إليّ طيب المنّ والسلوى
بسطتَ يدي على جنٍّ
تُجسّد ما أريد
وخجلتُ من فقري،
سفحتُ دمي، ذبحتُ لك الوريد
لا تحتجب بمغاور الأفق
الجمّر والمصفّح بالحديد،
عينايَ سمّرتا على أفق
الحديد بلا جفون
وأخاف من كبريت صاعقةٍ
يفجّر فيهما ضحك الجنون
ما عدت أعرف مَن تكون،
أللعنة الحمراء في شفتي
وفي شفتي التوجع والصلاة،
ألعار يفضح كهفيَ المطويّ
في منفى الكهوف
وها أصيح بمن يرجّي المعجزات
ألساحر الجبار كان هنا ومات؟
من جثة الجبار
كيف تبخّرت خِرَق،
وكيف تكوّرتْ شبحاً غريب
يمضي وتنفضه الدروب إلى الدروب.
أمّاهُ لا تسترحمي
بالدمع في غبش العشية، لن أجيب:
"خلف الكهوف، وخلف صحراء الشواطئ
"معول، حقل، ومكتبة ودار"
- ملكي على جن المغاور والبحار!
ألمنُّ والسلوى
وخمرٌ ليس تعرفها الجرار!
ماذا سوى كهفٍ يجوع، فمٍ يبور
ويدٍ مجوَّفة تخطُّ وتمسح
الخط المجوّف في فتور؟
هذي العقارب لا تدور،
ربّاه كيف تمطّ أرجلَها الدقائق
كيف تجمدُ، تستحيل إلى عصور!

لعازر

1- حفرة بلا قاع:

عمّق الحفرة يا حفّار،
عمّقها لقاع لا قرار
يرتمي خلف مدار الشمس
ليلاً من رمادٍ
وبقايا نجمة مدفونة خلف المدار
لا صدى يرشح من دوّامة الحمّى
ومن دولاب نار
آه لا تلق على جسمي
تراباً أحمراً حيّاً طري
رحماً يمخره الشرش ويلتفّ
على الميت بعنف بربري
ما ترى لو مدَّ صوبي
رأسه المحموم
لو غرّق في لحمي نيوبه
من وريدي راح يمتصّ حليبه
لُفّ جسمي، لُفّه، حنِّطْه، واطمُرْه
بكلس مالح، صخر من الكبريت،
فحمٍ حجري

2- رحمة ملعونة:

صلوات الحب والفصح المغنّي
في دموع الناصري
أترى تبعث ميتاً
حجَّرته شهوة الموت،
ترى هل تستطيع
أن تُزيح الصخر عني
والظلام اليابس المركوم
في القبر المنيع،
رحمة ملعونة أوجع من حمّى الربيع
صلوات الحب يتلوها صديقي الناصري
كيف يُحييني ليجلو
عتمةً غصّت بها أختي الحزينه
دون أن يمسح عن جفنيّ
حمّى الرعب والرؤيا اللعينه:
لم يزل ما كان من قبل وكان
لم يزل ما كان:
برقٌ فوق رأسي يتلوّى أفعوان
شارع تعبره الغول
وقطعان الكهوف المعتمه
مارد هشََّم وجه الشمس
عرّى زهوها عن جمجمه
عتمة تنزف من وهج الثمار،
ألجماهير التي يعلكها دولاب نار،
وتموت النار في العتمة،
والعتمة تنحلُّ لِنار

3- الصخرة:

أنبتِ الصخر ودعنا نحتمي
بالصخر من حمّى الدوار
سمَّر اللحظة عمراً سرمدياً
جمّد الموج الذي يبصقنا
في جوف غول
إن تكن ربّ الفصول.
وإذا صوت يقول
عبثاً تلقي ستاراً أرجوانياً
على الرؤيا اللعينه
وبكت نفسي الحزينه
كنتُ ميتاً بارداً يعبرُ
أسواق المدينه
ألجماهير التي يعلكها دولاب نار
مَن أنا حتى أردَّ النار عنها والدوار
عمِّقِ الحفرة يا حفّارُ،
عمِّقها لقاعٍ لا قرار.

***

شوقي أبي شقرا،

  • 1935، من مواليد الشوف
  • مؤسّس الصفحة الثقافية في جريدة "النهار" تولّى مسؤوليتها خلال 35 سنة بعد أن كان من أوائل المؤسسين مع يوسف الخال في مجلة "شِعر".
  • بدأ ينشر سنة 1959.

مجموعة شعرية:

  • أكياس الفقراء (1959)
  • ماء إلى حصان العائلة (1962)
  • سنجاب يقع من البرج (1971)
  • يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً (1979)
  • حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة (1983)
  • لا تأخذ تاج فتى الهيكل (1992)
  • صلاة الإشتياق على سرير الوحدة (1995)
  • تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة (2004).

الجنّية تنفخ الصابون

يقظتنا تمّت على مسرى النهر
الخفيف الشعرات مثلنا،
والمياه أقل من أموالي
ومن السمكة التي تجمعنا
لتنقذنا من العويل
ومن سرطان الجوع والغضب.
وندبّ جميعاً على الوحل
وبنا داء الرجفة وآفة
التسطّح ولا نندمج في المشهد.
ونركب جندب اليباس
والسرج المتشقّق من جمرة العمر.
وهنا الشفاه منفجرة من الجفاف
خطوطاً ضحلة وتضحك الدماء.
والقراصنة تهدّموا خشبة خشبة.
واندثرت العكّازتان فلا مشوار
على الجسر وفي عبّ الغابة.
واندلق الزيت والملح على مدخل
الجنّة،
على الثياب الواسعة للتمثيل
وعلى مساء الجلاّبية.
والبقع تجلس على البياض
وانطبعت قلّة الراحة وتفاحة الحرمان على المنشفة.
وفتحنا العيون بين الرماح
وكِدْنا نميل صوب الخطر
على الميزان العاثر.
ونحن الأزهار ننحني كالعادة
ونرحّب طويلاً بالعصفور.
ونحن الغصون المحتملة الانكسار،
ونرغب في القناع وصنع المعاطف
من خيطان الشبكة،
وأن نملأ حنجرتنا بالإنتقام،
بأنشودة البذخ في مهبّ الفقر
وفي وجوه الأيتام والمقهورين.
والريح تعزلنا كثباناً منفردة
عن عزاء الآخرين،
عن غيمة الرفاق واللعب،
وصدور المصارعين وروابط الحلبة.
وربما شيء من ماء الورد
ذاك يفيدنا،
وبعض اللطخات والتورّمات
للعثور على نقطة الخرافة،
ولمس العمود الذي وراءه قطّة
أو جنّية تنفخ بالونات الصابون.
ولا ندرك المقام الصاخب
حيث تراب الزوّار ولحن الحجّاج
وحيث ينقصنا الخبز
ما عدا الخمر،
إذ الأجاجين عارمة بنا.
وعلى المسرح يسكر الممثّلون
وعمّال الحبال
والمطر أو الثلج
كما يشاء الصيّادون،
كما يشاء المختارون والأصفياء
والرموز المنقوشة
في بدن الطين.
ومقالع الرخام مباحة للقياصرة.
وعندنا الإزميل السافر
لنشر الخطابة والتجاعيد.
والمطرقة تزعج الطبيعة
وتسترق منها القصائد
والأقاصي من الفنون.
والدفتر يزدحم بالأكاليل
والغار البعيد يحسدنا.
وربما نخفي العري
وربما ينبت لنا نواجذ
ولا نقبل بأي مستعار،
بأي فستان عرس خارج الإبرة،
بأي بدلة ليست من الشجرة،
بأي وشاح يجرحنا
وليس من متاع اليخت،
ولا ينتمي إلى كيسنا المزدحم
بالذاهبين عناداً إلى آخر الأفق،
وما وراء الورقة.

رؤوسنا خارج الأسوار

والحبر الذي ينسكب من لمسة،
ومن تلك العلبة حيث الحرّاس الأقزام والجواهر
الراقدة على الرجاء وحفلة الزينة،
وأن سأدخل المغاور
أدقّ من الإبرة وأضعف من الخيط،
والنحول لأملأ الحفرة،
وأن ألتهم جمهور القاعة
وحصى الازدحام في سوق الكلام،
وأن ألقط بعض الحجارة
المجلوّة على أرغن الزبد وأضبط الهواء بل العاصفة.
وترفض معدتي مؤونة اللصوص
ولن يرقص أحد
قبل أوامري،
والجميع في مقامي زوار وأحرار
وسننطلق إلى النحلة إلى الثمار،
وسأشبع من مسك الليونة وضرب الحطب والإلتواء
في أوان الخطْب ومن الأجساد التي تتمرّن
على الكيس والعناد،
ومن السباحة إلى مدار العشّ،
ولن أندم فالصخرة أدفعها
وتدفعني.
وساعدان يلفّان أولادي.
والمرأة ستعمد إلى القبلة
ثم تلقيها طائرة في الرحابة
والعشاء لا ضيوف، سوانا.
وننفخ بالون الانصهار إلى السطح،
ونحسّ غليان الطبيعة ورشاقة المطر
ونتفيأ في مربّع النوافذ وأعناقنا
إلى خارج الأسوار ونقترب من بلاد النشوة
ومن بقاء العزّ والعلامة
على جبين المرأة
وعلى عمامة القنطرة.

***

أنسي الحاج،

  • 1935، بدأ ينشر سنة 1960.

له ست مجموعات شعرية، منها:

  • لن (1960)
  • ماضي الأيام الآتية (1965)
  • الرسولة بشعرها الطويل (1975)
  • الوليمة (1994) وهي آخر مجموعاته حتى اليوم.
  • وُلِد في قرية قيتولي في جزّين وكان من ضمن مجموعة الشعراء اللبنانيين والعرب الذين انضموا إلى مجلة "شِعر".

بعد غيابٍ طويل
أنتِ البسيطة تبهرين الحكمة
العالم تحت نظركِ سنابل وشجرُماء
والحياة حياةٌ والفضاء عرباتٌ
من الهدايا
أنتِ هدايتي يا الله أضِفْ عمري
إلى عمرها
يا حبيبتي أنتِ الوجه الآخر من التكوين
يا حبيبتي أنتِ الحقيقة
يكون بكِ انفعال وحكمةٌ لي
يكون بكِ لذة وكرامة
يكون بكِ جنونٌ ولجوء
أنتِ عودةُ جسدينا جسداً صالحاً للعناصر
أنا رأسكِ لكنّكِ الهالةُ حول الرأس
لم تعلّميني كالرجال ولا تتسلّطين عليّ
بل تسكتين كمريم العذراء فأُطيعكِ وشرّي
لخضوعك يخضع
منكِ أتعلم وأنتِ لا تُعلّمين
كيف المنيعةُ بالحب تحرس لقاتليها الحياة
كيف المنارةُ صغيرةٌ والعتمُ كبير وكيف
تفرشه الصغيرة
كيف ذات الرّفق عظيمةٌ لا تشكو
وكيف الله
أعطاها الخوف علينا
وترك للكاذبين الخوف.
أيها الرب
إحفظْ حبيبتي
أيها الرب الذي قال لامرأة: يا أمي
إحفظْ حبيبتي
أيها الرب إلهُ جنود الأحلام
إحفظْ يا رب حبيبتي
مَهّد أمامها
تعهَّدْ أيامها
مَوّجْ حقولها بعشب الخيال
إجعلْ لها كلَّ ليلةٍ
ليلة عيد الغد
أيها الرب إلهُ المتواعدين على اللقاء
وراء جسر الحرّاس
أيها الرب إلهُ الخواتم والعقود والتنهدات
يلتمسون منكَ طعامهم وألتمسُ منك
لحبيبتي البرَكَة
يلتمسون منك لديارهم وما من ديارٍ
غير حبيبتي
شاطئي أطرافُ بحرِها وبحرُها أمان
يذهب الناس إلى أعمالهم ومن حبّها
أذهبُ إليك
حنانيكَ يا رب جعلَتْني إليك
أنتَ السابق صلاتي
باركها فوق ما ألتمس منك فعطاؤُك
فيض على الرجاء
جعلَتْني إليك
هي تقول فأقول المجدُ لك
هي تعمل فتجري أنهارضك في قفاري
هي تنظر فأراك
هي تعمل فأتأمّل في معجزاتك
تنتهي لهم الأرض عند أعمدة البحر
وتنتهي لي بحدود قدميها
جعلَتْني إليك فاعترفتُ لك لأنها رنّحتني

***

فؤاد رفقة،

  • 1930- 2011، بدأ ينشر سنة 1961.
  • . علَّمَ في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت.
  • تقاعد قبل سنتَين. أصبح عضواً في الأكاديمية الألمانية للآداب. ترجم أهم شعراء الألمان إلى العربية.

له 12 مجموعة شعرية:

  • مرساة على الخليج (1961)
  • حنين العتبة (1965)
  • علامات الزمن الأخير (1975)
  • كاهن الوقت (2004)
  • خربشات في جسد الوقت (2006)

27 كانون الثاني 2002

من جفنة
في خربة صوفيّة
وردة بيضاء،
للشمس تقدّم النذور
عند الفجر،
وفي المساء
تحت فضاء كثيف الأقدار
تقرأ النجوم

1 نيسان 2002

من أزمنةٍ داكنة القشور
لا قَدَمٌ،
لا تائهٌ في الجوار،
وحدَها نبعةُ الماء
تحت صفصافة خربَته
تغسل عينيه عند الفجر،
وفي الليل
تمدّ له الحصير،
معه تسهر

9 آب 2002

خلفَ ريف الحدقْه
أفقٌ، نجمٌ، وميضٌ
يوقظ البحّار – يمضي
في مياه المدّ والجَزر
وريحٍ قلقه،
صوب غيم الشَّعر
يجتاز المدى
للمحرَقه

11 آب 2002

مرفأ،
مركبٌ يُقلع،
في غبش البحيرة
يرتجف القنديل،
ينوص،
يترمَّد.
لا أحدٌ يعرف متى العاصفة،
متى يعود

23 آب 2002

على مسمارٍ من مكمنه
قوسه ونشَّابه،
لا صيد بعد الآن:
غبشٌ في عينيه،
رجفةٌ في الأيدي،
وفي الأدغال زعيق الكواسر.
على أنقاضه،
على أنقاض مربَضه
غداً يضيء القمر

26 آب 2002

تعود للنَّكر
تمشي هنا – هناك، هائماً
رفاقك الصَّوَر،
توقظ في الحجر
دعساتكَ القديمه،
مشاعلاً ترمَّدت
في موقد العُمُر.
كغيمةٍ مثقَلةٍ
بالحزن، بالهزيمه،
تعود، يا بيدر،
تعود للنَّكر

29 آب 2002

في الحلم يتحوّل إلى شاعر
إلى كاهن
إلى قديس
والقديس إلى شجرة
تحت فروعها يركع
يحرق البخور،
وعند الشفق،
يفتح عينيه،
يتمرأى،
يرى حطّاباً
في رأسه ريشة
من قنافذ الهنود الحُمْر

7 أيلول 2002

بالفضاء
حين يلتحم القلب
لماذا يتعثّر اللسان،
يسقط القلم
تموت الورقة؟

14 أيلول 2002

رغم التجاعيد
لم يمدّ الحصير
لم يوقد الحطب
وتحت العتبة
على كرسيّ عتيق
لم يقعد،
يخاف أن يستريح
فيسقط
كطائرة من ورق
عند سكوت الريح

1 تشرين الأول 2002

سماء شاحبة الأنسام
باردة الزّرقة.
على ورق الكستناء
فوق أحواض برّية
ينشر الخريف لهاثَه،
وفي عيون الشعراء
يفرش المرثيات

28 تشرين الثاني 2002

من نبعة الصبح
يجري إلى الظهيره
يبحث عن خميره،
عن غيمةٍ داكنةٍ
تَقيهِ جمر الملح في الجرح.
وفي المغيب
عيناه أجراس من اللهيب
رنينُها منابعُ الصبح

***

الياس لحّود

1942، بدأ ينشر سنة 1962، من دواوينه : "على دروب الخريف" (1962)، "والسدّ بنيناه" 1967، "شمس لبقية السهرة"، (1982)، "الإناء والراهبة"، (1990)، "مراثي بازوليني / أناشيد لقانا وبغداد"، (1999). وُلِد في جديدة مرجعيون في الجنوب اللبناني. درَّس اللغة الفرنسية واللغة العربية في الليسيه. ثم علَّم لمدة 15 سنة علوم اللغة. مؤسّس مجلة "كتابات معاصرة".

شيء يحدث في الحقل
هنا و... هناك، تماماً بين هنا وهناك
وراء المتعاشق تموز
(المتسرّق خلف طيوب الشمس/
العاقد غيماً حول العُنق/
اللابس قبَّعةً زرقاء)
هنا و... هناك/ تماماً بين هنا و... الناس
عناقيد انكسرت في القلب
محابر من توت العلّيق؟
عناقيد اندلعت في الوجه/
(الوجه يرى في الوجه...)
تماماً
- وأصابع تلهث بين أصابع... ليس لنا غير اللّمسات
أصابعنا
بصمات أصابعنا...
شيء يحدث في الحقل
هناك بأعلى الصمت
يد تستنطق أخرى... وأصابع تخطو بظلال
قبلات أصابعنا أو
شهق الأيقونات العشر المهجورة...
شيء من قطرة برنادا نقطت من توت العلّيقة

قرنفـلة دالـي

قرنفلة في الموت وقهقهة في الصمت...
"ونقهقه والسائق أعمى"
سطقت منا تحت العجلات قوافينا...
ومشينا كل قوافينا
قطّفناها ضُمماً ضُمَماً
أعطيناها للساعي وبطانته
كي يستُفَها البارع لُوركا
خلف الشاحنة الهوجاء
قريباً من حزم الأرواح وباقات القتلى
قريباً ندخل باب الورد وتهدُمُنا في دمعتها غرناطة
... تفتح برنادا زنديها كمدينة ثلجٍ تنهبها العجلات
مدينة ثلجٍ في صرخة برنادا:
كان قماش اللوحة مشدوداً في طول الصوت
ووردة بيكاسّو السوداء تُعَرِّص مثل قميصٍ
يشخب من أقصى بورخيس إلى أعلى التلّة

بيت برنادا قصيدة

شيء من غرفة برنادا قُبَلٌ نقطت
شيء يعزف من لوركا أو ينزف
شيء ضمّده باشلار بأشعارٍ وخواف/
الريش المنتوف/ الأبواب المنحوتة في الفحم
- بربِّك يا حُوذيُّ تمهَّلْ
أسمع صوت فلامنكو قتلاي
كيف يُغنّي مثل يدٍ هؤلاء النزّاحون
كقيثارٍ هُشِّمتُ/ انفلتَتْ أوتاري
صاح مُغنّي الكرفان
- زهوري اندلعتْ
أخذ الناسُ جروحي معهم
هل تُزهر "علّيقة نادا"
أم حجر يصرخ من قلبي المتهدّم في ألف غناء
بين البيت وخطو البيت
قمر يبصم فوق التلّة وجهه

علّيق وادي الحلاّج

تتوالى البصمات
عناقيد التوت البرّي اندلقت
(تعبث روزا بأناملها المخروطة بالطيب
بين أصابعها... في أعلى الفوح أصابعها)
ياقوت هشّمه حوذيُّ اليقظات عناقيد،
فضاء في حبّة ليلٍ – أو حبّة هالٍ "محروقة"
غنّى الصوت الحادي
عشر حماماتٍ صغُرَت في نحت يدين،
مرمر أعمدةٍ مزهرةٍ في معبد عشتار
عناقيد العلّيق اندلعت واخجلاه
(دوق سرفانتس)
هذا آخِر ما يطبعه الوجه على أشعار الوجه بقبله
أيقونة أمّي العذراء
يصرخ غويا ملء مدينته المبصومة فوق قفاه

***

حسن عبد الله

1945، بدأ ينشر سنة 1970. له 3 مجموعات شعرية: أذكر أنني أحببت، الدردارة، راعي الضباب (1999). من مواليد الجنوب. يكتب في أدب الأطفال أيضاً. ينشر في الصحافة اللبنانية والعربية.

فكرة موت مُحتمَل

لم أفطِرْ هذا اليومَ
وكنتُ صحوتُ على فكرة أني قد أقتلُ جاري!
واحتشدَتْ فعلاً في أنفي كلُّ قوايَ الغضبيَّه
وهَممْتُ وكدْتُ...
ولكن، صاحبةُ الشقّه
برزَتْ كَيَمامه
كانت هائلة الثَّديَيْن
على صوتٍ لا يخلو من رِقَّه
وعَدَتْ أن تُلغي بين البيتين أنابيب الماء المشتركه
وتعيد بناء الشّبَكه!
ما هذا الحَرّ؟
وكيف أواجهُ هذا الصيف الناريَّ العينَين
ببيتٍ
لا يعلو أكثر من مترٍ
عن سطح البحر؟
عند الظهر اشتد الحرّ
الشمسُ تهاجمُ بيروت
وبيتي تحديداً
بقذائف من جمر!
علْمياً جعتُ
ولكني
لم أشعر بالجوع!
لم أرغب شيئاً
من محتويات البرّاد
وفكّرتُ بمحتويات السوق
فلم تبعث في النفس شهيّه
التدخين التدخين
وراء ثلاثة أرباع
مآسيَّ البيولوجيه...!
بعد الظهر مليءٌ بالأهوال
أنجزتُ مقالاً
أُجرَتُه دُفِعَت سلفاً
وفشلتُ مراراً
في وضع نهاية نصٍّ قصصيّ للأطفال
عبثاً
أتوقع أن تتصل امرأةٌ بالهاتف
امرأةٌ ممّن أعرف أو لا أعرف
أتذكّر قصة حُبّ مرَّتْ بي
أتخيّل قصة حُبّ ستمُرُّ
وآكلُ تفاحه!
الحَرُّ تراجع عند العصر
هشّاً
وخفيفاً كالثوب
سقطتُ على سطح سريري...
وجمعتُ غطائيَ الصيفيَّ
وحَصَّنتُ به بطني
وتركتُ الأنسامَ تهبُّ من الباب المفتوح إلى أقصاهُ
وتلطمُ جسمي المكشوف
ورائحةٌ لدواء غسيلٍ معروفْ
راحتْ تتغلغلُ في أنفي عِطراً أخلاقياً
أشعَرني
أنّ أساسَ الأشياء نظيفْ...
باردةً وبَلِيله
تتوالى الأنسامُ محمَّلةً بنداوة آفاق مجهوله!
الأنسامُ تزيد تبالغْ
تتتالى
تتعالى
تنمو
تكبُرْ
الأنسامُ تصيحُ تُزمجرْ
إحساسٌ
بمطَرْ!
الأنسامُ تدغدغُ في هذي اللحظة خدِّي الأيسرْ
جسمي يتجمعُ في وجهي
روحي تتحرَّرْ
نَعَسٌ يسري في أعضاءي سريان البنج
ويبدو مُنحدَر النوم أمامي
كالوادي تحت الطائر
هذا أسمى بكثيرٍ من أن يُدعى راحه
هذا أمنٌ كاملْ
وبلُطفٍ،
ما أجملَ كوني زائلْ...!

ذكرى من صيدا

هناكَ
تحت ذلك البناء
ذي الطوابق العشرين
كنتم تسكنُون
قبل أن تموت بنتُكْ
وابناكِ في اجتياح عام: 82
لاحظي
هناك أيضاً
أُكِلَ الفضاءُ
بالإسمنتِ
وامَّحَتْ
حدائقُ الليمون
كلُ الناس يركضون...
لا حرارةٌ
سوى حرارة الشراء والبيع
ولا صوتٌ
سوى صدى ارتطام المال بالرجال
والرجال بالمال
وركضاً
تسمعُ الآذانُ
ركضاً
تبصرُ العيونُ
ضجةٌ موحشةٌ...
أهذه صيدا
التي
نعرفُها؟!
أين هدوءُ المرفأ القديم؟
أين الزورقُ الذي يخصُّنا؟
وأين مهدي؟
قبطانُنا
إلى بلاد ما وراء الشكّ واليقينْ
وأين منّي
ذلك الشخصُ الذي
كبرْتُهْ
كأنّني
غدَرْتُه!

***

هدى النعماني

1929، بدأت تنشر سنة 1970. من مجموعاتها الشعرية: إليك (1970)، أناملي لم (1971)، أذكر كنت نقطة كنت دائرة (1978)، كتاب الوجد (1998)، لمَن الأرض لمَن الأرض (2006). صاحبة دار النشر "هدى النعماني".

رقصة الشيطان

لو لم يرقص الشيطان، المرّة، ثم المرّة،
هناك في القُدس، وهنا في قلوب قلوبنا،
لظللنا على الرماد ظللنا، على الأفاعي رُقاد.

- أيرقصُ الشيطان؟

لنامتِ الغشاوة على أحداقنا كقطط سوداء،
لغاصت الضغائن في صدورنا كمخالب رقطاء،
لظللنا نسير، على الشوك نسير، على الجمر نسير،
لما تداعتِ الذئاب على أبوابنا كأتراح العيد،
لما تلوى القمرُ على نوافذنا كهضب الجليد،
لما اشأبّت الجبال بنفسجية الدثار،
تمديداً مثلجةً، وأخرى داميةً،
إلى بيادر قاحلةٍ وقفار.

لما رأينا
الحجارة تنزف، الأشجار تشيخ،
الشواطئ ثكلَى، تذبل على مهلٍ،
تنادي مركباً بلا بحّارةٍ، بلا قبطانٍ يهيم.

- أتذبلُ الشواطئ الثكلى، أتشيخ؟

لو لم يرقص الشيطان في القدس، على روابي القدس،
فوق أسرّة صغارنا، داخل عيونهم المرتقة،
وهم يصفعون النار بماء لا تطفئ النار،
لا تطفئ العقمَ، لا تسحقُ الأقدار.

- أينطفئ العقم؟ أتسحقُ الأقدار؟

هناك في القدس على روابي القدس،
لما غاصت الأحصنة في الطمي حتى الرِكاب،
لما طفحَت على أجسادنا حبابُ الخزي كالوباء،
لما غوَت شفاهَنا أحجيةُ الثأر والدهاء،
لما ثارتِ ملائكةُ الأنوثة على الأرض والسماء.
- أتثور ملائكة الأنوثة على نفسها وعلى الرجال؟
لو لم يرقص الشيطان في القدس
على روابي القدس... وهنا في قلوب قلوبنا...
لظللنا على الرماد ظللنا.
على الأفاعي رُقاد.

غداً فجرٌ آخر

بجلال اسمِكَ بعزّة عرشك بزرقة سمائك بسرّ أقمارك،
أعطنا فجراً آخر...
بعزّة خلقك برفعة جبالك بثراء بحارك بامتداد ليلك بعطر غاباتك،
أعطنا فجراً آخر...
بنفحات هوائك بسُبل مائك ببيوت عقدك بكروم عِنبك ببيادر قمحك،
أعطنا فجراً آخر...
بأسراب طيورك بممالك نحلك بأجراس ماعزك بمزامير رعيانك،
أعطنا فجراً آخر...
بمجد أوليائك بعبق قدّيسيك بسريرة أقوامك بعطر أرزك بدموع أطفالك،
أعطنا فجراً آخر...
بأماني أديانك بنداء رسلك بتشرّد شهودك بإحباط شهدائك،
أعطنا فجراً آخر...
بهبوط مسيحك بسكبه الشموس والأقمار على وجهه الآخر،
على دمه الآخر
على كلامه الآخر
على ثوبه الآخر
أعطنا فجراً آخر...

أنشـودة الحـق

إني هنا.
دمعةٌ فوق دمعةٍ.
إني هنا.
مَن يدُلّني على بيتي، يحمل لعينيّ الورود،
يزرع في صدري البخور، يسكب في صوتي النجوم.
قد أطفأوا الأنوار، بدّلوا الأسماء، حطّموا الأشجار، شرّدوا الأطفال.
وطني أنا. آهات العصور أنا. مرضاةُ العذاب أنا. قَسَمُ الوداعة أنا.
إني هنا.
مدينة فوق مدينةٍ.
مرثاةٌ فوق مرثاةٍ. جبل فوق جبلٍ.
أآن أن أنعَتق أن أطير.
دموعي تملأ الآفاق، تناوئ الأدغال. تصارع الأمواج.
مَن يدلّني على حبّي، يعيدُ لي وجهي، يفتدي بيّ قدري،
يهيبُ رماد الخق، لهيبَ العمر،
يفاخر أقدسَ الأزمنة.
ينادي معي
الحق الحق... السلام السلام

***

محمد علي شمس الدين

1942، بدأ ينشر سنة 1975. من مجموعاته الشعرية: قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا (1975)، أناديك يا ملكي وحبيبي (1979)، طيور إلى الشمس المرّة (1988)، منازل النرد (1999)، ممالك عالية (2000)، شيرازيات (2005)، الغيوم التي في الضواحي (2007). من مواليد الجنوب. درس في كلية الآداب وحاز شهادة الدكتوراه في الآداب. يراسل صحف ومجلات عربية ولبنانية.

زيارة إلى موقع الغراب

إنها الحرب، ما حيلتي؟
رجال أشدّاء
يمتلكون السماء وما تحتها
والبيوت التي نقتنيها
وهم يملكون غرائزنا وهوانا
وحليب الصغار
وتمتمة الطفلة الحالمة
وأعطاهم الله
أسرار هذي الخليقه
وملّكهم قوة النار
فأين
وكيف وكيف الحقيقه؟
غرابٌ هنالك
ينعبُ فوق السياج
يقول: انتصرنا
كلّما دفنَتْ أمّةٌ أختها
يصيح الغراب انتصرنا...
ولا شرق للغرب
في مثل هذا النشيد العجيب
ولا عقل للحكمة المشرقيّة
وما قاله الحكماء
وما خطّه الشعراء
وابتكر الحالمون
خبرٌ سائغ للجنون
إنها الحرب
ما حيلتي؟
أقول لكم:
ليس في قدرتي أي شيءٍ لأمنعها
ولستُ قوياً كما قد يُخَيّل لي
كي أضيف إلى نارها جمرة واحدة
أنا الكلمات... الـ كـ... لـ... مـ... ا ت...
أنا زبد البحر
والبحر يجتاح ما يشتهي أو يريد
أنا رجلٌ
من هواء وماءٍ بعيد
وعروة وردٍ صغيره
وبيتي كبيت من الشِعر
في فلَكِ عابر
قشّة عابره
ولا شيء يمنع عن جسدي
شهوة الحب
وعن شفتي رغبة كاسره
لماذا براني على ما أنا
خالقُ الطير
والزهر حين يميل مع الشمس
والليل في برجه
والنجوم المضيئه؟
لماذا أنا ساذج يا إلهي
ولم أتوحّش كما ينبغي
حين أبقيتني في الوجود؟
قُلت لي: فلتقم ها هنا
فأقمتُ
ثم قلتَ: ارتحلْ
فارتحلتُ
ثم قلتَ: أقِم وارتحلْ
فحيّرتني
فبقيتُ أدور كما دار جدّي على نفسه
ثمانين حولاً
كطاحونةٍ في الهواء
حنانيك يا جدّنا وانتشلنا
دُمنا في الدواليب يا جدّنا
وما عاد في وسعنا الإنتظار
تدور على لحمنا العجلات يا جدّنا
ولا قمح يا جدّنا في الطواحين
لا ماء
لا شجراً واقفاً فوقها
ولا طير حتى يُغنّي
ولا خُبّز كي يأكل الجائعون
وإنّا هنا واقفون
نُسَمّي المكان الذي نحن فيه
بلاداً
ونُنشِد تحت البيوت التي هُدّمت:
بلادي
بلادي
أجبني:
أمِنْ أجل زهره
تموتُ بساتيننا ألف مرّة؟
أمِن أجل طفلٍ تهيّئه أمّه للبقاء
يكون الفناء؟
وماذا نقول غداً
لحكيم المَعَرّة
إذا جاء يخبرنا
أنّنا "أمّة للبقاء"؟
أجل: للبقاء
أجل: للبـ... ا... ء
أ... جَلْ... للـ... ب... ق... ا...
سنهمسُ حتى ولو لم يكن
لنا شفةٌ أو لسان
ومن خلف دمع الثكالى
وتنهيدة الأمهات
سنهمس تحيا الحياة
...
ولكننا، سيدي
علفٌ للحروب
وأبقارها الضاحكه
ونبقى عِطاشاً
وأنهارُنا للبواليع
ونبقى جياعاً
وأرزاقنا للكلاب
فيا سيّدي
أيها الفيلسوف المُهابْ
تعال معي
كيف نُحيي الغراب
تعال معي
كي نزور على شاشةٍ
موقعاً عالياً للغراب

***

شوقي بزيع

1951، بدأ ينشر سنة 1978، من دواوينه : عناوين سريعة لوطن مقتول 1978، كأني غريبك بين النساء 1995 ، صراخ الأشجار 2007. من مواليد الجنوب. درس في كلية التربية في الجامعة اللبنانية. يراسل صحف ومجلات عربية ولبنانية.

الزنزلـخت

برهافة امرأةٍ يداهمها النعاسُ
على الأريكة
يستقلّ الزنزلخت جذوعه التعبى
ليلتمس الإقامة
تحت شمسٍ خائره
مغرورقاً أبداً بما ينسابُ
من عرق الجباه على الحنين،
وما يفيض عن المنازل
من نفاياتٍ،
ومن تعب السنين الجائزه
يُغضي على شهواته
كفتىً طريّ العود داهمه البلوغُ،
ويستبدّ بروحه حيناً
جموح صارخ
لتلقّف الرغبات من أوكارها
الأولى
فيصهل حين ترمقُه
فتاة ما بنظرتها،
ويجمح فوق قائمة الصبابات
الوحيدة
مثل سربٍ من خيولٍ
لم تُروَّض
ثم يدرك أنه كبقيّة الأشجار
محضُ تطلُّعٍ أعمى
إلى جسد الحياة
فيستعيد هدوءه الدهريّ
منطوياً على أغصانه الخجلى
وما تذروه من وجعٍ
على عينيه
أفئدةُ الرياح الشاغره
الزنزلختُ عصارةُ الأحلام،
تأليفٌ موسيقيّ الخشوع
لما تُرَسِّبُه المناحاتُ الأليفةُ
فوق مجرى الدمع،
يولد من رياحٍ غضَّة الأيدي،
ويُسْلم نفسه
كرموش عينيْ طفلةٍ عمياء
للمجهول،
ثم...
كمَن تذكَّر فجأةً حباً مضى
يرتدُّ ثانيةً
ليجمع تحت أثقلِ خيبةٍ
أوراقه المتناثره
لنشيجه طعمُ الفراق المرِّ
تُسرف في تناوله النساءُ
إذا وقَعْنَ على حبيبٍ لا يجيء،
كأنه،
وهو الذي لا يحسن الإفصاح،
لا يلوي على ثمرٍ
من الأثمار،
بل يرنو مريضاً
نحو نافذة الوجود الخاسره
لكأنه شجرٌ لغير زماننا
ولذا يظلُّ بمأمنٍ
من قبضة المتربِّصين به،
غريباً
لا تهشُّ له الجرودُ
ولا تبادله الروائح نفثةً
من عطرها المشبوب،
لا فصلٌ يليق بما
تكابدُ نفسه
لكنه يصل الفصول ببعضها..
محلولكاً أبداً يظلُّ الزنزلخت
ويرتمي متهالك الأنفاس
في حضن النجوم الغائره
الزنزلختُ نزوعُنا الصيفيُّ
للنسيان،
تكرارٌ عديمُ الشكل
للتحليق فوق الموت،
ينهضُ كلَّ يومٍ من مخابئه
ليسقي جنَّةً أبديَّة الإقمار
تلمع فوق ريف العين،
وهو الجانب المرئيُّ
من لون الغياب
وطائرٌ غضٌّ له شكلُ النباتِ،
يطير بلا جناحٍ
في صباحات القرى
ليغطَّ في صحوٍ بعيد الغْورِ،
أو ليصير عند رحيله
خشباً لبيت الذاكره

السنـديان

هو أكثر الأشجار تعويلاً
على ما فات،
عكّاز الطفولة
والثغاء الأوّليُّ لماعز الماضي،
ولا تحتاج غصَّتُه
إلى برهان
لنراه تلزمنا مناديل
تلوِّح من بعيدٍ للسواقي البيض،
أحلام لتبديد المخاوف
حول موقده الأليف،
وعدَّةٌ لتسلُّق السنوات
حين نشيخ كالأمثال تحت
نشيجها الواهي،
وتلزمنا معاولُ صلبةُ الأيدي
لنبحث،
حيث يفترش النباتُ مقابر الأسلاف،
عن شجرٍ نبادلهُ الجذوعَ
وعن هواءٍ كامل النسيان
السنديان ظهيرنا البرّيُّ،
لا شجرٌ يعمِّر في القرى
إلاّ بإذنٍ منه،
لا جرسٌ
يدندنُ في السفوح
بغير نَخْوتِه،
وتمتحنُ الفحولة نفسها
بجماله الظمآن
السنديان رحيلنا الفطريّ
في طرقٍ
مؤبَّدة الشكوك،
فحين يلوح قرص الشمس أخضر
في الظهيرة
ينتشي طرباً،
وحين تمرِّر فوقه الذكرى
جدائلها الطويلة
يستبدّ به أنين
شاعريُّ الرَّجع
يُسكر صوته الوديان
لكنَّ في دمه الغضوب
بريق أفراسٍ تحمحم
في الهواء،
ولن يكون بمستطاع الريح
أن تلوي عزيمته،
فليس يموت
إلاَّ
واقفاً،
ويظلُّ رغم سقوطه
متوثِّباً كتوثُّب النيران
في الصَّوان
للسنديان طبيعتان:
ضراوةٌ شتويّةٌ للإنقضاض
على دم المعنى
وتوق مستمرٌّ للتحلّق
حول صيف الشكل،
وهو يضيء بينهما
ممراً ضيّق الخطوات
بين الوحش والإنسان

***

محمد العبد الله

1946، بدأ ينشر سنة 1978. من مجموعاته الشعرية : رسائل الوحشة (1978)، جموع تكسير (1983)، بعد قليلٍ من الحب (1994)، حال الحور (2005). من مواليد الجنوب. يراسل صحف ومجلات عربية ولبنانية. كتبَ في السياسة أيضاً.

نشــيد

III

لا أملكُ نفسي
وأكاذيبي لم تَعُد تنطلي عليّ
تفّاحي أفسدَه الانتظار
ونبيذي معتكر بالخلّ
لا تصدقيني
جعلتُكِ متنفّساً لعقدي النفسية
مهدّئاً لأوجاع الشعر...
أتناول درّاق الجمال وأقطف زيتون الذكاء،
بعدها، بعدكِ
أمكثُ في عاداتي السرية
ومؤاساة قلبي المحطّم...
لا تكوني ضحيّتي المقبلة
مبرّراً لمقتلتي الفادحة
لا تكوني حكمتي في القتل:
قابليةٌ كامنةٌ تبحثُ عن فرصتها
قُتلتُ ثلاث مراتٍ فقط
ولا خيار لي سوى الغفران
مقتلتي أكبر من الإدانة، أوسعُ من القضاء، أطولُ من أروقة كلّية الحقوق...
ما دام حصل مرةً واحدةً، فلا بد من تكراره إلى الأبد...
لأنه المستحيل، لأنه انعدام المنطق، الجحيم،
حيثُ
السعادة نفاية النفايات...
لستُ سوى زبّال كسولٍ
إذ أعملُ 25 ساعةً كل يوم
والمزبلة ما تنفكّ تعاظماً
ولا أرغب في التعاون مع أحدٍ
ولا تستطيعين مساعدتي لا يلقُ بكِ، فلا ترغبي بذلك
فقط، أخشى عليك، في وحشتك
وينكسر قلبي مرةً أخرى
فماذا ستفعلين بدوني؟
لا تتصلي بي غداً الساعة العاشرة
وامشي حافيةً في البيت، مفيدٌ للكآبة
ولا أنتظر شكراً على نصيحتي
إنني أحبك لوجه الله.

IV

التي ليست لي
اللاهيةُ عني إلى سيجارتها وقنينتها الألماسة
الألماسة في رُتبة إشعاعها
المعمدانية في لونها القاتل بين العاج والرخام
لكي يقطع "هيرودوس" رأس يوحنا
ويقدمَه إلى "سالومي" على طبقٍ من الفضة،
الفضية في القمر ومياه القمر على أشعة البحر...
والكرز البسكنتاويّ المتهافت إلى كرز شفتيها الكرزيتّين
في دموع الفريز المهجور إلى شفتيها
المشفقة عليّ بين السيجارة والألماس،
نصف نظرةٍ عابرةٍ،
التي عيناها إلى عتمةٍ زرقاء تحت نجوم لبنان،
في بحر الصيادين
إلى السيولة العميقة والأشرعة الرومنطيقية الموغلة
في نسيمٍ عليلٍ
على ضوء الفوانيس
وحياد الفودكا وانطوائه على قراره الحاسم
بديمقراطية الاختيار، بين "برومثيوس" و"سيزيف"،
التي ليست لي
لأن فتنتها طالعةٌ من ضمير درّاق بكفيا ونرجسية العُصارات...
التي ليست لي
في مستحيل جمالها العابر للحدود المشرف على القارات
التي هي الهدية الموعودة بعد انتظارٍ طويل
كمصافحةٍ، بعد نصف فوات الأوان...
التي كفّها وأصابعها في ديزاين السمك المرمور وعبقرية
الكهرباء...
كثلجٍ دافئ، كعُلبِ الحليب من الطائرات إلى الأطفال
الصوماليين،
كجمعيات "كاريتاس" والصليب الأحمر الدولي والدفاع المدني
ومنظمة "أطباء بلا حدود"...
التي "يدها حطَّتْ على كتفي كحمامة نزلت لكي تشرب"
الزنبقة إلى هشيم روحي،
لكي يهمي رذاذٌ متواصلٌ على يباس اللغة.
"أنا عندي كلام عايزه قولولك"
التي وقعتُ إليها كما يقعُ البؤبؤ في العين،
وكما يقعُ حرفُ العينِ في وسطِ الفعل،
وكما تنبثق العيونُ على قدميّ جبل صنّين.
المقطوف فائض فتنتها بعينيّ إلى سهر الساعة الواحدة
بعد منتصف الليل، وإلى نُعاس الأمهات...
"وأنا عندي كلام عايزه قولولك"
المنعشة فتنتها لقلَقِ اللغة الكسولة ولحزن الشعراء،
المرغوبة في حلمٍ جميل إلى صباح القهوة والسيجارة وعصير
"الغريب فروت"...
المشروبة فتنتُها، على مهلٍ، كل صباحٍ، دقيقة دقيقةً
ثانية ثانية، في الذي هو المستحيل...
في ارتكاب المستحيل، في الحادث الذي جعله الرب الحادث
الذي حدث، أخيراً، أنها هي،
بعد انتظارٍ طويل...
التي لم أحبّها ولم أقع فيها من أول نظرةٍ،
التي عيناي تنسلُ وتغزلُ خيوط فتنتها،
بينليوب عودتها إلى البيت، إلى بيتها، توقيتها،
لكي وحدي، وحيداً، في الشعر وعلى الأوراق،
أكشف أمامها، أمامها فقط،
للمرة الأولى، الأولى إطلاقاً، ما هو مستحيل...
"أنا عندي كلام عايزه قولولك".
التي لا أعرفها بعد، على شفا إرهابٍ مؤكّد،
في حدود اضطهادٍ عظيم،
التي جعلها الله شفاعةً لعذابنا... إشارة صداقته لنا...

***

حمزة عبود

1949، له عدّة مجموعات شعرية، بدأ ينشر منذ 1978، من دواوينه: ابدأ من رقم يمشي (1978)، الكلام أيضاً (1982)، كأنّني الآن (1996).

نهض فرأى الضوء يملأ الغرفة، فقال: هذا صباح آخر.
مشى إلى المغسلة وغسل وجهه وأحسّ بالراحة وهو يتلمّس قسماته المعتادة.
عاد إلى الغرفة وفكّر بنهارٍ لا يتّسع لمشاغله المؤجّلة فتباطأ في ارتداء ثيابه وراح يتنقّل بين المرآة وباب الشرفة.
خيّم النهار على جدران الغرفة فانفرجت أساريره وتساءل ماذا يستطيع أن يفعل في بقيّة يومه.
أعدّ قهوته وجلس يتأمل في نهاراته المقبلة.
في العيد ذهب ليزور قبور العائلة – ومَن تذكّر مَن الأصدقاء – فوجدها لا تزال، فقال: لم يمضِ وقت طويل.

نظر إلى السماء
فلم يفهم.
ونظر ثانيةً
فلم يفهم.
..........
نظر طويلاً
وبكى.

خرج إلى العتبة فرأى الأشجار كأنها تركض ورأى البحر كثورٍ يتلّفت ويجمع كتفيه للنهوض.
ثم مشى فوجد طريقاً وبيوتاً تتجاوز كأخوةٍ في المساء.
ثم غافله المشيُ فوجد نفسه بين صورٍ ظن أنها تترامى إلى عينيه من شرفة البيت.
ثم سحره الغياب فابتعد عن الشرفة
ثم تذكّر وعاد
ثم سافر فحيّره السفر وعاد فحيّرته الإقامة.
كان كلّما عصى عليه أمر يذهب إلى البحر.
وكان يصغي إلى البحر كما ينصت لجدِّه في المساء.
وكان يسمع أصواتاً ليس لها محدِّثٌ ولا قصد.
وكان يفرِّقُ الأصوات بين كائناتٍ لم يرها.

في المدرسة سورٌ عالٍ يحبس الهواء في حنجرته ويجعله كالمسكون لا يعرف ماذا يسأل وكيف يجيب.

لم يكن يعرف الحبّ هكذا:
رأى العالم يذعن لأخطائه الصغيرة فلم يعد يذعن لسرّ
أو كتاب.

كَمَنْ يحدّقُ من الأفق إلى الشرفة
رأى صبياً يتأمّلُ
أسفاره القادمة
وعيونه
المحدّقة
في
كلّ
صوب.

***

جودت فخر الدين

1953، بدأ ينشر سنة 1979، من دواوينه: أقصّر عن حبك (1979)، أوهام ريفية (1980)، ليس بعد (2006). من مواليد الجنوب. أستاذ جامعي.

عـبــث

أجعلُ أوقاتي نصفَين:
أحاول أن أغنمَ نصفاً،
وأجازفُ بالثاني، فأضيّعُه.
لا أغنمُ إذّاك سوى النصفِ الضائعْ!

بين سماءٍ تمضي
وسماءٍ تأتي
لا شيء سوى صيفٍ ملهوفٍ
وسحابات...

عاد الطيرُ الأبيض،
كان أتى بالأمس،
وحامَ قريباً
أبيض، أبيض، أبيض...
ها قد عاد اليوم،
وها هو يقتربُ الآن، يحومُ قريباً

أقربَ، أقربَ، أقرب...
من أين يجيءُ الطيرُ الأبيض؟

رنَّ الهاتفُ،
أطلق إنذاراً في الشرفة،
حيث جلستُ وحيداً
أحسبُ أني أنظرُ نحو نهايات العالم،
خلف الأفق النائي متَّشحاً بغيومٍ مرهقةٍ...
رنَّ الهاتف،
أيقظني،
ثم أتى صوتُ صديقي
أخبرني أنّ العملية لا بدّ ستُجرى
يوماً أو يومَين... وتُجرى
"عملية قلبٍ مفتوح"...
لكنّ صديقي طمأنني
أكّد لي: "لا داعيَ للخوف،
فقد باتتْ هذي العملية شائعةً..."
كيف أردُّ؟
هو الآن يطمئنني من غرفته في المستشفى
وأنا أجلس مخطوفاً في الشرفة،
أحسبُ أني أنظر نحو نهايات العالم،
خلف الأفق النائي متَّشِحاً برمادٍ كالغيْم.

هل كنتُ أرى شيئاً بين غصون الأشجار،
هنا من موقعيَ العالي؟
والسهلُ أمامي حيناً
والوديان وبعض تلالٍ أحياناً
والأشجار هنا وهنالك تبزُغُ،
مثل مصادفةٍ أو أكثر،
تجثمُ هادئةً،
أو تتمايل منهكةً،
أو تجري...
كان فضاءٌ مجلُوٌّ

يحتضن المشهد من أوّله حتى آخره
وأنا لا أدري: هل أبصر شيئاً يدعوني؟
هل كنتُ أرى شيئاً، مثلي أو مثل ظنوني،
يجثمُ أو يتمايلُ أو يجري؟
هل كنتُ أرى شيئاً بين غصون الأشجار المذهولة،
أم كنتُ أنا، أترنّحُ وحدي،
في موقعيَ العالي فوق المشهد،
فوق السهل وقد ماج قليلاً
فتراءى لي مثل ظنوني:
شجراً فوق تلالٍ،
أو شجراً في الوديان.

أنا وعـدُوِّي

إذا لم يكن لي عدُوٌّ
فكيف أواجه نفسي؟

عدُوِّي
أحاربُه بدمٍ باردٍ
لا أحاربه...
عند ذاك يموت ببطءٍ...

لعدُوِّي الذي يتربَّصُ بي
أن يموتَ هنالك في غيظه،
حيث لن أستعدَّ له،
حيث أتركُه يتخبَّطُ في كيدِه آمناً،
أستخفُّ بما يستبدُّ به،
لعدُوِّي الذي يتربَّصُ بي
أن يدبِّرَ لي ما يشاء،
وأن يتربَّصَ بي ما يشاءُ،
فلن أستعدَّ له،
وسأتركُه يتخبَّطُ في كيْدِه آمناً.

عدُوِّي الذي يستحقُّ مواجهتي
هو صُنعي
ويعرف كيف يباغتني.

أواجه نفسي بنفسي
إذن،
ليس لي من عدُوّ
سوى فرحي بالتشفّي...

***

بسّام حجّار

1955-2009، بدأ ينشر سنة 1980، من مجموعاته الشعرية: مشاغل رجل هادئ جداً (1980)، لأروي كمَن يخاف أن يرى (1985)، مهن القسوة (1993)، تفسير الرخام (2006). مترجم وصحافي في "السفير" و"النهار" ثم في"المستقبل".

لا أبالي –
حين أنظرُ،
ساهياً،
من حافّة الخمسين –
بجلبة الساعين في شارعٍ عريضٍ،
في الأسفل،
حيث الحوانيت،
وسيارات الأجرة،
ونفرٌ من التلاميذ والأجراء والعاطلين،
ورجال الشرطة،
والآباء الباحثون عن مكانٍ آمن
لكي يودعوا فيه ملذّات السعي،
مشقّات السعي،
كل يوم،
ريثما ينقضي نهارُ السعي،
ويلوذُ أقصرهم قامةً
وعمراً
بليلِ الوساوس والظنون
لا أبالي –
والوقت غروبٌ –
برجالٍ يجرّون خيبة المشقّات إلى دُورٍ مُنارَةٍ
بحمّى الرجاء
وحده
إذا كان رجاءٌ
ولا أبالي –
حين أنظر،
ساهياً –
بأيامٍ كان ينبغي أن أحياها،
أو يحياها الظل الذي كنتُه،
أو ذاكَ الذي كان بصحبتي، لأعوامٍ،
وتنقضي –
الأعوام -،
كحوارٍ صامتٍ
كحافلةٍ مسرعةٍ،
أمامي،
مكتظّةٍ بالمقيمين من دوني، هنا،
أو هناك،
كأنها ذكريات الشخص
الذي وددتُ أن أكونه
كأنها ذكريات قرأتها في كتابٍ ثم فقدته
كتابٍ استعاره صديق ثم فقدته،
أو
ربما بعتُه لكُتُبيِّ جوّالٍ
لصانع سلالٍ
سوف يحمله إلى أقاصي الأرض،
سوف يقايضه برغيف خبزٍ
بكأسٍ،
أو حساءٍ ساخن
ولا أبالي –
حين أنظر،
ساهياً –
بي أنا
الذي لا يبالي،
فلا شأن لي بما يجري على بعد أمتار
على بعد أميالٍ
ومدنٍ
وبحارٍ
وحكاياتٍ،
من بوّابة سهوي
ولا شأن لي بمحبة مَن يحبّني أو يمقني،
إذ جعلتُني،
لأعوامٍ،
متفرّجاً على
ميتاتٍ صغيرة،
وذات يومٍ سوف يشفى الحجر
منّي
الحجر الذي هو موطني،
الذي هو دارتي البعيدة،
أو ربّما قلبي
وقد طالما ظننتُ أنه المنفى الذي اشتهيتُه بعيداً
لا أبالي بي
إذا متُّ أمس
أو اليوم
أو اليوم الذي يلي،
ولا أبالي بي
إن بقيتُ حياً
لأيامٍ،
لأعوامٍ أخرى
فلم يبقَ ما أصنعه
برجائي
وبالشهوات التي تبقّت
لم يبق ما أصنعه بمتّسع اليوم، كل يوم،
بالحبور الأحمق
لعابرين
في أوقاتٍ
شاغرةٍ،
في لغاتٍ لا أفهمها
لقسوة النّبر والمفردات
كأنها جموع في نومي
وأصوات جموعٍ لا أفهمها،
أستعير نهاراً آخَر،
واحداً،
يتّسعُ لكلامي الذي لا يدري ماذا أقول،
لكلامي الذي لا أدري ماذا يقول
منذ أعوامٍ طويلة،
لغاتٌ لا أفهمها
بها قسوة النّبرة،
وقسوة الصمت،
كأنّ الصمت حجر،
هناكَ،
كأنّ الصمت من معاني الحجر
الأخرى،
التي يكتمها الحجر
في قاموسه الحجريّ،
ولا أبالي
بالحجر الأملس –
جماد الطمأنينة –
إذ يفسّر، بعد وقت، روحي
فلن أكون،
بأية حالٍ،
هناك،
ولن أكونَ هنا،
لكي أصغي،
بشوقٍ،
لتفسير روحي
سأكون ساهياً عني،
كَمَن يُمعن التفكير،
جالساً على مقعد الحجر البارد،
في ردهة الأسى الذي لا يشبه
الأسى
بل يشبه السهو
الذي لا يسري في الرأس
أو العينين،
بل السهو الذي يسري تحت الجلد
كالقشعريرة

***

عيسى مخلوف

1955، بدأ ينشر سنة 1981، من دواوينه: نجمة أمام الموت أبطأت (1981)، تماثيل لوضح النهار (1984)، عزلة الذهب (1992). من مواليد الشمال، بشرّي. يعمل في "راديو الشرق" في باريس. باحث وصحافي ومترجم.

المـنــام

أعجب ما يكون أن تقع في المنام من الطابق السادس ولا تموت.
ألنّاجون من الحروب قتلَهم ظنّهم بأنهم أحياء.
فاصل بين وهمٍ ووهم.
مرفأ يولولُ بين النّسوة.

يفتح النّدى مزاليج النهار

يفتحُ النّدى مزاليج النهار على مزيدٍ من الدم.
صباح الخير أيها الماء الحزين المتدفّق من طفولتنا.
صباح الخير أيها الزّبد المتلوّن بالمواعيد.
بعد قليلٍ، يرتفعُ البحر إلى أعلى الصّواري ويبدأ السفر.

تعود السّفن

تعود السفن إلى الشاطئ هامدةً.
أولئك الذين بلغوا الضفة الأخرى
ينظرون إلينا ويضحكون.

كانت الشجرة

كانت الشجرة ترمقني بأغصانها حين وددتُ الرحيل ولم أرحل.
وضعتُ الغروب تحت إبطي ومشيتُ بين الفواصل على غير هدى.

بعد كل صاعقة

بعد كل صاعقةٍ يستجمع الضوء قواه،
بعد كل عاصفةٍ تحصي الغابة أشجارها.
إنه بدء السفر يعلنه القادمون من غير قدوم،
الراحلون من غير رحيل.

دفء

أنحتُ حروباً بأحجامٍ صغيرة.
أنحرُ الندى على مرأىً من الصباح.
لتكن عتبات المنازل. وإذ يهتدي البحر بي،
أرفع الصواري إلى ماءٍ مؤاتٍ. أجمع الوجه
أوحّده ولا تطالعني ثيران الحشود.
في أقصى الليل ضوء مُسَجّى يتحرّك تحته
القتلة والمقتولون.

كيف نجوْتُم؟

كيف نجوْتُم؟
كانت اليابسة أمامنا كتلة نار
كيف نجا صوت المغنّي من الحريق؟

سها القمر

سها القمر وأمسى مضحكاً
شمعةً واحدةً يتدافع النّيام
في الممرات كثُرٌ لكنهم في النوم
خفيفون شرايينهم وراءهم
كأنابيب خارج المستشفى.

أحدٌ لن يعود

أحدٌ لن يعود من الذين مضوا.
الشجرة التي تحتها يتبارزون ترشف نُسغَها على مهلٍ.
ترى إلى ظلّها كما المرأة إلى المرآة.
تحوكُ المساءات البطيئة بغُصنٍ من هنا وغصنٍ من هناك.
شجرةٌ تنضجُ ثمارها في النوم.

ليمهلني النوم

ليمهلني النوم لأنّ عدد الجرذان فاقَ عدد القتلى.
أصنع من أحلامي حيواناتٍ.
على المائدة خوفُنا مستديرٌ كصَحْن.

ألا تتساءل

ألا تتساءل: كيف يموت مَن كان حياً؟
تكتب قصيدتَك وقوفاً وتُدندن. تقهقه على مرأى من الجالسين.
تدور على نفسك دورتَيْن ثلاثاً. تُحَوّل البذار إلى ثمار، دفعةً واحدة.
أليست هي قدرة المُهرّج، دائماً، على إرباك الوقت؟
والصّاحون لا يُفاجَأون: كلّما أحدثتَ شرخاً في الكلمات،
أحدثتَ شرخاً في القسَمات.
ألا تتساءل، كيف يموت مَن كان حياً؟ أيّ غصنٍ إذا ما حطّ عليه الطير يطير، فاضحاً سرّ الأغصان إلى الطيران. أيّ جناحٍ ينكسرُ في الهواء، حين تغربُ البلاد الجميلة عن البلاد الجميلة.

***

وديع سعادة

1948، بدأ ينشر سنة 1981. من مجموعاته الشعرية: ليس للمساء أخوة (1981)، المياه المياه (1983)، بسبب غيمة على الأرجح (1992)، نص الغياب (1999)، تركيب آخر لحياة وديع سعادة (2006). من مواليد الشمال. عمل في جريدة "النهار" وفي مجلة "النهار العربي والدولي". حالياً يقيم في أستراليا.

يدٌ أخرى

الذي كانت له يدٌ بقبضةٍ وأصابع
وتريد أن تلتقط كلَّ الأشياء
له يدٌ أخرى الآن
ترفع مزهوَّةً
قبضةَ فراغها.

عينٌ أخرى

بالثقوب التي انبثقت من تيههِ
يرى،
عينُه الآن ثقبُ تيهٍ
وأفلاكٌ تدور في إغماضتها.

لم يكن يريد من عينه سوى
إغماضة
رموشُها دروبٌ للعابرين
وإذا انزلق أحدٌ
يسقط في حَدَقته.
عينٌ تحفظ أحياءه وأمواته
وهي مغمضة،
وإنْ هي في الماضي أرادت رؤية الكون فعلى جفنها اليوم
غبارُ كلّ الأكوان
غبارُ أمكنةٍ وأزمنة وقد غدتْ
نقطة
على جفنه.

فقط غبار
ولم يكن يريد سوى هذه النقطة
في عينه المغمضة.

كائناتٌ أخرى
من نسيمه العابر تولد كائنات
نسيميَّةٌ لا مكان لها
ولها الأحجام والأشكال كلُّها كي
تكون لها كلُّ الأمكنة.

الفضاء الذي روَّضَ نفسه بالفراغ
خلَقَ طيورَه،
والأرضُ التي حدَّقت طويلاً في يبابها حتى خلقتْ أشجارَها
تؤوي طيورَ فضائه
ريشاً لا يُرى
وأجنحةً لا تحتاج إلى هواء.

أرضٌ جديدة تدور في قلبه
وفي نسيمه عابرون جدد
لا تعرفهم دروبُ الرياح القديمة،
عابرون بلا شكل ولا ظِلّ
وإنْ أرادوا إقامة
ففي نفسه ثقوب
تكفي
لسكناهم النحيلة.

***

عبّاس بيضون

1945، بدأ ينشر سنة 1982، من مجموعاته الشعرية: الوقت بجرعاتٍ كبيرة (1982)، صور (1985)، زوّار الشتوة الأولى (1985)، خلاء هذا القدح (1990)، حجرات (1992)، لمريضٍ هو الأمل (1997)، ب ب ب (2007). من مواليد صور. عمل في الصحافة مبكّراً في كلٍ من "الحياة" و"الوسط" و"ملحق النهار". مناضل يساري قديم . مسؤول الصفحة الثقافية في جريدة "السفير" حالياً. درس الأدب العربي في الجامعة اللبنانية ونال DEA من ا لسوربون.

رقّـة خفّـة

XIII

شعرك ثقيل
لن تستطيعي رفعه عن المخدّة
لن ترفعي بسهولة
مشابكه الكبيرة كالأقفال
ولا جدائله
المقصومة من وسطها
لن تستطيعي
هكذا هي الحياة
التي فجأة
لا نستطيع تحريكها
بإصبعٍ قصير
يقال: تدخّنين أيامكِ
تلك ليلتكِ وحدكِ
لكنكِ لا تبدّدين في ليلة
كل هذا الشتاء السريع والطنّان
وكان يكفيكِ
ندم اللفافات الطويلة
التي لا يَحسُنُ إعادة إشعالها
تدخّنين أيامكِ
يدوم طعم القهوة
إلى ما بعد العشاء
وتقولين وضعوا مقادير كبيرة منها
في حياتي
مقادير كبيرة في مخيّلتي
أغلفة كثيرة حول سريركِ
ملوّنة ورماديّة
لقد دخل الخريف مكتبتكِ
إنه يعمل لك في الأستوديو المظلم
ولا ندري بأي خيال
يبدأ نهار العزباء
تقولين رميتُ بذوراً
ويَبَساً كثيراً في ماء حمّامي
أدمن ملاعق الأدوية الصغيرة
ولا أتعبُ من ملاعبة ميزاني
وهاتفي. (مَن يدري ماذا يتخلل
أسنان المشط المفقودة
إذا لم يكن هذا
اسمكِ الثلاثي)
كان عليكِ أن تجدي اسماً
لجديلتكِ
بدلاً من أن تتّحدي بببغائكِ
أن تعرفي متى يبدأ فصلكِ
وكيف تهتدين إلى علامة العزباء
هذا المساء لا شيء تحت الشرفة
لا أكثر من بارحة تعيد بانتظامٍ
السنةَ
التي انقضت بين غرفكِ الأربع
إذ أمضيتِ نهاركِ
تنظرين إلى هذه الغيمة الحائلة
كأنّك تنظرين في ماء وسخ
تتفلين هذا الشَّعر
الذي تجدينه في لعابكِ
وتلقين زوم بستانكِ
في المساء القريب
عدتِ بهذا الشَّعْر
المهدود على المخدة
كان حديقة الشتاء
وجُنَّ في الغرف الأربع
لقد جررتِ كل هذا الحطب خلفكِ
ولن تستطيعي تحريكه
بإصبعٍ قصير.

XIV

كان علينا أن نبدأ من ليلة قطار
القطار الذي هو لسان الليل لا يختلف عن سرداب طائر
مسافروه يندفعون تقريباً في شريان
يكدّسون بأنفاسهم ذلك الظل الذي يرافقهم كإسمٍ ثالثٍ
والذي يعرفون به مقاعدهم
إنه عدّاء
لكنه ينقل المسافة من طرف إلى طرف
ينقل المدى على وتر مشدود
إنه كيس خطوات
ونحن هنا لنختفي في خطواتنا
قد تكون الحقيبة
طبعة قدم مجسّمة.
لكنها بالتأكيد
عتبة
وكم تعبنا في جرّها
حتى يمكننا أن نرتاح فيها
حين تأتي اللحظة
ونرقد مع متاعنا في العتبة
إنه عكس النهر
يرحل إلى الوراء
الشجرة التي تولّي أمام النافذة
تركض بسرعة
إلى الماضي
نرمي رزمنا الثقيلة
نرمي المحطّات
التي سبق أن اجتزناها
في العتم السحيق
نرمي متاعنا كله
وما لا نجد له مصرفاً
هو ثروتنا
من قناني البيرة الفارغة
نرمي الكلّ
فلا يبقى سوى خيالات على المقاعد
تقتتل ولا تموت
ولا ينتبه أحد
إلى أن القطار
قد مرّ.

***

عبده وازن

1957، بدأ ينشر سنة 1982. من مجموعاته الشعرية: الغابة المقفلة (1982)، حديثة الحواس (1993)، أبواب النوم (1996)، نار العودة (2003). من مواليد بيروت. عمل في "النهار"، وهو حالياً مسؤول الصفحة الثقافية في جريدة "الحياة".

احتــمال

لو كان العصفور أقلّ غموضاً لرماني بريشة
وقال: هيا اعزف نشيد عودتنا!
لو كانت الشجرة أقلّ غربة لانحنت عليّ وقالت:
أسمعني خفق روحك في العتمة!
لو كانت الشمس أقلّ اختلاجاً لغافلتني وقالت
إغمض عينيك عليّ أيها العابر!
لو كانت المرآة أقلّ شحوباً لأبصرت فيها سماء
مزروعة بأشجار القطن!
لو كانت الطريق أقلّ وعورة لوصلت إلى الغابة
التي أبصرتها خلف سياج الغفلة.

وجـه آخـر

لم يكن وجهاً ما أبصرتَه في المرآة. العينان حمراوان ولكن وراءهما غيوم كأنها أيدٍ تودّع أحداً ما.
الشآبيب ساكنة كأغصان الثلج. لهاث الصمت يصّاعد من المقلتين اللتين لوّحتهما شمس الألم.
النظرات اللتين لوّحتهما شمس الألم.
النظرات الغائبة تلوح كأشرعة في نهر.
الإبتسامة التي ترتسم على المرآة يسيل منها حليب الأرق.
الشفتان مشقوقتان، نبيذهما يبوح بالليل الخفيّ.
ما أبصرتَه في المرآة كان ذكرى وجه. المقلتان بقايا من ملح.
النظرات بروق تتناثر في سماء خاوية.

نبيذ الشقاء

كمَن يرفع يده
ليرسم زهرة الوداع
كمَن يلقي نظرة شاحبة
على مشهدٍ أخير
كمَن يرمي أقحوانة القلب
في حفرة عميقة كالندم
مَن يفتح عينيه
ليبصر شمعة الألم
كمَن ينسى فجأة
ضوء الباب
كمَن يسقط في
بحيرة الإثم
كمَن يخبّئ أصابعه
لئلا يخضّبها نبيذ الشقاء!

ظــلّ

ما الذي يبقى لكَ هنا؟
خاتم اللازورد أم شجرة الصباح؟
مفتاح الشمس أم بئر الليل؟
غيمة الأغنية أم نار العينين؟
يدان تلوّحان لك
أم نهد أحرق شفتيك؟
ما الذي يبقى لكَ هنا؟
كتاب لا يذكر رقّة أصابعك
أم وجه حدّقت فيه طويلاً؟
حصاة رميتها في النهر
أم غصن تشعله عصافير الصدفة؟
فراشة الحقل أم عنقود امرأة؟
نافذة أم صلاة لم تنتهِ؟
نظرة ملؤها الشهوة
أم صمت يتلاشى في الزرقة؟
ماذا يبقى لك هنا
سوى ظلك
يرفّ فوق السطوح
كيمامة شاردة!
ماذا يبقى لك هنا
سوى ضوء عينيك
يتمايل شعلةً شاحبة!

دمـــع

لا سياج يرسم أمامهم تخوم الليل.
كانوا كالتائهين يبحثون عن كسرة ضوء، عيونهم تطفح بالزيت لكنهم ما كانوا يبكون.
كانوا صامتين صمت الموتى في مدافن الضوء. أنفاسهم كأنّها رجع تلك الجروح التي ترقد في الداخل.
كأنهم أنبياء مفردون لا أحد وراءهم ولا قرى أمامهم أو ساحات! كانوا يتهادون بقاماتهم المنحنية وخطاهم التي ترن في الخواء.
هنا أو هناك، كانوا يقفون كالبائسين الذين لا مدينة لهم.
لم يكن يصلهم صوت ولم تكن ترمقهم عيون.
كانوا يقفون كالحالمين لينظروا صوب ذلك القفر الذي يترامى دوماً أمامهم.
الدمع الذي تكتمه عيونهم كان يكفي ليروي حديقة أوهامهم.
الأشواق التي تختلج في قلوبهم كانت تصنع لهم غابة يستريحون في أفيائها.

***

صباح زوين

1955، بدأت تنشر سنة 1983. لها عدة مجموعات شعرية، منها: على رصيفٍ عار (1983)، كما لو أنّ خللاً. أو، في خلل المكان (1988)، ما زال الوقت ضائعاً (1992)، البيت المائل والوقت والجدران (1995)، في محاولةٍ مني (2006). من مواليد جبل لبنان. عملت في جريدة "النهار" ما بين 1986 و2004 في الصفحة الثقافية، مترجمة، ناقدة أدبية وسينمائية، تعرف عدة لغات. حالياً تراسل صحفا ً لبنانية مختلفة.

في طريقي شمالاً،
أخذت تمطر وكان المساء.
في الربع الساعة الأخير،
تشوّش ذهني
أما المطر فكان قد توقف!

وجه ريمبو حزين،
وأشطح معه إلى وقتٍ،
وقتُ جنونٍ
من وجه لم أكن رأيته بعد.

في مقصورتي لازمت مطرحي طوال الوقت،
وجهي لاصق بالخارج،
حيث رأيت خيام السياح في ربيع بارد،
ورأيت مقاهي على الأرصفة،
ورجالاً عاديين،
وبيوتاً متاخمة لسكة الحديد.

عندما استقلّيت القطار في طريق العودة،
لم أكن أعرف أن امرأتين تتشابهان
كانتا ستنظران إليّ
في إحدى محطات الشمال.
لم أكن أعرف أيضاً أني سأنظر إليهما
من زجاج شبّاك القطار المغلق.
إلاّ أني غادرتهما إلى محطة تالية.

رافقتني جريدة "لوموند"
حيث قرأت نبأ وفاة كاتبٍ روماني
فالكتّاب أيضاً يموتون بسبب التضخم،
وصرت أبتعد شيئاً فشيئاً،
هكذا، وكأن شيئاً لم يكن.

جلستُ في أحد المقاهي لوحدي،
حيث شربت كأس البيرة
وسمعت أحاديث الرجال في كرة القدم.
كان الجوّ أليفاً،
والشمس غافية أمام الحانة،
وعلى السطوح القرميد.

رأيت مزهريات من الآجرّ
على حواف النوافذ،
ومقاهي على الأرصفة،
ومسافرين كثر،
في طريقي نحو بيتٍ لم أكن رأيته بعد.
احتفلنا بذكرى أصدقاء،
شربنا بعض الخمر،
وانطويتُ فانطويت
ثم رحنا إلى المطبخ
لنأكل بعض الفاكهة،
أمّا الموسيقى فملأت البيت توتراً وسكوناً.

على الحيطان المغلّفة بالورق الأبيض
أذكر بعض الصور.
لكني لا أذكر إن كان لمزهريات البيت
عرى
أو لجارور المكتب مفتاح.

في اليوم الأخير،
تساءلتُ عن المعنى.
ربما المعنى في صورة
الإمرأتين المتشابهتين،
لحظةً إلى الأزل.

كنا ننحني كل صباح على صمتنا،
ولم أعد أذكر كيف كانت الأباريق المهشّمة،
ولا الشبابيك المغلقة.
كنا فقط نحاول الإقتراب
من دائرتنا،
نحاول كبت تلعثمنا.
بجسدنا الأليم كنا
نختصر أيامنا،
وبالتفاتة مني
بقي كل المعنى هناك.

سمعنا أنغاماً مقلقة،
وجلسنا لساعات إزاء بعضنا
في أصيل مائل إلى الأزل.

لا أذكر إلاّ "أ"
ربما لأني أحببت الإسم.
"أ" المحطة ما قبل الأخيرة،
وعلق المطر على الزجاج
تراكمت أوقاتي المميتة.

"أ" في طريق العودة،
عندما تأكدت أني غادرت،
وألوان شمس الأحد
تراكضت على الأشجار،
تكسّرت على ثغرات جملتي.

وقفنا في متاهة الغرفة،
والصمت والكأس في يدي،
إلا أن الليل تداعى ناحيتنا،
والغد كان للرحيل.
وقفنا في متاهة وقتنا الوجيز
وتقوقعنا على اللحظة الأخيرة.
تقوقعنا على أحلام هاربة،
على كؤوسٍ فارغة،
وكنيسةٍ، الكنيسةُ المواجهة
رأتني أقبّل الخواء.

***

شارل شهوان

1960، بدأ ينشر سنة 1983، من دواوينه: أحدهم يستعدّ للقفز (1983)، شاب يغتسل بمفرده (1987). من مواليد كسروان. عمل في الصحافة وفي الترجمة.

مرتمياً على ركبتيه
نظر إلى قمر غير مكتمل
خشنةً أصابعه
داعبت جبهتي
تماوج الهواء في شعره
عند أسفل الجبل
سيل مسعور من الحنان يمتلكني
أُدني فمي.

نهار مشمس دون رغبة

متعبون قبالة هذا البناء
نحمل حجارة رمادية
فوق هذه المساحة المواجهة للسماء
لم نطلب أيَّ شيء
فقط أن ننزل صامتين
نخلع أحذيتنا ونعبر بحذر
إلى المساء
داخل عمارة غير مكتملة
لم نشعل ناراً
وجوهُنا في العتمة
عبر فجوة في نهاية البهو
دخلت غيومٌ سوداء
حدث هذا في الصبيحة
ولما كنا نملك مظلة واحدة
غادر بعضنا
مؤسفٌ أن يضطرَّ هؤلاء إلى الخروج
في نهار مشمس دون رغبة.

أنين البراد الخافت

لا يمكن في أي وقت نسيان الإيقاع
على الأقل أنين البراد الخافت في حدود الشقة الشرقية
الوهج الهوائي لحركة الذراعين
الثقل غير المرئي لتنقلاتنا الهشة
ماذا يعنينا هنا غير المشاهدة
غير التحليق الشاق فوق الجسد المتعب
الأبواب المتناثرة بين أصابعنا
الشرفات المتدلية من العيون
الجثث الورقية للنساء اللواتي تعرّين في حضرة أحدنا
متنكراً في زي ساحر عربي
مطوية في الدرج الثالث مع ملابسنا الداخلية
قرب النافذة قبيل الظهيرة
نطأ ملاءات من نور الشمس
مرتبة متوازية تدفئ أقدامنا ذات الأصابع الخمس.

في تشرين 1984

بعضهم يستفيق باكراً
يشعل الضوء ويتمتم
جهاز التلفزيون غير مطفأ
لكن لا شيء، لا مشهد عن الحرب
لا رجل مشوَّهاً
لم أنهض، لا أستطيع أن أفعل هذا بنفسي
أنا لم أحلم مرة واحدة
حتى بامرأة بدينة
في ما مضى كنتُ أحلّق طويلاً فوق أمكنة أعرفها
التحليق متعة في الليل حين يكون الفرد نائماً
ينبغي أن أنتهي، أن أتوقف، أخجل
أقول فقط وهذا يكفي
أرتمي على الكنبة أو على الأرض
قد تدخل امرأةُ رجلٍ بكوب شاي أو بطقم أسنان
قد يبتسم، أستطيع أن أفعل هذا بسهولة
دونما رؤية واحدةٍ بشعة في وقت مبكّر كهذا
تنبعث موسيقى من مذياع قريب
أغفو من جديد
أستفيق منهكاً، عملٌ يومي منجز
لذا من المفروض أن أتمدد طوال النهار
هنا بالذات أمام لوحة لمحمود وأفكّر
ربما سينقطع استرسال تفكيري
وأنا ألعن الميليشيات في الخارج
يمكن الجميع أن يخرجوا ويصيروا رفاقاً
أن يغادروا إلى أميركا الجنوبية
أو في أسوأ الأحوال أن يبقوا في الداخل ويضحكوا ببلاهة
أشعل التلفزيون من جديد

***

أنطوان أبو زيد

1955، بدأ ينشر سنة 1986، له عدّة مجموعات شعرية، منها: نبات آخر للضوء (1986)، جسم ظلال وخطوات (1988)، أعمق من الوردة (1993)، إضافةً إلى نصوصٍ. من مواليد بيروت. حاز شهادة دكتوراه في اللسانيات. أستاذ جامعي وصحافي ومترجم.

قُبــلَة

قبِّلْنا قبلتَك أيها الألمُ
وامضِ.
الأرضُ أرضكَ
والجسدُ جسدُكَ
والدوران حفيفُكَ بين القلب
والعين.
وحين تحتارُ
في مَن تسوّي أمرَه
إذهَبْ إلى الأعالي
وانظُرْ إلينا
مثلما تنظر أرواحُ الأصدقاء،
حرًّا
وبقلبٍ بارد.
لا كما نظرتُ أنا
واشتهيتُ لونَ امرأة.
لا شتاء معكَ ولا لحن.
لا عظام جبابرة
ولا عالَم ولا أيائلَ ولا ثلوج،
ولا أيّ شيء.
مهلاً.
أعطنا وقتاً لنجابِهكَ
كما يعطي اللّعيبُ خصمَهُ.
نزلَ يوسفُ ورأى.
نزل ثانيةً إلى البئر
ومشى هناكَ،
كأنّه رميتُكَ.
قليلاً من الصبر،
نحن لا زلنا ثمرتكَ،
ثُلّتكَ،
سفينةَ نوحِكَ
نِمالُكَ التي تُضيّع مياهَها
آخرَ اليوم.
أيها الألمُ
إحسَبِ الترابَ ترابَك
وقدِّرْ كم ينبغي لنا الكلام
إلى أن تأتي نوبتُكَ
والهواءُ.

إنتــظار

الكلاب تمرُّ مرتَيْن تحت النجمة ذاتها.
وأنا أنتظرُ الرسالة من افريقيا،
حيثُ الأسماكُ ملوكٌ حقاً
والأشرار دافئون في اليخت،
يقدّمون التوابلَ للراقصة الوحيدة
يُخرجون السيجار ويقفون كتماثيل وشمعدانات.
أنا، ماذا أنتظر؟
قال لي القمر،
القمر الحقيقيّ الواضع مجهراً على عينه،
قال: أنتَ ماذا تنتظر؟
قال لي الحارسان لدى الباب:
أنتَ ماذا تنتظر؟
وقالتْ لي العجوز على الدرابزين
وهي تمجّ سيجارتها في العتم:
أنتَ ماذا تنتظر؟
واقتربتُ من المائدة،
المائدة البعيدة حتى العظام،
ومَددتُ لسانيَ
إلى السماء، السماء غير الأولى،
وقلت للملاك: هاءنذا. إذا أردَتني خذني الآن،
بلا تردّد.
في هذه الليلة الصافية، المحايدة.
أيها الملاك جسمي لا بأس به. فقط
بقعٌ بيضاء تحت العينين.
وزدتُ: يمكن أن تسألَ أحداً ها هنا،
قائداً أو بائع ثياب أو راقصاً حتى،
كلّهم يجيبونك بنفس الكلام. أن لا عمل لي.
وإنني أحيّي الأحياءَ يومياً،
وأنفضُ يدي من يديَّ مثل سنجابٍ عائدٍ من
المرّيخ كل ساعة.
قال لي الملاكُ الأشيبُ المنمنمُ الوجه:
"إذاً، أنتَ ماذا تنتظر؟"
فقلت: تريدني أم لا؟ هيا.
قال: ماذا تنتظر مني؟
قلت: أن تأمر نسراً متقاعداً لديك، ليحملني إلى حيث يشاء
قال: مستحيل، فكِّرْ... ماذا...؟
الشمسُ. ثم النهرُ.
عليّ أن آخذَ الشمسَ مرَّةً،
والنهر مرَّةً أخرى،
وأمشي على حافة المكتُوب،
المكتوب إلى المهاجرين،
وأتعلّم الصلاةَ للساعي،
وللباخرة،
ولشرطة المرور،
وللطيور التي لن تتعب
حتى مغرب الأرض.
الكلابُ، ما زالت تنتظرُ
الرحمة،
وراء جرس المساء بالضبط.

***

فادي أبو خليل

1956، بدأ ينشر سنة 1986، له: غيوم طويلة، إنّني أتذكّر (1986). من مواليد بيروت. عمل في الصحافة وفي المسرح.

دائرة الساعة

الواقفون في الخامسة،
الأشخاصُ الذين يلبسونَ دائرة الساعة
بطريقةٍ معكوسة.
ماذا يفعلون بالعقرب الصغير
بماذا يلوّنون وراءهم،
بصباغ الأحذية؟
لو أضاعوا طاقة أيديهم
في غرف التسلية؟
أو توزعوا إلى حركاتٍ حرةٍ،
كالمشي بأصبع واحدةٍ
على سِيركٍ طويلٍ
يصل إلى طاولةٍ مستديرةٍ محيِّرة.
تلمعُ الرئةُ بالدخان دون أن يشعر الشخص
بشيءٍ يذكر.
تُلقى مفاتيح الألعاب من الجوارير
على جبال الساعات،
دون أن تحدث صرخةٌ في المسافة.
الأشخاص الواقفون على رؤوسهم
في دائرة الساعة،
يحركون في الطناجر هزّةً كبيرةً بحجم طابقٍ
يأكلون روحاً حتى قدميها.

الضوء أيضاً

الحبُ نفسه هذا المساء
الضوء أيضاً خلف القماش
يقيسُ وجهكِ
اليدُ نفسها
كلما اقتربنا.
وجهةُ التماثيل على الطاولة
الإنحناءةُ في الهواء
حركة السرير.
النظرةُ نفسُها على الوسادة
الدبابيس المبعثرة
ولاّعتكِ
الدفاتر المحفوظة
الفسحةُ نفسها كلما تباعدنا
الرقةُ التاكيةُ على الكرسي
التمدّدُ في المرآة
الكلمات.

نائمون كعيون الأسماك

تلك المرأة
الرائحة المنقولة
بخطواتها الباحثة عن سمائنا
تحت الأرض،
حيث نسحب ببطءٍ
أسلاك أرواحنا
وتتأهب الجدران بعيوننا المدوّرة
كإنفجارات خفيفةٍ متلاحقة.
كنا فضائيين كمنازل
قد تخرجُ من نوافذها.
نُمسكُ جلودَنا
نعلق بالتحرّك الثقيل للعددِ والأقدام.
من عينيها المبعثرتين داخلها
إنفتحتْ صرخةٌ في أول الجدار،
فراشةٌ حول تراب أكتافها.
كأضلاع البناية التي غابت من
كثافة الفضاء المتواصل
ما بعد الباب الذي يلمع عليه الإنفجار
كنا ضعفاء،
نائمين كعيون الأسماك.
كنا لشدة أجسادنا وأماكننا
لشدّة دخاننا وابتعادنا تحت الطوابق.

للصمت آلاته وحركاته العازفة

للصمت ورقة خلف جسد الإختباء.
عينٌ مشدودةٌ بأقنعة العلب الداخلية
وأوتارٌ ملفوفة.
للصمت عبورٌ مالسٌ إذاً
فرصةٌ للتمرئي.
أزياحٌ إذاً،
لمساتٌ عاريةٌ لحفظ الرسائل.
للصمت كثافة الجلوس
خفّة الأقفال حطبُ الأرقام.
... بقايا طعامٍ وطاولاتٍ
راحاتٌ للذقون
أظافرٌ لجلد الصفحات والمساء.
... خدمٌ ذهبٌ وأجبانٌ مشعّة
أمشاطٌ للذهاب إلى نهاية
المرايا.
للصمت جوانبُ بارزة الأضراس.
للصمت
يدٌ تسحبُ وسادةً مغمياً عليها
من التفكير في هواءٍ دائريّ.
عتمة في الطناجر
وحياةُ الحشرات الخفيفة.
... عَرقُ عضلاتٍ
ومراقصُ لكائنات الغيظ.

***

لامع الحر

1958، بدأ ينشر سنة 1987. من مجموعاته الشعرية: مهاجر إلى أنصار (1987)، واجهت نارك كلها (1993)، فتى الظل يبحث عن يديها (1998)، عشق كألف ممّا تعدون (2001)، أبابيل على وتر الكرنفال (2004). من مواليد الجنوب. حاز جائزة "سعيد عقل". حاز شهادة شكر وتقدير من وزارة الثقافة التونسية. يعمل في مجلة " الشراع " .

أمواج بعل

يا أيها الحلمُ المحيّر
من تُرى سيصونُ قافيتي
ويلثمُ جبهة العشّاق،
بعد خريفك الماضي إليّ
كأنّه طيفُ الحنان
يودّع الغصن الممدّد في حقول الشهد
منسكباً على صفحات رفدك
من يا ترى سيحرّر الشعراء من أشعارهم
ويحنّط التاريخ،
كي يتمدّد التاريخ في باحات خلدِكْ
حلمٌ يموتُ كما الكرى
ويكرّر الأيام...
كي تبكي على الأيام تلك،
لعلّ واحدَنا
يحرّر وقته من سيف وحدته
ويذكرُ ما تبقّى في خفايا النفس،
من أطياف وحدِكْ
حلمٌ يعيدُ سنابلَ الذكرى
دقائق عمره المنسيِّ في سُمِّ الحياة
كأنّه موّالها المطحون في أسفار سعدِك
يا حلمَنا حرّرْ بقايا العمرِ من أوهامه
حتى نعيشَ دقيقتين
تجاذب البسماتُ ما جادَ الزمانُ من الهوى
في ساحِ رغدِكْ.
يا حلمَنا
اهدأْ قليلاً
فالحياةُ تجورُ أكثر كلّما أوغلْتَ في أسرارها
أو كلّما أوهمْتَ نفسَكَ
أنّ نفسكَ حرّةٌ
أو كلّما جاوزْتَ في كشفِ الطلاسمِ،
والستائر والكوى
أبعادَ حدِّكْ
يا حلمَنا
قد هدَّنا العمرُ الملازمُ للصراع المرّ،
يا عمري
ستصرعُكَ الحياةُ بقضِّها وقضيضها
وتسيرُ خلفَك
كالظلالِ
وكالحصارِ
إلى بطونِ الأرض،
تتبعُ رقصَكَ المجنون،
من وقتِ الولادة والبكا
حتى اختفاء الجسم في قيعان لحدِكْ
هذي الحياةُ تئنُّ فوق خطوط رأسي
مثلما أنَّتْ حرابُ الغدر،
فوق خطوط رأسِكْ
هذي كؤوسُ العمرِ واقفةٌ
على حدِّ السيوف،
لتوقَظ الأيامَ في أمواهِ خدّكْ
حلمٌ تربَّع في مقام الأولياء
ليخرقَ الصمتَ المهولَ،
كأنَّه مهدٌ
يزلزلُ ما تبقّى من صدى في كفِّ مهدِكْ
دغدغْ شعورَك،
التقطْهُ ذبذباتٍ،
تستضيءُ بنور رعدِكْ
وافتحْ مدائنَك البعيدةَ للزمان
فهل ترى غير الزمان مُمدَّداً
فوق الشواطئ
والمسارح
والظلال
وكلّ أعمدة الخيال
كأنّه وجهي
يصافحُ ما أضاعَ الجورُ من جهدي
وجهدِكْ
لا شيءَ يبقى غيرُ هذا الصوت،
فامسحْ دفترَ الأيّام،
كي يتلمَّسَ التاريخُ نبضي...
كي تغور حرارتي الهيجاءُ في جلدي
وجلدِكْ
الشعرُ يبدأُ من هنا
وهناك...
من مسٍّ
يُكذِّبُ ما تعارفنا عليه من الرزانة والسنى
لكأنَّه رشدي
يغورُ بماء رشدِكْ
هي نفسُها الدنيا
تُصدِّعُ ما تبقَّى في خوابي العمر،
من حبٍّ إلى شوق الحياة
تسائلُ الإنسانَ عن أسراره
وتغيبُ في ألغازه
وتُحدُّ من إشراقه
لكأنَّهُ الردُّ البليغُ،
على مغازي الخلق،
هل يُجدي إذاً ردّي
على شطحاتِ ردِّك
ونكرُّ في هذا المدى المسحور،
منتظرينَ أياماً سماناً،
لا يطولُ الانتظار،
ويبتدي شوقُ القريضِ
إلى القريضِ،
كأنها الرؤيا تُيمِّم شطرَ مغرِبها
وتتركُني أسيرَ السهدِ في أقصى الفيافي
أرقبُ النجمات بحثاً
عن بقايا الروح في أضواء سهدِكْ
يا هذه الدنيا تعالي
كي نصافحَ وقتَنا الباقي
ونجعلَ عوسجَ الصحراء ورداً
لا يباغتُ شوكَهُ
ويُحرِّرُ الأشواكَ من وردي
ومن لمعات وردِكْ

***

اسكندر حبش

1963، بدأ ينشر سنة 1988، من مجموعاته الشعرية: بورتريه لرجلٍ من معدن (1988)، نصف تفاحة (1993)، نقطة من ليل (1998)، أشكو الخريف (2003) وغيرها. من مواليد بيروت. صحافي وناقد أدبي في جريدة "السفير" ومترجم.

VI

مضتْ أيامٌ
منذ أن استيقظتَ.
مضتْ
أنهارٌ وأشجار
منذ أن أومأتَ إلى نخلة.
ما من أخواتٍ يُشبهنَك
ما من نسيانٍ
ليستديرَ فوق خارطة
الفصول.
نجلسُ الآن أمامَ موتكَ،
أما من أبٍ لكَ
ليمنعكَ من الخروج
فوق رؤوس الرماح.

VII

ليلُك أم دمعي؟
المعسكرات تعيد الذكريات
إلى مولدها.
لماذا تأخذ المطر؟
لماذا الأمكنة بلا يوميات،
بلا أحداث نتبعها
حتى الهروب.
أيام وأيامٌ...
وشوارع تتبدل كل يوم
بالجنون ذاته.
أتذكرُ ذلك الزمن؟
كانت الجنازات بلا أحلام
كانت الجنازات
بلا غرباء...

*****************

حين لن تبقى لي تلك المدن
اقول لهذا الطائر
كم من بحار ستحلق فوقها

ولوتشانا لم تنظر الى الوراء
فقط
وجدت متسعا لهذه الخرافة
لوتشانا
بشعرها الطويل
وكؤؤس النبيذ التي سكبتها
لم تكن تبحث عن بلاد
ولا عن الحجر السحري
لأعيد اكتشاف تفاح الجبال
وجغرافيا الأشياء
لوتشانا تقول
وأنا انظر الى هذه التماثيل
الواقفة
عند مجرى النهر
لم اسمع الأغنية
فقط تنهيدات رطبة
كذاكرة جسد
هل حقا
بدأت آخر خيوط الشمس بالمغيب؟
ام نسينا
ان نحصي ما تبقى لنا من طفولة؟

لوتشانا تغني
وانا انتظر ملاك العصور
عند آخر عتبات الخديعة

حين لن تبقى لي تلك المدن

لن يبقى منك حتى الذكرى
هي اشياء تركتها قبل ان تغادر
هي اشياء سأتركها قبل ان اعود

شجرة مائلة
غيمة ليس لها نهار
خريف يذكرنا
بهذا الحلم الذي يقف
على مجرى النهر
مثل هذه التماثيل
مثل هذه التنهيدات الرطبة
فلا شيء هنا
سوى الأرض
التي تهبنا الخوف قبل ان تغادر

***

يحيى جابر

1961، بدأ ينشر سنة 1988. من مجموعاته: بحيرة المصل (1988)، الزعران (1992)، خذ الكتاب بقوة (1994)، كأني امرأة مطلّقة (2007). وُلِد في الجنوب، يعمل في الصحافة اللبنانية والخليجية منذ أكثر من عشرين سنة. حاز جائزة رياض الريّس سنة 1988. كتب في المسرح.

اللـيلة

كأنني امرأة مطلّقة
مرجوماً بعواء الشادرات، مرشوقاً بالشائعات، يجعرن
"سكرجي مدمن على كحول من نهود مغشوشة"
كأنني امرأة مطلقة، طريدة جيران الشرفات المقابلة
يعوين "قمرجي، رهن عائلته من النبضات للمرابيات"!
كأنني امرأة مطلّقة لنمّامات الحي التلفزيوني..
ينهقن "نسونجي، يغوي العابرات للقارات والفتيات الصغيرات"..
كأنني امرأة مطلّقة، مرغوباً، مغتصباً بالنظرات..
بين فنجان القهوة وكأس المساء.
هو الأعزل، كغزال جريح، حان وقت سلخة بالأمثال.
كأنني امرأة مطلقة، محطم بسريري على رصيف،
منبوشاً للباحثات
عن فضلات حب
عن رعشة في كيس نايلون
كأنني عظم لمفردة غزل مقطعة الأوصال...
الإفلاس، أن تمديدك إلى أقرب كتاب
تتسول امرأة من ورق.
أجمل النساء مَن كانت حبراً
أجمل النساء مَن كانت فيلماً
أجمل النساء مَن كانت في المنام
أجمل النساء أنا
وأنا، كأنني امرأة مطلّقة.

اضحكي

هذا حب برعاية "سيليس" سابقاً،
"ألفا" حالياً.
وأترك الفواتير ليوم الحساب.

غــول

نتحاضن في حانة "البارومتر"
تنادمينني دمعة بدمعة
كشيعة في الخفاء.
الحب غول الأربعين
أرتعب كمسيحي في مكة
أو كشيوعي في قم.

بلا أدب

حين خسرتُ جائزة نوبل للآداب
رحت أبكي في أقرب حانة
كتفاكِ حافة بار
أستند كمخمور
ترفعين خصلة شعري من رغوة البيرة،
ترفعين رأسي بإبهامك، "أنتَ عالمي"
ترفعين معنوياتي، "أنتَ مليون دولار"
"أنتَ أجمل فم بلا ترجمة".
يا يحيى... أنتَ شاب حلو.
قبّلْ خدك الأيمن
وأدِر الأيسر لي...
في تلك اللحظة
وبلا أدب
إنفجرت سيارة مفخخة في "الأشرفية"
ورحنا نشتم
أم ألفرد نوبل
التي قذفته لوح ديناميت لهذا العالم.

***

ندى الحاج

1958، بدأت تنشر سنة 1988. من مجموعاتها الشعرية: صلاة في الريح (1988)، أنامل الروح (1994). من مواليد بيروت. درست الفلسفة في السوربون. عملت في الصحافة ايضا.

ســلام

سلامي للكلمات الهاربة نجوماً مذنّبة
للأعمار الكارجة في بؤبؤ الروح
وقبلاتي لكلّ حلم لم يكتمل
وجرح لم يلتئم
وسفر لم يتمّ
وحنان لم يُعَبِّر عنه
وغصّة استُخَفَّ بها
وذكريات آه كم عصَرَتْنا
ورميناها في ظلم النسيان...
وصلواتي لسنابل العشق
في طيّات القلوب الطريّة
في صورَ الرؤيا
وعناق الجنون المستبدّ حتى الإنخطاف.

المـنفــى

أن تكسرَ جناح عصفور
أن تلوّثَ الدمع
أن تدقّ عنق الياسمين
أن تذرّي غبار القلب
وتحبسَ نبضه في قمقم
أن تبصقَ في وجه الرحمة
وتشلَّ أصابع اليد
أن تحرقَ سهول الفرح
وتطفئ نور العينين
أن تطرد الحب
تكسوَ جلدك بالحصى
وتغرقَ في المنفى.
أن تمدّني بقوة الحقد
تعطيني سرّ العجز
وقدرة اليباس
أن تسقيَني إكسير العمى
وتجرِّدَني من السمع
أن ترجعَني إلى كهوف ما قبل التاريخ
حيث تنهش عظامي الوحوش الضارية...
هكذا أفهمُ لغة البشر حين لا يتفاهمون
وهذه غربتي.

عيــونـنا

سهم يخترقني
رذاذ مطر يطهّرني
فأعود إنسانة في زمن العهر
أفتّت الصخر بكلمة، بنظرة.
لو أن العودة أكيدة
لو أن الزمن والعهر ينفصلان!
كل ما في الأمر
أن الوجوه شُوّهَت
والعهود غُدرَت
والكلمات استبيحَت
والأوطان قُطعت أوصالها
والكفر غول يفترس القلوب
وجبين الله أسود كالفحم
ينام رهينة في كفّ الشيطان.
مَن ينقذ العالم؟
ألغام الخيبات تصطاد نفوسنا
والكلام الحقيقي جبان
ألسنتنا آلات مدرّبة
وعيوننا الملاذ الأخير.
سر الحياة مجهول
يطرق على الأبواب في المنام
وأحلامنا تخوننا.

ســوء تفــاهـم

في قلب الليل
همسات صراخ مخنوق
تحكي قصّة الحياة والموت
على شفير الشفتين المنغلقتين
أمام أبواب الصمت.
سواد الليل حالك
كعيني الذئب
قبل أن يبتلع النجمة
إقفل فمك
قبل أن يتحوّل فحمة حقد!
في الأوقات الحرجة
لا تدري إذا كنت قمراً
منسيّاً وراء غيمة ملبّدة
أو عناقاً لم يكتمل
أو وجهاً آخر
لحلم هارب.
بين الكلام والكلام عزلة أميال
بين العناق والعناق فراغ الوحشة
بين السماء والأرض سوء تفاهم
في حجم الكون.

***

يوسف بزّي

1966، بدأ ينشر سنة 1989. من مجموعاته الشعرية: المرقّط (1989)، رغبات قوية كأسناننا (1993)، تحت المطرقة (1997)، بلا مغفرة (2004). من مواليد بيروت . عمل في الصحافة العربية واللبنانية وحالياً في جريدة "المستقبل".

هــو

هو وقميصه ومغص المعدة،
وجهه المقتبس من القش
عينه المتفاقمة
زوجته وحرّاسها وذباب الفاكهة
مستشاره والسمّ والقبائل الكبيرة
هاتفه والرذاذ والبلد.
هو وصوته الزجاجي
بنطلونه الذي يحفّ عضوه:
"جرس يرنّ بين الغيوم
أرنب يتقدم في الحفرة".
خلوده الشخصي
الذي "يبقبق" في الإسفلت
ديوانه الذي غرفوا منه
صمغ الحظ الدبق
سعاة وسفراء وسائقون
مذيعات بمناقيرهن
على الدرج الرخامي للقصر
حيث السماء ترسل ابتساماتها
الدنيئة
......
......
تعال أيها البرق واسترح
في ياقته،
تعال أيها المحنّك الراعد
إلى فمه الطيّب،
ولينقطع نسل المتمردين واللئام.
تواريخ من الإشباع والحسد
على التوالي،
إصبع المكائد الجليدي
ذو المخلب الرهيب
إذ يشير إليك
ها أنت بالألوان
فضفاضاً وتلفزيونياً.
لا تقلق
إن كانت ستنساك المكتبات
أو تقفز فوقك
أسطر الكلمات المبجّلة
غارقاً في السجلاّت المغبرة
فزمن سحيق سيمضي
قبل أن يزول طعمك
وتندثر شواهدك
ويجف زيتك المتّقد
نوراً في ليلنا.
هو الشاحب الوردي الضخم
الذي يحلم من أجلنا
لعابه والشعرة العالقة
في البؤبؤ...
له وقارنا، له تضرعاتنا
فمستورة كل أفعالك أيها الضعيف
مغفورة جرائمك العاطفية
لك الشفاء من السكري
لك أصلابنا ونسلنا.
سيأتيك أمراء البر وسيدة البحر
وعاهرتنا البضة
حارقةُ سريرك.
سيأتيك الخائن من وراء مقعدك
واللص من بين قدميك.
هناك، عند مشارف البلاد
ندشّن عصرك
حيث مشيئتاك تتصارعان
فوق تلة من أكسيد الوسخ
الأطفال أيضاً هناك
مئات الذين تحللوا، هناك
داخل التراب والميثان
تحت أنقاض تمَّ توزيعها
سماداً لأزهار الصالون البهية.
هناك نحوطك بحرارتنا ولهفتنا
فاجلبوا عطوراً إضافية للكلمات
اجلبوا العارضة على جمارك الليل
واجلبوا المسكين إلى غرفة اعترافه
أطعموا السائح من مائدته
ذيّلوا أبياتكم بأزهاره
- من يديه – أيها الوضيعون
الموظفون
سارقو المكانس السحرية
من أمهاتكم،
الحسوا خجله الكبير
الذي يوضع عنواناً للجرائد،
احملوا ضحكاته الرقيقة
على رؤوس شفاهكم
بادلوه الحب والتعاويذ
ولا تشتهوه
هو الطفل والمقدس والمقهور.
الرعب يقضمه
كسنجاب عظيم
جاثم على فروة الرأس
مرحٌ، نهمٌ
سنجاب متنكر بفكرة حمقاء
قلنسوة ملكية حيّة
... رعب حتى النخاع.
لتكن المدينة مدبَّرة
بالهمسات المخدِّرة
وليأتها حجاج التسلية
تحت رعاية النصل المتوهج لرأفته.
إني أسمع الطقطقة الأخيرة...
وإذ نوقظ من قُتل عمداً
ومن كبسنا ذلّه في الأرصفة الجديدة
فإن بذورنا ستتعفن
قبل حصادنا الكبير
والكواكب المتجهة إلى نهارنا
ستنطفئ تحت قبتنا
الأشجار المثقلة بترابها الفاسد
ستغدو شاهدة على فظاعاتنا.
ستعود البنادق، يقال
سينزل برابرة الريف مجدداً
نساء كثيرات للبكاء
عيون عتيقة ستستيقظ
وبارعة ستكون الضغائن
كصيف طويل من المناجل والبلاء.
إنزال مهيب للأشباح على الشاطئ
قبل أن تندفع إلى قلب العاصمة
اصطدامات ومحركات
واستغاثات المبكرين في ذهابهم.
ستأتي الأشباح لترتطم بالدم
وتأخذ كل ما تمزق
نيران تهيمن على ما شُيِّد
نومنا سيتبدد
حيث لا أرض ترتجّ
أديم انفلق من تحتنا
ولن تعطى لنا التوبة.
بلاد جميلة لم تعد لها طريق
وأنت المقطوع عن اسمك
وإن رمموا عينيك
لن تبصر السبيل.

***

زاهي وهبه

1966، صحافي في الصحافة المكتوبة والمرئية، بدأ ينشر منذ 1990. من مجموعاته الشعرية: حطّاب الحيرة (1990)، في مهبّ النساء (1998)، ماذا تفعلين بي (2004).

أزيّن صوتي

محروسة بالأغاني والأمنيات
تجعلين الوقت طرياً
والأيام هينة
أزين صوتي ليليق باسمكِ
أهتف لكِ
تتنفسُ الحروف الصعداء
تمسي الكلمات قمحاً ويضحك الجياع

أهتفُ لكِ
الملاك الحزين الدامع مبتسماً يفتح لك الأبواب
وجهكِ ممحاة الضجر
وجهكِ مرسى النذور الطيبة
وفي قلبك الطاهر المغسول بالأسى
أغنية تُضيء ليل المنفيين.

مرتجفاً أنصت لدقات قلبك ترتبُ إيقاع حياتي
مذعوراً من فرط الأمان
أنحني بين نهديكِ سمعاً وطاعة
هارباً من ضجيج العالم ألوذ بأنفاسكِ.
تخجل منكِ الحروبُ
يخجل منكِ الطغاة

مرةً تأخر الغيث وجاء الغزاة
قلتُ أحبكِ
فانهمر المطر واشتد الغناء
قلتُ أحبكِ
صارت قُبلتنا حجراً في وجه دبابة
صارت قُبلتنا مطراً في قلب سحابة
قلتُ أحبكِ
كي لا أخون الشعر
كي لا أخون الحياة.

رافقيني قليلاً

رافقيني قليلاً
لتحلو الحياة
أحب الحياة حلوة في عينيك
وأحب الورد يفوح منك كالأمنيات
وأحب النسيم معلناً قدومك.

رافقيني
ليتبدد صقيع الكون
لتغدو أقل وحشة هذي الحياة
لم يعد متسع لضحكة إلا في وجهك
ولم يعد أمان.
إذن رافقيني قليلاً
لتحيد عن ظهري الطعنات
ثم تعالي نغرس وروداً صغيرة
في خراب أيامهم
نحاصر بغضاءهم بالضحكات
ومن مياه حبنا
نسقي قلوبهم اليابسة
ربما تحضّر فيها شجيرة الحياة.

 

***

اسماعيل فقيه

1963، بدأ ينشر منذ 1991. من مجموعاته الشعرية: للنها المعطّل (1991)، ليس غيابك (1992)، مدن وشيكة (1995)، نافذة في نهر (2000).

لا يموت

كادَ يموت في الحادث
لكنكِ حضرتِ فجأة
وأعدتِ له نبض قلبه
ولا ينسى
ولن ينسى
كيف نزلتِ من سيارتكِ
ووضعتِ يدكِ على خدّكِ بلهفة
وانتظرتِ طويلاً
كي يصحو من الصّدمة
........
........
وعندما ذهَبَ معكِ
وجدَ نفسه في غمرة العاطفة
حقاً، إنه حادث يُحيي

هبوبكِ

وأنتِ واقفة
في مكان الحادث
قُبالة خوفي
كنتُ أرى هبوبكِ
يحفظ البساتين المحيطة
ثم يرتفع فوقها
كطيرٍ يسبح
فوق ليل الليمون
يراقب عذابي المفاجئ

أنجو

أثناء الحادث
وأنتِ معنا مذهولة
أمام السيارة المحطَّمة
لم أكن مصدوماً من هول الكارثة
كنتُ أمارس الصبر
- بكلِّ قوّتي –
كي أنجو من انهيار مُحتمل
بعدما حلّقت أنوثتكِ
وحطّتْ
على أكتاف حياتي

حياة

لحظة واحدة
- كوَّنتها نظراتكِ –
في ساحة الصّدمة
تكفي لإقفال الكارثة
والعودة إلى الحياة
فوراً

تُصافحكِ

حين اهتزَّت الأشجار
أثناء عبوركِ
لم يكن الهواء يُحرِّكها
كانت تمدّ أغصانها
لتصافحكِ

أعرفكِ

أعرفكِ أيتها الصبيّة
كل ما تقولينه الآن
يدلّني على أشواقي
ويُطعم العصافير
القاطنة في قلبي

غيابي

شَعْرُكِ على ظهركِ
يرسمكِ كشجرة الرّحمة
.........
.........
صحيح أنني واقف معكِ
لكنني مُستلقٍ في فيئكِ
أسمعُ ظلالكِ
أُلامسُ جذوركِ
وأنظرُ إلى أوراقكِ العالية
أقرأُ سيرة غيابي

***

هناء الأمين خاتون

1943-2005، بدأت تنشر سنة 1991 ، من مؤلفاتها "لغة تحلّ جدائلها" (1991). من مواليد الجنوب. حائزة شهادة دكتوراه في أطروحتها عن أدونيس.

حطَّ عليه عصفور

أمهِلْني في انهمار الأيام
إنني اعدُو إليك
أشُقُّ غمامَ النار
ثمَّ انطفئُ على عينَيك.
وحده الليل يقرأ ملح الغياب
لا يذوب على شفَتي
طواحين العناق تدور
ملياً ألبَسني جسدي
تيهٌ روحيّ عرائي
أحبُّ رنين صمتكَ
في كهوف كلامي
أعشق الانفاس حين
تضيع في مطاياها الحروف
أحبُّ النار حين أفتِّش في صداها
عن بكائي
لظًى يغرق في معنى احتراقي
لهبٌ يعرف مرساة الحزن
في عروقي
يصبح الخوف أحياناً
كالبكاء يتهيّأ للبكاء
تتجمَّعُ الكلمات الجسد
لترسُمَ لوحة المطر
لتصبح ريشة الألوان
يصير الصراخ دمعا
قد يكذب الصوت
ويحلو للنطق البكاء
من وجهك تسلَّمتُ شهادة النُّطق.
أصحو حين يقسو وجهُك في الصَّمتِ
وأغفو حين يبتدئُ
حنين الكلام
أنت ضوئي
والكون منهمكٌ في استعادة لونه
يلمُّ ظلَّنا كي يستفيق –
شعري في المرآة طويل
حطَّ عليه عصفور
قال إنه حلم لعناق الغيم
ما عرف العصفور أنَّ شَعري
وسادةٌ لغيابك
كتبتُ اسمَكَ عليه
كي يطول فوق الأحلام
فوق الكلام
فوق الأيام.

شغفٌ يقتلُ العمر

جعلتُك النوم في الحلم
زهرةً بريةً حفافي القيظ
يا رفَّة الموت في كل يقظة
إلى قلبي من غدي جعلتُكَ
سرائر اللذة المجيء
رجوع المبتغى دربٌ بقاعية الخصر.
يتلوَّن الفجر
ناعس الأفلاك ساحرها
تنوءُ المصابيح بالسّكر الرهيف
بالمرايا السود / في الشمس
على أكُفِّ الأشواق: عتاقٌ. عتاق
عناقٌ. عناقْ
رماديُّ الانفلاتْ
شَ
غَ
فٌ
يقتلُ
العمرَ ويختصر الزوالْ.
وجرَّحتُ أقاصي الريح
في صمتي
إني لا أمتلك المسافة
الطريق طعنة الخفقات
التي تُميتُ لا تجرح
هل البكاء هو الدمع؟
الصوت يمزِّقُ النبعَ
يمتزج الجوفان
والصرخة
لا تحتمل البركان.
زجاجٌ حجريٌّ في عنقي
املاحُ الغرائز في الزوارق
تحبُس تجعُّداتِ الماء
الليل بين كفيَّ
ألعقُ كلماتي
لا تُقاسمني اريجَ البحر.
يعتريني
وقت مطر
حضورك يتهالك في دائرة قلبي
في بوحي
أهوي إلى زمن الحديد
أنت ودائرة الشوق
كلماتٌ للحضور
بيني وبينك صحوةٌ للأيام قاهرةٌ
وغفوةٌ للكلام
كيف تُرَّدُ مياه النهر إلى منبتِ تدفّقها؟
كل شيءٍ
روافد لتدفُّق الأحلام
هل أكون كالحصى المتماسك
في جذور الرمل؟
أو غصناً رقيقاً
تمحُوني ستارة الفصل الأخير؟
يجرفني زبدُ التدفّق
أتوالد في قعره
أصطدم برحيل البريق
كيف أتلوّن بريشة المسافة
بين الحلم واليقظة العائمة
على سفح النسيان؟؟

***

جوزيف عيساوي

1965، بدأ ينشر سنة 1992 ، من مجموعاته : "قصائد المنزل"
(1992)، "على سرير ينكسر" (1999) ، "شاي لوقاحة الشاعر" (2004)، وُلِد في بيروت. أصدر مجلة "الأخير أولاً" الشعرية (1983-1986). يعمل في الصحافة المرئية والمكتوبة.

غـابة ظـلال

في برعم الخزامى
هي حجارة الأمل تستريح
وأراني يا حبي
أتنفس غابة ظلالك
ليلاً يفرغ نجومه
من ثلوج الأبد
السوداء.

الرعشة الأخيرة

في غابات الشمال البعيد
قراصنة هبطوا مع الفجر
يتوسّلون الغبار أن يسفحوه
وصَلُوا على مراكب
كانت صلوات لم تصل،
سقطت حاملةً قِطعاً
من الأبواب الموصدة.
هناك
في أعالي الجبال
متحجرات
كانت قديسين وبررة،
بردٌ قارس
كان حباً كبيراً لامرأة
سحقته غيرةُ السماء.
في الجبال البعيدة
صدى
هو إمساك الهشاشة بالجسد
وتشبّثُ الروح
بينما يد علوية تقطفها عنوةً.
في الجبال
أستاذ يعلّم الامّحاء:
الشمسُ.
فلاح
يزرع الفصول،
يسقي خطوط العرض،
عارفاً أن الرعشة الأخيرة
أقوى من إطباق الجبل
عليه.
القديــس X
ثلوج كانت نوايا
وممرات غزلان
تغمر قبب الكاتدرائية البعيدة،
تحجب عن السماء
ابتهالات المصلّين.
ثملاً في عيده
يحرق قديسٌ الأجراس،
يُسيل حلوى
على شخوص الأيقونة.
جرن الماء المقدس فارغ
إلاّ من ترنّح عصفور.
زلزال هدَمَ المكان،
بعثَرَ المذبح،
لم يحلْ دونه أحد
ولا قديس يطير فرَحاً
كلما شفى.

من ثــلج

بقدميه العاريتين
يرسم فخذاً
على الثلج،
يحفر بكرز الرغبة
شاةَ حمراء
كلّما استوحَدَ
يخلقُ من ثلج ذئبُ الثلج.

***

رُلى صليبا

1944 ، بدأت تنشر سنة 1993، من مجموعاتها: ولكن البحر (1993)، كأنه السؤل (2001)، ظلال المتاهات (2003). من مواليد جبل لبنان. مديرة مدرسة رسمية. تراسل الصحف.

أحياناً
للحلم العاقر نثار
تملّس غضون المسافة
من نعاس الغياب تغتسل
عن الديمة تكشّط الشحوب
سراب ينفلش والعشب
والحواس
كأن البحر بحر
وكأن على الشرايين.
برأسه يمسك
خارج الأنفاس
أول الكون.
على راجف السقف
أجساد
تطفو، تنتفخ، تنتفخ
فضاء لا يتسع
وفي عري المطارح
فجر
مثل الكلمات
سحيق عتمة
نقطة نقطة
على حافته يفرغ.
كما ارتطام تمتمات
بغموض صلاة
يقفل الوهم على الباب
ويوزع الأصابع،
إلى مآقيه النبع الكفيف
كأنّ الظلال!

رماد الضوء

مغسولاً
بأمكنة الزمن
البلا جسد
هباء
في جوفه يزهر ثم
يتفتّت رملاً
لا ينتهي من،
ترك للهواء ذاكرة
الشجر
وعلى ضحكة المائدة
أوردة للوجع تجرف
عري صحوه الهادر.
يذبح النهار
وبدمائه المسافرة
يكسر المياه الثمينة
بأي شغف يطفئ
يباس النعاس؟
هكذا
بأصابعه يجرّ أحشاء
مرآة دبّغها
ليل الغبار
تحمله على ظهرها
ولا تدور
يتأمل حياكة دكنته
في وهج نهارات نسيت
نكهة أصابعه،
- شلل العصافير حين
ترتجف المواسم –
أين رماد الضوء الذي
صرخ؟
هكذا
كأنه لم.

الأصابع المعلّقة

في نكهة الهاوية
فجر أجسادهم صقيعاً
على خاصرة التلال
نخب نتوءاتهم
أوجفوا الضوء
جوع القناع المعتّق
تقاسموه مغسولاً بالدكنة
المجنزرة، صراخ السحاب
الهارب من خطوهم يفتّت
مِزق الليل، عشباً
يخترع وفي غير أفواه
يفيض الرُعاف
لا ظلال توقظ الأشجار
لا ضوء يكنّس الأفق
مواسم عطشى تجرّها
رائحة ذهول
وحده
وهم نهار يدهن
خدعة المرايا.
للحواس الملوية قطفوا
الأصابع المعلّقة
بحر، بالخواء يجهش...
ي – ت – لا – ش – ى...
مسافات تنحني شاحبة
وموائد غادرها الزمن
بأي وضوح ينزف
يأس من يأس
حزموا المفاتيح والوهم
والأسماء
وخنقوا البداية.
مَن يفكّ عقدة الغابة؟
خلت أني.

***

عناية جابر

1958، بدأت تنشر سنة 1994، من مجموعاتها الشعرية: طقس الظلام (1994)، أمور بسيطة (1997)، وغيرها. من مواليد الجنوب. صحافية في جريدة "السفير".

بسبب من البحر

يُظلمُ القلب
من غيومٍ تمرّ.
ومن الحياة أيضاً.
الحب الذي أُعطينا
وأُخذ منا
وقد خبرْنا
وجود الألم
لا يعزيني شيءٌ
أتركُ الحزن يدوم.
أريد أن أكون شبحاً
وأخبرَك السبب:
بسببٍ من البحر الكثير
أصبحتُ زوجة صياد
أنا وهذا المطر
معذبان وفي نزعٍ طويل.
الإنفاق من القلب.
الحب باللحم الحيّ.
أجل
اللون الذي لا يبارحني
كنت سقمَه ولكن
بلا صوت
أو أنين
يحدثُ أن أنتبهَ
إلى أصواتنا المألوفة نستخدمها كل يوم
أريد شيئاً أحيا به
قارباً صغيراً
وشمساً مجروحةً بسيوفٍ صغيرة
برموشٍ وأسنان
خواتمها وأسلاكها الماسية
تنهبُ الفضاءات الفارغة.
ولا لحظةً، أيها الجمال المنمش
ولا لحظةً أحترقُ
تحت الرداء الخشن
عسليٌّ هو النظر إلى رمال الشاطئ
في الشمس
عسليٌّ ولزجٌ حين يرسل.
وحين يرتدّ
يتحول إلى دموع
كيف لشارع مفتوح
أن يصون أشجاره؟
البلاطات الشقيقات
بياض الحدقات الموشّى
والإبتسامات السميكة
هنا حائط مبتلّ،
وهنا الحائط
الذي يبكيه ابتلالُه.
في رسالتك الطويلة
ثورٌ اسباني
بقي ينطح الهواء
أكيد
علاقتنا تبلورتْ
ليست أبداً القصائدُ
ليست الكلمةُ أو الرغبةُ
أو الليل.
الألم الحقيقي في مكان آخر
وفي الفم المعزول
بريقه.
حلمُ الصحراء بمراوح هائلة.
قيثارة
لا تجرح الأنامل.
كل يوم
أفيقُ في المسافة التي ترفعُني كجبل
لكي
أرتبَ المناظر
الطرقات، الدسائس، الأصحاب
النهارات التي لا تشع ألماً،
ومصقولةً بالضجر.
لا نور عجيباً في الفضّة القاسية
ولا ينام العاجُ كفايته.
ربما لم تأت
لكني رأيتكَ كثيرا
برتقالاً أخضر، ولوزاً.
وفي متناول الذاكرة أيضا،
صمتاً، وضوءاً أحمر قليلاً
تمثالاً نحاسياً من دون رموش
من دون حيرةٍ مناسبة.

***

سوزان عليوان

1974، بدأت تنشر سنة 1994، من مجموعاتها الشعرية: عصفور المقهى (1994)، لنتخيّل المشهد (1998)، كائن اسمه الحب (2001)، كراكيب الكلام (2006) وغيرها. من مواليد بيروت.

كراكيب الكلام

المهرّجون بمساحيقهم، دونما ملامح
الملائكة الميّتة في الممرّات.
مقهى الماضي.
مربّعات الأسمنت والمقاعد.
الموسيقى المائلة نحو بكاء النافذة موسم عصافير.
المرضُ. المستشفى. مشهد الألم المتكرّر في كلّ مرةٍ.
الأبواب المغلقة.
دموعنا المُرَّة على المقابض.
مريول المدرسة مُعلّقاً من جناحيه الممزّقين.
المومسات المعانقات لمظلاّتهنَّ
في صقيع الفجر
على أرصفةٍ بعيدة.
المعطف المبتلّ كمنديلٍ.
المرأة التي كان شعرها مع الصفصاف يضحك
ومع النجوم.
مكانُها المجهول في مقبرةٍ ما.
الملصقات المهترئة على ما تبقّى من جدران.
المدينة المهجورة
بمنازلها المهدّمة
وأطفالها المتفحّمين في الملاجئ.
الماء والمعدن، تلك المعادلة المستحيلة.
المطر: المطرقة والمسامير،
مرايانا المهشّمة.
عن أخطائهم
عن خسائري
عن أشجار الدمع وعصافير العدم
عن قمرٍ صغيرٍ من الصلصال الأسود
عن المدينة المبعثرة في مرايا المطر
عن آخر خرائطها في خطوط كفّي
تحدّثني الأوراق
في حفيفٍ خافتٍ
لا يقود إلى أفق.
كم من قصيدةٍ
أهدرها الخريف هكذا
على أرصفة الخوف والنسيان
مقابل مصطبةٍ شاغرة
وزجاجة نبيذ؟.
قبل أن أبلغ الضفّة الأخرى بلحظاتٍ
استدرتُ بنصف ظلّي نحوهم:
المدرسة البعيدة أعلى المدينة
شارعُها الطويل كيومٍ ماطرٍ
شجرة اللوز، صديقتي ذات الضحكات المتلألئة في الضباب
غابة العصافير الممتدّة من سُور السروِ إلى أقصى السماء
المقهى ذو الواجهة الشاحبة
غرفتي المطلّة على دمعة نهرٍ
معطفي
منفضتي
مفاتيح روحي.
كنتُ على يقينٍ بأنني أراها لآخر مرّة
كما تدرك الطيور
أنّ لا سعادة على وجه الأرض.
الآخرون دائماً
بأحذيتهم الموحِلَة على صفحة روحي.
الأسماء، الأصوات، الوجوه.
المعاطف التي تعتمُ المعنى بعبورها.
الظلال التي تغبّش الكلمات.
الآخرون:
الكتابة السوداء على جلدي وجدراني.
كابوس المطر المتكرّر.
أشبُكُ رعشة أصابعي بيد الريح وأمضي
في ليلٍ عارٍ
كانت خطواتي
براعمَ نجومه.
في الغابة السوداء
بيتُك الذي ليس القمر بابه.
من سواه، البنفسج، تجاوز تلك العتبة العصيّة؟
حتماً، ما كانت أحلامي لتُفضيَ إلى هنا.
لعلَّني غفوتُ على الطريق قليلاً.

***

فوزي يمّين

1967،بدا ينشر سنة 1994 : "المستلقي على طابقة الأرضي" (1994)، "حياة بدون فلتر" (1997)، "توقّفوا، أريد أن أنزل" (2004). من مواليد شمال لبنان. أستاذ في مدرسة ثانوية.

بطاقة دعوة

تدعو الناس إلى معرفتك وتطلق عليهم الرصاص،
تضع سُمّا في حروف كتابك،
تقف على المسرح تنتحر،
تخرج لتعوي،
تعضّ كل ما تراه،
تدور،
تراوح،
يقرعك الجرس،
لا تتراجع ولا تساوم ولا تهادن وحتى لا تترك مكاناً للصّلح،
تقارع مثل غيمة سوداء لا ترتدّ،
تناطح سقف ربّك واقفاً منبطحاً قاعداً منيّباً،
يجهلكَ كل مَن لا يعرفك فتمحوه،
تبذر حقدك في الناس فيطلع،
تقع منك أصابعك فتشير بأسنانكَ،
تغطي المارّة بقماشة سوداء،
تضحك في سرّكَ بكلّ ما أوتيت من قوّة،
تقتل كلّما تنفّستَ،
وكلّ ليلة،
في قرية كأسك،
على رصيف وهمها
تنام حتى تعرق.

ماذا أفعل؟

كل هذا الموت حولي، ماذا أفعل؟
كل هذا الهباء البهيّ المتعالي القويّ الفارض نفسه المعتبر أنه.
كل هذا الغباء الذكيّ المنتشر الضيّق السخيف الضحك العام الاستهتار الممتدّ بسرعة الفائق المتعدد المُعدي والعدّاء.
كل هذا الهبل المطنّب المنيّب المنتشي كل لحظة السائل لعابه على قفاه الراغي فوق رأس الأرض وسخاً لا يزيله إلاّ وسخٍ أوسخ منه.
كل هذا السّوس المندسّ في العروق الناخر برطوبته اللحم إلى العظم إلى قعر كعب البذرة الأخيرة الباقية ممّا تبقّى.
ماذا أفعل كل يوم
وأنا متّكئ على كوب الصباح البارد؟

في أرض العزلة

في أرض العزلة،
كلاب تعوي دون صوت. حامية ترغي أنيابها على جلودها يشرّ منها الصدأ.
كلاب عيونها الأزقّة الغافلة في ليل السراديب النحيلة.
كلاب، على كل حيطان الحارة أسماؤها بالوحل.
أصلاً من شجرة العائلة لا يخرج إلاّ دود. يطفر على الطرق،
يقف أمام باب كل بيت وينادي على صاحبه باسمه كما هو في الهويّة.
في أرض العزلة،
غراب يحوم على غراب.
في أرض العزلة،
لا يطلع شجر ولا ينزل مطر. حتى القمر تخطفه جارتنا
البشعة وتربطه بشعيرات فرجها النتن.
لذلك فقط عندما تفتح ساقيْها تنوّر الحارة، يفوح المسك
والزيرقون وعود الرّيحان الأبيض.
في أرض العزلة،
كلابٌ تحتلّ ردهات البيوت الخالية ليلاً. تمدّد بطونها الحاوية على غبار البلاط، تمغط أعناقها ثم تعوي بالمقلوب وهي تعدّ أسماء أصحابها المتخمين تتدلّى كروشهم من نوافذهم.

سلّم أزرق، قمر أصفر

مخدّتك شوك ومسامير،
تقوم ترسم سلّماً أزرق إلى السطح،
وتنادي على الحبّ وهو نائم فيجفل ويقع عن السطح.
ليس للحبّ حذر ليتّقي ولا أصابع ليعدّ إلى العشرة،
لذلك هو الشلاّل.
أقول الحبّ وأقصد الفتنة، حمراء تلدغ وهي مرتاحة.
أقول الفتنة وأقصد الحرب تبدأ كرأس الخيط في خرم الإبرة
ثم تندلع من ثقب الباب وتمتدّ أكبر من الجبال لا تتّسع لها الأنهار والوديان تغور في بطنها
على شرفة آخر الليل قمر أصفر مجدول بنعاس طويل
وعيناك صغيرتان يستدعيهما سفراء النوم منذ أكثر من شهر.

بيـوت

بيوت البارحة واليوم وغداً تلك التي تكبر وتنام باكراً وتبقى أنت ساهراً فيها كأنّك تندبها. عن هذا البيوت أتحدّث. النافذة التي طالما كنتَ تعتقد أنها تطلّ، الباب أنه يفصل، والحذاء المعرّض للتهوئة في كوّة الحمّام أنه يوصل انتهت المسألة الآن وانطبش باب القصّة على مصراعَيه (سُمع في الحارة الثانية). بقيَ الأثاث الذي كنتَ تحرص بشدّة على ثباته – لا يزيح شعرة – أصبح الآن معلّقاً في السقف بمسامير ظنونك القاسية وبوضوح تتدلّى مصارينه من فمه.

في المقلب الثاني

تقوم تخطف حالك وتمشي، فوراً ودون تردّد، إلى حيث كان يجب أن تكون في كلّ مرة لكنك لم تذهب، إلى حيث كان يجب أن تذهب لكنك كنتَ مشغولاً تعدّ العدّة وأيّ عدّة!؟
في المقلب الثاني الحرب. تدخلها بالغلط وتصبح ملكاً على الضجر. تاجك الخوف ثم تجزّ الحديد بالهواء وتنادي على بلادك فلا تسمع.
بلادك حزينة مكسورة كسيف طويل وحيد على طاولة خشب مسامير وذباب.

***

نور سلمان

1937، بدأت تنشر الشعر سنة 1994. من مجموعاتها الشعرية: لفجرٍ يعشق الحجر (1994)، فجر للغضب (2002)، إلى رجلٍ لم يأتِ (2002)، رغم كل هذا (2007). من مواليد بيروت. أستاذة جامعية برتبة أستاذ. كتبت أيضاً في الرواية والقصة والبحث.

في قفص الحقيقة

الكلام للتاريخ
لأن الأمس
معلم الحاضر
ولأن الحاضر
تسكّع
وتصنّع
واشتات غيظ
يبددها الجناة
صدق الحاضر
يتلاشى
كغيوم السماء الواجمة
يبقى زوره
يحمي الجناة
يصونهم
ويصون
أولادهم
وأهلهم
وأعوانهم
التاريخ لا يشفي
وبلادي وجع
رواياته ظلم مبدّد
ماله كنز مصادر
فضائله
ملوية الأعناق
كالهزيمة البليدة
فضائحه
يتوالد
تاريخه كالتاريخ
أجير
في قفص الحقيقة.

القلب هو الأعجوبة

ما زلتُ
أقلّب الصفحات
إلى حيث الدرب إلأيك
وأنت ساطع صمتاً
تخلّص صلاتي من الركود
ما زلتُ أقلب الصفحات
وأنت ساطع رحمة
ترفع الدنيا
من رمادها
تخمد هوسها
تجمد زلازلها
ما زلتُ أقلّب الصفحات
وأنت ساطع حباً
تضمّ الحياة إلى قلبها
حتى تخفق وجداً
وتنشر الأعاجيب
بين الأرض والسماء
ما زلتُ أقلب الصفحات
واسأل
كلمات تعلو كلمات
كلمات تُغرق كلمات
والقلب هو الأعجوبة

أنفاس الكتاب

أدخل الكتاب
أولستَ في كل كتاب
وجداً يُصير الحق وجدا؟
لكنّ الدنيا
تقيم الجدار
فلا أراك
فتشت عنك
في الكلمات
المستلقية على الأبيض
كأنها حوريات جنّه
فتشت
في الفواصل
في النقط
في المساحات
المتمرّدة
بين كلمة وكلمة
الجدار نفسه
يصدم
أنفاس الكتاب
جمد الكتاب
تحت السدّ
القاسي
جمد حبّه
في السطور الثابتة
الكتاب حبيب
لكل زمان
لكل مكان
لكن ضجيج الدنيا
صخبها
قلقها
ندمَها الشرس
تقيم
الجدار
تلو الجدار.

***

قيصر عفيف

1945، بدأ ينشر سنة 1994. من مجموعاته الشعرية: والكلمة صارت شعراً (1994)، ثلاثية المنفى (1996)، كتابة على الحيطان (1997)، اللغة والمدينة (2004)، أسئلتي (2007). من مواليد صيدا. مؤسس مجلة "الحركة الشعرية". يراسل الصحف اللبنانية. حائز شهادة دكتوراه في الفلسفة.

الدائرة نفسها

حين عُدتُ
وجدتُ الدائرة نفسها،
الدائرة غابات من الأسئلة.
دمار، توتّر، فتْك
فوضى، ضعف، واختناق،
تفكك المعاني،
شللٌ وانهيار.
وجدتُ محيط الدائرة كما كان:
أوديةَ الدموع
جبال البؤس واليأس
ساعات مقطّعة
ليالي مخنوقة بالخوف
أساطير تنهش الوجدان
وجدتُ أسئلةً كثيرة
ولا جواب!
حين عدتُ.
وجدتُ الدائرة نفسها
على محيطها
محطات كثيرة ولا سفَر
مرافئ كثيرة ولا بحر
حروب قبائل
أشكال شلالات غاشمة
تمرّ الأشياء،
ولا تترك أثراً.
سمعت ثرثرة كثيفة
لكني لم أتبعثر
لم أتعثر
ولم أتلعثم
لأني كنتُ أفهم
أن ليس من لغة تفي بالغرض.
وليس ثمة حاجة للكلام.
صرختُ لأن الأسئلة خناجر،
اختنقتُ في صراخي
لأنّ الأجوبة تفلتُ مني
تختفي تحت عباءتِها
لا تعطي ذاتها
لا تكشف أسرارها
يبتلعها النسيان
فلا تترك صدىً
ولا تعود.
حين عدتُ.
وجدت طقوساً كثيرة
الجميع يدفعون الصخرة نفسها
ويسقطون طرائد صيّاد أعمى.
وتمرَّدتُ
أعلنت العصيان على القهر
وعُدتُ من حيث أتيتُ.
أتريد أن تعرف إلى أين عُدتُ؟
إتْبَعْني،
لكن حذار أن تقتفي أثر خطواتي!

في الحـديقـة

ما جئتُ الحديقة لأفعل شيئاً
بل لأمتلئ بالحضور
جلستُ على هذا المقعد
هنا حيث كانت تستريح الشمس
فتوقّف الصباح على كتفي
سقطتُ عجرفة العقل والفعل
وانفتحتْ أزمنة:
زمان الأسئلة
وزمان الأجوبة
والزمان العابق في لحية شجرة الأرز
وفي تجاعيد الناسك
لا زمان البداية والنهاية
وإنما زمان الإشتياق
اشتياق اللحظة للزمان.
وبينما العشاق يتبادلون العناق
ويضيعون في أسرارهم
كان المعاقُ يدفع كرسيّه بقوة وشجاعة،
يبتسمُ،
أبتسمُ
وألتفتُ إلى النسيم يداعب
طائرات الورق والأعلام الوطنية
وأحلام الناس.
تغمرني سعادة مرئيّة وخفيّة في آن
سعادة خضراء كالصنوبرة التي هنا
تغني كالصنوبرة التي هناك
أترى هذه تحاور تلك عبر المسافات
أكاد أسمعهما،
تقول الشجرة لأختها:
"أنا أنتِ،
لا الأرض تفصلنا ولا المسافة".
أسمع وشوشة الأرض للكائنات
وهمسات الأشجار للعصافير:
"تعالوا إلينا
نحن الحضن والمأوى"
أثمة مكان أكثر ألوهية؟
أثمة زمان أكثر قدسية؟
هنا ترفرف المحبة
تنبض في قلبي
أنا لولبها
أنا وعاءُها
تملأه ساعة تشاء
أنا بحيرة الصلاة
أنا الوجدان الخالي من كل الصور
حتى من صورة هذا الصباح
وصورتي أنا بالذات.
هنا، على هذا المقعد أبكي،
أبكي من فرحٍ يُتعتعني
لماذا لا تأتي
وتشاركني البكاء؟

الوقــت

سريعاً يمضي الوقت
حاملاً كيسه من الأيام
تاركاً وراءَه المرارة
وتاركاً الندّامى والزوّار
يتأملون الصخرة وجوانبها الخفية
ويختفون في الأقبية والدهاليز.
الوقت فراغ طافح بالإمتلاء
من المستحيل أن تُفرغه
أو تمسحه
أو تلامسه
أو تحتويه في مساحة
تتعب ولا يتعب
تستريح في قبرك
ويجلس على العرش ساخراً
يرقب الأشياء.
الوقت طائر كاسر
يقرع أجراس المساء بقسوة
لا يأبه لأسئلة الأمس
ولا لطقوس الغد.
يوشوش أسرار الحاضر للناس
ويسيل في السطور
نحاساً يرنّ في الأحزان والأفراح.
الوقت سمكة ملساء
تسبح في السراب الفسيح
تنعس، لكنها لا تنام
تسهر خلسة على سريرها
تسند رأسها،
وتنتظر الصيادين السكارى
والسفن المكسورة الصواري
ولكن،
أثَمةَ سفنٌ وصيادون
أما أساطير نرويها ونمضي
تاركين وراءَنا المرارة كل مرة؟

***

هنري فريد صعب

1930، بدأ ينشر سنة 1999. له ثلاث مجموعات، منها: في المسافة بين السهم والطريدة (1999)، ظهورات في دروب الغابة (2003)، أنا وأشيائي (2007). عمل في جريدة "النهار" و"دار النهار للنشر" عدة سنوات. ناقد أدبي ومترجم.

حين استعدتُ وعيي،
ألفَيتُ الأشجار حولي تتبادل الأمكنة. فرسمتُ
إشارة الصليب وفركتُ عينيّ:
ألم يبصقني قمع البلّوط منذ قليل؟!
لعلّ الأشجار أيضاً أعياها التخبّط في خُدَع المكان؟
ولكن لِمَ تحاصرني؟ إحداها حتى، أنشبتْ خطاطيفَها في جسدي.
أصبحتُ حشيّة من تراب تملؤها الثقوب.
التراب خرج من عينيّ.
خرجتْ عينايَ من وجهي.
وفي قسوة عمايَ حنت الشجرة الضارية عُنقَها
والتقفَتْ رأسي.
وكأنها اتَّعطتْ بما عانت سابقاً شقيقة مصعوقة،
فأخذتْ تشدّ بي نحو الأرض.
باشرت الفروع الحفر في هُوية الجذور.
تغوّرت الأنا في الذات.
تشاكَلَتا
تراكَبتا
تنافَرتا
تغافَرتا.
هرَّتْ جميع الأوراق. ألحَس عُريي الآن.
لو استطعتُ استخدام جسدي لَقَذفتُ به
خارج هذا العشق.
الذباب الأزرق في عيد الآن. هل من عنكبوتٍ
تسمعني؟
كان جاري آكِل النمل ينقّل لسانه اللزج بين
الثقوب كأنه ينفّذ عقوبة.
الشجرة الضارية
تبلع جسدي كله الآن وتتأمله.
تُفتِّق في خلاياه ذاكرتها وتحتلب الوقت.
كدتُ أختنق. رفعتُ رأسي فوق الذات لأستروح.
كانت الذات تمجُّ الوحلَ
كدودةٍ عمياء جائعة،
والأرضُ تتحايلُ لتُلقِمها عُشبَة.
وتسرَّبتْ
إليّ رائحة طيّبة. فأرشدني أنفي إلى شجرة غارٍ
منعزلة.
أمرَرْتُ يدي عليها أتلمّس رُواءَها
فاستشفَّ لي اللّحاء.
كان ثمة قلب ينبض وعينان بلا وجهٍ
تحملقان إليّ.
وبتصرّفٍ غريبٍ طوّقتُ الجذعَ بذراعيّ
وصرختُ: "دافني، دافني،
يا حُبّي الهارب. لقد نشرَتْ ساعة الخريف الجدارية
جِلدها المجفّف ولمَّا تأتِ.
كلما تصوّرتكِ في وجهٍ نشِط رحيل الفَراش
في صُدغَيّ.
تماهيتُ والانتظار حتى بِتّ أخشى عُشبَكِ
فينسلخ
بَعضي.
من صِغَري يا ابنة النهر كنتُ أتأهّل (لأُجلِس
الجمال على ركبتيّ/ رامبو).
كيف أرتُق السّيلان؟!
كيف أخرُز أسماءَكِ: ليلى، بُثَينة، عَزَّة،
كليوباترا، دليلة، شهرزاد، إيزولْتْ، جولييت،
هيلوييزْ، مارغريت، ناتاشا، بينيلوبي، هيلينه،
بياتريتشي، فرانتشسكا دا راميني، دِزْديمونا،
دولْسينا، أوفيليا، ماريانا ألكوفاردو، ريجيا أولْزنْ..."
فسقطتْ على رأسي ورقة غارٍ
وهسمتْ في أذني:
- "أُقسم لكَ إنّي أتيتُ.
لا أذكر اسمي.
كُنتَ (قابعاً في ظلمة العشق/ رولان بارت). لم تعرفني.
واستمرأتَ مسيرة القُرّاص.
وأذعتَ على حطّابي الغابة جنادب حُمقك.
ومن ذلك الحين
صرتُ شوكةً في سُوَيدائكَ المنفوشة".
- "أهذا صوتكِ يا دافني؟ إسمحي
أن أدعوك دافني.
فأنا لا أذكر لكِ اسماً بعد. ولو كُنتِ
أتيت حقاً لكنتُ (تلاشيتُ من وطأة وجودك
الأقوى،
كما لو ضمّني فجأةً ملاك إلى صدره/ ريلكه).
عزائي
أني على وهمك أنضجتُ فراغي، وصنعتُ
من جوعي إليكِ
فوانيس مُنهَكة.
مُباركٌ أنتَ أيها الوهم.
يا سُكَّرة الوجود.
يا جمرة الجسد.
كم حملتَ إليَّ في كيسكَ الأزرق من ألعابٍ
كي تُلهيني عنّي.
خبّأتُكَ خلف مرآتي
إذ استجليتُ عبركَ حُطامَ أناي،
فجمعْتَني أنا الكَمَّ المهمَل.
لكنّ عيبَك أنّ أشكالك كثيرة فلا أكشُفكَ
بسرعة،
فتنهبني قِطَط الوحدة الحائلة بأظفارها
النحاسية.
هل أنت أيها الوهمُ بحاجةٍ أيضاً
إلى قطع السُّرَّة؟
هل أعدَتكَ دافني من هروبها العنكبوتي؟
أو لعلّك دافني؟ أو..."
وقبل أن أكمل انتفضتْ شجرة الغار بعنفٍ
وضربتني بأحد فروعها
فانتصبت إلى جنبها بكلّ إنكساري.

***

شربل داغر

1950، شاعر وباحث وصحافي، بدأ ينشر سنة 2000. له عدة مجموعات شعرية ، منها : "رشم" 2000 ، و "تخت شرقي" 2000. حائز جوائز عدة. مترجم وناقد أدبي وأستاذ جامعي.

دَوْزَنــة

خلتني أحرّكْ عصا لكمان، لأوتار عصية ومشدودة، وإذا بي أحوط جذعك مثل عود. وتيقنت من أن لك وتراً واحداً يسع الأنغام كلها. بل قلت بعد ذلك إننا، في آن، لعزف كمان وعود، بل بالتناوب: حركات، ونقرات، طالما أن جسدك طري وممتنع، دفين أو راعف.
وأنا لا أتحدث عنك، بل عني فيك،
وعنا، في فضاء حيويتنا.
وأنا لا أصفك، بل أعايشك.
ولستِ على مرتبة لكي أرتفع إليك، أو أبلغك، بل بين
يدي، مثل حروف، صامتة وفصيحة.

مُــداسَـسَة

للأصابع كلام كثير وجمل قليلة
ولها سطور تحفظها عن غيب
نرسم عليها ما يبلغنا
في الخفق
في دفق العين.
للأصابع ذاكرة وتقاسيم:
استنطاق الغياب
وترجيع الذِّكر،
ولها نقرات وملامسات
تظهر ما خفي
وتتفرع أغصاناً لشجرة وارفة
تحيق بالجسدين.
وللأصابع ريشات
لونها من مدى،
ولها أوتار
نغماتها في ثقيل أعضائنا
نرق ونشف
أشبه بنسيم التكوين.

غــبــار

خلفتهم ورائي يتحسسون
ندوباً في الحيطان ورسوماً
من كلام، ماشين بخوف
من غرفة إلى أخرى
خشية إقلاق الغبار:
غبار على غبار
غبار يُخلي أمكنته للغبار
حتى أن يدي أثر في الخراب.
كنتُ ابتعدتُ عمداً من دون أن أطيل النظر
إلى أقدامي، ولا إلى الشارة المنسية
في سترتي. وكنت أعرف
أن الطير ينتقل من غصن
إلى آخر من دون أن أبالي
بحركته، ولا بما يرسمه
في عبوره، واجداً أن الصور
تستقر كيفما وقعت...
يعلوها الغبار وحسب، يعلوها
أحياناً، حتى أنني كنت أتحسسها
بهدأة الأعمى
في أمكنته الأليفة.

هــزّازة

ومع ذلك، تبدو الحياة
هزازة
بين أبي وأمي،
بين أمسي وحاضري:
تعلو فأجد الريح تسابقني
وتنخفض فأتشبث بأطرافي.
لم يبقَ لي غير أن أمضي!
لكنني أطيل الوقوف حتى تنجلي الصور:
هي دون أضواء الحنين الكشافة
فلا تعمي.

كلية التربية

كنتُ أصعد على درجٍ تنبسطُ درجاته أمامي كلما وقعتْ قدمي على الهواء.

تـحــطُّ بي

تحطُّ بي
مجبرةً على الهبوط الإضطراري،
فأمشي بمحاذاة حذائي
حتى أنني أراها تعبر أمامي:
بهيئة مهملة.

جســدي إيجاراً

لو أنني أسكنُ جسدي
ملكاً، لا إيجاراً
لوقعتْ
قدماي
في
حذائي
تمامً،
مثل إصبع في خاتمه،
إلا إنني أغيب
خلف تجاعيدي
وأنتظر خروج غير من المرآة.

***

زكي بيضون

1981، له مجموعتان، بدأ ينشر سنة 2001: "جندي عائد من حرب البكالوريا" (2001)، "ملعب من الوقت النائم" (2007). من مواليد الجنوب. طالب جامعي في السوربون.

حصّادو الوقت

لم لا تعودوا إلى مسائكم المبهم، أنتم، حصّادو الوقت الذين تبتلعون الواقع جبالاً، أنتم شاغرو الماء، حفاة القدر.
فارس الوهم الأحمر يشتعل نشوةً في عينيّ. كان رأسي ليطفو كمنطاد معبّئ بخفّة الحسرة المتنكّرة فوق شاطئٍ نعس، كانت حياتي لتكون أشبه بمرجةٍ من اللوعة تغرق فيها النجوم حياءً.
غريبٌ أن يتبع الزمن خطى كلبٍ غائبٍ بين الأرصفة، هناك في أفق العين الصامتة، حين حزن ضائع يتلاشى بين الهضاب، جحيماً متفجّراً يبحث عن منفسٍ في الهواء، كلمات تائهة تحوص في رأسي باحثة عن جوابٍ مستحيل كضحكة متفجّرة تتلاعب في هاوية ما تحت السطح العنكبوتي المعقّد، حيث لا مسافة تخادع.
هأنذا، الأعلام الهابطة رأفة أحيك بها أناملي. نعم، ها قد لاح السلام العجوز صافياً كهاوية من الماء، ها هو قد حطّ على إحدى القمم الخادعة ليهمس بنوره لأطفال الأشجار. هأنذا، ظلّ القمر الوحيد، أرمقك من خلال شغف شمسٍ مثقوبة، خمسة أصابع خاوية في يدي، خمسة شواطئ صارخة على ضفاف عطرك، خمسة نجوم تتألق سؤالاً بين حاجبيك.
هأنذا، الصّمت الذي لا يفتأ يحاول منذ الأزل أن يبدأ رجلاً، الفلكي الذي قضى حياته يرصد لعاب السماء، شحّاذ الأمل المستميت.

الإمبراطور وبوّابة السنديان

قرّر الإمبراطور الأكبر أن يصل إلى حافّة الوجود ويبلغ نهاية الكون، لذا جهّز جيوشه وانطلق على بركة الله.
عبر جبالاً وودياناً وبلاداً وأفكاراً، عبر سماوات وعوالم ومجرّات وثقوباً سوداء. عبر كل شيء حتى بدا له كأنّه عبر العبور نفسه، إلى أن وصل في النهاية إلى حائط أسود وعظيم الإمتداد. حاول اختراق الحائط بقنابله الذرّية والهيدروجينيّة ولم ينجح، فعلى ما يبدو كان ذلك الحائط أصلب ما في الوجود باعتبار أنه لا شيء خلفه. لذا فقد جرّد إمبراطورنا العظيم حملة أخرى للبحث عن نهاية هذا الحائط. بعد سنوات فوجئ بأن تلك النهاية لم تكن سوى بداية حائطٍ آخر. هكذا ولقرون طويلة ظل إمبراطورنا يصطدم بالحيطان الصمّاء، ولم يكن ينهي حائطاً إلا ليبدأ آخر.
إلاّ أنه في النهاية، في نهاية النهاية وصل ولفرط دهشته إلى آخر ما كان يمكن أن يتوقّعه في سعيه الإمبراطوري العظيم. وجد نفسه وجهاً لوجه أمام بوّابة صغيرة من خشب السنديان، وقف أمامها مذهولاً وتوقّفت وراءه جيوشه الكونيّة. شيئاً فشيئاً بدأت حيرة وفراغ الموقف تتبدّد، عندها تلبّست الإمبراطور العظيم روح لطيفة، فخلع عنه هيبته الإمبراطورية، تقدّم وطرق البوّابة برفق، ثم همس: "من هناك" فأجابه صوتٌ عميق آتٍ ممّا وراء الصمت: "نحن الحمقى الذين من الأبد وإلى الأبد لن نخرج من هذه الغرفة".

***

أمال نوّار

1964 بدأت تنشر سنة 2004: "تاج على الحافة" ( 2004) نبيذها الأزرق يؤنس الزجاج 2007. مقيمة في الولايات المتحدة منذ سنوات. مترجمة عن الإنكليزية الأدب الأميركي والإنكليزي إلى العربية. تراسل الصحف اللبنانية.

يراني الوهم

ما ظننتُه آتياً
كان مركباً راحلاً مُحمّلاً بمَحارات عينيّ،
ما ظننتُه ينبوع الأزل
كان فُقاعة في بؤبؤ الغياب.
لكأنّي كنتُ أعدو ونظرتي فرسٌ من ورق،
وميضُ البحيرات على أديم مشاعري،
ورمالي تغصّ بدَمِ الغَسَق.
ملءَ غفواتي تفاقم فيَّ السراب،
البئرُ لا يسبُرُ عماءَها حِبر،
والعينُ التي نُبشَتْ قبورها انفصدَ نورُها.
لكأنّي كلما شفَّ زجاجي
تعتّق فيَّ الوهم.
مكتومٌ عِنَبي في خواء نظرتي،
يتّقد
وفمي طافحٌ بالثلج.
مُتراصّ حناني،
ظمأَ إلى ظمأ في قسوة الخشب،
وما من بحرٍ تسكب فيه الوحشة دمها.
يتشرّبُ النهرُ خريرَ حواسّه،
يجفّف ذاكرته في الهواء،
ولا يبقى في جوفه غير مرارة حصى،
يسوَدُّ بالنسيان.
صنّارتي لا يطالها ضوء
قستُ خيالها بحُطامي،

امرأة الثلج

انظرْ إلأيها في الصقيع
كيف هي منغلقة على ذاتها،
صمتُها أعشاشٌ مهجورة، بلا ذكرى،
وجذعُ الريح يخترق كيانَها.
مدفونٌ عذابُ الشجر
في ثلوج عينيها.
اسمعْ كيف تستيقظ بقايا الجرار في
البئر؛
حنانها الذي هوى
من ثقل حطامها وخفّة يديها،
من دعساتها التي خبَتْ في نصف
نومها،
من نُصوع النسيان على جلدها،
من دفء الكلام لفرط خوائها منه،
من رائحة البرد
كي تبقى أيامها حطب أحلامها،
من نظراتِ تجمّدت في عرق انتظار.
حنانُها الذي بئره تحت قدميها،
كثافةُ الطيور، هناك، في غشاوة الحواسَ،
لا يُرى ولا يُسمع
ارتطام الريش في خَلَدها.
كيف يغور غناؤها في صرخة جذع
وصوتها يتّسع لألم غابة؟
غداً، حين يضحي الشتاء بحجم إغماضة
والذاكرة والرأس
يدوران دورة الأرض والشمس،
غداً، حين يدها التي ربّتها في كهف
تهتدي بغصنها إلى ألم جذرها،
غداً، حين عينها تبزغ من وراء عينها
ومن كل غفوة ينهض فجر،
سترى وتسمع كيف من جهاتها الأربع
تفضّها الينابيع،
ومن ذوبان النوم في الصحو،
وغداً
كل هذا البجع قلبُها فوق الغمر،
كل هذا اللهب فمُها الغابة،
كل هذا الوقت خنصرُها الصغير،
ولا يهمّ
أمِنْ عشبِ جسدها
أم من جليد
ما دامت مياهها صافية
وثوبها يعكس الخرير.

العصفور الناسك

سأذهبُ إلى الجبال لتّتسع روحي
لرعشة الأزل...
أنا الأقلّ من خفقة عصفور
والأضلّ من خيال ريشة
والأرقّ من بصمة ضوء على المياه.
سأمشي في وعرِ الظلال
وأطعم النسيان
بقايا عُمرِ تفتَتْ،
سيلفّني الضباب كسوار ساحرة
جسداً بحزنه يتكثّف،
سأصيب الشجر ببَرْدي
بينما قلبي الأكثر قِدَماً
يلتفّ على قلبه،
سأقرأ كتاب الريح في ذاكرة الحجر
وأتصفّح هبوبه في جذور صمتي،
ستمّحي عيناي في عينَيْ الأبد
ونظرتي مُغمضة في جلدي.

***

رامي الأمين

1983، بدأ ينشر سنة 2007: "أنا شاعر كبير" (2007). من مواليد الجنوب. يعمل في الصحافة اللبنانية.

قاعـدة

المشي ليلاً على أرصفة
المدينة
يساعد على الحب،
هذه قاعدة مكتسبة
من الأرق.
لكن ما هي وصفة النسيان؟

مــوت

... وعندما صرتُ كبيراً
اصطدم رأسي
بالسماء،
وشعرتُ لأول مرّة
بالألم
الذي يتسبّب به العمر.

نبــاح

تنغلقُ السماء
كجَفنٍ يطبقُ على وجه
أذن المدينة
لا تسمعُ ليلاً
إلاّ النباح،
والقمرُ في البعيد
يبدو عظمة.

إغــمـاء

ربما أنا وحذائي
على تلك الخزانة.
يخطرُ لبالي
أن أفتحَ بابي
وأرمي بالحذاء خارجاً.
وربما حافي القدمين
معلّقاً في الخزانة
أنتعل الباب
لأتنزّه داخلَ الحذاء.
ربما،
لستُ بكامل وعيي
لكنّي أبدو كاملاً
ولم أثمل منذ مدّة.

إنتــحار

أحمرُ الشفاهِ
على المرآةِ
ينذرُ بانتحار امرأة.
مرسومة
كفضاء على الوجه
تبتسمُ الموناليزا
ابتسامة ماكرة
وتلعقُ،
بلسانها الأخضر الطويل،
ألوانها الزيتية.

وصفة طبية

فوزي
في الخمسين
يُخبرني
إنه يريدُ أن يصير طبيباً
عندما يكبر
يشرحُ لي أسباب الأرق
وأوجاع الرأس،
يُريني "حبّ الشباب" في ظهره
ثم يصف لي
"بنادول نايت"
والكثير من ساعات النوم.