ديباجة
ليس من غايات الشعر تبليغ معرفة أو تقديم استدلال، أو البرهنة على فكرة أو تفسير ظاهرة مّا.. الشعر هو حلم مكتوب، ولكن ليس الحلم الذي نحلمه أثناء النوم، هو حلم اليقظة(1)، وليس الشعر ظاهرة انزياح لغويّ ومنطقيّ فحسب كما هو ذائع في الدراسات البنيوية أو تكريسا لفنون بلاغية، وإنّما هو حدث آخر.. هو اكتشاف متواصل للعالم لأنه لا ينحصر في وصف المكشوف والمعلن، وإقرار ما تمّ وقوعه بل يتجاوز ذلك إلى ترشيح الشاعر كي يجمع بين علامات الآلهة وصوت الشعب(2).
الشعر فضاء يتضايف فيه المقدس والمدنّس، والمعلن والمخفيّ، والممكن والمستحيل والترابي والهلاميّ، والجميل والقبيح، والمعقول واللامعقول، يتداخل فيه الذاتي والموضوعيّ، وتتقاطع فيه الأزمنة وتنصهر، مطيّته في ذلك زاد لغويّ متقلّب ومتحرك ينشد الشاعر من خلاله لحظة شعرية متفردة، فعلها في المتلقّي كفعل السحر في الناس، وديدنه فوق ذلك الرسم بالكلمات على حد تعبير الشاعر نزار قباني.
والشعر من حيث طبيعته مصدر غواية لا ترد.. لا ينتج كما يردد النقاد دلالات، وإنما رموزا، والرمز مبدئيّا يقاوم كل شرح وإيضاح، فهو على حد تعبير ـ هيجل ـ يظلّ دون حل تامّ، لهذا يبقى مهما طوحت بنا سبل البحث محتفظا ببقية من سرّ تندّ عن إدراكنا فالرمز إذن دلالة مؤجلة فهو لا يقول المعنى، وإنما يعدنا به، ولا يجلو السر وإنما يكتفي بالتلويح إليه، لهذا نخطئ التقدير إذا اعتبرنا النصّ مجموعة من الكتابات المتضايفة، يكفي أن نكشف عن رديف كلماته (3).. إنه ـ أي الشعر- كما السراب في الهجير، لغة أنيقة زلال، ومعان مترامية الأطراف، شموس، متمنّعة، زئبقية الهوى لا تأتي أكلها كلّ حين، هذا ما يكون به الشعر شعرا وهكذا نعتقد.
من هذه الزاوية التي كنّا بصدد رصد معالمها سنتعامل مع المدونة الشعرية التونسية الحديثة التي سنتخيّر منها الأسماء على أسس ثلاثة، هي مطيتنا مجتمعة في رحلة الإختيار وهذه الأسس هي:
I – التراكم
لا يمكن بأيّ حال من الأحوال الحكم لشاعر أو عليه، ولمّا تكتمل تجربته وتتحدد ملامحها، فبيت شعريّ أو قصيدة أو ديوان يتيم لا يقوم بشكل من الأشكال شاهدا على شاعرية شخص مّا، ولا يثبت بالتالي رسوخ قدمه وتمكّنه من ذلك الفنّ ليلحق بزمرة الشعراء، إذ للتراكم دور في تذليل صعوبة تسمية الأشياء بمسمّياتها، ورصد ملامح الهويّة النصّيّة لمبدع مّا، وبالتالي حمله على هذا الفرع من فروع الفنّ دون غيره .
II – الجودة
ونقصد بها تمكن الشاعر من لغة الضاد بدءا، إذ عديد من الدواوين الشعرية اليوم على امتداد الوطن العربي تحمل بين دفتيها مجازر صرفية ونحوية وتركيبيّة، كما نعني بالجودة كذلك تمكن الشاعر من فنّ النظم من حيث التكثيف والإختزال والتلميح والإتيان بصور شعرية تحيل على الفرادة والتفرد والإبداع، إذ بين الشعر والهذيان خيط فاصل واصل، وبين فنّ النظم وطرق تصريف الخطاب اليوميّ مسافات بعيدة ودروب عنيدة، وكم من كتابة لا تمتّ للشعر بصلة بل لم تبلغ درجة النثريّة حتّى، وتجد صاحبها يضعها في خانة الشعر، ويظهر ذلك جليّا في باب قصيدة النثر، وتظهر الجودة جليّة المعالم كذلك في كيفية تصريف القول الشعريّ بعيدا عن حديث التقليد
الاتباع لنصوص شعرية سابقة جرت على الألسن مجرى الأمثال من جنس نصوصنا التراثية العلامات ونصوص المعاصرين الروّاد.
III – الحضور
ثالث الأسس التي مثلت أثافي اختيارنا لأسماء شعرية دون أخرى ما أسميناه بالحضور ونقصد به الوجود الفاعل على الساحة الشعرية الحديثة ولم نقل المعاصرة لأننا لوعدنا لكلّ الشعراء التونسيين المعاصرين فلن نحصيهم عددا ولو حرصنا، ولن نحيط بهم الإحاطة الجامعة والشاملة، ولذلك سنقتصر في عملنا هذا على الشعراء الأحياء والفاعلين "هنا والآن"، ولكي نجنّب عملنا مزالق السقوط في مهاوي التعسف والإقصاء سنعمل على رصد الملامح العامة والمشتركة لكلّ فرع من فروع الشعر الثلاثة أو أنواعه تحديدا، وسنكتفي ببعض الأمثلة الناضجة والدالة والعاكسة في الآن نفسه لفسيفسائية المشهد الشعري التونسي، ثمّ لكي نضمن من وراء ذلك عدم السقوط في التكرار والاجترار ومحاذاة النعل بالنعل مع من سبقونا في إنشاء مدونات تعنى بالشعراء التونسيين وسيرهم الذاتية وشعرهم على غرار مدونة "أبناء قوس قزح" للشاعر المنصف الوهايبي الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة اليمنية عام 2004.
والراهن الشعري التونسي شأنه في ذلك شأن مثيله بالبلدان العربية في احتضانه لجنس الشعر ممثلا في فروعه الثلاثة ونعني بها العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر، وقد تعددت الأسماء في هذا الباب وذاك، وقد حاولت مجتمعة أن تقطع مع القديم وتمسك بناصية الحداثة وتنخرط في راهنها بعيدا عن حديث الاتباع والتقليد، ولكن ما تزال ملامح الحداثة في القصيدة التونسية محدودة وقاصرة إذا ما قيست بملامحها في القصائد المكتوبة في بعض أقطار المشرق العربي (سوريا، لبنان، العراق) والتغيير الذي اعترى شكل القصيدة في هذه الربوع يكاد يقف عند التجديد في الشكل العروضي (الأوزان والإيقاعات)، ولم يقترب بعد من مجال اللغة وما يتصل بها من تشكيلات بلاغية مغايرة للتشكيل المجازي القديم الذي يتعامل مع الصورة الشعرية كزينة وصفية وتوشية ظاهرة لا تدخل في صميم البناء الفنّي للقصيدة ولا تتدفق من نفس المنبع الذي تخرج منه الصورة الكليّة أو البناء الفنّي المتكامل (4)، ونجد هذا بكثافة في جلّ أعمال محمد الغزّي المرصعة بمناخات الصوفية الأولى والمنمّقة بمعجمها اللغويّ، وكذلك أعمال جمال الصليعي التي لا تزال وفيّة لروح موروثها الشعري القوميّ مبنى وصورة رغم أنها قد حققت التجاوز في المضامين والأغراض المتعارف عليها في الشعر العمودي، ويمكن أن يكون ديوانه: وادي النمل، دليلا على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب، ونفس الشيء نعثر عليه في قصائد جميلة الماجري رغم أنّها عملت على تجاوز سنن الأوّلين من حيث الأغراض فبدا ديوانها الثاني: ديوان النساء، محملا بنفس جديد في مضامينه، حيث كانت قصائدها صدى لحياة المرأة خلف جدران المنازل ووراء أبواب المقاصير، وكذلك عبد الله مالك القاسمي الذي لم يشذّ عن قاعدة الوفاء للموزون حيث لا يزال الجهاز البلاغيّ القديم جاثما على صدور قصائده ودواوينه، ولأنّ التفكير بالموروث ضرب من الحلول المتبادل بين الماضي والحاضر فقد يلجأ الشاعر كما سنرى في كثير من النماذج إلى طرح بنية الإشارة وتجريدها من هوامشها والقناعة منها بمجرد الباعث الذي تنهض عليه أو الغاية الكامنة وراءها بوصفها أهم ما يعنى به الشاعر في تلك الحالة، ومن ثمّ يصبح استغلال الإشارة التراثية نوعا من "الاستلهام" نحس به من خلال نسيج القصيدة وسياقها، كما تتطور وظيفتها بحيث تغدو خلفية وجدانية وفكرية للعمل الشعريّ (5)، وقد سارعلى هذا الدرب شعراء كثيرون على غرار جمال الصليعي وعادل المعيزي ومحمد الهادي الجزيري خاصة في ديوانه الأخير: أرتيميديا، كما اتسقت جماليات النص لديهم من المتون الإبداعية والنقدية لبعض رموز الحداثة العربية من أمثال أنسي الحاج وأدونيس ومحمد الماغوط، بالإضافة إلى امتياحهم من معين التجارب العالمية نتيجة اطِّلاعهم على كثير من هذه التجارب في الآداب الحية على تنوّعها(6)، ونذكر على سبيل الذكر لا الحصر يوسف رزوقة وحافظ محفوظ ومحمد علي اليوسفي وعبد الفتاح بن حمودة وآدم فتحي، كما أن هذا الشعر لا يزال في نماذج كثيرة منه بوحا أو استرسالا إنشائيّا على "أنا" الشاعر (7) كما هو شأن دواوين آمال موسى بالخصوص ديوانها الأول: أنثى الماء.
رغم أن شعراء قصيدة النثر حاولوا القطع مع الخطاب الشفويّ بكل تمظهراته القائمة على مراعاة العلاقة بين المنشد والسامع والحال أن للوزن وللموسيقى وللإنشاد دورا خطيرا في شدّ السامع، والكتابة لدى عبد الفتاح بن حمودة وآمال موسى ومحمد الخالدي ومحمد علي اليوسفي هي النص المكتوب كتابة خالصة (8) كتابة متحررة من الإكراهات الفنيّة والاعتبارات الجمالية المتعارفة هي كتابات تلقائية أو"عشوائية " تتميّز بنوع من الانزياح اللغويّ والاسترسال الخيالي الذي لا منطق له ولا رقابة عليه من العقل (9)، خاصة لدى الشاعر عبد الفتاح بن حمودة الذي يتعامل مع متقبّل قارئ لا متقبّل سامع، حيث أصبح التنضيد الأفقيّ والرأسيّ، كما أصبحت إشارات الفصل والوصل بين السطور، وعلامات الترقيم، ومساحات الفراغ، والأقواس، ورموز التنصيص، أصبح كل ذلك بالغ الأثر في إنجاز الهيكل الإشاري للنص، وبالتالي في إحداث محصوله الشعريّ (10)، وأصبح بذلك التوزيع البصري للقصيد أسّا من أسس العملية الشعرية وعاملا من عوامل إنشائها، ونجد في عديد الأعمال صدى لتغيّر الأدوار في عملية التلقّي إذ احتلّت العين مكان الأذن في عمليّة التقبّل في قصائد محمد الخالدي وآدم فتحي، حيث بات معمار القصيد لديه شكلا من أشكال الشعرية ومتنا من متون القول الرامز والقول الراغب معا عبر آليات عديدة تجاوزت دائرة الكلمة لتنفتح على دوائر أخرى تتصل بفنون الشكل.
لقد أجهد شعراء تونس أنفسهم في مواكبة تيّارالتجديد في البناء الخارجي للقصيدة على غرار عبد الفتاح بن حمودة وآمال موسى وآدم فتحي وحياة الرايس وعادل المعيزي ومحمد الهادي الجزيري وعبد الدّائم السلامي وكمال بوعجيلة.. ونجحوا، وأجهدوا أنفسهم في كتابة القصيدة القومية والقصيدة الباحثة عن الحرية والمواجهة للقمع على غرار جمال الصليعي والمولدي فروج وعبد الله مالك القاسمي ومحمد علي الهاني والصغير أولاد أحمد.. ونجحوا أيضا، لكن النضال الإبداعي لم يطرق بعد أبواب اللغة من أجل بناء عالم جماليّ تتحول معه القصيدة إلى كيان روحيّ شفاف يستوعب قدرة الشاعر على الخروج من المناخات المألوفة والتعابير المستهلكة(11)، إذ المدونة الشعرية التونسية في جلّ ردهاتها ما تزال وفيّة طوعا أو كرها لتراثنا الشعري القومي بشقيه القديم والجديد، ومازالت تحتكم إلى مضامين مستهلكة شعريّا من الماء إلى الماء، وبالتالي لم تحدث نقلة كوبرنيكية شعرية كما هو الشأن لبعض أصوات المشرق العربي على غرار عز الدين المناصرة وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط و بول شاوول ولكن تبقى بذور التميّز قائمة حيث ما تزال عديد التجارب الشعرية تتحسّس طريقها نحو إنشاء قصيدة " محليّة " خالصة تتّسم بثنائية الانفتاح والتجاوز بغية الخروج على الناس بصوت شعريّ يتوسّل بالإنيّة الشعرية الناسلة من حنجرة أبي القاسم الشابي والمنحدرة من روافد متعدّدة منها المحليّ ومنها القوميّ ومنها الكونيّ ، وللغد فعله في تثبيت هذا أو ذاك.
في الأخير لا يسعني إلا أن أرفع شكري لكلّ من ساعدني في إنجاز هذا العمل من أصدقائي الشعراء الذين لبّوا دعوتي رغم أنّني اتصلت بالكثير ولم يجبني إلاّ القليل منهم، كما أشكر أصدقائي الذين وقفوا إلى جانبي مثل الروائي إبراهيم الدرغوثي والشاعر يوسف رزوقة، وموقع شعراء العالم، والقاص والباحث بوراوي عجينة والإعلامي صالح سويسي لكي أنجز العمل على أحسن وجه، ولا أدعي أنني أتيت بما لم يأت به من سبقوني أو من سيلحقون بي، ولكن هي محاولة في رصد ملامح التجربة الشعرية التونسية ، كما لا أدعي أنني أحطّت بها الإحاطة الكاملة وتلك سمة أيّ عمل إنسانيّ صفته النقصان.. ولله الكمال، والله وليّ التوفيق.
فوزي الديماسي
قصرهلال 05 أوت 2007
الهوامش:
- دراسة في الشعر/ رجاة العتيري: مجلة الحياة الثقافية العدد 92 فيفري 1998، ص 38.
- ماهية الشعر في قراءة هايدجر/ مصطفى الكيلاني: مجلة المسار العدد الثاني شتاء 1998، ص 90-91.
- "احتفاليات" شمس النظير أو احتفاء الشعر بالشعر/ محمد الغزّي: مجلة المسار عدد 17 أوت، 1993 ص 79.
- تلاقي الأطياف / عبد العزيز المقالح: دار التنوير للطباعة والنشر 1987، ص 229.
- مقدمة معجم البابطين / محمد فتوح أحمد: مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري- الطبعة الأولى، 1995، ص 67.
- نفس المصدر: ص 63.
- أبناء قوس قزح / منصف الوهايبي: إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004، ص 5.
- نفس المصدر ص 35.
- نفس المصدر ص 46.
- مقدمة معجم البابطين / محمد فتوح أحمد: مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري – الطبعة الأولى، 1995، ص 65 .
- تلاقي الأطياف / عبد العزيز المقالح: دار التنوير للطباعة والنشر 1987، ص 229.
***
آدم فتحي
- من مواليد قرية أمّ الصمعة، بمنطقة نفزاوة بولاية قبلّي بالجنوب التونسيّ،عام 1957.
تابع دراسة الحقوق، ثمّ اشتغل بتدريس اللغة العربية قبل أن يتفرّغ للكتابة منذ مطلع الثمانينات.
أشرف على الأقسام الثقافيّة لعدد من الصحف (الموقف، الطريق الجديد) كما راسل جريدة القدس اللندنيّة طيلة سنتين.
صدر له:
- سبعة أقمار لحارسة القلعة، شعر، عن دار بين قوسين للنشر، 1982.
حكاية خضراء والأمير عدوان، شعر في شريط مسموع مع كتيّب، عن دار الشرقي للنشر 1984.
أغنية النقابي الفصيح، شعر، عن دار التقدّم، 1986.
أناشيد لزهرة الغبار، شعر، عن دار أقواس للنشر،1991.
المعلّقة، شعر في شريط مسموع مع كتيّب، عن دار أقواس للنشر،1994.
يوميّات بودلير، ترجمة، عن منشورات الجمل، 1999.
ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان، رواية لج سينويه، عن دار الجمل طبعة أولى 2000 وطبعة ثانية 2006.
وداعًا بابل، رواية لنعيم قطّان عن دار الجمل، 2000.
المياه كلّها بلون الغرق، شذرات لإيميل سيوران، عن دار الجمل، 2003.
فريدة، رواية لنعيم قطّان، عن دار الجمل، 2006.
القنفذ
1
من جسَدِهِ يخرجُ
وفي البراري الواسعة يسرحُ القُنْفُذُ
مُقْتَفِيًا أَثَرَ النباتات المُقيمة في شُقوق الروح.
2
وراءً في الليل تحتَ زَهْرَةِ عبّاد الشمس
يظلُّ الجسدُ (آنيةُ الخزفِ الفارغة) يفكِّرُ طويلاً
كيفَ ينامُ الفارغُ من المعنى ؟
وكيف تكون لهُ أسبابٌ للفرح بالحياة ؟.
3
روحي بعيدةٌ (يقول القُنْفُذُ) روحي قريبةٌ
هناك على النجمة الزهراء
أو هنا تحت ورقةِ الخبّيزى
هذه التي يُدَغْدِغُها الربيع.
4
وماذا ستفعلُ (تسألُهُ السلاحِفُ) إذا فاجأتْكَ الريحُ
ولم تجِدْ جسَدًا تخافُ منْهُ
لم تجِدْ جسدًا تخافُ عليه
هل تستطيع أن تقاوم ؟.
5
سأجْرِي في الجداول (قالَ) عارِيًا حافِيَ القَلْبِ
سأبنِي من حَطَبِ المدينَةِ بيْتًا وأُصْغِي إليها
تتنهّدُ تحتَ شُبّاكِي
أَمّا العُمرُ الضائِعُ (يقول) فَلْيَضِعْ هكذا للمرّة الألْف
إن لم يكن فرصةً للجسد
كي يلحق بروحه الشريدة.
6
حِزْمَةُ الإِبَرٍ قُرْبَ جِذْعِ الخرّوب تظلُّ تبتسِمُ في صمت
فارغَةً من دوْرِهَا القَدِيم.
7
وماذا ستفعلُ (تسألهُ الحلازن) إذا صادفك الحطّابون
أو وَقَعَتْ على رائحتك كلابُ الصيد
هل تتغطّى بِبَرَدِ الشتاء ؟
هل تستظلُّ بشمس الصيف ؟.
8
أعْزل (إلاّ من نفسه) يظلّ القُنْفُذُ يتأمّل جسَدَهُ الفارغ
فِيمَا الإِبَرُ( نفسُها) بَعِيدًا
أحلامٌ تكتبُ على عيونِ الصبايَا الليْلَ فيضيء.
9
أنامُ (سيقولُ) لكن بعْدَ أن أفْرَحَ
بِعُرْيِي.
10
أمّا الآنَ أيَّتُهَا الغِوايَةُ
خُذِينِي إلى الحَياةِ زَهْرَةِ البراكينِ
لاَ خَوْفَ عَلَيّ
خُذِينِي إلى النواةِ المَحْض
أَلْقِي بِي مثْلَ كِيسِ التَمْرِ عَلَى كَتِفَيكِ.
…...
لَنْ أمُوت
قبْلَ أن أمُوت.
الحذاء
1
أصابعُ النهار والليل ترقصُ بهدوءٍ كاسرٍ
تاركةً على رقبةِ المدينة نبوءاتٍ خفيفة الظلّ
من بين فرجات الأصابع يمرق حِذاءٌ قديم
يحْمِلُ صاحِبَهُ القديم
مُنْذُ زَمَنٍ قديم
إلى غدٍ قديم.
2
إلى متى (فكّر الحِذاء) أحْمِلُ صاحِبي
ولا أصل ؟.
3
بهدوءٍ كاسرٍ ترقصُ أصابعُ النهار والليل
فَيَحْدُثُ للنبوءات أن تخطئ رقَبَةَ المدينة
حينذاك تمُدّ الدروبُ أعناقها من بين الفرجات وتُنصتُ
لعلّ يدًا وقحة
تشير إلى جرحٍ مضيء.
4
من أعلى دهشته ينظر العابرُ إلى قدميه
النهار والليل
متلفّتًا يمنة ويسرة.
5
الآن (قال الحذاء) لم يعد مسلّيًا في الليالي والنهارات
المشيُ بخيبتك من نفقٍ إلى آخر
ولا النظر من بين فرجات أصابعك إلى سِيقان العابرات
الآن يا صاحبي أخلعك راضيًا
ومن الآن
لن أطأ زهرةً بِغَيْرِ رَائِحَتِهَا.
6
من لي بفكرةٍ (يهمس العابرُ) كالبئر
قاعُها لا ترى الشمس
أُلْقِي إليها بهذا الحذاء ؟.
7
الحِذاءُ أنتَ (صرخ الحذاءُ) معكَ ذقتُ قاع الأرض
جرّبتُ الحياة السفلى والأخرى السافلة
قلتُ هذه سماء الحياة، لكنّي
أراكَ تهبط حتّى وأنت متّجه إلى فوق.
8
ينحني العابرُ، و بإِحْكَامٍ
يَلُفُّ الخيطَ
على لسان الحذاء.
9
الفكرةُ توقّفت بين السماء والأرض
هاهي سحابة
البئرُ رَقَدَتْ على جنبها تشهقُ وتزْفرُ
هاهي شارع
الشمسُ، هاهي دنانيرُ ضوئيّةٌ، في البِرَكِ
ترتعش قليلاً قبل أن تدوسها العجلات
أمّا أصابع النهار والليل
ها هي حافية.
10
أنا أَفْضَلُ منك (غمغم الحذاءُ) أنا أعرفُ أنّي حذاؤك
لكن قل لي:
هل تعرف حذاء من أنت؟.
سيّد الظلال
أَمْسِكْ بِجَسَدِكَ (قَالَ) أَمْسِكْ بِجَسَدِكَ جَيِّدًا، وهَشَّ بظلّه على قطيع ماعزٍ لم يرهُ أحدٌ.
كُنَّا هَابِطَيْنِ مِنْ أعَلى البَراءةِ وقد شابَ الوقتُ،على أكتافِنَا غُبَارُ الحِكاياتِ، وتحْتَ أَقْدَامِنا تَنْزَلِقُ الكُهوفُ ذروةً بعد أُخْرَى.
أَمْسِكْ بِجَسَدِكَ الضَعِيفِ (قالَ) كي لا تَسْقُطَ غريبًا.
ـ لَكِنِّي لا أخافُ السُقوطَ (قلتُ) السُقوطُ
صديقي الوَحِيد.
.......................................
َمْسِكْ بِجَسَدِكَ (كَرَّر) ولم يُجِبْنِي.
.......................................
هَبَطْنَا مع المطَرِ (هل كنت ُ قُنْفُذًا جرحهُ الصمتُ؟) هبطنا في هوّةِ المطر (هل كان أَحَدَ أَيائِل الجبالِ؟) وفي قاعِ الهُوّةِ دخلْنَا سراديبَ لمْ يَدخُلْها قبْلَنَا أحدٌ، جلسْنَا نشربُ التمْرَ والجمرَ على صناديق مَخْتُومَةٍ بالليْلِ، وعند المنعطَفِ الأخيرِ تراءتْ لنا قُرًى رخْوَةٌ، لعلّها ظلالٌ، تنظر إلى نفسها وتعْوِي من وراء نوافذَ حجريّةٍ، مثلما تعوي الذئابُ.
أَشارَ إِلَيْهَا ورَفَعَ ظِلَّهُ مِنْ على الأرض، رَفَع ظِلَّهُ مثلما تُرْفَعُ العَصا، أو النخْلَةُ، وبِهِ وخَزَنِي في صدْرِي مَرَّتَيْنِ، ثلاثًا.
أَرَأَيْتَ (قالَ) عاقِبَةَ مَنْ لَمْ يُمْسِكْ بِجَسَدِهِ ؟.
- لَمْ أَرَ شَيْئًا (قلتُ)، لَمْ أَرَ إلاَّ السلوقيّ يضرب بخطمه كعبي منذ أكثر من موت، وظِلالاً تَعْوِي مِنْ وراءِ نَوافِذَ عَمْيَاءَ.
.......................................
لَمْ يُجِبْنِي.
كانَ قدْ نَسِيَ أنْ يُمْسِكَ بجَسَدِهِ جَيِّدًا، ومات.
.......................................
لَمْ أَغْفِرْ لَهُ بَعْدُ
لَمْ أَغْفِرْ لِأحد
مِنْ يَوْمِهَا،
أَنْ أَهْبِطَ المَطَرَ وَحْدِي، وَلاَ أنْ أُمْسِكَ بِذِقْنِي (على رأيِكَ يا جَدّ) أو لَحْدِي (برجي المُمَدَّد) أو نَدَمِي (غِمْد أحلامي) دون أن أرى الكهوف تَبْتَعِد عن قَدَمِي، وَلاَ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتًا يشيرُ إلى فَرَحٍ لا يراهُ أحدٌ.
.......................................
هَاهُوَ سَيِّدُ الظِلاَلِ
أَمسِكْ بجسدكَ (يقول) أَمْسِكْ بِجَسَدِكَ من ضعفه
أَمْسِكْ بجَسَدِكَ من ضُعْفِهِ البتّار.
قُلْ لَهُ اِمْضِ في طريقكَ، اِمْضِ في طريقك إلى آخر الطريق، سترى الحصانَ الأَبْلَقَ لا تَقْرَبْهُ. والسنابلَ الذهبيّة دَعْها تترنّح كنهايات القرون، سَيَلُوحُ لك القصر المرصود ذو الأبواب التسعة والينبوعُ المتدفّق من حرائقك الداخليّة، ستشمُّ رائحة التفّاح الذي يفوح دون أن يَرُدَّ الروح إلى أحدٍ، ستسمعُ من بعيد صوت الناي السحريّ، وخشخشةَ أحلامك تتقاطر حجرًا حجرًا، في قاعِ بئرك التي بين الضلوع، ستمرُّ بحانات عديدةٍ لا يدخلها أحدٌ، بينما يخرج منها الجميع.
وفي الضباب سيتراءى لك شبحٌ يشبهني، ستراه يَلُوحُ ويختفي، محفوفًا بالخسارات، لا تسأله من أين جاء ؟، ولا كيف أمكن له أن يفرح ؟.
……………………
اِمْضِ في طريقك إلى آخر الطريق
ستراكَ كلَّ صباحٍ تسْتَقْبِلُ
فُرَصَ الفرح
كَمَنْ يعْرِض صدرهُ
لرصاصاتٍ
طائشة.
***
آمال موسى
- من مواليد طرابلس، عام 1971.
- متحصلة على شهادة الأستاذية في الصحافة وعلوم الأخبار شعبة سياسة، وماجستير في علم الإجتماع.
- باحثة في مجال علم الاجتماع حيث أصدرت بحثا سوسيولوجيا عن دار سراس للنشرعنوانه: بورقيبة والمسألة الدينية.
- حاليا بصدد اتمام أطروحة الدكتوراة حول المعيش الديني في المجتمع التونسي.
- كاتبة رأي في جريدة الشرق الأوسط اللندنية.
صدر لها:
- أنثى الماء، شعر، عن دار سراس للنشر والتوزيع تونس طبعة أولى 1996، وطبعة ثانية 2000.
- خجل الياقوت، شعر، عن دار شرقيات للنشر والتوزيع بالقاهرة، 1998.
- يؤنّثني مرّتين، شعر، عن دار سراس للنشر والتوزيع تونس، 2005.
وفي نفسي وقعتُ
فَارِغًا
مِنْ كُل هَوى
يَمُوتُ
مَنْ وَقَعَ فِي غَيْرِ طِينِه
وسَكن النُّفُوس المُجَاوِرَة
مُنْتَشِيًا بِقصصٍ حَمْرَاء
كالشَّهواتِ تَمْتصُّ مِنْهُ البَياض
وَتَسْطُو على يَاقُوتِهِ النَّائم
في عُمْق المَاء.
ألا تَبَّتْ نَفْسٌ
لم تَقعْ في نَفِيسِهَا
ولم تَملأْ القِنديلينِ بوجهها المُتفَتِّحِ في المَاءِ المُرْتعشْ.
فَهَلْ أَنَّ نفسَ النفس، لا تُطرب
أَمْ ابتلاءُ المَرءِ، أَدْماهُ الوقوع في غير نفسه
مَنْ وَقَعَ في غيره
كَمَنْ تَهَاوَى
مِن الثُّرَيَّا في ليلٍ غاسقٍ
ومَنْ أَدْركَ في عناصِرِهِ الحُلولَ
كَمَثَلِ من قَطفَ النُّجوم عنْدَ قَرْنِ الشَّمْسِ
وَقَدَّ عَرْشًا بِخَاتِمِ المَلِكِ.
قليلاً
جَرَّبْتُ الوُقوعَ زَمَنًا
ظَنَنْتُ فِي الجِنان النّسيانُ
وفِي التنزه الاغتسالُ
وأنَّ ذَهابَ النفسِ طويلاً عَنْ هَوَاها
فتحٌ
أرى فيه
ما ينقصُ الطِّفْل ليكون مُريدا
وآدم كي يُسمّى بطلا في الخلق.
يَا أَيَّتُهَا النَّفْس
بَيْتِي أَنْتِ
وسَريرِي
وثوبُ نوْمي الشَّفاف
فِيكِ يَرْقُدُ السُّوء
وفِيكِ أَعَدُّ بأصابع كل الخلق خطايا السابقين.
كأنك امْرأة
وكُلُّنَا رجالٌ نسكنك فرادى
نَلْقَاكِ وِسْعًا
وَسَكَنًا عَبِقا بالعنبر
وبدخانٍ مُعطَّرٍ ببخورِ القُدَامَى
حين تَسْتَفْرِدِينَ بِي
تَكْبُرُ وِحْدَتِي إلى أَنْ أُصْبِح صغيرة
وأشْعُرُ أنَّ جُنُونِي لاَ يُضَاهِيك.
فِي هيكلكِ الزِّئْبقِي
يَعُودُ الدِّفء
إلى قطراتِ الشَّمعِ العاطفية
وَحْدُهَا الشَّمعةُ ذات الهوى الشرقي أكثرُ منّي ذوبانًا.
كلُّ الواقعينَ في أنصافهم المتوهِّمة
ناقِصُونَ هَوى
قلوبهم مشرئبّةٌ للعشقِ
يُبدِّدونَ الحين
وروعة الانْصِراف إلى حمَّالةِ الماءِ
في تَفْتِيتِ تَصَوّفٍ
يَضيقُ على فُؤادٍ يَنْبِضُ بِأكْثَرِ مِنْ صُورة
فَمَنْ ذَا التِّي تَشفَعُ لنفسها غيرُ نفسها
وَمَنْ ذا الذِّي يَسْتبْدلُ
وقوعًا بتهشم.
أُقْسمُ أَنِّي لَنْ أرومَ غيري متّسعا
وَعْدُ نفسٍ
وعتْ بِلادها الشَّاسعة
وَفُصولها اللاّمتناهية
ولَذَّة يُشْبِهُ عنبها ثَدْيًا مَرْمَرِيّا
سَقَطَ فِي نشوةِ أُنثى.
أَعُودُ إليَّ
مُتيّمة
أَلُوذُ بالمعنَى في ليلٍ ساطعِ اليقين
ضَفائِرُهُ تُشبهُ المَدَى
أَنْتشِي بِعناقِ البعض لبعضه
وصلاة كلّي لكوكبي
وأحفرني بئرا عميقة
الارْتِواءُ منها
كعينين من زمرد.
الربّ يملأني بذرّة حبّ
فِضتُ عليه
إلى حين تكلّمَتْ خطُوطُ الكفِّ
ولَبِسْنَا المَاء
فَأَسْرَى بي إلى الحرير.
أَصْحَرْتُ فيه
صاعدةً إلى حيثُ العَرْشُ أمامي
طَيْرٌ مِن الأقاصِي
على ظهره وشمُ الشَّهْوَةِ
وَرَغْبَةُ أُمِّهِ المُتَحَقِّقَة.
مُلْتَحِفًا بالنُّور
بِالقَيُّومِ مُخْتَمِرًا
فارِغَ الفؤاد.
مَدَّ يَدَهُ إِلَي بَاطني
وأوقَدَ بالماءِ فَحْمِي.
تَقَلَّبْتُ على جَنَبِِي وبَيْنَنَا برزخُ
واحدًا كُُنَّا
صَاحِبُ اليمين وصاحبتُه
خيرُ البريّة وخَيرتُها
كُلُّه يُوجعُ كُلِّي
كُلِّي يراقصُ كُلّه
كُلُّه يقولُ لشتاتي: "اقرأ".
كُنْتُ أُحَاوِلُ
أَنْ أُحِبّهُ أَكْثَرَ مِنْ حُبَّيْن
وأمْسَكَ ذات العُلى
حِينَ تَفَرَّسْتُ فْي جبينهِ الفِضِّيَّ.
ولا زلْتُ أتوسّلُني قبلا
أَنْ أَرْتَدَّ بنيةَ أو حفنةَ ماء
كلّمَا خبّأتُ أوراقَ التوتِ فِي مُقْلتَيْهِ.
خُيِّلَ لِي
أَنِّي أرَى الزَّمنَ جَالسًا على أريكةٍ قُدَّتْ مِن أبدٍ
والمَوتُ خائفًا
والرَبُّ يَمْلأُنِي بِذَرَّةِ حُبّ.
كَأَنّهُ حفيدُ الأعْشَى فِي رَكْبٍ مرتحلٍ
حَمَامًا
أَبْصَرْتُه
يَمَامةً
أَبْصَرَنِي
ضَاقَ بِنَا المجازُ
فَنزِلْنَا إلى "أمّ الوليد"
مُقَدِّسين يَسْجُدُ لنا النّجمُ والشّجرُ
لَمْ يَبْقَ ساعتها
مِنْ العادياتِ سوى الضّبح
ومِنْ المُوريات غيرُ القدح.
كَمَا لو أنّ
عاشِقي اكتملْ
كما لو أني
اكتفيتُ بزخّةِ مطر
شاهدتُني في ارتعاشِه
على شفاه اللغة كرما وتمرًا.
ثَوْبِي تَحرُسه العنكبوت
أرْضُ تُحدثُ عشقَها
صَدْري مُنشرحُ
والروحُ تلْهو بينَ الزرقةِ والشجَر.
مريدةْ تعدَّتْ كلَّ اللّذاتِ
خَبّأْتُ طُفولتِي
فِي نظراتٍ لهَا بريقُ المَاسِ
وشبابُ الماءِ الدّائم
تَنَاولْتُ مِنِّي
زلاّتِ جسدٍ حديثُ الشّهقات
وتدفّقتُ في الأرضِ
امرأة.
سَأَلْتُ الموتى الكبار
والدَّراويش
وبائعُ الماءِ البورجوازيّ
وكُلَّ مَنْ صادفني
وكانَ رَضِيعًا.
تَوَسّلْتُ رَأْس عاشقي
بِعينينِ مُحترقتين
وَصحْتُ :
أَفِيكَ ألْقَى اللّه ؟
يا رأس عَاشِقِي
كُونِي مدّا لا يعرفُ الزّجر
وقصيدةً نائمة في صدرِ شاعر بوهيمي
كُونِي شَاعرةً قُدّتْ مِنْ أربعةِ فُصُول
ونطقا عصي التّلعثم
كالمجاز
وكشفا
تسقط بُعده الحُجب
سُهولاً مترامية النُّور.
كُونِي بَرْدًا يُخلّصُني لسعَ القلقِ
وَمُعذِّبتي حِينَ أتعدّى كُلّ اللّذات
وَتُفْشِي السّاقانِ بِالشَّهوات الهَارِبة كَمَا الطُّيور.
لمْ يَبْقَ مِنْ رَغَبَاتِي سِوَى الزّعفران
وَجَسَدِي صَارَ سَريرًا لأطولِ نومٍ.
وَحَتَّى مُكابَرَتِي
مَا عُدْتُ صادقةً فيها.
أََسْتَحْضِرُهَا مِنْ صُوري القديمة
وأَتَلَهَّى بِإعْدَادِ قهوة
سُكّرُها أشقاهُ البنُّ
وَأَوْقَعَهُ فِي عِشْقِ الأَضْدَادْ.
كائنات في منطقة الداخل
فِي داخلِ كُلِّ امرأة
رجل.
في داخل كُلِّ رجل
امرأة.
في كُلِّ لغة
أنثى وفحل.
في داخل كُلِّ عاشقٍ
إله.
في داخل كُلِّ آثمٍ
بريء.
في داخل كل شاعر
نبي.
في داخل كُلِّ نبيٍ
خالق ومخلوق.
في الأسفلِ
حيوانٌ نائم.
في الأعلى
خليفةٌ متربع.
فمن هم الذِّين.
في الخارج يتَّحركون ؟.
***
جمال الصليعي
- من مواليد مدينة دوز الواقعة ببوابة الصحراء التونسية، عام 1955.
- تلقى تعليمه الإبتدائي والثانوي بها، ودخل الحياة المهنية في سن مبكرة.
- يعمل بوزارة الصحة.
- عرف جمال الصليعي في مختلف المنتديات الشعرية والثقافية في تونس منذ بداية الثمانينات، ويعتبره الكثير من المثقفين شاعر الجامعة والطلبة والإتحاد العام التونسي للشغل.
صدر له:
- وادي النمل، شعر، عن بيت الشعر التونسي، 1998.
لغة القبائل
ربما كان حديثا عابرا
إنما
وقع في الرّوح رنينه
ربّمــا كان خداع البرق في غيمة أسفار قصية
إنما
ألقت ظلال الماء
وهم الخصب في أرض حزينة
سوف يكفي كاذب الفجر
لكي نزرع خلف الشك فجرا
سوف يكفي عمر الزهرة
كي نمنح للأعمار عمرا
لم نكن نرقب أندى من سقوط الطلّ
كي ننشأ عند القفر نهرا
نعرف الماء
وقد أجرت لنا الأنهار ذكرا
ولقد أتبع ذكرا.
ترقرق ماء صبوتهــــا ونهر العمر يسكبهـــا
وتسأل عن ملامحنــــا وجوها لا نصاحبهــــا
رأتنــا غير من عرفت ـ وغيرـ تلك مطلبهــــا
رأتنا في مراكبــنــــــا وقد تاهت مراكبهــــــا
تهمّ بنـــــا علي فـرق يكاد المـوج يحجبهــا
سنحميها ونمنعهـــــا ونــدعوهـا ونصحبها
ونوغل في ملامحها فنمحوها ونكتبها
نعاتب أهلها حينــــــا فإن لامـت نعاتبهــــــا
ألسنا نجمها الهـادي وقد غابت كواكبهـــــا.
على عجل تمر
وتكتفي بقراءة عجلى ويغلبها النشيد
على عجل تهلّ بروقها
وتفيض من ماء بعيد
والعمر خلف قوافل الأحباب يتلفه البريد
والحال تحملنا
وتحملهم على سفر جديد
هذا الهوى المجنون أسلمنا إلى ما لا نروم من الدّروب ولا نريد
لا
لا تقدرين على رحيل القول في شعب النجاة
لا تعرفين مرارة التجديف نحو حقيقة جفلت يخاتلها السرّاة
يا ماء لا
لا تتعجلي
لا تقرئينا مثل أهلك هكذا
أرأيت أهلك كيف فرقهم قصيد
ذهبت بهم ريح الشتات
فمن يجمعهم لميقات جديد
سنفض ختم الرّوح عن ماء الكلام
فهيئي سببا لمجلسنا متى شردت بك الأسباب وانعرج السبيل.
يا ماء
هذا الهمّ أكبر من مساحيق الشمال
ومن مرارات الجنوب
وأجل من حجر المديح يشيد أضرحة العبيد
هذا انتفاض الطير مذبوحا على شفة الحديد
هذا دبيب الماء بين منافذ العطش القديم
هذا رفيف الرّوح ـ مقبوضا ـ على طين سقيم
والروح أحوج ما تكون لعابر الأسباب ـ فانهمري
انهمري.
بنا شغف لأيام المواسم والبروق
هل نلتقي ؟
تلك المفارق تدّعي
لكن تكذبها الطريق وتشير خادعة السراب على حناجرنا
إلى عطش يهيء غربة أخرى
ويفتتح الرحيل
يا ماء
أخلفنا وضيعك الدليل
يا ماء
جفت أرضنا
وسماؤكم
يا ماء كاذبة الوعود
الأرض ضيّقة على أسفارنا
وفضاؤكم حرج يلف الصوت أن يلج المدى
سنمرّ من هذي الكوى
لنرد للأسوار بعض إساءة
جزءا لعلّ من القصاص
يا ماء
عوّدنا فضاءات الرحيل
عوّدنا عناق الريح
والفلوات
والليل المخضّب بالصّهيل
يا ماء
عوّدنا
"إذ بلغ الفطام لنا صبي"
جهزت رواحلنا
وهيأنا غناء السير
وانزلفت حناجرنا على وتر الرّبابة يا مريد.
يا بني الصيداء ردّوا فرسي إنما يفعل هــذا بالذليــل
عودوّا مهري كما عوّدتــه دلج الليل وإيطاء القتيل
واستباء الزق من حاناته شائل الرّجلين معصوبا يميل.
الركب أصبر من عناد الدّرب
والخطوات مقمرة
وأشواق الحداة مطية السّارين في سفر عنيد
أوحى سراب الناس:
"أنّ الأرض في نشء جديد"
همست فجاج الروح:
"هذا الناس في وهم بعيد"
الناس في وهم بعيد
ملنا إلى لغة القبائل
بعدما خبت اللّغات
لغة بعرض الرّوح أرحب من خراب الوهم
دلتنا على بيت... ببادية الكلام... هناك
خلف مدائن العرب الآواخر
خلف ما زرعوا من الأسباب كي يتنكروا لوجوهنا
لم نرتكب لغة تضا جعها اللغات وتنحني بخوائها للعابرين
ولم نقل إلاّ كلاما ممكنا بل ما توجّب أن يقال... فلا يقال.
لم نعتنق سبق الزّمان
ولم نبادر بالهروب
لم ننتسب لحقائب الأصباغ
تلك وجوهنا الأولى
وذلك ما تشكل من مرور الدّهر في قسماتها
مرّت بك النزوات من عربية فصحى إلى عربية أخرى
إلى عربية عجمى
إلى عجمية عربى
إلى عربية سلما إلى... لا شيء في اللاشيء.
يدوي صفرها الأعمى
وها... خلعت دهاليز الصغار على جراد الخلق يغشى أرضها الكلمى
يأتون من نهم الخراب إلى الخراب
يسّاقطون من التدني من شقوق الذلّ في جدر التواريخ الوضيعة
يملؤون السمع والأبصار.
فانتبهي
انتبهي وسدّي حفرة الطاعون
وانتبهي خذي أشياءك الكبرى
خذينا في كتاب العزّ انتفضي
وقولي:
لم يزل أهلي جبابرة على الدنيا
على الطاعون
واصطخبي
لمن هذي الدّماء الحمر يسكبها الشموخ على اليباب
فتزهر الأرواح
يا... زمن المواسم والبروق
خذي "ذي قار" وانطلقي
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم
عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
خذي اليرموك وانطلقي
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهمو
صفر الوجوه وجلّت أوجه العرب
خذي أيامك الدّنيا
هل أنجبت مثل عبد الناصر امرأة ؟
خذينا في جنوب الله من لبنان
في كتب الشهادة
في سباق الوافدين إلى الجنان
خذينا..
عند طفل يولد التاريخ من نعليه إذ يمشي
فتهتزّ العروش الصفر والأعداء إذ يرمي
ولم يرم
خذينا في كتاب العزّ وانتفضي
وقولي لم يزل أهلي جبابرة على الدّنيا
على الطاعون
وانتظري
سنأتي
سيأتي أهلك الباقون
وسيدخلون...
سيدخلون...
سيدخلون...
(كما دخلوه أول مرّة).
إسراء
تذكرني الأحلام ليلى ومن تطف
عليه خيـــــالات الأحبة يحــــــلم
زهير
أصعد... فعند حدود الروح أروقة خلالها عبر العشاق والتحفوا
وأشرفوا من سماء البوح في ظلل ضجت بهم همهمات الليل فاعترفوا
وحينما ازدحمت أسرارهم نفذوا حتى تفايضت الأرجاء والسجف
سكينة الليل قد أفشت سرائرهم وخفقة الضوء أخفت كل ما كشفوا
آه، هو الليل.. لا، بل ربما لعبت أصابع الفجر حين الضوء يرتجف
وإذ يحوكون من أنوارهم حجبا تطلّ من بينها الذكرى، فنأتلف
حيث التقينا وقد أسرى الصهيل بنا بين الزمانين، لا ضوء ولا سدف
فإن تواصل أهل العشق لا عجب أسرت بأحبابك الأشواق لا الصدف
وقد تباشر ركب الشوق حولهم بشّر فؤادك أن أحبابه نصفوا
وقل تعطر هذا الليل إذ عبقوا زور الأحبة.. بل نجواهمو، كلف
جاء الأحبة من شوقي ومن شغفي أهلا، أحبة روحي فالهوى شغف
جاؤوا، وأشرق قلبي عن بشارتهم كما تبسّم عن مكنونه الصدف
جاؤوا كذا، أو كأنّ الأمس ما انفرطت حبّاته أو همو من بعد ما خلفوا
قد مرّ ليل وسرّي في حقائبهم يودعون، فأبكي وأرتجف
كانوا ندامى بوادي الروح هدهدهم طيب التلاقي وأنس فوق ما نصف
وكان ركبي مدّ الطرف منزلة منهم فلمّا رأوني مثقلا، هتفوا
يا ساريا لا يتيح الليل غايته وقد تداوله الإجهاد والأسف
هلاّ انتظرت مدى كأسين صحبتنا نحن الأحبة والأشواق والدنف ؟
كانت مصابيحهم في القلب موقدة وهم على ضوئها يتلون ما.. ذرفوا
فقلت: آنست نارا علّ جذوتها تضمّ راحلتي دفئا وتكتنف
أو كنت ملتحفا منها على قبس يطيل بي شغف الترحال إذ أقف
وجدتهم، وكؤوس النور مترعة من حوضهم، ومذاق الراح مختلف
طافت أباريقهم تسعى إلى قدحي فأزهرت طربا كأسي بما عطفوا
فأرفع حجابك لا يرخى على لهفي في حضرة الضاد يطوي الريّ واللهف
فأرفع حجابك، واتركني هنا قدري أنا المرايا، أنا الألواح والصحف
أنا كتابك إذ يفضي إلى ملإ شوق المسافات يدنيهم وإن وقفوا
يا شاهدي وحريق الحرف يصنعني يا كاتبي ومداد الدمع يعترف
أمشي على أضلعي حتّى أرصّفها ضلعا بضلع لأحبابي وأرتصف
يا حرف بلّغ فهذا الصمت مرتفع وأنت أفصح من يروي ومن يصف
وأنت عند ازدحام الليل متّكئي وأنت عند انصراف الصحب تخلف
وأنت قيثارة السمّار ما طربوا في شجوها سهروا، من لحنها غرفوا
أبلغ أحبتنا أنّا على قدر نجتاز هذا الدجى حينا وننحرف
وأنّنا ما طوينا عهدهم سرفا فلم نكن لصروف الدهر ننصرف
وأننا قد نضيع الدرب آونة لكنّ بوصلة العشاق لا تقف
فلم يزل في دماء الواقفين هنا ريّ وفي طيلسان العزّ ما نصف
ولم تزل راسيات الأرض شامخة ولم يزل في معين النفس مغترف
ولم تزل في هدير الماء أغنية تتلو الربابة بشراها وتعترف
ولم يزل في صهيل العاديات مدى للإنطلاق وللترحال مزدلف
تلكم يميني بلا سوء يرصّعها طيب البياض وطهر مورق ورف
إذ نلتقي وهموم النفس متصل أطرافها وبروحي يعقد الطرف
قبضت كفّي على جرحي وأسعدني أنّي و جعت لجرحي مثلما نزفوا
وسوف أولد يوم الموت منتصبا وسوف يوأد موتي وهو يرتجف
ويوم أنشر ألقى بينكم صحفي يا شاهديّ اقرأوني ساعة وقفوا
هذا كتابي إذا ما ضمّكم وطنا خرّت به راهبات الشوق تعتكف.
عروج
أعددن مرتفقا للروح ذا سعة لو مدّت الأرض لم تشغل به طرفا
سماؤه من عليّ الحلم حبكتها وأرضه راسيات الحزم متصفا
هواؤه ملتقى الأشواق ينسجه وماؤه من عيون الوجد قد غرفا
ثماره أو قطوف الخصب دانية ورائق من ظلال الخير قد ورف
أطفن بالنفس يستجلين منغلقا من الصدور فلم يغنمن مقتطفا
صدرن عن منهل النجوى بلا بلل وعدن من قائل الذكرى وما اعترفا
يئسن من مذنبات الصمت ما نبست ولا كشفن لطيّات الجوى صحفا
فقلن أدرك جناح البوح مرتحلا إلى معارج أعيت قبل من عرفا
كنّا سمعنا حديثا عن مصاعدها ولم تر العين من أفيائها كنفا
بل حدثت فلتات الشوق عنعنة أخبارها وروت أسرارها كلفا
كانت تجيء رياح الطيب مثقلة من أرضها فعلقنا طيبها شغفا
مرّ المحبّون أفواجا إلى غدها ولم يعودوا وخلّوا أمسهم ترفا
كأنما زمن فيها بلا زمن أو كانت الأرض غير الأرض مختلفا
فلم تدحرج متى فيها ولا سألوا عن أين، أين ولا ابتاعوا بها صدفا
ولم يعب قائل فيها بقولته ولم يدن شاعر فيها بما اقترفا
لا ندّعيها ولا نأتي مراكبها لعلّ مثلك موف عندها نتفا
شغفنني بحديث ما له شبه من الحديث وسحر بعد ما وصفا
كأنّ شقّ نجاة شقّ في جدر من الظنون وسترا فضّ فانكشفا
دعوت أدنى جناح البوح معتذرا أنّي أطلت بقائي ههنا سرفا
لعلّ أرضا بلا سوء أجاورها فجيرة السوء أضنت جيرتي أسفا
أمرّ من صحبة رأسي تجارتهم لصحبة لم تبع ودّا ولا شرفا
ركبت جارح طيري عند مزدحم من الشجون بأرض طيرها ألفا
وقام بيني وبين الناس لي رصد من الرماة أقاموني لهم هدفا
لا يسمعون خرير الخصب في سحبي فقلت في مسمع الأيام بعض كفا
سيعلمون متى غابت قوافلنا بأيّ همّ قطعنا قفرهم لهفا
هذي بقية شكوى في حناجرنا هل يدركون بإذن الموت ما عزفا
حملت شكي، يقيني، ثقل مشغلتي وجئت أرسف في فوضاي معترفا
كنّا على البوح مهموما وقافية وخافقا لم يزل يهتزّ مرتجفا
في ظلمة من غبار الشك مطبقة لولا اليقين لضع الركب واختلفا
مولاي خلقك جبارون في وهني ولست أملك غير القول منصرفا
أريد هارون عن صدري على شفتي لكي تعانق لام العزة الألفا
مولاي خلقك أغلال على حلمي فكيف أفلت بالأحلام منتصفا
وكيف أفرق بحر الشك يا سفنا جرت بها الريح عن شطآنها جنفا
ولا عصاي معي كي أتقي تعبي ولا أهشّ على حالي بها تلفا
ولا لساني مفتوح على وجعي ولا أخي حاضر أملي له الصحفا
وحين "ألقوا" سعت وهما حبالهمو وخيّلت لي، مددت الكفّ مرتجفا
لولا هواتف ملء النفس زاجرة لكنت أشبه من ألقى ومن لقفا
رددت كفّي على جرحي واسعدني أني وجعت لجرحي كلما نزفا
حملت شكي، يقيني، ثقل مشغلتي ولذت أركب موجي حائرا تلفا
وكان خلفي ملوك، خلف صولتهم غواصب الفلك إمّا فلكنا انعطفا
سألت عنهم قرانا، قيل مذ دخلوا وهم على العادة الأولى، هوى ووفا
أويت للطور، كان البرد في حلمي وكنت أعرف دفء الطور والكنفا
ثنيت روحي على أعتاب عزته فكفكف القلب من أوجاعه وكفا
سمعت خلف هجوع النفس غمغمة عرفتها وعرفت القوم والهدفا
كانوا يمرون تحت الليل همهمة ووقع خطو وصوتا لاهثا وجفا
وكنت أسكب أمن النار في بدني وكنت تحت جناح الطور ملتحفا
قل فالهثوا بعد هذا الليل موعدنا تنفّس الفجر يا أوهام وانكشفا
نحن المحبين لم نغلب كما زعموا ولم نبدل ولم نسلم لهم شرفا.
***
جميلة الماجري
- من مواليد القيروان، عام 1951.
- أستاذة لغة عربية.
صدر لها:
- ديوان النساء، شعر، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرّسم، 1997.
- ديوان الوجد، شعر، نشر خاص تونس، 1995.
- لغة الطير، شعر، نشر خاص تونس، 2006.
قراءة في نقوش زربيّة قيروانية
ماذا يقول الشكلُ حين اللونُ يسكُنُهُ ؟
وإذا الأصابع ألغزتْ برموزها
وتحاورت بلُغاتها
من يقرأ الإيحاء في لغة النساء ؟
للقيروانيات إن ألغزنَ أسرارُ الهوى
هذي التعاريجُ التّعاويذُ العجيبة قد أتت
وكأنّه عُقدٌ نفثن وما أثمن.. فللهوى
أحكامُهُ
وطقوسه مرسومةٌ
في النّمنمات وفي تواشيح الرُّقى
قمرٌ ومحراب ووشيٌ بربري
ومتاهةٌ تلو المتاهة.. هذه
أحبولةُ الروح الأسيرة والفتى المنسيّ في
مُدُنِ الصبايا الساحرات
يجئ منخطفاً إلى
حورية المحراب مستلباً
ويمدّ كفّيه إلى الأقمار يقطفها
فتروغُ في المعراج روحُهُ هائماً
ويظنّ أنّ جيوبه ملأى
بأضواء النجوم وأنه
قد بات مستنداً إلى خدّ القمر
قمرٌ ومحرابٌ
ومملكةٌ وتاجْ
موعودةٌ بهما الصبايا
منذ أوّل عقدةٍ
ومدارجٌ مرسومةٌ
ترقى إلى باب السماء
يُبدعن من ضوء العيون نسيجهنّ هديّةً
لوليّهنّ يجئنهُ متقرّبات..
هذه مولاي أولى مكرُماتي.. فلتباركني عسى
ألقاه ما بين الخطوط وبين محرابٍ ومحرابٍ
على ضوء القمر
إنّا سنُوقدُ كلّ أقمار المحاريب احتفاءً لو أتى
وسنُسرجُ الأفراس قبل الفجر
نقضي الليل
في قُدسِ الصلاة طهارةً وتهجّداً
حتى إذا ما حلّ في
أُحبولة الروح الحبيسة هائماً
بِتنا جميعا في محاريب القمر
لا لون يشبه لونهنّ
إذا فتحن مواسم الألوان قبل فصولها
فلهُنّ أن يفتحن في
أرض المتاهة للعبور مسارباً
ولهنّ أن يسدُدنها
ولهُنّ أن يفرشن بالأقمار عشّ الطير
أن يفتحن باباً في المجرّة كي يمُرّ متى أتى
بين النجوم ويستحم بضوئها.
لؤلـــؤة
كبيرٌ عليك الهوى
وأكبر منك القصيدة
وأبعدُ عنك التماس النجوم
من الأمنيات البعيدة
فجلّ النساء شبيهات بعضٍ
وواحدةٌ بين عصرٍ وعصرٍ تجئُ
كلؤلؤة في الكنوز
فريده.
أنثى الله
بعض الرجال بك
في الحب ما صدقوا
وبقية
ماتوا وما عشقوا
ما عذرهم ؟
لو يسألون غدا
مروا بجنب النبع رقراقا وما شربوا
وبجانب الريحان لم يجنوا .. وما .. نشقوا.
يا قيروان
وهذه الدنيا مؤنثة
والله أنثها، وفي ملكوته
وبأمره
تجلى وتنفتق
لو أنه ـ سبحانه ـ ما كان آثرنا
لم يرتهن
برضائنا الجنات واعدة على أقدامنا:
تهدى لمن الأم قد رفقوا
ماذا أقول إذن ؟
إن كان من كفروا
من جهلهم
في الجنة احترقوا ؟!.
***
حافظ محفوظ
- من مواليد قصور الساف، عام 1965.
- يعمل مفتش للغة العربية.
صدر له:
- النّورس، شعر، عن دار قلق تونس، 1984.
- قصائد النّمل، شعر، عن دار فنون تونس، 1994.
- عرائس الله، شعر، عن دار سحر تونس،1997.
- الخزّاف، شعر، عن دار سوتيبا تونس، 1999.
- تعريفات الكائن، شعر، عن دار سوتيبا تونس، 2002.
- الأبديّة في لحظة، شعر، عن دار الأطلسية تونس، 2004 .
- سيرة رجل عاش يومين، قصص، عن دار بيدبا تونس، 1995.
- ارتباك الحواس، رواية، عن دارسحر تونس، 1996.
- حارس الملائكة، رواية، عن دار الأطلسية تونس، 1998.
- غزال الأندلس، قصص، عن دار الأطلسية تونس، 2001.
- مكعّب الحكمة، رواية، عن دار المدينة للنّشر تونس، 2003.
- حورية، رواية، عن دار الأطلسية تونس، 2005.
أبجدية ثالثة
بلا وجهة، غير مكترثين بزحمة سان جرمان
مشينا طويلا
شرحنا قصيدة عنترة العربيّ مرارا
نعم.. غادر الشعراء
ولم نعرف الدّار رغم التّوهّم، قلت
وطوّقت خصر الهواء
صعدنا معا درج المقصف البرتغاليّ
نصف الزّبائن حيّوك: Salut Adonis
سمعنا مراي متيو
(الزهور ستذبل إن خنتني
وأنا سوف أذبل مثل الزّهور)
C'est un vrais poète ، قلت لمضيّفنا
وأشرت إليّ بكأسك أشرب
سأحتاج عمرا لأقنع نفسي بجدوى القصائد عمرا جديدا
وصحراء هائلة وقبائل بدو
وأحتاج ليلى وعمّا عنيدا
وقافلة ضالة وقلبا وحيدا
يدقّ لأجلي كساعة مقصفنا البرتغاليّ، قلت
وزارك صمت طويل
كأنّك أهديتني نصف باريس ذاك المساء
كأنّي رأيتك تجمع من أعين العابرين
أبجديتك الثالثة.
رمية نرد
أخرج من ظلمة ما يبقي الخطوة رمية نرد خاسرة
ثمّة فاكهة أسفل هذا الخوف
وثمّة فاجعة في كفّي
حيث أقود رياحي يومض برق
حيث أرى ظلّي تنبت حيوانات من بلّور
وتميل عليّ
ستقطفني في عليائي امرأة طاعنة في الخضرة
فأغيّر قاماتي
لا تحبو الأمطارعلى سطح البيت
ولا تتجفّف أغصان التينة
بعد قليل
سأغيّر دوران الأرض
كما في الوهم.
أين أرسطو
هنا في قاع الرّغبة
أجلس
صورتك البيضاء أمامي
لست هنا لأدير إليك الأرض
ولكنّ مرارة أصواتي تنثرني قمحا عندك
أجري كصبيّ مفزوع يدخل باب متاهته
الأنثى بين يديك تلوّح لي
لا ألوان لنبصر فكرتنا الأزلية
لا فلك تسير بنا
هذا خيط الذّكرى ممدودا بين جنوب الخوف ورجفتنا
نبحث عن بيت في الرّيح
ندور
نلاطف أطيافا
نغرق في الوهم
نشدّ بقايا الصّور المنهوكة بالضّحكات
ونفتح كوّة أسئلة:
أين الباب ؟
وأين الكلمات ؟
وأين أرسطو ؟
أين يديك لأكتب أعشابي ؟
أعرف أطيارا تتمايل في الرّيح وتنبت فاكهة تتثاءب
هل لمس الضّوء نوافذنا فاحترقت بدلته الفضّية ؟
أعرف طين الحكمة
لكنّ الرّغبة تنحت أشكالي
يا أخطر من خبب
يا أجمل من موّالي
كفّاي تشدّان البحر إلى صدري
فانسكبي في لغتي
ولتحفي صلصالي
مكسورا كجناح ووحيدا كالموجة أتشكّل
ممتلئا بسماء حالمة أتردّد بين الرّمل وبين الماء
أزور حدود طفولتنا
اللّعبة تنشب في شفتيّ براءتها
اللّعبة ترضعني شيخوخة معدنها
كنت أطير مع الأسماك تلاحقني وألاحقها
كنت أبايعها
ملكات وأطيع
وأنت أخذت الأبيض من روحي
الصّورة ترتعش الآن أمامي
لغتي تحلم
وأنا أتمايل فوق الماء.
ريش قرطاج
تلتفّ أصابعك على أرواح طيور
تخفق أجنحة في الأعلى
يخفق ريش فوق سرير امرأة
تخفق أبواب في قرطاج.
صوتك يعلو
وأصابعك تنزّ دماء
والرّيح تشدّ عصاها
عمياء تسير
مقوّسة الظّهر
لها عينا جنّيّة وظلال ملاك
شعب من قطن يتبعها
أفواج تخرج من أفواج.
أبصرتك
عيناك تخيطان سماء بالية
ويداك تهشّان الغيم عن الصّحراء
وقلبك يستر عورته
أبصرتك
تطعم غزلانا في بغداد
وتسقي إبلا في مرّاكش
وزمانك يعلن سطوته
أبصرتك
ليلك بوّابة جنّات
وصباحك مفتاح يبحث عن مزلاج.
على ما يشبه العطر المجعّد يقفز الفجر المدلّل هازئا
عصفور موسيقى يصاحبه
يمدّ جناحه المكسور رابية
يمدّ غناءه سهلا
وحمرته سواحل من زجاج.
في إخضرار الشرق غيمات
تبيع الوهم والأطفال
في زرقتها جيش من الماغول
في بزّاته الأسود يسوّد
وفي حمرته الأحمر يحمرّ
لم أرم يدي!
لكنّني أبصرتها تعلو مع الأمواج.
تلتفّ أصابعك على الرّمل
وأنت ترى الأبيض يحترق
وترقص
ترقص
وتمدّ السّكّين إلى الأوداج.
أختار سماءك
أختار سماءك
لأريح صباحي تحت نوافذها
وأفتّح أزرار الأمطار بأغنية تتكسّر
أختار الصّحراء بلا جرس
تركض عنها الغزلان
ولي من فضلة ريقك ما تتدافع فيه الكلمات
ولي عين ربّتها الخنساء
أختار دواة القدّيس
وبوصلة الأعمى
وأدبّ دبيب الحمّى
وأشكّلها الأضواء
أنا لم أختر صلصالك بعد
ولم أتوسّل نارا من ضلعي
لم أقبس من روحي طيرا
لكنّي أبصرني أحبو في إثرك
وأرشّ النسيان على الأسماء
فاتك أنّي لم أرفع من كفّي
غير ظلال أصابعك
فاتك أنّ الضّوء النّائم بين الأرض وبيني
لا يحلم بي
بل يتذكّر
التفتي نحوي أيّتها الموعودة بي
مازلت أردّ الخوف عن الكون وأرتعش
أكون أصابعك
أكون أغانيك
أكونك
مرتاحا أبدو، لكنّي أرفع أكوانا بالكتفين وأكوانا
بالصّدر العاري
أرفع بوصلة الأطيار بسمعي
وأحيّي الأشجار إذا مرّت
التفتي
كي أرسم لك أجسادا من أغصان الكرم
أكون المشدود إلى لغة الفردوس، أرى
أزواجا لم ترفع في الفلك وأهرامات
تنبت في إبط التّاريخ بلا سبب
ملفوفا بهتاف الماء أشمّ هواء مخضّرا
وأربّي فاكهة الظّلمة
أنا أنا، من قبل ومن بعد
لأجلك أبتكر سماء وألوّنها
وأقود الأسماك إلى الصّحراء.
شوق
كان الرّعاة يمازحون شياههم
والشّمس تضرب بالخريف ثغاءها
أنا كنت محض شجيرة تمشي مع الأشجار
تتلو آيها
وهتفت بي
طارت ظلالي من على كتفيّ
وانسكبت يداك أما.
معناها الجديد
كانت أغانيها غصونا تقفز الأطيار منها
والهواء يردّها
خوفا عليها
ليتني نغماتها
سكرانة الكلمات تعثر
كلّما سارت إليّ أخالها
ضنّت عليّ
فأقتفي خطواتها
فكأنّني أتعلّم الأشياء
عند حضورها
وكأنّ معناها الجديد غيابها.
لا غفلة للأحجار
لا غفلة للأحجار
تظلّ تراقب باب السّرّ وتقرأ طالعنا
هل كنّا منها قبل الطّيران
وهذا الرّيش
أكان حروف تنبّئها
والزقزقة، أكانت بعض تنهّدها
ليكن!
ستدور الرّيح كما دارت من قبل
تدورالأرض
تدورالوردة في دمها
والموجة في عين العاشق
سنغنّي لملاك يمنحنا دهشته
لا شيء يفسّر غربتنا
الشّمس هي الشّمس
تطلّ من الشرق، تطل من الغرب
من الأمس، من الغد
أو من شرنقة في الحلم
لنا ما يفتح للأجنحة سماء أخرى
ولنا الكلمات.
أختار سور البيت
أختار سور البيت
هذا الدّائريّ
أشدّه من كفّه اليسرى
وآخذه معي
سيكون حضنك يا أبي
سيكون حرّا مرّة أخرى
معا
سنسير في الطّرق القريبة
ربّما
ستكون ثالثنا
إذا أحببت جمّعنا الحدائق حولنا
والبحر والسّحب التي تخفيك في ألوانها
انظر
كأنّا في بياض الكون دائرة
كأنّ الأرض تخرج للأنام لسانها.
خوف
قلنا كلاما للغزالة أغضب الصّحراء
قلنا الّرمل سجنك يا سميّتنا
وهذا الأفق سجّان
وأنت تحوّلين قوامك المجروح
من ركن إلى ركن
وتستبكين مسكك
حاذري!
البحر يوشك أن يردّ رماله
والشّمس توشك أن تردّ الماء.
***
حياة الرايس
- من مواليد تونس العاصمة، عام 1954.
- بكالوريوس فلسفة من جامعة بغداد كلية الآداب، 1981.
- أستاذة فلسفة.
- عضو بإتحاد الكتاب التونسيين.
- عضو الصفحيين التونسيين.
- عضو بجمعية المؤلفين والملحنين التونسيين.
- رئيسة رابطة الكاتبات التونسيات.
- مراسلة معتمدة لجريدة الشرق الأوسط والحياة اللندنية.
صدر لها:
- ليت هندا، مجموعة قصصية، تونس،1991.
- جسد المرأة / من سلطة الإنس إلى سلطة الجن، مسرحية شعرية، عن دار سينا القاهرة، 1995.
- المرأة ـ الحرية ـ الإبداع، عن مركز الدراسات والبحوث والإعلام تونس، 1992.
- سيدة الأسرار / عشتار، طبعة أولى 2003، طبعة ثانية 2004.
إرتجاف المساء في حضن السماء
النجوم تتهامس:
آلسّماء تتجمّل للمساء
تأخذ مشطها
تفرد خصل
آلظلام
على كتفيها
وتنحني بدلال
للمساء
ترصّع الجسد
بلآلئ أوشام متناثرة
تبتسم المرآة في يدها
عند إستدارة البدر
تكاد تبوح
بالسّر
الساكن
في عتمة القلب
ينتظر شهقة البرق
ليمزّق عنه ـ غشاءاته ـ السّبع.
ــــــــــــــــ
كان المساء
يرتجف
تحت ظلال
السّماء
ملتحفا بألوان
الغروب
مقرورا متدثرا
بمخمل الظلام
جاثيا بين يدي
السّماء:
لا تتركيني للشمس
يذيبني شعاعها
فقد رقّ القلب
وتلاشى الجسد
كالشمع
وما عادت لي
قدرة
على التكرّر
فقد
أعياني
الضياء.
ـــــــــــــــــــ
قبل الفجر
يقبّل المساء
خصل الظلام
ثم ينسج منها غبشا
ويصنع ظفائر
لزوارق الايام
يسافر المساء
فتنهدُ أوتاد
السماء
تسقط خيمات
المخمل السوداء
في النسيان
تكبو السماء
تتذكّر
تسقط دمعة
بحجم غيمة:
كم أنت هشّة ؟
يا كائنة من ماء !.
ـــــــــــــــــــ
سالت الدمعات
القطرات
الغيمات
حرّى حارقة
مالحة
على خدّ المساء
كان يلتقطها
بشفتيه
ويترشفها
قطرة قطرة
من أدغال
شعرك
ومن غابات
الظلام
كالنبيذ المعتّق
في خوابي
العمر
مستجلبا من ممالك
الحرمان.
ـــــــــــــــــــ
وفي حرير
الحضن
يسري في
أوصاله الخمر
فيمرغ وجهه
في مخمل
العشب
ثم يسند رأسه
للقمر وينام.
ـــــــــــــــــــ
مرّ به النهر
القادم من عيون
السماء
فأخذه في غفلة
أو في غفوة
وساقه إلى جنّة
لا يدري هل هي
حوض الفناء
أم حضن حـــوّاء ؟.
ثم ّ يخرج مجنونا من النشوة
يتخلل البرق
جدائل المطر
ثمّ يخرج
مجنونا
من النشوة.
ـــــ
يهرب البرق
من المطر
في كلّ إتجاه
خشية البلل.
ـــــ
تتناثر النجمات حبّات المطر
وعلى صدر السماء
لترصيع وشاحها
كلّما أبلاه الصحو
والضجر.
ـــــ
يتّكئ القمر
على حافة شرفتة
ويتساءل:
كيف تنسج
إبرة
المطر
كلّ هذه
الدانتيلاّ
في العتمه ؟.
ـــــ
يستيقظ الماء
غريبا
في السماء
فينهمر شوقا
على صدر
العشب.
ـــــ
يتدحرج
المطر
نشوان ثملا
بعودته إلى
الرحم.
ـــــ
يسيل المطر
سواقي
فينقش وشما
على وجه
أنثاه.
ـــــ
يفاجئ المطر
الأرض
بأنوثتها
المنسية.
ـــــ
وحده المطر
يثير
رعشة
الأرض.
ـــــ
من فرط
غربته
يهرب المطر
من السماء
إلى الأرض.
ـــــ
الرعد صرخة
المطر
لمّا يغادر
رحم
الغيمة.
ـــــ
ملّ العشب
الإستلقاء
إلى الشمس
إنه يشتهي لو
يتدثّر
بغيمة.
ـــــ
يشدّ قوس قزح
خصر السماء
لتختال تيها
دون أن تسقط.
نداء إلى صلاح الدين
تسهر الأمهات
يهدهدن أطفالهن
في مخمل من الحنين.
وتسهر أمهات
يرتقن أشلاء جثث أطفالهن
إبن الخامسة
وذو الحولين
وذو الشهرين.
ويقسمن
أن لا يطلع الصبح
حتى ينبت بين احشائهن
من جديد جنين.
ـــــ
تتنزه الأمهات
مع أطفالهن
في جنائن الوقت.
وتنقب أمهات
بين الأنقاض
عن رائحة أرواحهن
هذا كراسه
وهذا إسمه على كتابه
هذا إصبعه
الذى لا تعرفه إلا أمه
هذا البوم صوره
تخرج منه إبتسامته
تضمد غضب الشفتين
هذا صوت أنينه
وهذه آخر أنفاسه
وهذه يده تخرج من بين الأنقاض
لتمسح دمعة أمه.
ـــــ
آه من يمسح دمعنا
غيرك يا صلاح الدين
فقم وأطلق سراح الطفولة الموؤودة
تحت الأنقاض.
دمعي يستجير بقبرك
يا صلاح الدين
فلا طفل
ولا زوج
لا أرض
ولا عرض.
والعدو لا يستثني بلدا
وحلم بني صهيون من الفرات إلى النيل
إدركني يا صلاح الدين.
ـــــ
آه لو تعلم
باي جرح مات" درّتنا "
يا صلاح الدين
لقد كان ينزف محتضرا
بين جرحين
جرح رصاص العدو
وجرح الصمت العربي.
في حضن أبيه كان
يرتجف على شفتيه سؤال وأمل
هل يمكن أن أجد في القبر وطن ؟
أغثني يا صلاح الدين.
ــــــ
آه لقد إتسع الجرح
يا صلاح الدين
وغار نازفا من الجولان
إلى لبنان
إلى العراق
إلى فلسطين.
وترميم الجراح بالجراح
"كتكسر النصال على النصال"
يحتاج إلى متاهات من الحب
ويهفو إلى واد من الحنين.
وأنا أفتقد وجهك
يا صلاح الدين
وأفتقد يدك تدفئ يدي البارده
وأفتقد وميض عينيك
يسبقني إلى الشمس
يضيئ أعماق جسدي الميّته
ويرتق جسد الوطن المثقوب
برصاص القبيلة
التى تقتتل فيما بينها
من أجل عذرية النساء
شيخها يحلم كل ليلة
بفتاة عذراء
وأنا أحلم بأرض عذراء
لم تدنسها قدم ذلك" النتن ـ ياهو "
ولا قدم
"أصل الشرور" من بعده.
زوجي يشك بي
يا صلاح الدين
عندما أسرح
يتصور أنني أفكر برجل آخر
وأنا فعلا أفكر برجل آخر
برجل يستطيع أن يرد لأطفال العراق لعبهم
ويرد للأرض العربية كبرياءها.
***
عادل المعيزي
- من مواليد بوسالم ولاية جندوبة، عام 1969.
- الأستاذية في العلوم القانونية.
- ماجستير في العلوم الإدارية.
- ماجستير في العلوم السياسية.
- يعمل مستشار في وزارة المالية.
صدر له :
- وطّن القصيدة، شعر، عن دار الأطلسية تونس، 1998.
- أحبك حين أحبك، شعرعن دار المطابع الموحدة تونس، 2002.
- حكمة العصر، شعر، عن دار المطابع الموحدة تونس، 2003.
- أمس منذ ألف عام، شعر، عن دار الفارابي بيروت، 2005.
كَأَنَنَا جَسَدَان في رُوحٍ وَحِيدَة
الّليلُ فاتِحَتِي وفاَِتنتي القَصِيدَةْ
الّليلُ أشواقٌ مُضرّجةٌ وما يأتي من الأحْراش ِ
مِنْ تَعَبِ العَوَانِسِ في مَوَاوِيل ِالرُعَاةْ
اللّيلُ ما تأتي بِهِ الأحْزَان ُوالذِكْرَى
وما يُرْسي مَعَ البَحّارِ مِنْ خَلَلِ السُّبَاتْ
والّليْلُ يَمْضِي
مِثْلَما تَمْضِي برونَقِها البديعِ حِكايَتِي
وتُفكّرينَ هُنَيْهَةً في ما أفكّرُ
أو أدرِّب ُحَدْسِيَ المشنوقَ
فيمَا تَحْدُسِين وتَنْطِقينَ
بما أقولُ مِنَ الكِناياتِ الجَدِيدَةْ
لَكَأَنَّنا جسدانِ في رُوحٍ وَحِيدَةْ
وَكَأَنَّّنا أرضٌ مِنَ الأحْلامِ والأوْهَامِ والأنْغَامِ
نحْلُمُ دائما بسبيلِ نَجْمَتِنا البَعِيدَةْ
لكَأنَّنا نبضٌ فريدٌ في جُمُودِ فُصُولِنا
وضُمُورِ زَنْبَقِنا الحَزِينِ
وخَفْقَةِ القُبَلِ السَعِيدَةْ
مَاذا نُعِدُّ لِرحلةٍ
وَرَحِيلُنا
ذهبًا سيزهرُ ثُمّ يُزْهِرُغُصْنُ دَاليةِ المَدَى
ذاك المَدَى
مثلَ القصيدةِ
حِينَ تَعْلُو ثمَّ تَهوِي
في السهُوبْ
وتَظلُّ تَصْرُخُ في سُكونٍ
ثُمّ تَخِفقُ ,خَلفَ تَلٍّ
مِن جليدِ اليأسِ في نُسْغٍ عقيمْ
وتـَزِيدُنا حُزْنًا إذا جَاء الغُرُوبْ
ونظلُّ نَسْمَعُ رَجْعَها منِ وَراءِ البحرِ في صَمْتٍ
وَنعشقُ غيْمَةً تُصْغي إلى أجْسَادِنا مَغْلولَةً
فَوْق الصَّلِيب
وأعُودُ خلفَ طُفولَتي
أمْضي إلى أمّي
تُسَلِّمُني مَقاليد الحكايةِ حين تَرْفُو
جَوْرَبيْ حُزْني
فأسمعُ نبْرةً تأتي مع الوادي
مُبَلّلةً بِشوْقٍ عَارمٍ وصدًى كئيبْ
ماذا نُعِدُّ لِمَوْتِنا الوحشِيِّ
حينَ يداهمُ الحُلمَ القَليلْ
وحينَ تَمْتَثِِلُ القُبورُ
كَأنَّنِي قُرْبانُ رُوحي أَو كَأَنَّ دَمي
طَرِيقٌ للفَرَادِيسِ الشَرِيدةْ
ماذا نُعدُّ لأزْمنةٍ جديدةْ
والأرضُ خَاليةٌ ومُتْعَبَةٌ مِنَ التَطْوَافِ
حولَ جَحِيمِهَا
مَاذَا أُعِدُّ لِزَهْرَةِ القَلْبِ العَليِلْ
هَلْ أَقْطِفُ القَمرَ المُضَاء بِغَابةِ الأشْواقِ
منْ لوْحِ الكَواكِبِ كَيْ تُهَدْهِدَهُ يَداكِ ؟
أَأَزْرَعُ الجُمَلَ اللّطِيفَةَ في حَديقَةِ عُمْرِنا
لنَكُونَ أجْمَلَ
أمْ أُوَزِّع سحرَنا في الكون كيْ يَتَدثّرَ الأطفالُ
باللُعَبِ البَريئةِ ؟
كَمْ مضى مِن سِحْرِ عُمْري
دُون أنْ أبْني
بما أوتيتُ من لغةٍ
قُصُورًا أو قُرًى
لأرُدّ عنّي مَرّةً عبثَ الخَليقةِ
كم أصدّقُ دائما ظلّي
وأحلام الرِفاقِ
لأستفـيقَ على بقايا المسرحِ الهزليِّ
مَنْ مِثْلي يُصدّقُ أنّ تونِسَ مِثْلما أحْبَبْتُها
تأتي إليَّ بفتنةِ الصحراءِ تَرفُل في الحريِـرِ ؟
ومَن يُصَدّقُ أنّني أبكي إذا فَكّرتُ يَوْما
في الرحيلِ
بِرَغْمِ ما تَلْقَى الوُرودُ
منَ العَذابِ الصِرْفِ ؟
مَنْ سَيُصَدِّقُ الرُؤيا
بِلاَ شكٍّ إذا أحْتَرقتْ حمامَتُنا الأنيقَةُ
فَوْقَ مِحْرَقَةِ الخِيانَةِ
أو تَلاشتْ
مُعجِزاتُ العَصرِ في صمتِ الفقيرِعلى الغنيِّ
وفي مُناورةِ الغبيِّ على الذكّي
وفي مُراودةِ الوفيّ
وفي مُعاداةِ الزكيِّ
وفي مُناصرةِ السبيِّ على الصبيِّ
وفي مُؤامرةِ الشقيِّ على النبيِّ وفي...
ومَنْ سيُصَدّقُ الرؤيا إذنْ
والأرضُ صارتْ غيْمةً صُغرى
ونحنُ رذاذُها المَحْبُوسُ في سِجْنِ الأنينِ
وفي الرّدى
والإقْتِصَادُ الحرُّ يَحْلمُ مِثْلنا
بِتَحَرُر السِلعِ الكثيرةِ
مِن قُيُودِ الاستِعاراتِ القديمَةِ
والمِحِنْ
والعَوْلَمِيَةُ أصْبَحَتْ يا صاحِبي فرْدَوْسَنا المَوْعودَ
في الكُتُبِ المقدّسةِ الجديدةْ
والله صارَ مُعَوْلمًا
ومُوَزّعًا مثل الحواسيبِ العديدة
قُرآنُنا صُورٌ وأزْرارٌ وألْغازٌ إذا نزلتْ
على أرْوَاحِنَا
لمْ نَسْتَطِعْ أن نُدْرِكَ الفرقَ الجميلَ بداهةً
بيْنَ التيمُّمِ والوُضُوءْ
هيَ ذي دِيانَتُنا الفريدةْ
وَدِيانتي
تَمْشي بِمُفرَدِها وَرَاءَ جَمَالِها المَهْدُورِ
بالدّمِ
والمجاعةِ
والفجائعِ
والخطاباتِ السَدِيدَة
هكذا يخرجُ الشعرُ الغريقُ من الطوابيرِ
الدنـيئةِ كيْ يُغَنّي كلّما حَانَ الغِنَاءْ
لكأننا جسدانِ في روحٍ وحيدةْ
وكأننا أرضٌ من الأحلامِ والأوهامِ
نغرقُ خلفَ غَيْماتٍٍ بعيدةْ
يا قلْبِيَ المسكونَ بالإشْرَاقِ
أينَ سَأزْرَع المَعْنى الجَدِيدَ ؟
أَلَيْسَ مِنْ حَقّّي مُعَانَقة الأغاني في المدى؟
حتّى إذا نهضتْ يدايَ
كَسِرْبِ طيْرٍ تنهضُ الأصْداءُ منْ خَلْفِ
النحيبِ.
لعلَّ ظُلْمتنا تُــضِيءُ دُرُوبَ
مَنْ رَحَلوا إلى الماضي
كأنْ لا أرضَ لي لأحُطَّ فوق أدِيمها
كيْ تستريحَ جوانحي وأطِلَّ منها
كيْ أطيرَ إلى...
ودَمِي رَذاذٌ نازِفٌ كأنّي غيمةٌٌ
وكأنَّ أعْضائي كِتابةُ شَهْوةٍ
ماذا تبقّى لي مِنَ الشهواتِ
كَيْ تزْدانَ أشْواقٌ ؟
وكيف يُقاوِمُ البحرُ العنيدُ ضآلةَ موْجِنا ؟
ويُعَلّمُ التاريخُ سِحْركِ للمُحاربِ
كَيْ يَذُودَ عن الوطنْ ؟
ماذا أُعِدّ لِـلَيْلِنا المسْكونِ بالأسْرارِ والأقمار؟ِ
والعُمرُ يبكيهِ الزمنْ
مُنَدّاةٍ لأظَلَّ مفتونًا بأضواءٍ وَأوْدِيةٍ
سَتأكلُ أحْرُفي إنْ بِعْتُها
ماذا أُعِـدُّ لحاجبيْكِ يَطيرُ حوْلهما
الخُطـافُ ليَسْتريحَ على يدي
أيَكَونُ لـي أنْ أستريحَ على يَِِدِي
وأجيءَ مِنْ عَبَقِ الغِوايةِ أو أُعانقَ وحْشتي
في الحلم ؟
مُنْفَردًا بِذاتي لا أُطِلُّ على أحدْ
أَوَ لاَ أحَدْ
يَتَبَادَلُ الألمَ الوجيـهَ معي
وكيفَ يَقـودُنـي تَيـْهي إلـى قَيْحٍ منَ التاريخ ِ
عَفَّرَ سِحْـنتـي فيما أُصَـلـّي صـَامِتا
خلفَ الأيمَّة في مساجِدنا التي نَبَتَ الحصارُ
على مَنابرها وَعَفّرَها الََّتنـاحُرُ
والأيمّةُ يهتِفونَ بـ:
قُلْ هو الله الصَمدْ
وأنا كَمَا القُربان مُخْتَنِقٌ
بِحَبْلٍ مِنْ مَسدْ
أ وَ لاَ أحَدْ
يتألَّهُ في عصْرِنا المَفْتونِ بالقتْلِ المُرَتَّبِ
في قَوَاميسِ العذابِ وفي الصَّدَى
غيْرَ السَّلاطين الجُددْ
أَوَ لا أََحَدْ
كالِّلصِّ يخْرُجُ مَرّة عن طوْرِهِ ويقولُ: لا
هَلْ صارتْ الكَلِماتُ ضَيّقَةً كَسوقِ الشُغْلِ
والشُّقَقِ الحَدِيثَةِ والبَلَدْ ؟
لكأنَني شُهُبٌ تُـضِيءُ عَلى يديْكِ
وترْتَوي منْ خَوْفِنا غَيْماتُهُمْ
والبَحْرُ لا يكفي لأطلقَ نورسَ القُبلِ
الغريبةِ كيْ يَحطَّ على شِفاهكِ مرَّةً
ننأى
ويفْتِـنُنا الأبدْ.
ماذا أُعِدُّ لكيْ تَحُطّ على بَراريكِ البدايةُ ؟
أوْ أظَلُّ كأنَّ بي طيفًا يُراوِدني على الإفصَاحِ
أوْ لِتَظَلَّ مُطْلقةًًً يدي طيْفًاعلى قيد العناق
ماذا أُعِـدُّ
وَكيْفَ أحْبِسُ دَمْعَتي وأقولُ مَرْحَى
كُلَّمَا سَقَطَتْ طُفُولَـتُنا الَخجوَلُةُ
..؟ في العِراقْ
كأَنَّني أهْذِي وأسْتَجْدي
مِنَ العَرَبِ الأشاوِسِ دائمًا
قُـدُسِيَّة الصحراء
كيْ أُرْمَى على ظهْرِ البُراقْ
لأطِلَّ مِنْ أعْلى الجَحِيمِ
على مهازِلِنا البديعَةِ أو أُطِلَّ على فَدَاحَةِ خَوْفِن
لكأنّنا نَهْذي إذا ضَجِِر السَّميعُ
وكَفَّ عَنْ كَلِماتِنا كَمْ قارِئٍ
متَقَلّداً يأسي إذَنْ
وَمُنازِلاً صَحْرَاءَ عُمْري
قائِدًا نَدمي إلى نَدَمٍ جديدْ
مُنْشِدًا حُرِّيَتي و مُراوِدًا
نَغَمًا شَرِيدْ:
لَكأنّنا جسَدانِ في روحٍ وحيدة
وَكأنّنا أرْضٌ من الأزْلامِ والأوْهامِ
نَعْلَقُ دائِمًا بِسَبيلِ غُرْبَتِنا البعيدهْ.
الفتنة الآهلة
خَلْفَ أعتابِ الفراديسِ تَعَلّمْـتُ أغـانيَّ
وصَوْتي غَمْغَمَتْ أطْرَافُهُ مِنْ خَـلَـلِ الفِتْـنَةِ
حَتّـى هـزّني البَرْقُ وفـَتّقـْتُ غُيُـوبي
إن تُحِبّيني قليلا... قُلتُ
والضَوْءُ تَخَفَّى صُدْفَـةً
في عَتْمَةِ الدّيرِ المُحاذي للصّواري
سيذوبُ اللّيلُ في الفَجْرِ العليلْ
ثمّ تأوي للكهوف ِالبـارداتِ
حشْرَجَاتُ العصر في لوْنٍ حزينْ
ويُواري العُمْـرُ ما كُنتُ أُوَاري
ويَفيضُ الوجدُ من نهرٍ قَتِيلْ
إن تُحِبيني قليلا... قُلتُ
والماءُ حُبابٌ
يتهادى مثلَ عزفِ النّاي
في سِحْـرِ النّواعيِِرِ
سَأُصْغي لصبيٍّ نائمٍ في داخلي
أُوقِدُ الدّمعَ الّذي غنّى لِعُزْلاتي
وأُهْدي للشُجَيْراتِ خيالاتي
وأهديها رُفاتي
ويحيد ُالموتُ عن قبري
وأهواكِ وأنسى
أنّني كنتُ رمادًا لَمْ تُحِبـّيهِ
ويقول الوقتُ للأعوامِ ما كنتُ أُدَاري
أنتِ نَيْرُوزٌ لهذا القلبِ:
أنتِ النّصلُ في يَأسي
كَأنّ الحُبَّ تََََرتيلٌ وأعيادٌ
كأنّ الحبّ ما ظلّ على السّفحِ
إذا جَفَّتْ أغانينا
كأنّ الحبَّ دَوْمًا
دفْقُ ناياتِ الغيابْ
أنتِ من أعطيتني برْقًا لأنساقَ
إلى نهرٍ من الأضواءِ
مأخوذًا
بفجرٍ قادمٍ من فُرْجَةِ الأبوابْ
مأخوذا
بفردوسٍ جديدٍ نابتٍ في ثغركِ المُزدَانِِ بالخمرِ
ومأخوذا كثِيراً
بالْتماع الخِصْرِ في هذا الظّلامْ
أنتِ مَنْ أطْلَقتِ خَلْفي فِتْـنَةَ الأرواحِ تَرْنُو
لانْـتِحَارِ العِطرِ في جيدٍ رُخامْ
أنتِ مَنْ هامتْ بها أندلسٌ
مَنْ خَجِلتْ مِن سِحْرِها بابِلُ
مَنْ زُلْزِلت الأرضُ إذا غنّتْ
وأنتِ
مَنْ تهَادَى اللّيلُ مَفتُونًا إذا نِمْتِ
وأنت
مَنْ تَداعى الطُّورُ مَخْبُولا إذا قُلتِ
وأنتِ
من تُصابُ الشّمسُ بالذلِّ إذا جئتِ
وأنتِ
مَنْ تَـَنـَزَّلْتِ كلامًا في كلامي
وأنتِ
من أشارتْ: كُنْ
فكنت من حطامي
وأنتِ
كُلّما غِبتِ تتالتْ خلفَ أطيافكِ روحي
وتداعتْ مِنْ شِفاهي مُعْجزاتي
وأنتِ
فرّ مِنْ دقّاتِه قلبي وفرّتْ كلماتي
وأنتِ
هَامَ في عَلْيائه النّجمُ
وكان العِقدَ إن أنتِ تََـَحَلَّيْتِ
وأنتِ
فرّ من أمواجه البحرُ
وكان الحِضْنَ إن أنتِ بكيتِ
وأنتِ
فاحَ من خدّيكِ شِعْرٌ
وتََََـغَـنّتْ في رَوابيكِ طيورٌ إن ضحكتِ
وأنتِ
غادَرَتْ جسمي قبورٌ
وتهاوَتْ إثرَ خَطْوي
نغْمَةُ الموتى سَريعًا إن حَلَلْتِ
وأنتِ
إن تحبّيني قَليلا
قلتُ مُنسابًا
وغَلْغَـلْتُ يدي في شعرها اللّيليِّ
وتذوّقتُ رحيقَ الثّغرِ
فيما العزفُ ينهالُ
على نافذةٍ في الطابقِ العُلويّ
إن تُحبّبني قليلا
قُلْتُ مَخْطوفًا
بِمَرْأى النّقشِ في أعْمِدَةِ الدّيرِ
وفي سقفِ القِبَابْ
وبمَرْأى البحرِ مِنْ خَلْفِ المَصاريعِ
ومِنْ خَلْفِ أفانـِينِ الحِجابْ
إن تُحبّيني قليلا
قلت مَسْبُوهًا
بكشْفِ النّور مِنْ خلفِ التعاويذِ
سَنَهْمِي في الأقاصي وكأنّ العُمْرَ
لا يمضي على غيرِ هُدًى
نَـنْـثرُ ما يـُلْـقي لنا اللّهُ من الوَحْيِ
على سِحْرِ البوادي
وبِلادي
سوْفَ أهْواها وإن جُعْتُ بلادي
إن تُحبيّني قليلا فَقَلِيلا
سأُعِدُّ الأرْضَ دفْـقًا يمخُرُ الصَّمْتَ
وضوءً من عُطُورِ الآلهاتِ
ويكون الموتُ عندي مُسْتَحِيلا.
أقصوصة العائد
مُمْطِرٌ لَيْلِي
ورُوحي تَتَهَادَى
في دُجى الأيّامِ أضْناها الخَرِيفْ
عائدٌ وحْدي
لأصْغِي لِعَنَاءِ العُمْرِ يَهْمي
مثلما تَهْمي خُطاي في الرّصِيفْ
وأرَى ما كُنْتُهُ منذُ تفارقْتُ
مع الطّفلِ الّذي ظلَّ صَدَايَ في الحُرُوفْ
مَطَرٌ مُسْتَوْحِشٌ يسقي القناديلَ
وَيَنْمُو العُشبُ فوْقَ السّطْحِ
يَطْفُو الضّوءُ فوْقَ الغُصْنِ
والغَمْرُ يُوَشِّي رَعْشةَ النُورِ على الإسْفَلْتِ
والخَطْوُ جريحٌ ضَمّهُ المَاءْ
مطرٌ مُسْتَوْحِشٌ
تنمُو اليَنَابيعُ
على أغنيةِ الحيِّ القَديمْ
وأنا قلبي كما القبوُ يُضِيءُ اللّيلَ
والعِطرَ الّذي دثَّرَهُ تِبغِي العَقيمْ
ما لأَوْرَاقِي جُيوبٌ كيْ أُوَاري الحبْرَ
خَطّتهُ يَدِي
ما لأحزَانِي صُرُوحٌ تُرجِئُ الموت الّذي
يعْصِفُ مثلَ الريحِ في أعْتابِ رُوحي
وقفتْ أقداميَ الثكْلَى على بابي العَتيقْ
وَوَلِِجْتُ البيتَ
أوْقدْتُ مَصَابِيحِي الكئِيبهْ
وتذكّرتُ غِيابي
واغتِرَابي
وَموَاوِيلي الطَوِيلهْ
ورَحِيلي بِجَناحٍ بائسٍ لا عُشَّ يَأوِيهِ
ولا ريشَ من الحُلْمِ يطير
ليْتَنِي كُنتُ سلحفاة وأدعو الكونَ ضيْفي
ليْتني كنتُ سِتارًا أرْتدِي شَكلِي ولكنْ
صَامِتا كانَ أثاثي كالتوَابِيتِ
تحيكُ اللّحنَ للمَوْتى وتغفُو
وغُبَارُالوقتِ غَطّى كُتُبِي
هَهُنَا رَفٌّ حَزِينٌ ماتَ فيه القُدَماءْ
تلك قارُورَة ماءٍ قدْ غَدَتْ كالرَاهِبَهْ
وهنا طاولةٌ مِنْ أتْرِبَهْ
وسَرِيرٌ شاخِصٌ نامَتْ عليهِ
آلِهَاتٌ مِنْ رُطُوبَهْ
وهُتافِي حدّثَ الأشياءَ عنْ ماضِي اللّيَالِي
حِينَ كانَ اللَّغْوُ خُبْزَ الأصْدِقاءْ
وعلى سَطْحِ الخِزَانة
أرَضٌ هََامَتْ وأشوَاقٌ رَقِيقةْ
وَعَلى أبْوابِها البُنِّيَةِ السّوداءِ
ظلّتِ الأقمَارُ مُوسِيقَى
تُغنّي للتماثيلِ الصّغيرةْ
كمْ حَلُمْنَا أنّها كانت تُغَنِّي
للتماثيلِ الصّغيرةْ
كم حَلُمْنا بالمَرَايا تَعْكِسُ الأصْدَافَ
والبَحْرَ البَعِيـدْ
والثريّات العتيقةْ
عِندمَا تنصَرِفُ الرُوحُ إلى عَالمِها الليليِّ
تزْدَانُ بأضْوَاءٍ عَمِيقةْ
نَبَتَ الشوْكُ على رُكنِي
وفي كلّ جِهاتِي
عَرَّشتْ أجْرَاسُ صَمْتي
وَوَطَاوِيطُ الغِيابْ
وعَلَى الكُرْسِيّ ألفيتُ خَيَالِي
جالسًا في دَعَةٍ منذ سنين
يَرْقُبُ السقفَ الّذي قدْ يتَداعَى في السَرابْ
كيْ يَمُوتَ الشاعِرُ المحْبُوسُ
في لَسْعِ السُّؤالْ
ويُوَارِيهِ تُرَابٌ
لِيُرِيحَ الكَوْنَ
مِنْ جَمْرِ القِتالْ
وسألتُ الطَّيْفَ:
كيْفَ الوَقتُ قد صَارَ خُرَافهْ
خلفَ أفقٍ غادرَ الأعماقَ والحِكْمَةََ نِبْراسُ الشيوخْ
كيفَ جاءتْ سنةٌ تِلْوَ سَنهْ
ثمّ ضاع َالعُمْرُ بَيْنَ الأرْصِفَهْ
كيْفَ صَارَ البيْتُ وكْرَ العنكبُوتْ
وأَزِيزُ البابِ قد صَارَ دِماءً
تجْرَحُ الصّمتَ إذا سَالتْ بَعِيدًا في خُفُوتْ
كيفَ قضّيتَ شُجُونَ العُمْرِ وَحْدَكْ
ولماذا لم تُعطِّرْ مِنْ مَرَايَا الدُّودِ
لَحْـدَكْ ؟
ولماذا لمْ تُغيّرْ مِنْ أثاثِ الرُوحِ
غير الأسئلهْ ؟
ولماذا لم تُهَاجِرْ مثلما هَاجرتُ
نحْوَ الريحِ أو نَحْوَ غُبار الأمْكِنَهْ ؟
وتُؤثّثْ بالرؤَى مَنْ جاءَ خَلفِي
كيْ تُسَجِّي نَعْشَ فجْري وتُضِيءُ الآن
فَجْــرَكْ
ولماذا لم تُقاتِلْ مِرْوَحَاتِ العصْرِ مثلي
وتَرُدَّ المَوْجَ للبحرِ إذا فَرَّ بَعِيدًا
وتَصُبَّ الماءَ في الغَيْمِ
وتَنْـثُرْ في خُطى المَاضِي تَعَاليمَ البَوَادِي
لأرَى في أيِّ بَرٍّ يَلتقي ظِلّي
وظلّـكْ
ولماذا لم تُسَافر في أنينِ الكوْنِ
تَسْتَجْلي الحَقيقهْ
لِتُضِيءَ الدّرْبَ للأجْيالِ
بَعْــدَكْ
وتَجُوبَ الرِيحَ كي تَعثرَ عمّا
يجْعَلُ الأحلامَ لا تَذوِي إذا صَارَتْ
سِرَاجًا لِضَرِيحي أوْ غَدَتْ كهْفًا
لِنَجْمِـكْ
ولكيْ تَعثُرَ في أقصَى ارْتِفاعَاتي على طُورٍ
ـ لِتُعْلِي رايةً قبلَ انْحِدَاري ـ
وعلى الحُبِّ الذي يَكفي
ليَفْنَى القتْلُ كيْ يَحْيا القتيلْ
بيْنَ أحَضَانِ الّتي تَهْوَى إذا تُهْتَ
وأضْناكَ الرَّحِيلْ
وتعودُ الآن مثلي قائدا مُنْهَزِمًا
عَرْشِي مُدُنٌ مذبوحةٌ
والقلبُ رِهانٌ خاسِرٌ واليأسُ فُرْسَانِي
ودِرْعِي وجعُ الخَيْبَاتِ
والفوْضَى سَبِيلْ
وتَعُودُ الآن مِثلي مَلِكًا تاجِي جُرُوحٌ
أَزْهَرَ الدُودُ عليها في ذُبُـولْ
كاشِفا سِرَّ البُيوت المُسْتحِيلَه
إن نَضَتْ عنها المراتيجَ
وحَثَّتْنَا على الشِّعْرِ
لِئَلاَّ نَتَلاشى ـ في الصّحارَى ـ كالغُيُومْ
وتعُودُ الآنَ مِثلِي عَارِفًا مَعْنى الهَزِيمَهْ
عارِفًا ما تحْتَوِيهِ الأزمِنهْ
وتنِيرُ البيتَ كيْ تأوِي إلى الدُّنيَا القدِيمَهْ.
وأَتَانِي صَوْتُهُ البَالي الرّخيمْ
ليَرُدَّ الاتْهامَات وقالْ في سُكونٍ ضَجَّ مِنْهُ الوَحْيُ سِرّا واسْتَحَالْ:
" أنتَ لمْ تعْرِفْ ظلامَ القبْرِ بَعْدُ
أنتَ لم تُدْرِكْ ضيَاءً ظلَّ يَعْدُو
خلفَ نبْعِ السِرِّ أو خلفَ الحَفِيفْ
أوْ شِراعًا ظلّ يَهْذِي في المَتَاهْ
ثمّ تُلقِيه يدُ البحرِ إلى الآفاقِ
كيْ يرْجِعَ صَمْتا في الشّفاهْ
كلُّ ما حَاوَلْتَهُ أن تَعْتَلِي عَرْشًا مِنَ الأوْهامِ
وَحْـدكْ
هل تدلّيتَ مِنَ الفِرْدوسِ تفّاحًا
وأجريْتَ مِنَ الأكوانِ أنهارَ الضِّياءْ
أنتَ لمْ تُدرِكْ من الإنسانِ إلاّ ما يُنيُرُ الآنَ ظِلّكْ
أنتَ لمْ تعرِفْ مِنَ الأسماءِ إلاّ ما تخيّرْتَ
ولمْ تعْرِفْ مِنَ الأزْمانِ إلا بَعْض وقتٍ مِنْ زمانكْ
أنْتَ لم تعرِفْ من الشِعْرِ
سِوَى بَعْض المَتاهاتِ
ولمْ تعرِفْ مِنَ الأهوَالِ مَا يُضنِي كَيَانَكْ
أَنْتَ لم تعرف مَعَامِي الأبديّاتِ
ولا يُنبوعَ أضْوَائي
ولمْ تَعرِفْ شُرُوخَ الماءِ في النّبْعِ
ولا ماكُنْتَ أهملْتَ من الأطلالِ
في ليْلِ الحَضَاراتِ
ولا ما يَخطُرُ الآنَ على الموْتَى
ولا ما يمنَحُ الأشجارَ سحرًا أبَدِيّا
أَنْتَ لم تعرف شُجونَ اللّه في الخلقِ
ولا ما فاضَ من روحٍٍ عَلَى الكوْنِ
ولمْ تَعْرِفْ عذابَ الغيْمِ في البَرْقِ
ولم تعرِفْ ضَرِيحَ النّورِ في المِرْآةِ
أو سِرَّ التّوابيتِ
ولم تَعـْ (…) ـرِفْ .."
وأَفَقْتُ
لمْ أجِدْ طيفي الّذي كانَ على الكُرْسِيِّ
يَرْنُو من سِنين
لَمْ أَجِدْ في البيتِ غيْرِي
مُنْهَكًا من رحلةِ الأمْسِ العَلِيلْ
لم أَجِدْ غيرَ شُمُوعٍ ذاوياتٍ
كُنْتُ قد أَشْعَلْتُها من قَبْلِ أنْ أَغْفُو
على الكرسيّ وَحْدِي
لم أَجِدْ غير ضجيجِ النّورِ في الأعْتابِ مَفْتُونًا بِها
والأرضُ يكسُوها الرّحيلْ
……… ……… ………
……… ……… ………
وأَصَخْتُ السّمعَ لم ألْقَ
سوى نقرٍ على البلّورِ
والأمطارُ تَهْمِي
وسمِعْتُ
طائرًا مِنْ لهبِ الأصْقَاعِ والطينِ المُسَجَّى
طائرا في الفجْرِ يَرْتاحُ عَلَى شُبّاكِ بيتي، يُغنّي في ذُهُولْ:
" لا تُعَلّقْ حُلْمَكَ الغالِي على قبرِ الحياة فَسَبيلُ النّبع قُربانٌ طويلْ .. "
***
عبد الدايم السلامي
- من مواليد جدليان بالقصرين، عام 1968.
- شهادة الماجستير في الأدب الحديث – جامعة تونس.
- متفقد اللغة العربية بوزارة التربية والتكوين.
- عضو اتحاد الكتّاب التونسيّين.
صدر له:
- محاولات لكتابة وردة، شعر، تونس، 1998.
- سَتي دليلة، نص مسرحيّ، تونس، 2000.
- تمائم الغُيّاب، شعر، تونس، 2002.
- أرق الأصابع، مقالات، تونس، 2005.
الكتابةُ
فيما مضى
كان تعوّد أن يسرق أعضاءَه خِفْيةً
ثُمّ تُرَتِّبُها عُضْوًا على عُضْوٍ يداهْ
قال:
صار لي أن أستضيفَ الآن قلبي
أو سواهْ
صار لي أن أفتحَ الآن شُبّاكَ بيتي لحبيبي
وأعلّقَ العمرَ بأجنحةِ الجوارح في سماهْ
صار لي وردُ الحدائق في يدي
كلّما مرّ
تَعَسْلَجَتِ الحدائقُ في خطاهْ
حين استوى البيت
لم يجد ظلاّ به
فهدَّ ما كان بناهْ.
عتاب
أقول غدا يأتي النهارُ
بالبحر طالعة يداه إلى سَمَايْ
بالعُمر ينبت أخضرَ
بالنبيذ يجيئني مَطرًا
كلّما طردتني بارُ
أقول
غدا يأتي النهارُ
سأُعاتب طيرًا تخفّى بأعشابها الخضرِ كيْ لا يراني
وأعاتب اللهَ أنْ
سَوَّى الطيورَ بأجنحةٍ... ونَسَاني
وأدعوه ثانيةً
أتُشعل شهوتي في الأرض يا مولايْ
وتَمْنَعُني لِساني
ثمّ أخرى
كيف ربّي
علّقتَ حُلمي على حَبْلِهم
ونسيتَ قلبي ؟.
%%الصديق
الذي يدخل خِفْية جيبك
والذي إن تبسّمتَ يومًا
بكى
والذّي يستحي هكذا أن تكون جميلا
وعندك بيت صغير
وأنثى
وقارورة وكتابْ
والذي كالكلابْ
لا يُجيد سوى كشفِ سرّ الذين يمشون في الصمت وَسْطَ الطريقْ
عادةً
عادةً
ما يكون الصّديقْ.
رِيـمَا
طَعْمٌ وحيدٌ لكلّ النِّساءِ
وطعمٌ لريمَا كأنّ العَسَلْ
وكان لريما صباحاتُ لَهْوٍ
وكنتُ غَرِيبَ الهوى
أشْْتَعِلْ
وريما تُجيد الغناءْ
تغنّي لفيروزَ
للنجم ينأى بقطّتها
في خيالٍ وَسِيعْ
لعصفورةٍ في حديقتها
تَنْسُجُ حُلَّةً للربيعْ
لجاراتها الصُّغْرَيَاتِ
يُرَتّبْنَ بيتَ عريسٍ ستحمله دعواتُ العِشاءْ.
ـــــــ
وريما بعكس النّساءْ
فتاة صغيرَه
إذا ما تهدّلَ شعرُ الضفيرَه
تضمُّ القبائلَ في كفّها
تحدّثها
عن مُلُوكٍٍ يَمُرُّونَ مِنْ ثُقْبِ لَيْلٍ صغيرْ
فإن أَشْعَلَتْ طفلةٌ زَهْرَةً في خفايا السّريرْ
أطْفَأوا حُلْمَها في عُوَاءِ الذِّئَابْ
ولكنّ ريما تخبّئُ أحلامَهَا في شَفِيفِ الثِّيَابْ
وتخشى إذا ما مشتْ وَحْدَهَا
يطوفُ الملوكُ بأضوائِها
فالملوك إذا دخلوا قريَةً
الملوك إذا دخلوا قريَةً
وريما تُحِبُّ قُرَاهَا
وتَدْعُو لها بالسَّحَابْ.
حانة
نفسُ الرّائحةِ
ألوانِ النّاسِ
نفسُ البَلَلِ السّاكن في أعلى الحيطانْ
نفسُ الضوء الدّاكن
نفس الأهواءِ
نفسُ أحاديث السّابِلةِ الغرباءِ
عن النسوة والأجْرِ
منذُ الفجرِ
زرتُها
كانتْ سَاقِيَتي
وأنا سيِّدُ مَمْلكةِ النُّدْمانْ
أتذكَّرُ
لكنّها الآنْ
باردةٌ
باردةٌ.
***
عبد الفتاح بن حمودة
من مواليد المهدية، عام 1971.
عضو اتحاد الكتاب التونسيين.
عضو الجمعية الدولية للصحافة.
صدر له:
الصباحات، شعر، عن الدار العربية للكتاب تونس، 1996.
آنية الزهر، شعر، عن منشورات الجاحظية الجزائر، 1998.
أجراس الوردة، شعر، تونس، 2002.
الملكة التي تحبها العصافير، شعر، عن دار الإتحاف تونس، 2002.
عندما أنظر في المرآة لا أفكر، شعر، عن دار الإتحاف تونس، 2003.
الفراشات ليلا، شعر، عن الشركة العالمية للطباعة تونس، 2003.
بِنيةِ حُـب
لم تأت الجميلةُ السمراء في نومه الأول
لذلك لم يأت الليل الذي ينتهي بسرعةِ البرق
لذلك بحيرةُ الشاعر تصعدُ
والناسُ نيام
لذلك هي الشاعرة الخائنة
لذلك هو الشاعرُ الصغير
وها هي بحيرتهُ تصعدُ إلى النجوم.
انتقام البحارة لموت المغنّي
( لقد أضاعوا كلّ شيء ليلتها: الشباك الحريرية ومحصول سمك الرحلة...)
الأول: مازالت أسناني ساخنة.
الثاني: المركب لا يزال على حاله.
الثالث: الشباك مزقتها الريح.
لم يمت أحد أيتها الشمس:
أكتوبر اللاّمع يطرق الأبواب ممتلئا بأصوات السكارى اللامعة.
دكنة الليل أغلى من جدران مغسولة بعناية.
ساعة الحائط مغتبطة بتكتكاتها الطفولية
الصخور التي تقبع داخل البحر انفجرت ضحكا بلا مبررعاطفيّ
المياه نزعت أوشامها
ووضعت مخدة بيضاء مصقولة تحت عنقها الصغير
بوابات الصباح أفرعت جنودها لأنّ الحرب انتهت قبل منتصف الليل
والساحات أكلت مياه العمود الكهربائيّ
وأمطار ذلك الليل.
لم يمت أحد أيتها الشمس:
حوافر خيل أبي نوّاس لا تزال تصهل فوق لحيتي الكثّة
ومياه البحر لم تقرأ أسئلتها البوليسية على أشجار اللوز.
الأول: نحن ضائعون تحت لشمس.
الثاني: الشمس تؤدي رقصنها لنا.
الثالث: شكرا جزيلا للعازفين وأفراد "الكورس".
( فيما بعد ـ بعد إنتهاء الحفل ـ وجدوا على كرسيّ المغنّي قلادة مكتوب عليها: شكرا).
إعادة قراءة للصباحات
افعلي أيّ شيء أيتها الشمس
أجرحي قميصي الأزرق البارد
اضحكي من أنفي المدبب
استهزئي بشفتيّ الفقيرتين
لكن ضعي حبّات لقمح على ركبتين خفت وحدي
من ارتعاشهما
أدخلي ـ بهدوء ـ إصبعين في عينيّ الغائرتين
(لم أعد أرى شيئا ـ أيّ شيء ـ طوال الليل)
لا تخجلي من وضع حبّات الفلفل البيضاء الحارة
في منخريّ
حتّى أسخر من عقاب الأطفال بذلك الشّكل المدهش
لا تخجلي
أفعلي أيّ شيء
ضعي إبرة مذبّبة في مؤخرتي حتّى أتكلّم
رجاء
أفعلي أيّ شيء
لكن لا تعذّبي أصابعي في الفجر
غرّدي أيتها الأغصان هذه المرة ... إلى الأبد !.
سونيتات " إيكاروس "
لن أوجه إليك أية رسالة حزينة بعد اليوم
عليك إذن أن تقلبي هيئة كرسي الجلوس
عليك أن تضاجعي أكثر من أندلسيّ سيهرب من البحر
بعد قليل
عليك أن لا تقتفي مواطئ أقدام جنود الحرب
بل أن تغنّي بنايات القصب المبحوحة مع رعاة المساء
وقبل أن تشعلي قناديل الزيت امسخي ضفائر الصبايا
اللواتي سبقنك إلى الغناء
لا تخشى شيئا
واستدرجي قطيعا من الماعز
من خلال تلك النافذة القمرية لمعطفك
ودون أن تجلسي فوق ربوة من كلمات العشاق
قولي وداعا لعينين مطمئنتين في نومهما
هاي !
يجب أن تنتظري الفراشات التي سأغنّي لها ثانية ! .
مذبحة الرجل الوحيدة في الصباح
لحديقته منقار وجناح
يد تشمّ رائحة المطر
ولقاءات المقتولين
الرجل الوحيد في النافذة العليا
قرب الغيم
يطلّ.
الرجل له صباح
وبرّ
وبحر
وسحب لشوارع تحته
يبحث عن قطعة لوح قديمة
يفكر فيما يخرجه هذا الليل إلى قمر آخر
لكن
لماذا شتمت شفاهي ـ يا حبيبة الرمال ـ
ووضعت عينيّ في شمس لا أعرفها ؟.
(.....)
عندما أدركت الصباح سرت
وحذائي يذكرني بدقات روحك
يأتيني منها غبار
ونباح
صبيات يقطعن طريقي على عجل
عندما أدركت الصباح سمعت عاشقة في النافذة العليا
تسأل جارتها عن ترتيب أسرار الصباح
عندما أدركتها بلّ الندى قمح ذاكرتي
عندما طارت العصافير!.
حريق معاصر
التاسعة ليلا
ضعي ريحك الخضراء في الثلاجة
واتركي لي خمر نعاسك حتّى أتلوّى
همساتك عشب متيقظ
وأنا جنديّ مجهول
يركض في ريح التاسعة ليلا
مرتجفا من ضحكة جفن بينما المياه في الغابة.
اختبار الوردة
بلا خوف هذه المرة
بلا خوف أيتها القابعة في حمّى الأرض
بلا خوف ترفعين الحجارة
بلا خوف أيتها الحبيبة
يا منديل البحر
يا توأم أصابعي
يا توأم الشاعر والنجوم
بلا خوف تفتتين الحجارة.
تأنيث الصوت
تأتي الشاعر أصوات
تجعله هادئا مثل حمام الصباح:
ـ حسناوات آخرة الليل
ـ نجمات يمنحن سراويلهنّ للهواء
ـ ضحكات ماجنة لشفاه حمراء متقرحة
ـ شجرات يتركن سيقانا باذخة في الريح
وأياد تلعقها أبّهة ما...
***
عبد الله مالك القاسمي
- من مواليد تونس العاصمة، عام 1950.
- أنهى تعليمه الثانوي بمعهد خزندار، شعبة الآداب.
- أشتغل بعد التخرج موظفا بوزارة الفلاحة ثم الداخلية ثم الثقافة.
- يشرف منذ 1984 على الصفحة الأدبية لجريدة الأخبار.
- عضو اتحاد الكتاب التونسيين.
صدر له:
- لغة الأغصان المختلفة، شعر، عن دار الأخلاء، 1982.
- كتابات على حائط الليل، شعر، عن دار الأخلاء، 1983.
- مهرجان، مسرحية شعرية للأطفال تونس، 1989.
- هذه الجثة لي، شعر، عن الدار التونسية للنشر، 1992.
- حالات الرجل الغائم، شعر، 1999.
- قصائد للمطر الأخير، شعر، 2006.
إلى هاجَــر
ها جسدي
اشتعلي في ظلمتي
توهجي في بردتي
وفي دمي
أنت طفولتي
كتاب الحلم المنفتح الآن على غدي
فمن يقرؤني ؟
هاك دمي
فلتكتبي
جف دمي
هاك رماد الجسد.
(2)
للمـــرّة الواحده
يستسلم العصفور للقفص
للمرة الواحده
تستسلم الوردة للمقص
وأنت
يا بنيّتي
كم مرّة تستسلمين للسّرير الأبيض
للمرض الشّــرس ؟
لا ترحلي
لا ترحلي
انتظريني عند باب الحلم
قد ينحني الموت
أمام
زهرة القرنفلِ.
عيناك
وعشب
في حقول الموج
في عينيك ينتجع
يدي مشدوهة
محاراتي
وأسماكي
فلا أدري:
يجيء البحر
أم
عيناك راحلتان في البحر؟.
أشجان
قبل حرائقنا
كنّا شجرا
ينمو في الطرقات
كنّا
قبل قصائدنا
شجنا
يصحو في الكلمات
كم مات الشاعر
مشنوقا
بحبال الكلمة ؟
كم كان يرى
مؤتلقا
وجه العتمة ؟
لم أكن قد تهيّأت
لا
لم أعدّ الكلام
فجأة
يومض البرق
لا
لم أكن
غير هذا الظلام
ديك ينقر مصباح الفجر
وينوح
نجم
في الشرفة مذبوح
القط ياسمين
قط ثلجيّ
أم...
ندف تتطاير في صيف الغابات
أم سحب بيضاء
تنبت فوق أعالي الأنهار؟
هل كان سيبتلّ إذا مسته فراشات النار؟
قط ثلجيّ
يهوى صيد النجمات إذا حطت أعلى الأشجار
لا يستأنس بالصالونات
وزخرفة البيت العالي
وبأغطية دافئة في ديسمبر
أو بشموس تتدلّى من فوق الشرفات
قط ثلجيّ من نار وفراشات
كانت خلف زجاج المستشفى
نادته بين أصابعها البيض
وسياط من نار تلهب فحمتها
فتقلبها جمرا في موقدها
نادته من تحت رماد طفولتها
"ياسمين"
سمّته حين تعالى
(لم يفزع منها
لم يذهل)
رسمته على دفتر دهشتها أسئلة بيضاء
وجراحات مالحة
لمّا رحلت لم يبك
ولم تسقط من عينيه النجمات
أوصى أن يدفن في أقصى الغيمات
أو تحت تراب حديقتها
كي يزهر وردا
أو
ريحا
تتشرد في الفلوات
ها هي وردته البيضاء
تزهر ليل حرائقها
فكأنّ فراشات النار تتوجه ملكا للغابات
يكتب فوق أعالي الأنهار وصاياه
وكأنّ الأشجار مواكبه
والنجمات رعاياه.
قمر في الغرفة
كنت إذن
تأتين دائما في منامي قبل النوم
وتسهرين في أحلامي
عاريين كنّا في ليلة قائظة
ممددين على الزليج
قرب السرير
لم يكن القمر ساهرا معنا
لا ندري أين أختفى ؟
ربما أغلقنا باب الغرفة
حتّى لا يلمع في عيوننا ؟
حين أشتد بنا الصعود والهبوط
حين أستبدت بنا الشهقات
وسقطنا قتيلين على راحة الماء
ما الذي أيقظنا بغتة ؟
ما الذي كان يلمع في عيوننا
ويسبح في السماء ؟
هل كنّا أغلقنا باب الغرفة جيدا ؟
رائحة اللحم الطريّ
وأعشاب المنحدر
والنهر
أما زالت عالقة بثياب الريح ؟.
***
عبد الوهاب الملوح
- من مواليد قفصة، عام 1961.
- مدرس تعليم ابتدائي.
صدر له:
- رقاع العزلة الأخيرة، تونس، 1994.
- الواقف وحده، شعر، تونس، 1997.
- أنا هكذا دائما، شعر، تونس، 2002.
- سعادة مشبوهة، شعر.
- كلام الريح، مسرحية.
- منذ، نص، تونس، 2007.
جملة اعتراضية
مذاقها غيمة تشرد في ذهول
حليب نزقها يرمَم عطالة السماء
ويدلَِل قامة الهواء
ثمَة بياض أدركه الإعياء من دواة
سوف يكفي أن أسوَِي فوضاها
ليبدَِل الفراغ سترته
وتعربد في سكوتي الثمل أجنحة الماء
أنت يا من تدخل الجملة
تبحث بين أركانها عن معطف لأحزانك
أو مشجب لعاطفتك
لا تصدق أن ثمة غيمة تشرد في ذهول
وعليك أن تصدق أن المعطف يصلح أيضا لتعطيل إشارات المرور
كل ما عليك أن تربت بيدين دافئتين
على ظهر النهار ليعود بك إلى أشجانك معافى
تجلس عند شرفة تطل على كل ما هو طاريء
تتناول وجبتك المفضلة عند جمال الدين ابن منظور.
منذ أدركه البياض
وذلك الإعياء
يبحث عن جملة اعتراضية
يصرَِف فعلها الضمير اللقيط في المضارع المرفوع.
لنا في الحياة حياة أخرى
سُعَدَاءُ بأشياء قَلِيلَةٍ
نَزْرَعُ فِي الْفِقْدَانِ أَزْهَارًا بَرِّيةً
وَمَا تَيَسَّر مِنْ مَطَالِعِ أُغْنِيَةٍ عَتِيقَةٍ
سُعَداءُ بِمَا يَلْزَمُنَا
مِنْ انْتِظَارَات طَوِيلَةٍ
وَخَسَارَاتٍ هَائِلَةٍ
وَتَلَوُّعََاتٍ أَشَدُّ مِنَ المَوتِ الْقَاسِي
سَنَكُونُ كِبَارًا فِي هَزَائِمِنَا
كَأَبْطَالِ رِوَايَاتِ دويستويفسكي
كَنَهَارٍ عَاطِلٍ عَن الطَّقْسِ
كَما يَرِنُّ هَاتِفٌ طَوِيلاً دُونَ أَنْ يَرُدَّ أَحَدٌ
نُؤَجِّلُ فَرَحًا عَظِيمًا لاِنْشِغَالِنَا بِأَحْزَانٍِ طَارِئَةٍ
لَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْ
سَفَرٍ مَُِؤقَّتٍ
وَخَمْرٍ مُؤَقَّتٍ
وَإِقَامَةِ مُؤَقَتَةٍ
وعِشْقٍ مَُِؤقَّتٍ
نُقِيمُ بين حَبَّة مَطَرٍ وَأُخْرَى لا َتجِيءُ
لَنَا فِي الحَيَاةِ حَيَاةٌ أُخْرَى
نُحِبُّ دُفْعَةً وَاحٍدَةً
وَلاَ نَنْسَى دُفْعَةً وَاحِدَةً
الْمُهِمُّ بَعْدَ أَنْ نَعْبُرَ شَارِعًا أَوَّلَ النَّهَارِ.
نَكْرَهُه لازْدِحَامِه
نَعُودُ إِلَيه
آَخِرَ الليْلِ نُحِبُّه لازْدِحَامِه
نَكْسِرُ إِيقَاعَ الزَّمنِ بِتَحْوِيلِ كُلِّ لَحْظَةٍ إِلَى مُصَادَفَةٍ
تُدِيم ارْتِعَاشَةَ الْجَسَدِ وَتُطِيلُ إغْمَاءَتهُ مِن خَدَرٍِ مُرْتَجِفٍ
سُعَدَاءُ بِأشْيَاء قَلِيلَة
بِدَنْدَنَة أُغْنِيَة "امْرَأ" الجار
تَصْعَدُ مَعَ رَائِحَة البنِ
بِامرأة نُصَلِي لَها تَسْتَعْصِي عَلى الْحُبِّ وَتُمَارِسُ التَقَشُّفَ العَاطِفِي
بِحُرِّيَةٍ نُعَارِكُ فِيهَا المَوت وَلا َتَقولُنَا
بالنَّوْمِ فِي كِتَابٍ
أَوْ
فِي غُرْفَة بِل شَبَابيك ولاَ جُدُرَان ولا باب ٍ
بمَا يَمْنَحُنَا الضَّجَرُ اليَومِي مِن تَشَرُّدٍ أَنِيقٍ
سُعَدَاء بِكِبْرِيَاء حُزْننا
فَلَنَا في الْحَياة حياه أخرى.
أصوات الرصيف
بينما الدهشة تحبس الوقت في لفة الهذيان.. اتسع لمزاج الصباحات الغريبة وأعود بالنهار إلى مساءاته سالما.. اتسع ضاحية لأغنية مزقت نوتاتها الريح وأعيد جدولة أحزان الممسوسين بحب المعرفة.
كنا أكثر من ثلاثة وأقل من اثنين نركض في الموسيقى ونشد من أزر الهواء
ضيقة الأرض حين عبرنا الطريق المؤدي إلى جوار الكراسي في حانة أحزان السكارى.
كنا نعدُّ أزرار المكان ونخطيء
فنبكي
ونشعل شمعة فوق فكرة مشغولة بتفكيك فوضر زوربا
كل ما علينا في الحساب ديون عاطفية سنسددها خطايا دفعة واحدة
تتمدد الحافة لإقامة بلا تأشيرة
كنا بحاجة لقبعة إسكافي وخبرة مسمار لننتعل الأرض حذاء الغياب السميك
ونركض إلى جهة تنشف فراغها من عرق العابرين.
للتذكير فقط
ليس الليل رصيف النهار
بينما يصير اللقيط شارعا طويلا يعلن العصيان بمنعطفاته الحادة
يصعد الشارع النهارعموديا ويذكرعنال التنظيف البلدي بحواسه
نحن بداية المفترقات ولا معنى نتخذه مأوى عند كل مفترق
ضيقة الأرض وعكازنا التيه
أما السفن التي أضاعت طريق التوابل ستقتفي أثر الإبل في لامية الشنفرى والنصوص المتمردة على الأسلوب.
ولكننا غرباء
حسنا كلُّ شيْءٍ على ما يُرامُ:
سَمَاءُ الْمَدِينَةِ مُنْشَغِلَةٌ بِالْقِيَامَةِ
وَالنَّاسُ مُنْشَغِلُونَ بِمَا قَدْ يَزِيدُ شَهِيَّتَهُمْ للِنِّكَاحِ َ
وجرو ُالْحَقِيقَةِ يأخُذُ قَيْلُولَةً قُرْبَ مُسْتَنْقَعِ الْحُلْمِ
تحْرُسُهُ الْقَهْقَهَاتُ وَفَحْلُ الذُبَابِ
وَلَيْسَ لَنَا غَيْرُ الذَّهابِ إلَى حَيْثُ يَرْفُو الصَّدَى حَشْرَجَاتِ خُطَانَا
عَلَيْنَا الذَّهَابُ
سَنَذْكُرُها
فِي مَسَاءاتِنا
وَصَبَاحاَتِنَا
وسَنَذْكُرُهَا
فِي مَواوِيلِنَا
وبكاءات أيامنا.
وجهُهَا فِكْرَة ٌمُنْفَجِرَةٌ غُمُوضًا
عُنُقُهَا أَسْرَابُ بَجَعٍ صَاعِدَةٍ فِي السَّماءِ
شَعْرُهَا طُقُوسُ عَبَدَة ِ الرِّيحِ الآَتِينَ مِنْ أزْمِنَة
ٍكَانَ الليْلُ فِيها رُبَّانَ التَّاريخ
قَلْبُهَا لاَ يُشْبِهُ التُّفَّاحَةَ فِي شيءٍ
غَيْرَ أنَّهُ جَمْرَةٌ أَشْعَلَهَا الدَّمُ.
عيناها
[قَطْعًا يَتَطَلَّبُ الأَمْرُ حِكْمَةً لَهَا ضَرَاوَةُ الْفِتْنَةِ لِصِيَاغَةِ مُقَارَبَةٍ تَلْيقُ بِهِمَا]
كيفَ نَذْهَبُ
والطُّرُقُ سَكْرَانَةٌ تَعِجُّ بِالذُّهُولِ:
رأينَا السيَّاب فِي حضْنِ مُومِسٍ عَمْيَاء
يَقْرَأُ غُيُومَهُ وَيَتَفَجَّعُ كَنَبِيٍّ أهْمَلَهُ قَوْمُهُ
رَأَيْنَا عنَّايَةً تَبْحَثُ بَيْنَ الْمَوْتَى عَنْ إِيقَاعِهَا
رَأَيْنَا بوُرْخِسْ يُعَلِّقُ عَلَى جُدُرَانِ الرِّيحِ مَلاَحقَ جَدِيدَةً مِنْ تَارِيخِ الْعَارِ
رَأَيْنَا الِمُتَنَبِّي عَلَى بَغْلَةٍ تمضغ عشبة
قَالَ لَنَا:
هي نبَتَةُ جلجامش
رَأَيْنَا أَنْفُسَنَا مَشَارِيعَ خَاسِرَةً.
أَوْقَفَتْنَا الْمَسَافَةُ وَكَانت فِي شَكْلِ خِصْلَةٍ مِنْ خِصْلاَتِ صَوتِ الْتِي وَجْهُها فِكْرَةٌ…إلَخْ
وَقَالتْ:
ـ لَسْتُ فِي عُمْقِ جِرَاحِكُمْ.
نَاوَلَتْنَا الجِهَاتُ مَفَاتِيحَهَا، وَقَالتْ:
ـ حَيْثُمَا تَوَلُّوا رِيحَكُمْ فَهُنَاكَ نُورُالْتِي وَجْهُهَا فِكْرَةٌ…إلَخْ.
أَوْقَفَنَا الْوَقْتُ وَكَانَ يُرَدِّدُ أُغْنِيَةَ راب، دندن وقَالَ:
ـ لاَ وَقْتَ غَيْرَ ما تُسَرِّحُهُ سَيِّدَةُ الْخَلَوَات منْ رِيَاحِ خَزْرَتِهَا، اِمْضَوْا فَلَسْتُ فِي قَامَة أحْزَانِكمْ.
نالنا ظمأٌ وَهَتَفْنَا بالْمَاءِ، فقَالَ الماء:
ـ لاَ مَاء غَيرَ ما يُريِقُ لُعَابُهَا من نبيذٍ بَابلي بِطَعْمِ كَمَإِ الأَفْجَارِ الْفَاجِرَة ِ
(ألا هُبِّي بِصَحْنِكِ وأصْبِحينا وَلاَ تُبْقي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا).
لَيْسَ بَعْدَ هَذَا الْمَدَى غَيْرُ أَطْيَافِ ذَاكِرَةٍ؛ يَرْتُقُ الْوَجْدُ أَلْوَانَهَ، تُوقِظُ السَّرْدَ؛ سَرْدَ وَقَائِعِ أَزْمِنَةِ التِّيهِ؛ تُوقِظُهُ منْ بُكَاءِ الْحَقِيقَةِ؛ تُوقِظُهُ منْ عُنْفُوانِ الْقَصِيدَةِ. أذْكُرُ أَنَّ الْبِدَاياتِ كَانتْ مُلاَئِمَة ًلِمُعَلَّقَةٍ تُشْعِلُ النَّارَ فِي لُغَةِ الْبَدْوِ؛ أَذْكُرُ الشِّعْرَ أمْسِيَةً مَعَ فِنْجَانِ شَايٍ وَلَكِنَّ سَرْدَ الْوَقَائِعِ مُرٌّ وَهَذَا النَّبِيذُ بِطَعِمِ سَرْدٍ جَرِيءٍ. كانَ لَنَا مَوْعِدٌ فِي الْمَسَاءِ مَعَ الِّريحِ.
فِي مَرْقَصٍ صَاخِبٍ؛ بَادَلَتْنَا فَتَاةُ الْبُرُوقِ شُجونَ النَّهارِ، أَعَدَّتْ لَنَا الْمَائِدَه.
سَمَكٌ دَاخِنٌ
وَنَبِيذٌ مَحَلِّي
وَفَاكِهَةَ الرُّوحِ.
لَمْ يَكُنْ دَافِئاً ذَلِكَ الِلَّيْلُ
والشَّجَرُ الْمُتَعَرِّي لِفَصْلٍ شَرِيدٍ.. تعَرَّى
يُكَفْكِفُ بَوْحَ السَّكَارىَ
ويَذْرِفُ حُلْمَ التُّرَابِ وَنَحْنُ كَمَا لَوْ..
ولَكِنَّنَا غُرَبَاءُ
وليس لَنَا غَيْرُ الذَّهَابِ إلَى حيْثُ
يَرْفُو الصَّدَى حَشْرَجَاتِ خُطَانَا
وَلَيْسَ لَنَا غَيْرُ تأويلنا لِخُرُوجِ الْفَرَاشَاتِ من عطر أَلْوَانِهَا.
قَالَ الأَوَّلُ: مَسَاطيل.
قَالَ الثَّاني: مَجَانِين.
قَالَ ثَالثٌ: مُحِبِينَ.
قَالَ رَابِعٌ: مَنْفِيينَ.
قالت الفراشاتُ: شعراء.
***
فتحي النصري
- من مواليد تونس العاصمة، عام 1958.
- أستاذ جامعي يدرّس الأدب الحديث بكلّية العلوم الإنسانية والاجتماعيّة بتونس.
صدر له:
- قالت اليابسة، شعر، عن دار أميّة، 1994.
- أصوات المنزل، شعر، عن دار الأطلسية، 1995.
- سيرة الهباء، شعر، عن دار الشركة التونسية لفنون الرسم، 1999.
- جِرَار الليل، شعر، عن دار مسكلياني، 2006.
- السرديّ في الشعر العربي الحديث- في شعريّة القصيدة السرديّة، دراسة، عن دار مسكلياني 2006.
القطّ
إلى رفاق جبل الجلود
دفتر العاشق مطويّ
وقطّ
نصف مفتوح العيون
يقرأ الدفتر
يغفو
ويغِطُّ.
الحَفِيّون بنا مدّوا خِوانا
وأداروا الراح
ملأى كانت الأقداح
بالرفقة
بالألوان
بالأشياء في الغرفة
والغرفة نجم وسماءٌ
في بقايا الليلة الأخرى من الشهر الأخير.
كلّ شيء ما خلا الغرفةَ ينساب بطيئا
في حشا العتمة
الحيّ الصناعيّ
جلود الجبل المنكسرهْ
منذ علّيسةَ والمختمرهْ
منذ كان الأزرق الغائم
ذكرى وجهها الرائع في صحوتهِ
الطفل في خلوتهِ
كلّ شيء خارج الغرفة
ينساب بطيئا في حشا العتمةِ.
في الداخل يصحو القطُّ
مكسالَ التمطّي
يتملّى الحاضرين
يجتبي من كلّ عين بعض رؤيا
مرّة أخرى يغطّ
ثمّ ينساب بطيئا كلّ شيء داخل الغرفةِ
الأقداح في الأحشاء
الأصوات في الأصداء
ألوان القناة الأجنبيّهْ.
في حُشاشات الدجى
أهي الأشياء ترتدّ مرايا الصدأ الروحيّ ؟
أم أزرقُنا الغائب جلَّ
إذ تجلّى ؟.
وأنا هل كنتُ ملآنَ ؟
أجلْ كنتُ
ولكن
لِمَ نطّ القطُ ؟
كيف أنقلب الدفتر
وأفترّ عن الصفحة ؟ِ
لا أدري
وما من أحد يدري الذي كان
ولا كيف دوى في الساعة الصفر النشيدٌ الأمميُّ ؟.
دارت الأقداح
وامتدّت أكُفٌّ تمنح الأرواح إبلالا جميلا
ـ لستَ ملآنَ ؟
بلى قلتُ وقلنا
ضحك الرفقةُ
لملمنا شظايا الضحكة المعتذرهْ
خرج القطّ من المعطف
في عينيه ضاءت
ورأينا
النجمةُ المنكدرهْ.
السلطان
كنّا
أيّام صِبانا نصطادُ صراصيرَ
ونودعها الأحْقاقَ
نرَبّيها أجناسا
ونسمّيها:
الزيتونيَّ سليلَ اللّيل
والخرّوبيَّ
وذا الصنج الذهبيَّ
وفي أيّام الراحة
كنّا نطْلق أعْتاها في الحلبات
فتعلو صرصرة النصر
وفي الزاوية الأقصى
يأوي المغلوب إلى الصمت.
في عاصمة إبن الأغلب
من بين جميع الشعراء
بدا لي غيُّفيك (*)
وهو الأكثر صمتا
وهو الأشيبْ
صرّارا ليليّا أعتى
كنّا أيّام صبانا ندعوه السلطان.
تشبيه
كالسدرة
في الأرض المظلومة
تنجُم مفرَدة عزلاءْ
والسدرةُ موعدها العرشُ
إذا أزِف الوقتُ
وآب الغرباءْ.
كالسدرة
لا ترصد نجما
لا تجْنح شرقا أوغربا
حسْبُ السدرة
أن تلتفّ على الأعضاء
وتلتمّ على الصحراءْ.
كالسدرة
لا ظلَّ وريفاً
لنبيٍّ أو ضلّيل
لا غصن وريقا
فيغرّدَ قُمْريٌّ
وتوكّرَ ورْقاءْ.
كالسدرة
يغزوها الرملُ
وتضنيها الرمضاءُ
فلا تتوسّم في الرؤيا
سبعَ شجيرات خضرٍ
أو سبعا عجفاءْ.
كالسدرةِ
حين يغيض الماءُ
تعضُّ على الشوك
وترتدُّ إلى
أبعد من غور الأرض
وأعلى من كلّ سماءْ.
كالسدرةِ
في هيئتها الأولى
من غير اسم أو وصفٍ
في البدء كذلك كانت
وكذلك سوف تكون
رفعنا الوزرعن الأشياءْ.
العاصفة
إلى محمّد الجابلّي
ذكرى " مرافئ الجليد ".
ربّما احتجنا إلى عاصفة
هذه المرّةَ
لن يلفظنا اليمّ بأرض.
هذه المرّة
لن نرجع من حيث أتينا
قُضي الأمر وآوانا العبابْ.
هو ذا ميراثنا الحقُّ
شراع ٌهالكٌ تَدْوي به الرّيحُ
ويغشاه من الشرق ضبابٌ
ومن الغرب ضبابْ.
فليكن
ربٌّما احتجنا إلى عاصفة
كي نرى الهوّةَ تدنو
ونرى الوجه الٌذي نحمل والهوّةَ
من دون حجابْ.
نحن لا نشبه ما كنٌّا نريدْ.
ما الّذي غيّرنا
وزرُ تاريخ الأسى
أم جذوة آلت إلى برد مقيم ؟
أم تراه القبْوُ أدمنٌّاه ُ
حتٌّى صار مرآة لنا
صار ماءً
وسماءً.
لكأنّا سمكٌ
آب إلى غيض ضنينْ
أو نجوم نافقاتٌ
روحها الخافق خابٍ
منذ آلاف السّنينْ.
كم تغيّرنا !
ألمْ تَعْلُ لنا فيما مضى أسطورةٌ ؟
الوردةُ
التنّينُ
أسوارٌ
وقصرُ
دُونه سبعُ أراضٍ
وبحارٍ
دونها مُلْكٌ
وَأمْرُ.
أوّلُ السَّوْرةِ
إخوان الصّفا
رايةٌ
وعْدٌ
مواعيدُ
وسرُّ.
إِرَمٌ
كنزنا المحجوبُ في الصحراء
إكسيرٌ
وسيمياءٌ
وسِحْرُ.
نحن لا نشبه ما كنّا نريدْ.
وإذا ما هجَسَ الشّوقُ لنا شيئاً
ورُمْنا فُسْحة
خارج القبو
تناهيْنا إلى قبوٍ جديدْ
هكذا يلتبس الخارجُ بالداخل
والداخلُ بالخارج
والأقْباءُ بالرّحْب المديدْ.
لا تقلْ:
ـ كلُّ ما أحبَبْتَ لن ينساب مِنْ بين يديكَ
عاصفٌ هذا الأفولْ.
لا تقلْ:
ـ لا يوجَدُ اللّه وأمْريكا معًا
آنَ للكائن أنْ يدخلَ في طور الذهولْ.
أيّها الواقفُ في ريح المساء
تستحثّ الروح
موثوقا إلى الصخرةِ
مأخوذا بسرّ النار
والوردةِ
انظرْ!
هذه الأِشياءُ مِن حولكَ تزورّ وتنأى
كلّما حاولتَََها
ثمّ تزورّ وتنأى
فسدًى تَعْطو إليها
وسدًى تذهلُ عن لَحْن الأفولْ.
نحن لم نَرْقَ الجبالْ
لم نعدْ بالنّار للأرض الوطيئهْ
فلْيكنْ
أَوَ لسْنا نحن أبْناءَ الرمالْ
في ظلال الوَهْد
ألفينا الأساطيرغريقهْ
فتلمَّسْنا الحقيقهْ
في الهبوط
حيث تغفو الموجة الأولى.
هناك
مِنْ متاهات سحيقهْ
نَبْدأُ الهجرة
نبْرا
من دم الأسلاف
نعْرى
من خطايانا البريئهْ
فَلْيكنْ
لم يعدْ ثمّة مَنْجًى
غير أن نَنْحلَّ في البحر
وأنْ نَنْظرَ أمواجًا
وأفواجًا تمرُّ.
كُلُّ طَوْرٍ ناسخٍ يمحوه طورُ
فَعَسى
إذْ تغسل الأمواهُ ما تغسلُ
أوْ تحْمِلُ ما تحْمِلُ
قربانا لميثاقٍ جديد
أنْ نرى الهوّةَ فينا
ونرى الكتلة إذ تَخْبِطُ عمياءَ
تَغَشّاها السديمْ
مَرّةً تَهْوِي عميقًا
مرّةً تغْفو على الماء العميمْ.
ربّما
مِن خَبْطة عَشْواء تُمْنى
نُطْفةُ الضوء الخبيئهْ
في حشا الأرض الوطيئهْ.
***
فضيلة الشابي
- من مواليد توزر، عام 1946.
- هي سليلة الشاعر العربي الكبير أبي القاسم الشابي.
صدر لها:
- روائح الأرض والغضب، شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1973.
- الإسم والحضيض، رواية، نشر خاص، 1992.
أشياء
للشيء طقوس من لَعِب هَمَجيّ
أبدية صُغرى من صَمْتٍ
نادِرٌ فَرَحِي
أشياءُ حتى زواياها المُبهَمة
يتحرّكُ الشيءُ
بأمرِ آنِهِ المُسْتَمِرِّ
باتجاه عظامي المستترة
وفمِي إذ بعَّدَتْهُ آوِنة ذات بروج
شيءٌ حيٌّ يجانب الجملة
قمشَ بالشيء ذكاؤُهُ
أزْرَقُهُ اللُّطفُ
رَهُفَتْ شمَاستُه بمنازلِي
كان بها كبالِيَ حِسٌّ مخلوط
هل الشيء محاذاة للذّات
حرير يا حريرًا يا نحْت الخراب
الأنا المنحوت بالمشهد المحض
مناخات كارثة غير مكترثة بنعوتها
أقترب من عِنب مُشرب بحُمرة
تلكُمُ العناقيد مفترسة
أنجَذِبُ إلى حَتْفٍ حلو
شلْوٌ إثر شِلْو
كما أقراص الشّمع تذوب
حائط مُشرب ببياض ذو طاقة
هنا فاقه
ذا الحين عاقهُ القطع
أستيقظي هذا يوم الشيء
جُمل خارجة على اليوم المكتَظ بالشيء
وبنقيض الشيء
هل تراءى الشيء للشيء
أنّى يستقيظ الشيء من نومه الشيئيّ
ليلٌ نوَى النَأْيَ بأحداق
تثقُب فجرًا بضاحية الشيء
فجرًا على أعنابٍ تغفُو
وفجرًا ملء يديْ
للشيء باطنه أم هو الظاهر المحْض ؟
الشيء تذكّره اللّغة
وهو في الجمع أشياءُ
أصرّفه حيناً كما الرّيح تُصرّف تلك الغيوم
كأوراق الشجر إذ تهبّ
تُسمِع أصوات اليَبَاسِ
كم تلوّث الشيءَ أيدٍ وتتّسخ المُدن
قد يُقلِعُ الفعل
لكن توهُّج الأرضِ يبقى في كوارثها
هل السّكينةُ قطّاعة وشوشة الفوضَى ؟
لا شيء يضيع في الكون
الضياع فُسحة مؤقتة خارج البيت
وسكّين كأنّه رضيع بَرْقٍ غَفَا على حَدَثٍ
حذو صحن من صقيلِ فخّارعلى خِوان
ببهوٍ كأنه البحر تَجوّفَ كأنه القطرة
ذي أفقية تقطع العُشب من الورد إلى الورد
وعمودية بها تركض رياح بمجاري أفعال
سكاكين ذات ميلان هتّاكة فتّاكة
قطّاعة لطُرُقٍ ورؤوس وحِقبْ
سكّين شُجاع صاحب شعاع
مُهْمَلٌ بحديقة الحلم ذلك الكرسيّ
أشعَة قمريّة بائتة على جنباته
شظايا من صمت وبُقَعُ لحظاتٍ
نُفور يتسرّب منّا كالرّائحة القاتلة
منه تَفِرُّ الحشرة ومن منقار طائر
خشبيّ ذلك الخشبيّ بمَمْـشى السُّبات
وإذ لطمته اليقظة
هبَّ إعصارٌ بين مساميره الصّدِئه
كان عُرسْ
لبستْ ذرّات ذرّات
وكان لَبْسْ
لَعَجَ قبسٌ للإنتظار
على ساحل البحر كرسيّ
على ساحل التلفّظ
الفنجان ذو العُروة الوُثقَى
أماسِك هو بالصباح أم أنا الماسكة ؟
يدُ الخزّاف بمساءات الهندسة
يدُ الخزّاف تُفتّحُ الألوان على حرٍّ
وعلى بحرٍ
الفنّ فيزياء
فنجان بيدٍ رافعةٍ خافضة
ذات رفرفة
بأرض خفيفةٍ ذاتِ زُرقه
مِنَ السّائل المحض
أين تُراني أكون ؟
أخذتُ الكلمة بكِلْتا يديّ
قلتُ للشيء أقتربْ فنَأَى.. ظلّتِ الكلمةُ هِلالاً ينتظر إعادة الرؤية.
***
كمال بوعجيلة
- من مواليد تطاوين، عام 1957.
- أستاذية في الفلسفة والعربية.
- متفرغ للكتابة.
صدر له:
- ترى ما رأيت، شعر، عن دار سحر للنشر تونس، 1994.
- حبيبتي تتركني لليل، شعر، عن دار نقوش عربية تونس، 1996.
- هل أفكر دهشتي ؟، شعر، نشر خاص، 2005.
- هذيان تحت سماء باردة، شعر، نشر خاص، 2007.
لغةٌ لإحتفال العصافير
لي الآن أن أدخل اللّغة
عارياً من صليل السّيوف
ومن ضجيج الضّيوف
ومن صورة الملكة
عارياً من صُراخ القبائل
لماذ الينابيع جفّت ؟
وفيما المدينة تحمل إسماً
وقد غدرت أهلها
أو رأتهم يهيمون في كلّ واد
وما خسفت على عُريهم
ورقاً أو ظلالاً
وما ودّعتهم بما يستحقون
حين أسرجت مع الرّيح أحلامهم
ودعتهم إلى النّوم
في غرف من زُجاجٍ
تقيهم عبور الزمن
لتبعثهم كلّما خسرت معركة
أو رأت ولدا.
يجهّز للموتى أسئلة عن شكوك اليقين
لماذا العصافير ماتت
وفي ريشها زغب الاحتفال
وشوق إلى العشّ والبيضة المهملة
لي الآن أن أدخل اللغة بلا بسملة
شجرٌ ينحني للثّمار
أم للدمار
أم لصورته في غدير
طوى ملحُه بتلات الورود
وأغرق شمساً وفاكهة وانتحر ؟.
ــــــــــــــ
ليَ الآن أن أزرع لغتي
في رحم امرأة عاشقه
أدجّجها بالكلام الذي حاصرته الرقابه
والأسئله.
لماذا المرايا بكت
حين انحنت
تؤسسني المرأة المخطئه
والفراشات
فرحٌ يلوّنها
تعبٌ يحطّ بها على كوّة اللّهب
أم حنين بها لربيع بلا مصيده
ليَ الآن أن أخرج من ضلعها
ساجداً للعيون
التي بعثت فرحي رغم سطوتها
والشفاه التي أحرقتني قليلاً
لأنسجم مع لغتي
وحنيني إلى النهد
وخوفي على صوتها
آه خوفي على صوتها.
احتياطيّ الروح
من عزلة الرّوح التي انتصرت قليلاً
ثمّ عادت لارتكاب براءة أخرى
إلى حكمة الجسد المورّط في المسافات الطويلة
حاربتُ في جيشٍ يريد هزيمةً
ليؤنّث الشهداء
مقبرةً جديدهْ
ويؤسّس الأمراء مأدبةً
لتجّار إذا وعدوا وفواْ
ويحمل الشّعراء
نعشا للقصيدة
حاربتُ في جيش من الأعداء
لم أكن أدري
أنّني المطلوب في كلّ الحروب
أنا الذي خدع الجرائد والشوارع
ليكون لي وطن
فخانتني حدودُ القلب
واللّغة اليتيمة
لو تصدُق خرافتنا
أصدّق أنّني جئتُ هنا
أقصي الرّمل عن ذاكرة الماء
وأقصي الرّمل عن ريح تُداعبنا
وأقصي الرّمل عن مدن الشمال
ثمّ أقصيني عن امرأةٍ
تقتُلني كلّما طاب لها
وتفرحُ حين تعلم
أنّني لم أمت بعد
أو لعلّها أبدعتني من جديد.
عبثا أحاول أن أشاهد
موت أحبابي ولا أبكي
حاولتُ
كم حاولتُ
أن أجمّع من شتات الناس
بوصلةً تدلّ على الطريق
حاولت أن أجد مكاناً للكلام
الصّمت
ثم الصمت
ثم الصمت.
أجملُ ما فينا ما ليس نعرفُه
وأروع ما حملت يدانا
ما ليس نملُكه
وأعظمُ ما عرفنا
ما نسيناه
وتُهنا مع السّنين.
منّي إلى طرق القوافل
لم أر غير بلادٍ
كلّ ما فيها إسمٌ وخبرْ
يضرب الفعلُ عصاهُ في رباها
ويظلّ الفاعلُ دوماً مستتر.
قال الذي جمع الرّماح
ولم يصوّب للغزاة:
تعب الرحيل من الرحيل
وما تعبت يداك من القراءة
يا أيّها المتطفّلون على دمي
لا تتعجّلوا فكّ رموز القلب باللغة
لا تتعجّلوا قطف ثمار الرّوح
لا تتعجّلوا فرحاً بلا ميقات
هي الأرض تدورُ كلّمات دارت
وأحياناً تطيرُ إذا شئنا لها
فنحسبُ أحلاما
هوتْ على جدران فاكهة الصلاة
يا أرضنا البكر
يا أرضنا الأرض
يا أرضنا الرّوح المُحاطة بالمياه
حتّى متى يظلّ الطين محتاجاً دماً
ومرتعداً إذا نطق الطّغاة... !.
قال الذي جمع الكلام وصوّب للقلب
ماءٌ على الفقراء جمعُ الماء
للسّفر الطويل:
من لم ير مُدُناً تؤهّلُ أهلها لرحيلهم
لم يعرف لماذا الحزن
حين الرّوح تبتعد قليلاً عن مدار الذّاكرة
تركنا قصائدنا
وعُدنا للحروف التي
تبّتْ يدانا حين نرسُمُها وتّبْ
ما أغنى عنّا ما سكبنا من الماء
على أمواتنا العطشى
وما حفظنا من كُتُبْ
لا شيء يُغرينا برسم خريطةٍ لرحيلنا
ورحيلُنا لا شيء يعنيه
ركبنا البحر كي نرسو على أرضٍ
فضيّعنا مطالبنا الصّغيرة:
بيتاً جميلاً
وناقوساً لدقّ الباب
طاولة تجمعنا صباحاً أو مساءً
حديقة مترا مربّع
وحبيبة لا ترفضُ شهواتنا.
لو كنّا معاً قبل البداية
ماذا يحدُثُ يا قصيدتي اليتيمة ؟
ماذا يحدُثُ ؟
وأنا
هنا
لا تونس فهمت مزاجي
ولا النساء عذرنني
ولا المساء قادني يوماً إلى إسمي
أنا التّعب المسيّجُ في عناق الياسمين
متأخّر دوما
وآتي قبل موعدنا
وأذكر كان لنا بيت لعبنا أمامه
جرّحنا أصابعنا
مزّقنا الرداء
تعبنا
تشاجرنا
انسجمنا مع شقاوتنا.
فجأةً لم أجد بيتي
سألتُ:
كيف والموتُ حق لم يمت غير أبي!.
وحلُمتُ
أكبرُ في وئام
أصالحُ الشّهوات في السرّ وفي العلن
كأن أقول
كبُرت ليلى
وما عادت تعدّ على أصابعنا هدايا العيد
ما عادت تقاسمنا الحلوى
وتشتمنا حين تستجير بنا
فنختبئ ونضحك من تفجّعها الغريب
وفاطمة هذا المساء
لم تأتِ لموعدنا
لم تراقصنا
وما فتحت نوافذ لفرحتنا
بابتسامتها الأنيقة
واحمرارِ الوجنتين
كلّما جئناها نطلب التفاح والعنب
كم تحلّقنا في ليالي الصيف
نقتسم الغنائم
ونرتعد لأمرٍ يفاجئنا به
الأهل غداً أو بعده.
وتوزّعنا أخيراً
كأنّ شيئا لم يكن
هل توزّعنا
لأنّ القلب أصغرُ من حصاة
أم توزّعنا
لأنّ العيش في مدنٍ تضيقُ بأهلها
أعسرُ من ولاده.
ما كان للأحباب أن يمضوا
وباقي الوشم ما زال يلُوح
كأطلالٍ ترمّم بعضها
ليصير بعضها بعضنا
ما كنت أحسبني أنسى الأحبّة
وأختصرُ المسافة بيني وبينهم
وأختصر الحنين
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
تعشقني فيه جميع نسائكم
فأعتذر لكلّ نافذةٍ
فتحتها عذراء لأجلي
ولم تبالِ بالنّعوت
وأراكم لا تقدرون على دمي
تتعقبّون أثر خُطاي على الرّصيف
وتفرحون
وتشتمون
وأنا بزاويةٍ هناك
لا الوقت يهزمني
ولا الكسل المخيّم في مقاهيكم
ولا العجل الذي يحاصر رغبتي
كلّما حاولت أن أحصي أسباب جوعي.
لا
لم أنم أبداً
ما أوحش العمر
حين تعيشُهُ متوثّباً
أبدا ما كنتُ أحسبني أنسى الأحبّة
كم فتىً مرّ بقرطاج
وظنّ النصر
فخانته النّساء
ومن يحب
ما زال لهم في القلب رائحةٌ وذكرى
وقرطاجُ محايدة ولكنْ
كلّما انتفضت على غزاتها
يملّحون ترابها
لتنتهي الأنهار أسباخاً
وتخلّي القيروان حصونها
وتنوءُ بالمتسوّلين
لا
ما كنت أحسبُ الشّعر يتركُني لها
فتتركني لعراء أرصفة الفوضى
لا
لم أكن مثلما شاء لي الأهل
لم أكن مثلما يشتهي الأصدقاء.
***
مجدي بن عيسى
- من مواليد حمام الأغزاز، عام 1970.
- متحصّل على الماجستير في اللغة والآداب العربية.
- أستاذ تعليم ثانوي بوزارة التربية والتكوين.
- عضو وحدة بحث مهتمة باللسانيات والنظم المعرفية المتصلة بها، بكليّة الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس.
صدر له:
- إحتراق الشذى، شعر، عن الدار العربية للكتاب تونس، 1993.
- تقريض الشهوة، شعر، عن دار سحر تونس، 1998.
- نبالات مهجورة، شعر، عن منشورات الجاحظيّة الجزائر، 1999.
- مراثي القرن، شعر، عن دار رشم للنشر والتوزيع تونس، 2005.
- الـــــدوار، رواية، عن منشورات دائرة الإعلام والثقافة بالشارقة، 2005.
- اللسان وعلومه في مقدمة ابن خلدون، بحث، عن منشورات مسكلياني للنشر والتوزيع تونس، 2007.
سيرة الملك
ملولاً يعدّد أيامه
ثمّ ينثرها في فراغ الجهات
كأنّ له فطنة الهذيان
وديباجة الصحو يبرئُ من عمره آية
ويموّهُ ما عرّت الريحُ من صخر أعوامه
تلك أعراسه بعدّ مكائدهُ
لغدٍ مرّ في خاطر الأمس في غفلةٍ
عن نباهةِ أسلافه.
صاعداً
من براحِ الكتابة نحو ذُرى الوهم
يُقرِىء أمجاده
للمريدين من حولِهِ:
(استوى، ما تهيّبت وأنفضّ عنّي المريدون
طوّفت لم أبتغ غير مُلكي أضيّعُهُ عمداً
عمداً كُنتُ أقتاد مُلكي بعيداً
لألقاهُ من بعدِ تغريبةٍ
أتفرّى تفاصيلها في نعالي.
استوى ما تهيّبتُ وأنفضّ عنّي المريدون.
في خُلوتي
قد تفرّيتُ ما شيّدت قدمي
من ممالك في سُبُل الناس، عدّدتها
ورثيتُ التي سقطت
في الظلال البعيدة، هيّأتُ في خُلوتي
حرماً ونبيّين، هيّأتُ عرشاً
لسيّدةٍ لا تقالُ.
كُنتُ في خُلوتي ملكاً لا يطال، ولكنّما
استوى ما تهيّبت وانفضّ عنّي المريدون.
نتّقي
خلف هذا الجدار النبوءة، قد نستطيع التّوغّل في الأرض
نبتاغُ بالآي أسرجة ومواويل، قد نستطيع الذهاب لمطلق أحلامنا
خلف هذا الجدار.
وجدنا
على هذه الأرض أسماءنا
وجدنا لأسلافنا شجراً نتفيّؤه
وجدنا القداسة مبثوثةً في الهواء
فإلى أيّ تيه تقود خطاي
أيّ هذا العمى ؟
في البلاد البعيدة هيّأتُ مملكة من تراب
وقدّسته: أنت مُلكي.
في البلاد البعيدة ألقتْ
مراسيها الأرض، وازّيّنت
ببهاء الأساطير).
تقريض الشهوة
هل قُلنا
سنوقّع تكوين الأرض على إيقاع الجسدين ؟
وهل جئنا من شهوة خالقنا لشميم الطي ؟
ها أن الله الأنثى
يمدّ حرير أصابعه
لغُبار الكون الفحل
ها أن الألق الناعم في الجسدين
يشفّ عن الدّنيا
وها أنا
نثقلُ في شجر الشهوة:
الله الأنثى
وغُبار الكون الفحل، فهل
قُلنا بأنّا
من جسدينا
سنعيدُ الأرض لسيرتها الأولى ؟.
2
لا شيء يُحيلُ عليّ
فخلّ يدك
لأصابعي المرتبكة
الأرضُ توزُع أسلاب الليل على الأطيار
في دفء أكنّتها
وتسوق قطيع النّجمات مرعاها
هذا نهارُ مرٌّ، فهل
تشرقُ في ليلِ الشهوة أقمارها
المنكدرة ؟.
3
ما لا يقرؤهُ العارفُ في مرآةِ الغيب
ما لا يفصح
ما يعسُرُ في التأويل
هذا الألق الممنون لنبراس الشهوة
تتنادى الأنجم في ملكوت الليل
وتتّسع الأحداق:
ذا ألقُ
يخرُجُ من مخبوء قوادحه
لعميم البهجة
ذا عبقُ الأسلاف.
4
ها قد حطّ على الأهداب
وأشرقت الظلمة
فأنيري سراج الليل
في عينيك
هسيسُ العشبِ الصاعد في أكناف الليل
فرحُ النملُ بُلقياه
ألم الطير الطالع من بيضته المنكسرة
من ذا
يشفعُ للطين لدى أُنثاه
من يقرأ
في عينيها الرغبة ؟
5
قد أسرت
بكُما اللذة في كفٍّ
من ريش الغيم لأرض الله الخصبة
فأقيما
طقوسَ الحجْ:
لا خيطَ على الجسدين
والروح تسبّحُ بإسمِ الواحد
في غبطة
يا عين الله الرحبة
آحرُسْ
ليلُهما المقرور، فإنهما
جاءاك شتيتين من الغربة.
6
ما ألطف هذا الطل !
يهجسُ إذ يتناول
ما يتهدّل من
توتِ الشفتين
فكأنّ ربيعاً حل
تتنادى هوام الأرض
لدبيب اللّذة في الجسدين
وتحتفل الأزهار
بغضاضتها
في عسل الرّيق
ها أنّ سهوبَ الليل تضيق
بشميم الند
ها أنّ اليد
تتهجّى مسالكها
في أرضِ بكرهْ.
7
بأنامله
يختطّ حدود الأرض
ويدحو روابيها
من قطن الغيمات المرتفعة
بأنامله
يقفو أثر الأنهار
ويبني ممالكه المزدهره
بأنامله
يرقى
لنفائس أنثاه
الممتنعهْ.
8
تتعلّم
أن وراء الشمس سهوباً رحبهْ
تتعلّم أنّ الأرض تضيقُ بشهقتها
وبأن طفولات جمّة
توسّع من حولهما الآفاق
تتعلّم
كيف تقيم الليل لبارئها
تتعلّم سرّ الغبطه ؟.
9
أهفوتَ إلى سُرّتها ؟
أم أُرتجَ في السير عليك ؟
أم رحُبت بين يديك ؟، فلم
تُدرك لمناهلها الورد
أو لم تمرعْ بين ترائبها ؟
أولم تنهل دفء مضائقها ؟
أو لم يسلس
بين أصابعك النهد ؟
ستشدّ رحالك من أعلى الجيد
إلى مُفترق النهرين، فلا تُسرف
وأضرب قُدماً
في أنحاء الأرض
سترى في أعلى الصدر سماء الله الأولى
وترى
بين النهدين ملائكة تسعى
سترى عباداً
يُعلون قباب أيمّتهم
من ريش الغيم
وترى مُنبسط النجدين
سترى الخيل تفيء إلى سّرّتها
وترى في أقصى مرابعها
أقباس الليل
ها أنّك ترقى الآن وئيداً
سُبُل الأرض إلى سرّتها
ها أنّك
تدرك ورد النعمهْ.
10
إنّه مخمل النهد، فأنظر
لسطوته في الليالي
توقّيتهُ
إذ توقّيت ما يملأُ الأرض من حوله
خبباً وصهيلاً
تلك كعبتُهُ
ومناط الإنابة
محرابُ من وُلّهوا بإسمهِ
ومزارُ النبي
أرأيتَ إذا الكائناتُ سجت
وقد أرتجّ من رجفة في يديك
أرأيت وقد صدح الطير، إذ
صُغتهُ آيةً بيديك.
11
تلك وردتُها في الأقاصيّ
فهدهد
حييّ تفتّحها
وأحفظ السرّ إن هجست
لحرير يديك.
12
أرأيت وقد
جئت سرّته
كيف تنقلبُ الأرضُ من حوله
فرحاً وحُبورا
أرأيتِ للمسِ أنامله كيف يحنو
وكيف يمدّ معاريجها
جنّةً وسعيرا.
13
تلك وردته في الأقاصي
فأحذري
خدش مخملها
إن هممت بها
وأحرسي
خفْرَ يقظتها بيديك.
14
قبّلت أنامله ؟
حسنٌ!
فهبيه الآن مباهجها
لتعُمّكُما الغبطه
ضمّي كفّيه إلى خدّيك وخلّهما
ينزلقان وئيداً حول الجيد
العشبُ على الصدر يلين إذا
مشطته أصابعُك الأنثى
وهوامُ الأرض تهشّ لمسراها
الوعرُ يدلّ النهر على مجراه
فلا تهني
ذا فجرُ الشهوة منبلجٌ
والدربُ حزيزْ.
15
وجلاً
يصّاعدُ هذا الوهد إلى قمّته
وعلى عاتقه
حملٌ
للقاء الرّبْ
هل يسفرُعن نغمته ؟
هل يطلق ثأثأتي من حبستها ؟
يسّاءلُ: هل يقبل تقدمتي بين يديه ؟
وهل يملي ألواحي؟ أم يرقى بنفائسه لسماء أخرى ويضيعُ العهد ؟.
وجلاً
يخرُجُ من حُبسته
وجلاً يمرعُ في أفياء الربْ.
16
تسبيحُ ملائكةِ بيضْ
بدوٌ وقداديس
تترى
ومن أطراف الأرض، وهمهمة الكُهّان
وقرابين
من عسلٍ وأفاويه وروح الطيب
خيلٌ تصهل في الآفاق
أرواح الغابات
بروقٌ وتهاليل
موتى ينسلون من الأكفان
أسماء الله الحُسنى
حمدلةٌ وتراتيل
صاعقةُ الخلقِ الأولى
صيحةُ مولودٍ، وزغاريد
أسلابٌ تمدحُ سالبها
وغنائم من أدخنةِ الطيبْ
أشربةٌ شتّى
فاكهةٌ
وأفانينُ طيوبْ
أشميم الجنّة ما أعتبقا ؟
أم أسرتْ بهما الأهواء ؟
بلى
ها أنّهما
تتنزّلُ من حولهما الأرواح
وملائكةُ الربّ سلاماً
ها أنهما
في مملكة الله
بلى
ها أنهما
في مملكة الله الرحبة.
17
كم ضاقت أرضُ الله على الجسدين
وكم أزرتْ
بالأفاق اللذة
ما من طائفةٍ عرفتْ
ما من رُسُلٍ وُهبوا نعم الرّؤيا
ما من أحدٍ
عرف السّرّ: هنا
تلتمسُ الّروح منازلها
وهُنا
ينبسطُ الله
لصنائعه
ما من أحدٍ
ما من أحدٍ غيرُهما
ضاقت عن بهجته الظلمه.
18
من هذا الذّكر المجبول
من الحُمّى
أزرى
بحُصونِ الأهل، وأيقظَ أفراسي
من غفوتها
من أعطاه مفاتيح البيت ؟، ومن
أجرى
في كفّيه أفانين السِحْرِ
إنّي
لأذوبُ من اللذّة بين يديه
وإنّي لأقرأُ في ولهٍ
تاريخَ الأرضٍِ على زنديه
سكرى بأطيبه
أسمعُ زغردة الأهل
إذا همّ ببطني
وألقى
كشميم المسك إذا قبّلتني.
19
من هذي الأنثى ؟
أفضتْ بالطين إلى معناه
وأنالت صرف النعمه
من أقرأها السُبُلَ المحذورة ؟
من أجّج فيها الرغبه
كم تجمح بي
إذ أنفذُ في وردته
كم تعبُرُ بي
لعميم الغبطه.
20
من هذا الذكرُ الصنديد سباني
من أقصى الأرض
وملّكني الأصقاع بقدرته
لم أبرحْ أعتابَ صباي
ولم أقرأْ
في ألواح الغيب
لكنّي
عبرتُ حُدود العلم على وردته.
21
من هذي الأنثى المسبوكة
من عطرٍ وحريرْ ؟
وهبت للخيل أعنّتها
وألانت يُبسَ الطين.
22
من هذا الذّكرُ البارئ ؟
سوّاني
منن لُطف يديه
وسمّاني
بأنامله الأنثى
هل كان الحُبّ سديماً قبلي
أم عبثاً
مرّت أيامي قبل يديه ؟
لم أحوِ سواهُ
لكنّي في الشّهقة إزدحمت
كلّ الأسماء عليهِ.
***
محجوب العياري
- من مواليد بهنشير عيشون ماطر ولاية بنزرت بالشّمال التّونسي، عام 1961.
- متحصّل على الأستاذية في التوثيق وعلوم المكتبات / معهد الصّحافة وعلوم الأخبار.
- عضو اتّحاد الكتّاب التونسيين.
- عضو اتحاد كتاب الأنترنيت العرب.
- رئيس جمعية الرأس الطيب للثقافة والفنون والدراسات بنابل.
- يشغل رئيس مصلحة المطالعة والمكتبات بالمندوبية الجهوية للثقافة والمحافظة على التراث بولاية نابل.
صدر له:
- تداعيات في الليلة الأخيرة قبل الرحيل، شعر، عن دار الجويني للنشر تونس، 1988.
- حالات شتى لمدينة، شعر، عن دار الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة أولى 1990، طبعة ثانية بمكتبة الأسرة القاهرة 1996.
- حرائق المساء / حرائق الصّباح، شعر، عن بيت البحر المتوسط بالحمامات، 1993.
- أقمار لسيدة الشجرات، شعر، عن دار الصقر العالمية للدعاية والنشر بنابل، 1997.
- الطّفل، شعر، عن منشورات بابيروس للنشر نابل، 2004.
- أمجد عبد الدائم يركب البحر شمالا، رواية، عن دار أركانتار المغرب العربي تونس، 2006.
- العنكبوت / l'areignée، رواية لمنصور مهني، ترجمة، عن الدار العربية للكتاب، تونس، 2006.
الطّفل
إلى: حمّادي صمّود
كَلِفاً بالأزرق يأتي
مُلتحفاً بِحَنين مُشتعلٍ لغناء الصّيادينَ
خفيفاً يأتي:
لا زوّادةَ
لا مشكاةَ
عصاهُ إذا انتابتهُ هواجسُهُ الأولى أغنيةٌ كان يردّدها الأجداد سُكارى فوق الماء
وفوق الماء أقام الطّفل حدائقَ
رصّع بالأقمار رؤوس النّخل فحطّ يمامٌ فوق يديه
تواثبت الغزلانُ وغنّت في الأسحارعرائسُ من ياقوتٍٍ.
قال الباعةُ في الميناء:
ـ لمحنا الفجرَ
وكان الغيمُ كثيفاً
طفلاً
جاء قُبيْل الشّمس خفيفاً
لا زوّادة
لا مشكاة
ولا مجذاف
تبعنا الطفل، ذَهِلْنا
كان يسيرُ رشيقاً فوق الماء وينأى.
قال عجوزٌ:
ـ كنتُ ـ وكان البحرُ مساءً رابعَ أربعةٍ
ألقيتُ شِباكي
كان البحرُ كما لم أشهدْ منذُ سنينٍ
أهدانا سمكاً شتّى
صدفاً
سرطاناتٍ
وقواقع نادرةً.
مـلأتُ كؤوسَ الصَّحبِ
سقَـيْـتُ البحرَ بقيَّـةَ ما بالجرّة
غنّـيْـنا.
أسْـلمتُ الدَّفّـةَ أصغرنا
حيَّـتْـنا ريحٌ طيّبةٌ
فوقفتُ أردُّ تحيّتها.
فلمحتُ هنالك في الآفاق ضياءً
قافلةٌ من نورٍ تعرج نحو سفينتنا
أمعنتُ طويلا
كان الضوء شديدا.
أخرجتُ المنظار
مسحتُ على العدساتِ بكُـمِّي
لاحتْ خيلٌ
خلف الخيل مراكبُ تشغلهُـنَّ عرائسُ أجملُ مِنْ...
يا كيف أُشبّههُـنَّ إلهي
ضاقتْ بي لُـغـتي !
ولمحتُ ثلاثةَ غزلان
بجعاً
شجراً يمشي
ورأيتُ الطفل جليلاً
يمشي فوق الماء عليه ملابسُ خُضْـرٌ
صُفرٌ
حُمرٌ
زرقٌ
ربِّ تشابهتِ الألوانُ عليّ
ولا عجب.
ـ سأمرُّ اللّـيلةَ في فتيان
قال فتى.
سنقومُ اللّيلَ
سنرصدُ هذا الطفل
سنُبحرُ إثرَ مراكبه
لن تُـثـنينا غيلانُ البحر ولا الأمطارُ
سنهتك سِتر اللّيل ونعرف أيَّ ضفاف ينزلُ هذا الطفلُ فقَـرُّوا
لا تثريبَ على أحدٍ منكم.
ـ لن يدرك ذاك الطفل فتًى منكم.
لسنينٍ كان يهاجر نحو حدائقه الأبهى.
ولقد حاولتُ
أسـرَّ كبيرُ البحّارين
وصفوةَ من أدركتُ من النُّـوتيّـة أن نتعقّب آثار الطّفل فما أفلحنا
كنّا عند اللّيل نرى لألاءَ حدائقه المسحورة
نسمع في الأسحار غناء الحوريّات
فنبحر صوب الضّوء... ولكن !.
لشهورٍ كنتُ شُغلتُ بذاك الطفل
نزلتُ موانئ لا أسماءَ لها
أغريتُ كبار البحّارين
رشَوتُ الفتية.
قلتُ:
ـ حدائق ذاك الطفل تفيضُ بما لم تُبصرْ أُذْنٌ.
ثمّةَ حيث يقيمُ الطّفلُ كرومٌ تقطر شهدا
ثمّةَ فيروزٌ
ماسٌ
بجعٌ من ياقوتٍ
ثمّةَ......
أبحرنا فجرَ اليوم السّابع
كنتُ أشدُّ حبال الصّاري
أهتفُ بالنوتيّة أنْ جِـدُّوا
هبَّتْ ريحٌ
سرقت ولدي عصرا
وجهي للريح
بكيتُ أخي.
في اليوم الثالث والعشرين تساقط تحت سياط الشّمس ثلاثةُ أصحابٍ.
قضمتْ أنيابُ اللّيل أصابع سادسنا
وبكى البحّارةُ أن يا ريّـسُ خذنا حيثُ الماءُ... تعـبْـنـا !
عرّجْ نحو الغرب
هناك جزائرُ فيها الماءُ
وفيها الظّلُّ
فعرّجْ.
كنتُ كسيرا
عرّجتُ
وعدنا.
بعد ثلاثة أعوام
كانت شمسٌ تسترخي فوق سرير الماء
وكنتُ بلا فرح
أسلمتُ المركبَ ريحَ الشرقِ.
ـ لريحِ الشّرق إذا هدأت لمسات الأنثى ـ
كفُّ الريح تداعب شعري الأشيبَ
كفّي تلثُـمُ وجه الرّيح
كأنّي أمسك رأس النّهد
كأنّ يدِي ترتاحُ على زغبٍ كالقُطنِ
غفوتُ قليلا
حين أفقتُ رأيتُ اليمَّ يَـرقْـرَقُ بالأنـوار
وقفتُ.
ـ إلهيَ، أين النهدُ ؟، وأين يداها ؟
ـ أين المركب ؟، أين الصاري؟، أين الدفـة والمجداف ؟، وأين الجرة ؟، أين كؤوسي؟ ! .
يقظانا كنتُ
وكان الموجُ يعربدُ
كان الماءُ
وكنتُ يتيما فوق الماء.
خطوتُ فلم أبتَـلَّ
مشيتُ
عدوت
رقصتُ
جلستُ
يطوّقُني الماءُ ولا أبتـلُّ !!.
أصختُ السمع
وجُـلتُ بعيني:
كان الطّفل جليلا يسبحُ فوق الغيم
رأيتُ غزالا يدنو منه
رأيتُ ـ ولم يكُ حُلماً ـ كيف تقبّله الشّجراتُ ؟
رفعتُ يدي
لوّحتُ طويلاً
حيَّا
ثمَّ دنا
أطرقتُ حياءً.
كان الضّوءُ شديدا
كنتُ كليلٍ
كان الدّمعُ يبلّـلُ دمعي.
كان قريبا
مسكٌ يعبق من كفّـيه
أشار فحَمْحمَ مُهرٌ بين يديَّ
ركبتُ المهر عَـداَ بي شرقا.
كان البحرُ مساءً
كانت شمسٌ تضحك فوق سرير الماء
ومهري يوغلُ صوب الشرق
وكان البحر مساءً
كان الطّفلُ توارى خلف الغيم
توارى غرباً.
كان البحرُ مساءً
كانت شمس ترقصُ فوق سرير الماء.
وكان الضّوءُ
وكان المهرُ
وكان الطّفلُ
وكان الغيمُ
وكنتُ
وكانتْ
كنـتُ
وكـنّـا
كُـنًّـا.
في وصف يديها تحديدا
إن يسؤهُمْ تعلّقي بيديـْــــها
فليموتوا، أنا شهيدُ يديــــها
الغماماتُ والبحارُ جميــــعا
والينابيعُ تستقي من يديــــها
أيُّ سرّ؟ كأنّ سبعين أُنـــثى
نافراتٍ تجمّعنْ في يديــــها
كيف لي أن أتوب عن كلّ هذا ؟
كيف أصحُو، وخمرتي من يديها
محضُ كُفر، وخيبةٌ وضَــلالُ
إن أنا تُبتُ ساعةً عن يديــها
بعد موتي أنا سأُبعثُ حـــيّا
ليس ميْتا من مات بين يديــها.
عن الموت... وعن حماقات أخرى
سأمـوتُ من وَلَهٍ
أمـوتُ
سأموت حقـًّا
لا مجازا
ثـُمّ يطـويني السّـُـكوتُ
سيسيرُ خلف النّعش أصحاب قليلٌ
سوف يمشي أدعيـاءٌ كاذبُـونْ.
سيقول نُـقّـادٌ كلاما غامضـا
ليُـوفّرُوا ثمنا لكبـش العيد حتّى يفرح الأطفالُ
سـيهبُّ أكثر من مذيع فاشل
ليبُثّ صوتي عبر حشرجة المساء
ستُـعيدُ بعضُ صحائفٍ نشرَ القديمِ من الحواراتِ القليلهْ
بعضُ اللُّصوص سيحتمي بظِلال مسبحةٍ كذوبٍ
ثمّ يتلو ما تردّد عن عذاب القبرِ.
عُشّاق صغار
ساسةٌ حمقى
سماسرةٌ
نهاريُّـونَ
كُـتّابٌ بلا كُتبٍ
وحُجّابٌ بلا حُجُبٍ
وحطّابون في ليل القصيدة دونما قبسٍ
ومشّاؤون نحو ولائم السُّـرّاقِ
سوف يردّدون جميعُهم:
ـ محجوبُ مِـنـَّـا
نحن حذّرناهُ أنّ العشقَ
مثل الخمر
مثل الشّعرِ قاتلْ.
ـ محجوبُ مِـنـّـا
نحنُ أطعمناه من جوعٍ
وآمنّاه
كان لنا رفيقاَ.
ـ محجوبُ منّا.
ـ لستُ منكم
لمْ أُرافقْ غير جُــوعي.
ـ لستُ منكم
لمْ أُرافقْ غير حُــزني.
ـ لستُ منكم
لمْ تُـرافقني سوى أُنثى أنا أوغلتُ في دمها
فمعذرةً
سوى صحبٍ قليل عـدُّهُـمْ
لكنّهم كانوا صحابي.
ـ لستُ منكمْ
لستُ من أحدٍ
وكفّي هذه بيضاءَ أرفعُها
وما رافقتُ من أحـدٍ
أنا رافقتُ جـوعي
وقصيدتي جاعتْ وما أكلتْ من الثّــديَـيْـن
جـاعتْ
خوّضتْ في اللّيلِ حافيةً
ونامـتْ
لمْ تُفتّحْ لارتعاشتها البـُـيُـوتُ.
سأمــوتُ من وَلـَـهٍ
أمــوتُ
لكـنّ كاساتي
وكاسات الأحـبّــةِ فِـضّـةٌ
وكــؤوسُ أعــدائي خُـفُــوتُ
ولنا الصّباحاتُ التي لا تنتهي
ولهم فواجع أمسهم
لهم السّـُـكـوتُ.
سأمــوتُ من وَلـَـهٍ
أمـوتُ
سأمــوتُ حـقًّــا
إنّـمــا
من لحم أغنيتي ستطلعُ كـرْمــةٌ
سيحـطُّ فـوق جـبـيـنـها حبـقٌ وتُـوتُ.
سأمــوتُ ؟
وهْــمٌ ما أشاع المـيّـتُــونَ
وهــلْ أخُـو وَلـَهٍ
يمُــوتُ ؟!
هــلْ أخُــو وَلَهٍ
يمُــوتُ ؟!.
غــريبان
بكى صاحبي
قال هُـنَّا على الأهل
والأرضُ ضاقتْ
وإنّي أرى أنّـنا مُدركانْ.
بكى صاحبي
والجوادُ الذي كان يعدُو كَباَ
جَـثوْنا
وصلّيتُ من أجل أن ينهض المُهرُ
لكنْ !
تطلّعتُ في عين مهري
همت دمعتانْ.
توسَّلني المهرُ
أطلقتُ:
ـ ربّاه يوجعني أن تموت الخيول.
عَدوْنا صُعودا
أعاقَ الخُطى شجرٌ شائكٌ
حجرٌ كالسّكاكين يَقتاتُ من باطن الرِّجلِ
والشّمسُ تهوي شُواظا
شَقَقْنا بمُديتِنا مَسرباً
كان بي ظمأٌ
قُلتُ:
ـ حُدّثْتُ يا صاحبي عن ينابيعَ دفّاقةٍ عند تلك الشُّجيْراتِ
فَلْنغْذُذِ الخطوَ
إنّي...
عَدَوْنا صُعُودا
(كأنّي ـ وقد بانَ إبهامُ رِجلي مُدمَّى ـ علَى الوجهِ أسْعَى)
عَدوْنا
يُبلّلُنا عطشٌ مالحٌ
والينابيعُ تنأى
عدونا
كلاب المُغيرين في إثرنا
والينابيعُ تنأى.
تطلّعتُ من فوق بلُّوطةٍ:
ـ يا إلهي
قريبين كانوا
كلابٌ سَلوقـيّةٌ تسبقُ الخيلَ
في الشّمسِ لاحتْ نَياشينُ أكبرهم
(كان يُدني إليه الدّليلاَ)
رَكَنَّا إلى صخرةٍ
قلتُ:
ـ يا صخرتي
ليس للمُستجيرَيْن إلاّك
أيْ أمَّ هُنّا على الأهل
والأرضُ ضاقتْ فكُوني
ووجّهتُ رشّاشتي نحوهم.
لاح وجهٌ
رمى إذْ رآنا
فأطلقتُ
أقعى
تَكأْكأَتِ الخيلُ
جاءتْ كلابٌ
رَميْنا أًَصَبْنا
أُصِبْنا
وفي ضربةٍ أَسقَط العلجُ رأسي
ورأسَ الذي كان رافقني من قديمٍ
وفي لحظة قطّعوا صاحبي من خلافٍ
كما قطّعوني
وفي لحظة صلّبونا على جذع بلُّوطة
ثم غابوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
غريبَيْنِ متْنا
وما من عزيزٍ يُسجِّي القتيلَيْنِ
أو يكتب الشّاهدهْ.
غريبيْنِ متنا
وذي الطّيرُ تقتاتُ من لحمنا
تكتبُ اللّيلة الباردهْ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبلَ أن يُدركُونا
مررنا على الأهل
قُلنا المغيرُون في إثرنا
أَنكرونا
نزلنا بماءٍ لجيراننا
مزَّقُوا قِرْبَتي.
قليلاً من الزّاد، قُلنا ؟
أجابوا:
ـ ثلاثٌ عجافٌ تتالتْ علينا
فلم ندّخرْ غير نَزرٍ لأطفالنا
والمواشي.
ـ أما من دليلٍ يبينْ لنا خافيات الثّـنايا ؟
أجابوا:
ـ اسْتدلاّ بضوء القمرْ.
تطلعتُ
لا قمرٌ في السّما
كانت الشّمسُ تقتاتُ من قلب مُهري.
بكى صاحبي
قال:
ـ هُـنَّا على الأهل
ثمّ انطلقنا.
***
محمد الخالدي
- من مواليد المتلوّي بالجنوب التونسي، عام 1948.
- متحصل على الماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة المستنصرية بغداد، 1982.
- له اهتمام بالتصوف، والديانات الشرقية كالبوذية والهندوسية والماوية، وقد ترجم منها وكتب عنها نصوصا عديدة.
صدرت له:
- قراءة الأسفار المحترقة، شعر، بغداد، 1974.
- كل الذين يجيؤون يحملون اسمي، شعر، بغداد، 1978.
- الراثي والمراقي، شعر، تونس، 1997.
- سيدة البيت العالي، شعر، تونس، 1999.
- مباهج تونس، شعر، 2001.
- وطن الشاعر، شعر، تونس، 2003.
- من يدل الغريب، شعر، تونس، 2005.
- قصائد الشبيه، شعر، تونس، 2007.
- ما تجلوه الذاكرة، ما لا يمحوه النسيان، سيرة، تونس، 2006.
السميّ
لمحمدٍ تاريخُه السّرّي
وجهُ حبيبةٍ هجرت
وبعضُ قصائدٍ هي نبضُهُ
لمحمّدٍ أطوارُهُ.
ـ إنّي السّميُّ مواسمي غيثُ
وغلّق دونه:
ـ لن يدخل الشّعراء بعد اليوم مملكتي
ولن يقفوا ببابي.
لمحمّدٍ وله النّبيّ وغربةُ الأقطاب
وله المنازل رُصّعت بين البسيطة والسّماء
وله النّجوم مراكباً حفّت بموكبها جموعُ الأولياء
يمشي فيتبعُ خطوهُ
حشدٌ من العشّاق والشّعراء.
ـ حدّث لنا عن روعة الإسراء
كيف ارتقيت ؟
وكيف جُزت مفاوز العتمات
والسّبع الطّباقا ؟
ماذا رأيت؟
وما طُوى ؟
أوناولوك شرابها كأساً دهاقا ؟
ماذا رأيت ؟
وكيف ؟
ما جنّة الخلد ارتمت أرجاً، وطيبا، عسلاً
وخمراً لذّة للشّاربينا ؟
ما العرش فاض بنوره فدعا إليه الأقربينا والأنبيا ؟
أصحبتهم ؟
ماذا رووا ؟.
ـ حدّث لنا
والخضرُ هل أبصرته في ملتقى البحرين ؟
هل جاورته ؟
ماذا روى ؟
أله البلاد يجوبها لمحاً ويهدي السّالكينا ؟.
ـ طوّفت لو تدرون في الملكوت مرتحلاً
أعُبّ الضوء ما بين الكواكب في السّما
وشهدت ما شهد النبيّ وخيرةُ الأصحاب
فغلقتُ بابي
لن يدخل الشعراء بعد اليوم مملكتي
ولن يقفوا ببابي
أخشى عليهم هيكل الأنوار يخطف لبّهم
أخشى عليهم رؤية المحراب.
بعُدت مراميه
وسمت مراقيه
الكون كبّر يوم هلّ على الملا
والأرض ما وسعت تجلّيه
هو ذا السميّ
الخضرُ أعلنه وباركه النّبيّ
هو ذا السميّ
الأنجم الزّهراء بعضُ ضيائه والكوكبُ الدّريّ
هذا مداه
مواكبٌ من بهجةٍ
وممالكٌ من رامها ركب البُراقا
وطوى المفاوز عابرا سبعاً طباقا
هو ذا يُطلُّ فتزهر الجوزاء
جلّ السميّ وجلّت الأسماء
لجلاله
وجماله
هفت النجوم وسبّح الشّعراء
ضجّ السميّ
فتداعت الأكوان والملأُ القصيّ
إنّي السميّ صحبتُ كلّ الأولياء
إنّي السميّ وآخرُ الشعراء
كثُرت مواسم بهجتي وتعدّدت أسمائي
القبّة الزّرقاء منتجعي
وبيتي حوزةُ الجوزاء.
أحــوال السّميّ
كلّما طفتُ بالمنتهي قام عرس
قامتي مهرجانٌ
ووجهي شمسُ.
ــــــــ
ندّ حين مررتُ الخزامى
وضاع البشامُ
عبقٌ كلّ مملكتي
وسمائي رخامُ.
ــــــــ
ـ ما لها البيدُ تسري
غيمةً من عبيرٍ زكيّ ونشرِ؟
قيل:
ـ مرّ السّميّ فهبّت
غيمةً من عبير زكيّ
ونشْر.ِ
ــــــــ
صيح في الأولياء تعالوا
وأنظروا
هل ترون شبيهاً له في الورى ؟
فتنادوا جميعاً وقالوا:
ـ لا نرى للسميّ شبيهاً
تفرّد فينا فعزّ المنالُ.
ــــــــ
موغلاً في السّكون
مُترعاً بالحنين
أمتطي صهوة الشّوق أمضي
إلى حيثُ منتجعي وجنوني
كلّ هذا الفضل مدايْ
كلّ هذي السّماء سمايْ
ـ من يعدّ النّجوم ؟
ـ ومن يدّعي ؟
ـ من يقيسُ خُطاي ؟
حلّ فيّ الإلهُ
صرتُ بهجته وسناه
وحده كان قبل يراني
فصرتُ أراه
يقف الأولياء ببابي
كلّ يومٍ
فأتلو عليهم كتابي
ثمّ أسقيهمو من شرابي
فتراهم سكارى
يلثمون التّراب ويبكون
يستعطفون المدارا.
ــــــــ
مرّ بى السّابقونا
مرّ بي اللاّحقونا
سجدوا كلّهم للسّميّ
وتلّوا الجبينا
زُويت هذه الأرض لي
واتتني مشارقها ومغاربها تتودّدُ لي
فأشرت لها من عل:
ـ ارجعي مثلما كنت واتّسعي
اتّسعي
كلّ أرجائك الفيح لي.
آخرُ العاشقين
ـ السّميُّ
آخر السكاكين
ـ السّميّ
آخر الشّعراء
ـ السّميّ
هذه بعض أحواله
وهي نشرٌ وطيُّ.
أغنية
عجبا لأغنية نشيب
ولا تشيب
همنا بها زمن الوصال ولم نزل
إمّا تعتعنا المدام تعيدها فتذوب
تتذكر الأحباب
والأصحاب
والزمن القديم
وشرفة كانت بها ـ مزهوّة ـ
تختال ذات الدلّ
تومئ
كي نبادلها التحية
أو نقول لها أعيدي
بسمة بالأمس كنت زرعتها في دربنا
فتروغ من خجل
وتغلق شرفة
علقت ببهجتها القلوب.
عجبا لأغنية نشيب
ولا تشيب
راقت لنا زمن الشباب
ولم نزل
لسماعها نبكي
وما رقّ الحبيب.
حفل الغرباء
صافحتها فإذا يدي ورق وطلّ
ـ أهلا وسهلا... مرحب.
وتبسمت فأضاء حفل
ـ زمن مضى لم نلتق أوعدت، عفوا إنني...
ومضت تفتش في حقيبتها الأنيقة
عن سجائرها
وعن ولاعة ذهبية
ما فارقت يدها اليمين.
ـ نسيت أين وضعتها.. تبّا لذاكرتي.. لقد...
ـ هذي الكؤوس تطوف مترعة فماذا تشربين
أقهوة بعض النبيذ ؟
ـ تفضلي!
ـ شكرا.
وعبت كأسها في لهفة
وتطلعت نحو السقاة تحثّهم
وبغمزة منها يهش النادل المعطر
ـ معذرة
ويملأ كأسها جذلا
فتفرغها وتطفق مرة أخرى تفتش في حقيبتها الأنيقة
عن سجائرها وقد رعشت يداها
ودعت
فجاء النادل المعطر يلهث:
ـ عفوا سيدتي.
وتعلو همهمات الحاضرين
ولغوهم
هذا يلوذ ــ مرنّحا ــ بالشمعدان
وذا يحدق ساهما في وجه فاتنة
تمخطر في دلال بين منخطفين هاموا في هواها
فتمرّ ضاحكة
وقد تركت وراها سحبا من العطر المدوخ.
لم تمرّ فلا تحيي مثل عادتها
لعلّ " خطيبها " في الركن يرقب خطوها
أو أمها مشغولة بفتاتها
ولعلّ...............................
ثمّ يبادرون كؤوسهم في لهفة.
...............................
...............................
...............................
دارت بي الأرضون دورتها
ودارت بالحفّيين الكؤوس
وإذ أنا
في حانة كنّا نلوذ بها قديما
ضجة تعلو
وجمع من سكارى الحيّ
قد ثملوا فراحوا ينشجون:
ـ ترى تمرّ ؟
لقد مضى دهر وما مرت
وها إنّا نشيب وما نسينا
فمتى تمرّ لتوقظ الصبوات فينا.
...............................
...............................
وأفقت من حلمي
وإذ في القاعة
الفيحاء حشد من سكارى الأمس
لم أعهد ملامحهم ولا أسماءهم
من أين جاؤوا يا ترى ؟
ومتى ألتقوا ؟
وأنا متيّمها الوحيد
أنا قتيل هواها
ودعت فهش النادل المعطير يلهث:
ـ عفوا سيدتي، وعفوك سيدي.
وسقانا
فهممت أوقف لحظة هذا الزمان
لأغيب في زمن مضى
لأرى مساء شرفة ضاءت بها
وأرى حديقتها الفسيحة
وهي تخطر في مغانيها.
...............................
...............................
ما أكثر العشّاق هاموا كلهم فيها
لكنني أنا جميعهم
وأنا متيّمها الوحيد
أنا قتيل هواها
تغيّر الزمان بعدنا وكرّت الليالي
ولم أزل مولّها تشوقني المجالي
نبحث في جرعائها
عن كنزنا المخبوء في غياهب الرمال
عن وردة الرمال
***
محمد الصغير أولاد أحمد
- من مواليد بسيدي بوزيد، 1955.
- أدار بيت الشعر التونسي لسنوات عديدة.
صدر له:
- نشيد الأيام الستة، شعر، 1989.
- ليس لي مشكلة، شعر، 1989.
- ولكنني أحمد، شعر، 1989.
- جنوب الماء، شعر، 1992.
- الوصية، شعر، 2003.
الوصيّة
بغاية رفع المعنويّات
نكتب الشعر
على ضوء شمعة
أو تحت عمود كهرباء
في لفافة سيجارة
أو على دكّة حزينة
ذلك لا يهمّ.
نجتهد دائما في أن تكون أكاذيبنا قابلة للتصديق
ومنتجة للتصفيق
على الذي نرفع معنوياته
أن يرفع معنوياتنا...أيضا.
ما من كذبة أخرجناها للناس ـ نحن ظلال الظل ـ
إلاّ رفعوها إلى مرتبة الحقيقة
واتخذوها شعارا صاخبا في مظاهرتهم الموسميّة
التي يبدو لا طائل من ورائها
إذا لم تكن نهائية وحاشدة.
1
شبه متيقــّن كنت
أمّا الآن:
فعلى يقينِ مالحِ من أنـّني سأموتُ
ميتةَ غامضةً
في الصّيف
وتحديدا :
أثناء النـّصفِ الثالثِ من شهرغـُشْتْ
أحبّذهُ زوجيّا
باسماً
ذلك اليوم
حليق الذقن
مُهذب الأظافر
أنيقـًا بربطة عنق خضراء
وحذاء أسود لمّاع
وأشرعُ ـ للتوّـ في استقبال ملك الملوك
وفي توديع ما علق بالذاكرة من ملابس النـّصفٍ
الأسفل للدّنيا :
ـ زيتونة القوائِلِ.. مثلاً.
ـ ذبابَ المجاعاتِ..على سبيل المثال.
ـ حبيبتي التي تحبّ حبيبها.. وهذا يحدث أيضَا !
ـ سورة البقرة وقد أصبحت عجلاً.. في التأويل !
وأنتِ أنتِ نعمْ:
أنتِ أيـّـتها الأكاذيب المعروضة للبيع مثل كتيبةٍ
من البرقوق اليابس
فوق ثريد بربري ّ!.
2
أعلى من الملائكة
بلا شكّ
أعلى من بولِ الأطفال وهم يرسمون أقواسا قـُزحيّة
تحت سماء خرساء عاليةَ كما يجبُ
ستكونُ الحرارة
ومن سوء حظ ّ الذين ستترك لهم الشماتة ُ فرصةً
لتشييعي أنـّني من بادية حافية في الجنوب
في أقصى الجنوب
يستوجبُ الوصول إلى كلابها
ثلاثة أرباع يوم
في بطنِ حافلةٍ أميّةٍ رقطاء
تدبّ دائما
ولا تصل أبدا
لا أنا هُو
ولا هُم رسُلي
حتّى أصيح بالحرارة :
ـ كوني بردًا ـ من فضلك ـ وسلامًا !
من هذه النـّاحية أعترفُ بمحدوديّة خوارقي
وبندرة كراماتي
أمّا من ناحية أخرى
(والحقّ يقالُ أحيانـًا)
فليس هناك ناحية ٌأخرى.
3
مجرّدا من ملابسي الشـّـتويةِ
من وسواسِ جواهري
ومن حرسي الشخصيّ... أيضا :
يمكنني الإعتقاد أنّ خمسين درجة تحت الظلّ
عذابٌ يسهلُ تحمُلهُ طيلة صلاةِ الجنازةِ ومراسم الدّفن
بالنـّسبة لأناس أدركوا الأربعين
بحاكم واحد
بالشـّرطِة ذاتِها
والنـّشيد إيّاهُ
خمسون درجة
تحت الظلّ مجرّدُ نسمةٍ من نسائم الرّبيع
بل هواءُ صفـْعةٍ أخطأتْ طنينَ ذبابة.
ومهما يكن :
فالشـّمسياتُ سيكونُ مسموحا به
داخل الحافلة
وخارجها
على أن تكون بيضاء.
" القبور لا تميل إلى حزنٍ ملوّنٍ وبهجة ورديّة "
ورد ذلك في كتابٍ نادرٍ
عادَ بها النهرُ إلى النّبع
والنـّبعُ إلى جوف الأرض
ثمّ إنـّه ليس كتابًا
إنّه مخطوط و... شخصيّ.
4
أفضّل في البدء
أن يُحملَ جسدي ـ جسدي
هذا ـ جسدي الآخر تبخـّرَ مع عرق الطفولة
أن يُحملَ ـ وسط قفــّـة فينيقـيّة جوعانة ـ إلى أمْهرِ
قصَاب في البلد
ويُطلبَ منه تجزئـتـُهُ بساطورٍضخمٍ إلى أكبر عددٍ من الأعضاءِ
والمفاصل
والأشلاء
والقِطع
والمِزقِ
واللـّـُقطِ
والشظايا
هو يفعل ذلك كلّ صباح
مع الخرفان الغضّة
والأفراس المغدورة
مع خطاف الخرائب
وعصافير نيسان
فلماذا لا يفعلها معي ؟
لكن:
دون شفقة.. هذه المرّة.
القصّابون أدقّ معرفةً بأسرار اللّحم البشري
وأقلّ إيلامًا للدّم المنـْـساب عبر مواسير البلديّة المنتخبة.
أ . بَ . دَ . نْ :
لم يحدُثْ أن نسيَ قصّابٌ ساطوره في عنق بطــّـة
أو بين فخذيْ أرنبٍ برّي
وما نسيَ شيئا في شيء
وما كان له أن ينسى.
ولكن الذي حصل مع الأطبّاء
في دهاليز التـّجريب العلمي
يعرفه جنود التّورية
وضبّاط المجاز
وجنرالات الإستعارة.
رجاء :
ليتطاير شررُعظامي
حتّى يبلـّـغُ أجنحة الملائكة.
5
إنّ وطنيّتي
ما أثقل " إنّ " في بداية هذه الجملة الرومانية !
محكومٌ عليك أن تنصبَ إسمها
وترفع خَبَرها
حتّى وأنتَ تأكل
حتّى وأنت تقلع ضرسًا
حتّى أنت تصيح في الصحراء :
ـ ما أنا بقاريء !
قال لها: إنّني...
فتركتهُ
وحين تذكـّرَ أنـّـه لم يكملْ
أحبّكِ
كانت في قلب رجل آخر
في الطابق الخامس
قرب الطريق السّريع
الممنوع على الشّاحنات
بجانب بائع القماش
القماش الأبيض
قماش الموعودين بالموت.
وطنيّتي إذًا
لا تـُـبيحُ لي إفراد قريتي بجثماني
وحرمان بقـيـّة تراب البلاد من أثار موتي
ومعالم إندثاري.
هذا الموت :
الذي استنْبحَه لي أنصافُ الوسخين
في حانات التــّـقوى
فلم يرَ الله منْ موجبٍ للإستجابة لدعائمهم
ربّما لأنـّه يُحبّني
أو على الأقلّ
لأنـّهُ لا يكرهني
وهذا أمر غير مستغرب من كائن لم أسمع عنه
سوى ما يشجّع على الألفة
باركَ الله فيهِ من ربِّ كريم
ما ظللـْـنا نذبحُ له أولادَنا
شديدُ العقاب
إذا نحنُ متـْـنا وتركناهُ وحيدًا
في هذا الملكوت.
6
كالآتي
أوزع جثــّـتي في بطون بيزنطة معتذرا سلفا
للمدن التي لم تـُـبنَ بعد
وللفيافي الكافرة
التي سيتمّ فتحها بالجزية والرّماح حال هبوب وحي نوويّ
أصابعي
إلى جبال الجنوب المسلوخة حيث يتناوم
الشّهداء المقـتولون برصاص الإستقلال
أعمدة للهاتف
والقطارات السّريعة
سلالم
ومغازل
أقلاما
وأعواد ثقاب
سوف تستقيم تحت مطارق الحدّادين الأشدّاء
إلاّ السبّابة والإبهام فلجذع النـّـخلة الحزينة
عساها تلوح بشارة نصر إلى غرابة شموخها
وسط محيطات الرّمل.
شفتاي:
إليها
قوسان على حاجبيها
هلالان في ليالي الخسوف.
كبدي :
يا حارس القصر
هيّأتهُ لك على طبق هلالي من عاج الفيَلة
إذا أردتَه مشويّــًـا شويتـُـه
وإذا أردته نصف ـ نصف
ربحتَ دقيقـتـين.
ولعابي:
بقليل من البقدونس واللـّـبن سوف يكون لذيذا
وتأكل أصابعك معه.
دماغي :
إلى أسرى البحث العلميّ قليلا
والعلميّ كثيرا
والعلميّ جدّا
ليس لي دماغ ثان
يرجى التوصّل إلى حلّ قبل مائة ألف صفحة
من البحث على الأقلّ
البشريّة جمعاء في انتظار زبدة المنهجية
وعلى البرابرة أن يصلوا هذه المرّة.
عيناي :
إلى الفقراء السّباسب
والأحراش النائمين مع القطط
على أرصفة التـّـمنـّي.
لقبي:
إليه
لأنّي فيهِ
يحاول قتلي فلا أشتكيهِ !
بلا نقط أسمعُ الشـّـينَ منهُ
فأفهمُ ما لم يقله بما لم يقـلهُ
وتحت سماء بعيدة يسائلني :
أين ربّي !
فأخجلُ
أشغل نفسي بتقبيل بعضي وهذه القصيدة
صباح الأحد
أردّ إلى القرشيّ فضائل إسمي وتاج النبوّة
والمعجزاتْ
وأصبح:
بابا
بقطعة حلوى
وبعض حكايا
وبعض نكاتْ.
أذناي :
إلى السكرتير الأوّل لفرقة التّفتيش الوطنيّة عن لذة النّص
وما دمنا في لذة النص
استشرت محاميةً، متوسّطة القامة
القاضي يعرف لقبها
وأنا أعرف اسمها
فأكـّـدت لي أن القانون لا يجبر الشـّـعراء على وزن نصوصهم
وأضافت :
إذا كانت صباح الخيرعلى وزن مفاعلين
وسيّداتي آنساتي سادتي على وزن
لعنة الله عليكم كلّكم !
فذلك من باب الصّدفة
انتهى كلام المحامية
فاستنتجت أنّه بالإمكان
أن يكون للصدفة شبابيك.
7
ـ ميتة بكذا كذا ألف دينار !
ـ ميتة بنصف ميزانيّة الدّولة
ـ ميتة باذخة.. ستستغرب وزارة المال
ـ باذخة
ـ لم يحدث أن حدث هذا
سيعلق كبير حامي العادات:
ـ لم يحدث
ـ مجنون هذا السيّد
سيؤكـّد الطبيب
ـ مجنون
ـ لعنة الله على أمّه
سيقول إمام الجنازة
ـ وعلى أمّك
سيهمس المصلـّون
ـ وماذا لو لم نحترم الوصيّة
سيتساءل أرجحهم عقلا
قبر في كلّ بلدة
وما المانع
أو أحرم حتى من هذا !
إذا لم يفكـّر أحد، من قبل، في أمر كهذا فتلك
ليست مشكلتي.
مذ سقط رأسي على هذا الرّماد وأنا مشغول
بالتــّـخطيط الفذ ّ لبشاعة موتي
أبدا
لم أنجُ من الجمل الهائج صدفة كما يشاع
في التّراتيل
لم أحرم الذئاب العثمانيّة من لحمي دفاعا
عن يقظة السّرح
لم أترك الثــّور الإسبانيُ يبقر بطني مخافة أن يقال :
أنظر ذلك الصبيّ لا بطن له !
لم تكن تربطني عداوة وراثـيّة بالعقارب لأنّها عقارب في حدّ ذاتها
والحنش
والضبع
والورل
وبنات آوى
والكلاب
والنحل
والضفادع المسمومة
ما رميتها قط بحجر
وهي تخلع أحلامي وتوزع
فناجين السم على ضيوف كوابيسي.
كل ما في الأمرأن
هذه وتلك
السوام منها
وذوات القرون
كانت ستعاقبني بميتة محلية
لا تتجاوز مضارب القبيلة
وأنا أريده موتا مشاعا
موتا عموميا
كما يقال
موتا منتجا
بلغة اقتصاد السوق
موتا يدعم أواصر الأخوة
والتعاون المتبادل
في كنف الإنسجام التام والثـقة المطلقة
بيني وبين التراب الذي جئت منه لأعود إليه
وجدت الموت يضمن حق السكن الدائم في التراب
وحدها العظام تصلح أسمدة للسنبل والنخل
وما بينها
وحدها الوصايا تديم المعاني
وتحي الأموات.
8
شبه متيقن كنت
أما الآن :
فعلى يقين من أنهم احترموا الوصية
وزرعوني في كل شبر من هذه البلاد
هذه البلاد
التي أضيف لها ياءا من موتي
وأسميها :
ـ بلادي.
جنوب الماء
أدِرْ علينا الكؤوسا
وعبّها بالهواء
فقد نطيلُ الجلوسا
عيونُنا في السّماء
تصطاد غيما عبوسا
حتّى يجود بماء
فنملأنّ الرؤوسا
بخمرِ هذا الفضاء
ونخلعنّ النّفوسا
من بعد خلع الحذاء!
ولا تُظلْ .. وأدرها
وقلْ: سلاماً.. وضعْها
وأذهبْ
وعُد.. ثمّ خذها
وأضحك على من ينادي
حتّى يقال:
تدور
أمورُ
هذي البلاد!
وكن عطوفاً علينا
ولا تقطّب جبينا
محمحمتين أتينا
لحانكم.. كالجياد
بل فاسقنا يا حبيبي
ما تشتهي من حليبِ
من عهد نوحٍ وعاد
الطّبُ ضدّ الزبيب
لذاك قيل:
تدورُ
أمورُ
هذي البلاد!
وأسردْ علينا حكايا
عن مشمشات الصّبايا
وكيف قدحُ الزّناد
فإنّ حلو الكلام
لمسكرُ كالمدام
ونافعٌ للعباد
لذاك قيل:
تدور
أمور
هذي البلاد!
اليومَ أمرٌ
وأمسِ ؟
أفقت من خمرِ حبسي
ولي رضوضٌ بنفسي
كأنّني من جماد
ولو بقيت طليقاً
مبلّلاً أو غريقاً
أشدو مع كلّ شاد
لقرّرت لا تدور
أمورُ
هذي البلاد!
وأنت: ماذا دهاك ؟
لم يبقى نجمٌ سواك
أدعوهُ دوماً ملاكي
فيختفي في البعاد
حتّى النجوم تغور
لكي يقال: تدور
أمورُ
هذي البلاد!
نهيمُ في كلّ وادِ
وكلّ ما نبتغيه:
وسادةٌ للرّقاد
وطيفُ من نشتهيه
وكسوةٌ للحداد
حتّى يقال: تدور
أمورُ
هذي البلاد!
أقداحنا: يا نظافُ
من كلّ خافٍ وباد
لسنا الذين نخافُ
من حبّ هذي البلاد
لكنها لا تدور
بل قام فيها المنادي
ومن رآها تدور
فالوهم
سوّى لديه:
خُذروفهُ
بالبلاد.
***
محمد الغزّي
- من مواليد مدينة القيروان، عام 1949.
- حامل للاجازة في اللغة والآداب العربية من الجامعة التونسية.
- عمل أستاذاً بالمعاهد الثانوية.
- أستاذ جامعي بكلية الآداب بالقيروان.
صدر له:
- كتاب الماء كتاب الجمر، شعر، عن دار ديميتير للنشر تونس، 1982.
- للفرح القادم، شعر، عن دار ديميتير للنشر نفسها تونس، 1982.
- ما أكثر ما أعطى ما أقل ما أخذت / كثير هذا القليل الذي أخذت، شعر، عن دار سراس للنشر 1999.
- ثمة ضوء آخر، شعر، عن دار النهضة العربية بيروت، 2007.
العاشق الفرد
ألملم من عينيك أبهى مدائني
وأطلق في أبعادها طائر السّعد
وأشهد أهل العشق أني مولّهٌ
فلا عاشق قبلي ولا عاشق بعدي
لقد كذب العشاق قبلي وأرجفوا
فلا عشقهم عشقي ولا وجدهم وجدي
أنا سيّد العشّاق أنى توجّهوا
وحادي مطاياهم الى آخر العهد
ورغم الذي ألقى من الحُب لم أزل
فقيراً على بوّابة الله أستجدي
فطوبى لمن يغشى طقوس تولّهي
وطوبى لمن في الحب آمن بي وحدي
هي الأرض تغفو في فصول قصائدي
وأزهارها البيضاء تنمو على بُردي
لعشاقها أزجيت كلّ مدائحي
وحين مضى العشاقُ خبأتها عندي
فلا تسأليني أن أريح مطيتي
ففي غربتي بيتي وفي عطشي وردي.
إنّي ملأت الأرض
آثرْ عليّ الشّاربين تلطّفاً
فمحبّةُ النّدمان من أخلاقي
الدّيكُ سوف يصيحُ بعد هنيهةٍ
ويفرّق النّدمان بعد تلاقِ
إن الحزانى الشاربين عشيرتي
والعاشقين الموجعين رفاقي
فإذا ألتقى إلفان أغدو عاشقاً
وأقول لو حضنتهُما أحداقي
فتكون عيناي مخدعاً لهواهما
وتكون أجفاني الحجاب الواقي
إنّي لأكذب حين أغضى أعيني
لا فرق بين تعفّفي ونفاقي
إن نحنُ طأطأْنا العُيونَ تعفّفاً
فقُلوبنا ممدودةٌ الأعناق
إنّي ملأتُ الأرضَ فلتسألْ إذن
ماذا تكون الأرضُ بعدَ فراقي
فأنا عقدتُ على ثراها رايتي
وأقمت فيها دولة العُشّاق
وغداً سيمضي العاشقون جميعهم
وأظلّ في الأرض المُحبّ الباقي.
سؤال
سأل العبد:
لم استأثرت بهذا الخلد حبيبي الخالق ؟
وكتبت الموت على المخلوق
فأجاب الله:
إذا كان العبد حبيبي العاشق
فعلام يخاف لقاء المعشوق.
العاشق
يا حادي الأشواق
لا وجد من بعدي أنا لواجد
فقل لمن تولّهوا:
إني أنا العشاق
قد جمعوا في واحد.
وحشة
لم تشقني ركاب أحبتنا الراحله
فأنا حين يوحشني من أحب
أخلّف طيب مجالسكم
وأفيء إلى وحشتي الأهله.
الخيول
الخيول التي أسلمتنا على هذه الأرض
تلك الخيول التي دخلت "نينوى"
والتي قرعت باب "شاطبة"
والتي فتحت لنساطرة الليل أبواب " نجران"
تلك الخيول التي خوضت في نجيع سنابكه
والتي اختلجت في حبال أزمّتها
والتي إن تعاورها الناس عضذت على رسنها
واستدلّت بهذا الظلام السبيل
خيول الغزاة المدمّى حديد شكائمها
خيول صيارفة الواصلات شواجر أرحامنا
خيول المرابين في أرض "كنعانة"
تلك الخيول التي أبصرت فوق ما تبصر الروح
واستوجست قبلنا أنّ بيت المياه قريب.
الخيول التي أسلمتنا إلى هذه الأرض
تلك الخيول التي علّمتنا معا
أن نشيم على بابنا البرق قبل انعقاد السحاب
"أن نرى الأرض في قطرة الماء
والكون في حبّة من تراب"
خيول البرابرة الفاتحين
خيول الحلالقة الحاملين زيوف الدراهم حتى الأقاصي
خيول اليهود على سفح جلعاد
تلك الخيول التي نشرت في اخضرار الرياح نواصيها
وتغشّت مدائن أبعد ممّا اشتهى الراكبون.
***
محمد علي الهاني
- من مواليد توزر بالجنوب التّونسي، عام 1949.
- باشر مهنة التعليم، ثمّ صار مساعدا بيداغوجيّا 1987.
- من مؤسسي مهرجان الشعر العربي بالجريد بتوزر 1980.
- عضو الهيئة الإستشارية بمجلة: القصيدة، الصادرة عن جمعية الجاحظية بالجزائر.
- عضو الهيئة الإستشارية بمجلة: براعم الوسط، الموجهة للأطفال الصادرة بسيدي بوزيد، تونس.
صدر له:
- الجرح المسافر، شعر، عن منشورات الأخلاء تونس، 1980.
- أينعت في دمي وردة، شعر، عن وزارة الإعلام بغداد، 1989.
- كلّ الدروب تؤدي إلى نخلة، شعر، عن منشورات الجاحظية الجزائر، 1997 .
- يتغمّدني بالنّشيد الرّماد، شعر، عن منشورات الجاحظية الجزائر، 2005.
- أهازيج، شعرللأطفال، عن منشورات الأخلاّء، الطبعة الأولى 1983، الطبعة الثانية عن الدار التونسية للنشر، 1985.
- أرسم وطنا، شعر للأطفال تونس، 1989.
- فسحة لغوية، كتاب لغوي، عن دار الأقواس للنشر تونس، 1991.
- حقل النجوم، شعر، عن وزارة الثقافة، عمّـان الطبعة الأولى، 2002، الطبعة الثانية تونس، 2003.
الشَّمْعَــة
دَمٌ يَتَدَفََّـــقُ مِـنْ كَبِــدٍ
إِثْرَ صَفْعَهْ
وعَيْنٌ تَطَايَرَ مِنْهَا الشَّرَارُ
ولَمْ تَتَسَاقَطْ عَلَى الخَدِّ
دَمْعَهْ
كَثِيفًا تَرَاكَمَ فَوْقِي الظَّلاَمُ
ولَمْ تُطْفِئِ الظُّلُمَاتُ الْكَثِيفَةُ
شَمْعَه.ْ
كفُّ المُحَارِب
هِـــــلالٌ أَزَاحَ
بِسَيْـفِ الْعُـطُورِ السَّـــحَائِبْ
ونَوَّرَ
ذَاتَ صَهِيـــلٍ
جَمِيـعَ الْكُـوَى والخَـرَائِبْ
فَخَـــــرَّتْ حَوَالَيْــهِ
تَسْجُـدُ كُـلُّ الْكــواكِبْ
هُلالٌ بِقَلْبِ نَبِيٍّ
بِهِ تَتَرَبَّصُ
ـ في طاعةِ الْماكِرِينَ ـ
الثَّعَالِبْ
أَلاَ أَيُّهَذَا الهِلالُ
تَدَجَّجْ بِجَمْرٍ
فُؤَادُ النَّبِيِّ جَمِيلٌ
وأَجْمَلُ مِنْهُ
إِذَا احْتَدَمَ الْمَكرُ- كفُّ الْمُحَارِبْ.
لَنْ يَجْرُؤَ مِنْكُمْ أحـدٌ
أَشْجَارُ اللَّيْلِ خَرِيفِيَّهْ
وَتَباِشِيرُ الْفَجْرِ فَرَاشَاتٌ مَنْفِيَّهْ
وَالْوَطَنُ الأَخْضَرُ مَصْلُوبٌ
فِي أَرْضِ الزِّلْزَالِ السُّفْلِيَّهْ
وَالطِّفْلُ الْغاضِبُ يَسْعَى
نَحْوَ الْقِّمَّةِ فِي إِصْرَارٍ
وَحِجَارَتُهُ نَارِيَّهْ
آهٍ..
مَنْ يُرْجِعُ لِلشّمْسِ جّدّائِلَهَا
ولِكُلِّ رَمَادٍ جَمَرًا وهُوِيَّهْ
لَنْ يَجْرُؤَ مِنْكُمْ أَحَـــــــــــــــــدٌ
لَنْ يَجْرُؤَ مِنْكُمْ أَحَـــــ ـــــــــــدٌ
لَنْ تَجْرُؤَ حَتََّى الْجَامِعَةُ الْعَرَبِيَّهْ
لَنْ يَجْرُؤَ غَيْرُ فِلِسْطِينِيٍّ
يَعْشَقُ حَتََّى الْمَوْتِ فِلِسْطِينِيَّّه.
محمّد واحد... محمد متعدّد
كان اسمُهُ محمَّدَا
وكان صوتُهُ المسكونُ بالرّعودِ
يجرَحُ المدَى
وقلبُهُ المشحونُ بالبروقِ كان نوْرسًا
جناحُهُ مُصفّقٌ
والشّمسُ فوق رأسهِ
تُردِّدُ الصّدى
النّخلُ في الصّحراءِ باسقٌ
يمُدُّ نحوهُ اليَدَا.
ــــــ
كان اسمُهُ محمَّدَا
لم يعرِفِ الكُتَّابَ في حياتِهِ
لكنَّهُ في دفتر الرّياحِ
يقرأُ الخِيامَ
والرّمالَ
والجلامِدَا
لم يعرِفِ الكُتَّابَ في حياتِهِ
لكنَّهُ بالغضبِ النّاريِّ يكتُبُ القصائِدَا.
ــــــ
كان اسمُهُ محمَّدَا
وفي مُخيَّمٍ قد وُلِدَا
وكان في الصّحراءِ
شِبْلاً ثائِرًا
يملأُ بالرّمالِ
جيبَهُ زَبَرْجَدَا
وكانتِ العصا رشّاشَهُ
وكان جِذْعُ نخلةٍ محروقةٍ حصانَهُ
وصحْنُ أُمِّهِ الوحيدُ خُوذَةً
وخصْمُهُ فزّاعةَ الطيورِ
في بيادرِ الجراحِ
والأوجاع
والرَّدى.
ــــــ
كان اسمُهُ محمَّدَا
أربعةٌ إخْوَتُهُ
وذات ذاتَ ليلةٍ مجروحةٍ بالإنفجار
اسْتُشُهِدُوا
في غابة الألغامِ
واحِدًا
فواحِدًا
فواحِدًا
فواحِدَا
لم يبْكِهِمْ
وما تنهَّدَا
لكنَّهُ توعَّدَا.
ــــــ
كان اسمُهُ محمَّدَا
وذات ذاتَ ليلةٍ
اَلبدرُ كان أسودَا
رأى أباهُ المُقْعَدَا
يجُرُّهُ الجنودُ عاريًا مُقيَّدَا
فصاح:
يا أبي !
ومَدُّ نحوهُ اليَدَا
فصدّهُ الرشَّاشُ والعِدى
لم يبْكِهِ وما تنهَّدَا
لكنَّهُ توعَّدَا.
ـــــــ
كان اسمُهُ محمَّدَا
وذات ذاتَ هجمةٍ وحشيّةٍ
رأى بأمِّ عينِهِ ـ في الملجأ اللّعينِ ـ
أُمَّهُ التي تفرّدتْ بحزنها
مبقورةً
مفقوءة العينين
فصاح:
يا أمِّي !
فصدّهُ الرشَّاشُ والعِدى
لم يبْكِها وما تنهَّدَا
لكنَّهُ توعَّدَا.
ـــــــ
كان اسمُهُ محمَّدَا
وكان في الصّحراءِ
شِبْلاً ثائِرًا
ويَوْمَ غِيلَ والِداهُ استأْسَدَا
تزوَّج الرّمالَ
والخيام
الزّيتونَ
واللّيمون
والجلامدَا
وراح زاحفًا إلى مُعسكر ِالعدى
نَسَفَهُ
نَسَفَهُ
واسَتُشْهِدَا.
ـــــــ
كان اسمُهُ محمَّدَا
وكان كان واحدًا
وأوْحَدَا
ويَوْمَ فاضَتْ رُوحُهُ تَعَدّدََا
وأنْبَتَتْ سنبلةٌ من دمِهِ
في كُلِّ بُقْعَةٍ محمَّدَا
في كُلِّ بُقْعَةٍ محمَّدَا.
***
محمد علي اليوسفي
- من مواليد مدينة باجة، عام 1950.
- متخرج من جامعة دمشق / قسم الفلسفة.
- متفرغ للكتابة والترجمة خاصة.
من بين إصدراته:
- حافة الأرض، شعر، عن دار الكلمة بيروت، 1988.
- امرأة سادسة للحواس، شعر، عن دار الطليعة الجديدة دمشق، 1998.
- توقيت البِنْكَا، رواية / جائزة الناقد للرواية، عن دار رياض الريس للكتب والنشر لندن، 1992.
- شمس القراميد، رواية / جائزة كومار الريشة الذهبية، عن دار الجنوب تونس، 1997.
- بجدية الحجارة، نقد، عن دار بيسان برس نيقوسيا قبرص، 1988 . حرية مشروطة، أوكتافيو باث شعر/ ترجمة، عن الدار العالمية بيروت، 1983.
- مدائح النور، مختارات من الشعر اليوناني / ترجمة، دار الملتقى، ليماسول قبرص، 1994.
- حكاية بحار غريق، غابرييل غارسيا ماركيز / رواية، ترجمة، عن دار ابن رشد بيروت، 1980.
- البابا الأخضر، ميغيل أنخل استورياس / رواية، ترجمة، عن دار التنوير بيروت،1981.
- ناراياما، شيتشيرو فوكازاوا / رواية، ترجمة، عن دار التنوير بيروت، 1982.
- البيت الكبير، ألفارو سيبيدا ساموديو / رواية، ترجمة، عن دار منارات عمان، 1986.
- المنشق، نيكوس كازنتزاكي بقلم زوجته / سيرة، ترجمة، عن دار الآداب بيروت 1994.
- بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية، ماكس هوركهايمر، دراسات، ترجمة، عن دار التنوير بيروت،1981، طبعة جديدة عن دار الفارابي ودار التنوير بيروت، 2006.
- بلزاك والواقعية الفرنسية، جورج لوكاش، دراسة، ترجمة، عن المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، تونس 1985.
- من تونس إلى القيروان، غي دي موباسان، رحلة، ترجمة، عن دار المدى دمشق، 2004.
ربيع تيبارـ دجبَّة
أرتحل الآباءُ (كانوا طارئينَ) وأختفى (أو ربَّما...) التمثال:
كانت مريم العذراءُ، خلف الماء، يأتيها الحمَامُ بالرَّذاذِ، وهي تحضن الصبيَّ نائمًا في نقرة الشلاَّلِ
ها قد نامت الأجراسُ عن جسده
تحوَّلتْ كنيسةٌ وحيدة عن مشتهى نبيذه
يا للحنين!
جاء يستعمرنا ـ المحتالُ ! ـ في إهاب أيما حنين:
كان هذا جسدي... كان نبيذي...
لحظة قصوى
تسلَّل الفصل الفتيُّ مالئًا عينيكِ، نسغًا هزَّ نهديكِ لينساب إلى السُّرةِ مضغوطا بركبتيك.
ثنَّى
أنَّثَ الأنثى وأغوى.
عاد، أفرد المثنَّى، ذكَّرَ الأنثى.
ترى أنَّثَ ما فيَّ لأرتدَّ على شطريَّ، أم ثنَّى، تثنَّى ؟
لست أدري
فأنا أنتِ هنا في لحظةٍ قصوى
لها فُتوَّةُ الحياةِ
والموت.
الوقت على خدَّيكِ
ترنو القبلةُ دامعةً
تتدلَّى متأرجحةَ النُّضجِ من العينين إلى الشفتينْ
تتوسَّطنا ناضجةً؛ نأكلها مشتعلينْ.
تنساب إلى ما يغفو فيكِ
ويُقصيني
تُسرج ما يلهو فيَّ ويُدنيكِ
فلا نعرف، قبل الآهةِ، مَنْ منَّا، ثاني الإثنينْ.
يغمرنا ما يُحضِرنا
كي ينسانا
منسحبًا منَّا في" آهٍ "
مبتلاًّ
متَّقدًا
نهمس:
أينْ ؟.
وكعادته يُربكني الوقتُ على خدَّيكِ بلؤلؤتينْ.
وصفُ القبلة
أكلَّما حاولتُ وصفَ القُبلهْ
أو وصفَ بعضِ خفَّةٍ للملح في مذاقها
تحوَّلَتْ إلى... فكرهْ ؟.
امرأتان في واحدة
عندما تدَّعي أنها: امرأتان
أرى واحدةً منهما جدَّ سيئةٍ
(ربما ساحرهْ!)
فإذا ما اقتنعتُ بأنهما: امرأتان
أخونُ لها موعدًا
وألبِّي لها موعدًا آخرَا.
أحلى قصيدة
عافِنَا اللَّهُمَّ وأرحمْ ضعفَنا / عافِنَا إنْ لمْ تكنْ ثالثَنا / وأغفرْ لنا / هوذا ألقى بنا / وسواسُك الخنَّاسُ / في أحلى قصيدهْ /.
ما تبقَّى
شعرةٌ ما تبقَّى:
رسولةُ خوفٍ على كتِفي.
عاقصة في دكان الإسكافي
جرَّةُ ماءٍ باردٍ قرب الباب
أحذيةٌ صيفيَّةٌ على الرُّفوف
وكتبٌ خفيَّةٌ في مقصورة الدكان.
الشيوخُ يصطفّون بين الله والظلال.
بعد قليل يدفع بقالبٍ في الحذاء الأخير
تخرج عاقصةُ منْ مقصورة الدكَّان
يسكت الشيوخُ
ويبدأُ خالي:
كان يا ما كان.
الحِرَفُ السبْع
متنقِّلاً بين حِرَفِهِ السَّبْعِ التي لا تنتهي
يتلألأ صيفُ أبي حُبَيْبَاتٍ على جبينه
تنتظرني بين الغضون.
أُواكبُ ثمارَ الحِرْفَةِ بين يديه
ووجهُه مرآتي.
أكزُّ على أسنانه
وأقلعُ مسمارَهُ
فتنزلُ على صدْغَيْنا قطرتان.
عولمة
حماري يُرْخي أذنيه
يلهثُ تحتي
دَبْرَتُه نوَّارةٌ في الشمس
أنْثاه في حقلي
وفي طرف عصاي:
إناءُ مائه اليوميّ
ومخلاةُ الشعير.
المتوسّط
هو ذا الوسيطُ السيّء
بحرُنا العجوز:
لم يعد يتوسط إلا الجغرافيا.
ما زالت قرارة الموجة تستقبل العبيد
لكنّهم
اليوم
يتطوّعون في قوارب الموت صارخين:
أين النّخّاس ؟.
القراصنة ينزلون
لكن
في اتجاه واحد.
لاجئ
أبو حرب
مات.
وأبو طمَّاعة
بُعِثَ.
أما الكَركدنّ فقد سقط واقفًا.
شمَتَ الخائفون بعيونٍ نصف مغمضة.ٍ
رام الله تحت مستوى بحريْن:
أحدُهما السماء.
أما غزَّة فقد أوْدَتْ بها السيول.
أنا قَشَّرْتُ التجربةَ كلَّها
فظلَّ سؤالٌ يؤرِّقني:
مازال في العمْقِ من ذاتي
في صمتي الآخر
لاجئٌ أخير.
سيولة
لو أنّ تلك السنونوةَ اقتربتْ أو لم تقتربْ أكثر
لو أنّ تلك الأغنيةَ لم تتلاشَ أو بكَّرتْ في التلاشي
لو أنني لم أكنْ هنا، كثيرًا، أو كنتُ هنالك أكثر
لو أنّ روحي كانت أقربَ مني قليلاً، أو كانتْ أبعد
لو أنني كنتُ، أو لم أكنْ، لكنْ من دون أن أشعر
لو أنّ هذه الكلماتِ لحظةٌ لا اسمَ لها فلم تُكْتَبْ.
وطني تحت جناحي
في حنجرة الخريف حشرج صوتُ جدِّي وتلاه صوتُ جدَّتي. ظلَّ أبي غائبًا يشجِّرُ الجبال.
أقول في كل خريف:
ليتني متعدِّدُ الأوطان مثلها؛ عشُّ السنونوةِ فارغٌ في سقيفة دارنا. أشعر بالبرد ولا أراه. ليتني مثلها:
وطني تحت جناحي.
حصاد النمل
بدأتْ أسرابُ السنونو تتجمَّع
بدأتْ اللَّقالقُ تتوتَّر
قلوبُنا تخفق... وتبقى.
أخيرًا
هاجرت الأسرابُ كلُّها؛ أمَّا نحن فعدْنا إلى بيوتنا... مع النَّمْل.
فعل مضارع
هل جئتَ تسأل عنه ؟
لقد مات منذ زمن
لكنَّ الحركة، الكامنة في دولةٍ تعْقبُ دولةً، حقَّقتْ له رغبَتَهُ في الحياة.
الكَـرْمَـةُ والبَنَـات
توْقِيت
أتذَوَّقُ أوَّلَ حَبَّةِ عِنَب في بداية الصّيف؛ فتُسْرِعُ بي إلى فصل الخريف؛
واضِحٌ أنَّ في العلاقَةِ... نَوَايَا .
حَبَّةُ العِنَب
لها رأْسٌ يَسْبقُها ! وعُيونٌ في الدَّاخل ! (منْ باب الحَذَرِ ليس إلاّ…)
ماذا عن تلك الحبَيْبَات التي بلا بُذور ؟.
العُنْقود
في البدء بارَكَتْكَ الآلهة، أَوْدَعَتْكَ قُرونَ الخصْب؛ ثم دَعَتْ للكَرْمَةِ، فيكَ، بأَلْفِ شَهْقَةٍ للماء.
هوذا خبرٌ سعيد:
انتهى الطُّوفان، ومدَّ نوحٌ يدَهُ، ليغرسَ كرْمَة.
لكُلِّ حبَّةٍ شُعاعُها وماؤها؛ لا أتحدَّثُ الآن عن المَرح، والحبِّ، وقوَّةِ النِّسْيان
أمِنْ خوفٍ أمْ منْ جوعٍ، تتزاحمُ فيكَ حبَّاتُ العِنَب ؟.
الكَرْمة
حبَّاتٌ سُكَّرِيَّةٌ مَرِحة، عُصارَةٌ سَخِيَّة، جِذْعٌ ينْمو، مُسْتَنِدًا بعُقَدِهِ المفْصَليَّةِ إلى حكمةِ الفراغ. وأوْراقٌ مُوارِبَة، تدَّعي سَتْرَ العناقيد العارية.
كلُّ ذلك لأنَّ الكرْمَةَ تعْرضُ أثداءها في العَراء وتُمَدِّدُ أنفاسَها في الخفاء: يفْضَحُها ذلك الشُّعورُ بالتفوُّق؛ وهو ما يميِّز حافظَ السِّر.
المُرَوِّضَة
حَبَّاتُ العِنَبِ على كَفِّكِ، بُنَيَّاتٌ مُشْرَئِبَّاتٌ، بأَعْنَاقٍ قصيرة، وأَنْتِ المُرَوِّضَة.
أَعْنَاب أخرى
عِنَب الثَّعْلب
عِنَب الحيَّة
عِنَب الدُّبُ.
الكلبُ جدُّهُ الذِّئْب
والقرْدُ الذي رأيتُه آخرَ مرَّةٍ، ما زال حتى الآن قرْدًا... أكُنْتُ أتَحَدَّثُ عن العِنَب ؟.
بِنْتُ الكَرْمة
صَهْبَاءُ
شَمُول
صَبُوحٌ
مُشَعْشِعَةٌ
يا لَها منْ أُنْثى تلك الكَرْمَة!
منْ عُرْيِها ووقارِها تخرجُ بِنْتٌ لَعُوبٌ، ولها صِفات.
بِنْتُها أيضًا
بين الضُّلوع، تصيرُ الخَمْرَةُ امْرَأَةً؛ بها، نسْعَى، إليها.
ثَرْثَرَةُ جُنَاة
الأرنب الصغير الذي تجمَّد من خوفه هنيْهةً تحت عناقيد العنب، حاول الإفلاتَ من أنطونيو فانْقضَّ عليه باوْلو: ضرْبَةٌ مُحْكَمَةٌ على مُؤَخَّرة الرأس، وألقى به متشنِّجًا في زوَّادته.
سألني ألْبِرْتو عن أطوار نسائنا، وأشار ليللو إلى كروم العنب:
كنَّا في القرن الإفريقي تحت لواء موسوليني نصطاد زنوج الصّومال والحبشة، واحدًا، واحدًا. ثم استجمع قبْضَتَهُ وصوَّب السبَّابةَ باتِّجاهي:
هكذا: بُمْ! بُمْ!.. فيسقطون مثل قرود الأدغال.
كانتْ أصابعه قانيةً من عناقيد العنب.
بلغوا آخرَ الكروم وتركوني.
عيد باخُوس (*)
الاحتفال على أشُدِّهِ
البراميل في كل زاوية وشجرة
الألوان تتدرَّجُ من الحنفيَّات إلى البنات
تذوَّقْناهنَّ جميعًا؛ من المَزَّةِ القَرْقَفِ إلى سُيولة الشَّهْد.
أما الخنانيصُ الوردية فلم تنضُجْ بعدُ؛ ما زالت تدور على المواقد، يضيئُها هُبوبُها
أعذاقُ المايدانوس (**)، تُزيِّنُ أفواهَها، وفي مؤخَّراتها حبَّةُ طماطم.
مع ساعات الفجر الأولى، دقَّ أنْدِريَاس على صدْره مترنِّحًا أمام البوَّابة، مخاطبًا الجمهور الصَّاخب:
في كلِّ يونانيٍّ، يذهبُ الآن، ليَرْقُدَ، باخوسٌ صغير!.
تقرير إلى بَاخُوس
وَصَلَ التَّمْرُ مِنَ الجنوب
والكُرومُ هنا
أَخْبارُها مُفْرِحَة... لكنَّنا لا نَحْتَفِلُ جَهارًا بما بعد العِنَب.
شَجَرَةُ المَعْرِفَة
(1)
... وكان أنْ دنا آدم وحوَّاء منْ شجرة التّفَّاح؛ ماذا كان سيحْدُث لو تمَّ كلُّ شيء تحت كرمة العنب ؟.
(2)
... وعندما عَمَدَا إلى سَتْرِ خطيئة التّفاح بورقة التُّوت، كانت الأمور مفهومةً تمامًا.
كلاَّ؛
بسبب غياب ورقةِ العنب، لم تكنِ الأمورُ مفهومةً تمامًا.
***
محمد الهادي الجزيري
- من مواليد تونس العاصمة، عام 1962.
- منتج إذاعي وتلفزي، وصاحب عروض شعرية فرجوية.
صدر له:
- زفرات الملك المخلوع، شعر، 1994.
- رقصة الطائرالذبيح، شعر، 1996.
- ليس لي ما أضيف، شعر، 2003.
- أرتميدا، شعر، 2006.
- لا عشق بعدك، عرض شعري فرجوي، 2003.
- طبيبي عديتو، شعر عامي بالدارجة التونسية، 2005.
ليس لي ما أضيف
ليس لي ما أضيف
جففت تماما
وحلّ بروحي الخريف.
لكم نزّ منّي حنين
في طوافي بشرفتها
ولكم دثّرتني الحروف
من البدء كان طوافي بشرفتها
ومن البدء كان النزيف.
فيا ريح
يا طير
يا ناس
يا حجر
أصعدوا بي إليها
وقولوا لها:
قد هوى من حبال غسيلك هذا الشفيف.
ليس لي ما أضيف
سوى شفتيّ إلى شفتيها
ولكنّ مريم تطربها زفراتي
وترقص خلف ستائر شرفتها
حين يحتدّ إيقاع قلبي
ويمتدّ تحت الرصيف.
ليس لي ما أضيف
سوى جسدي الخشبيّ إلى نار فتنتها
ورمادي إلى كحلها.
فأرفعوني إلى غيم حمّامها
حيث يبكي الرخام
وتعوي النقوش
وتنتحب الحنفيّة محمومة
ويهيج الضباب الكفيف.
إرفعوني إلى خدرها
حيث يرفض نهدان أن يهجعا
ويميل اللحاف مع الجسد الخيزرانيّ حيث يميل
فيطغى الحفيف.
إرفعوني إليها
إرفعونيَ قطّا إلى قدميها
ونهرا إلى فخذيها
إرفعوني لحافا إلى خصرها
إرفعوني صلاة إلى قبّتي صدرها
إرفعونيَ عقد دموع إلى نحرها
إرفعونيَ كأسا إلى شفتيها
وكحلا إلى مقلتيها
ومشطا إلى شعرها
إرفعوني إلى ليلها قمرا
وإلى صبحها أغنية
إرفعوني إليها وقولوا لها:
مشجب نادر نحتته الصروف
له شكل طفل شريد
ولكنّه خشب لا يؤثّر فيه الوقوف.
ثلاثون مرّت به وهو منتصب تحت شرفتك العالية
فضعيه بقرب السرير
ونامي
عليك الأمان
وعليه القميص الرهيف.
ليس لي ما أضيف
القصيدة دكّان همّ ووهم
وأهلي الجياع صفوف
قد أمتلأت بغيومي الجرار
وفاضت عيون السلال
وغصّت بمريم والشهداء الرفوف.
ليس لي ما أضيف
سوى أنّ لي غيمة بالعراق
وبي طائر يتأهّب للإنعتاق
فممّا العجب ؟
عربيّ حبيبي وحولي عرب
كالحشائش حول المياه
هل أمزّق جلدي لكي تبصروا
من أحبّ وما حلّ بي من عطب ؟
هل أكسّر بلّور روحي
لكي تعرفوا أين خبّأت عنهم عراقي ؟
غريب أخبّئ فيّ غريبا
وما للغريبين إلا الطريق المخيف
أما للغريبين أهل أما لهما صاحب أو حليف ؟.
ليس لي ما أضيف
سوى طعنة الإنهيار الأخير
إلى جسد خرب هدّمته السيوف
فممّا العجب ؟
كم تصدّع من قمر في سماء العرب
وأحتواه الخسوف.
أبو العيال
صرّح الباب:
عاد المحارب ليستسلم للأهل.
هتف الطفل الأصغر:
وصل موزّع الحلوى
وتسلّق البدلة مستعينا بربطة العنق.
أمّا الأكبر فغمغم:
أريد قسطي من غنيمة اليوم
وأخفى خلف ظهره علبة كبريت ورغبات مشابهة.
أسرّت الزوجة لمرآة الرواق:
صدقت
أنا أجمل الممّرضات
قد يعرض الشاعر جراحه لنساء المدينة
لكنّه لا يبيت إلاّ في ضمادي.
ها إنّه يبذر ذاته على فراخي
ويتفقّدني بعينيه
كمن يتحسّس دفتر ادّخاره.
همهمت الأمّ:
هادنوا القتيل قليلا.
تذمّر السرير:
إلى متى ستخطىء هذه الجثّة قبرها ؟.
يداك
يداك قطعتا ثلج تشرّبتا دما وفضّة
من يصدّق أنّهما تدفّأتا بقلبي طويلا
ثمّ ألقتا به في ركن الوحدة.
من يصدّق أنّ يديك النائيتين
تغزلان خيط الحنين المشدود في ضلوعي
وتجذبانني كلّما غفوت
أو دعاني فرح عابر إلى حفلة نسيان.
يداك من زواج مرمر وتفّاحة
فيا ليتني رذاذ لأتحسّسهما
أو نسيم لأتمسّح بهما
يا ليت روحي تتفشّى في كلّ شيء له صلة بيديك
ليت عظامي مقابض أبواب ونوافذ بيتك
بل يا ليتني حجر
أوغبار
أوأيّ شيء
يشيرإلى يداك.
يداك بريئتان من كلّ دم
ما ذنبهما إن هدهدتا العشّاق المؤرقين
فماتوا بدل أن يناموا
لم يتحمّلوا فداحة الحلم.
يداك وعد الجدّات للأحفاد المحمومين
يداك ما يهمهم به الشّعراء
وما يقوله المجانين في الخلاء.
كيف أرسم جدولين ينبعان من جذع ناريّ ؟
كيف أنسخ قصيدتين من نار وماء ؟
بل كيف أقنع الكلمات بالكفّ
عن تشويه حجّة المؤمن وفتنة الشقيّ ؟.
حين تصحو يداك
يفرح الماء
وتحسده المنشفة على السبق
لو تعلم ما كان بيني وبينك
لأشتعلت من الغيرة.
إفتحي الخزانة
ولا تخافي ككلّ صباح
صدّقيني إنّها ضجّة الملاعق والفناجين
في طابورانتظارها ليديك
فالكلّ يصيح:
أنا
أنا
لولا حسن التربية
لما ظلّ شيء في مكانه
لولا الحياء
لهبّت كلّ محتويات بيتك من مكامنها
وتكدّست بين يديك
باستثناء الخاتم طبعا
فهو الخالد في الجنّة.
يداك أهل الأعمى في حبّك
يداك عنوان الدهشة
منشأ الغريب
مورد الخصوبة
موطن الحرير
أصل الموسيقى
ماهية الشعر
يداك متن الرقّة
مرجع الفتنة
مصدر الحرائق
يداك كتاب مسموم.
حين تغفو يداك
تموء أرواح العشّاق كالقطط الشريدة
وتتحجّر الأشياء من فرط الشجن والذهول
ويسقط العالم في هوّة الفوضى والكآبة
يداك خارج اللّغة
وأرقى من الكتابة
ويداي جثّتا طائرين
شربا الحبر اضطرارا.
لم أكن إلاّ لأكتب
مطرإذا
فلأستحمّ به وأكتب
ثمّة امرأة تبارك رقصتي في صحن منزلها
وتنزع من حبال غسيلها أشلاء صيف.
سأموت حتما ذات صيف
لكن عليّ الآن أن أنسى الحريق
وأن أعبّ الغيث كالمزراب
إبتلي تماما يا ثيابي
لا عليك ولا عليّ
فثمّة امرأة تبارك قصتي في صحن منزلها
وتضحك كالمطر
لا بّد أن أبتّل من جلدي إلى قلبي
ومن شفتي إلى لغتي
لأبعث من جديد
فعليّ أن أحيا لأكتب
من سيجمع دمع أمّي للشهادة ضّد أهلي ؟
من سيبذر دمعه في كلّ جرح ؟
من سيعوي
من سيغوي
من سيرعب
إن أنا بايعت موتي
من سيكتب ؟.
لا أرى قلما يشير إلى عناقيد الهموم
إلى حصار منابعي وقصيدتي
وإلى ذهولي
لا أرى قولا يقول
قد أهتدى الشعراء بعد ضلالهم
وبقيت وحدي حاضنا لخطيئتي وسط الجحيم
أقول لاءاتي
وأفعل ما أقول.
وثمّة امرأة تبارك رقصتي في صحن منزلها
وتبحث في رفوف الفقرعن ثوب
يليق بعودتي من موتي المدعو صيف
سأغوص في قبرعميق ذات صيف.
لكن عليّ الآن أن أنسّل من بللي
وأنفذ في قميصي
ذلك المقدود من قبل ومن دبر
لكي لا أغضب امرأة تلوح لي به
من خلف ضحكتها
وتهتف:
هيت لك
هيّا فقد هيّأت لك
قلما وأوراقا لتكتب
كم ظمئت إلى الكتابة يا إبن قلبي
كم تفشّى في خلاياك الحنين
فعانق الأطياف والكلمات
وأسكب دمعك المحظور في كفيّك
وأشرب
ماألذك حين تسكر داخل اللغة الحرام
تزفك الحمّى إلى أنثى الكلام
وأنت تركل ما تناثر في طريقك من خراب.
ماألذك حين تذنب
غير أنّي لن أموء طوال هذا الليل.
من ظمئي إليك
سأكتفي بالنوم في غيمات تبغك
لن أحالف رغبتي
ما دمت تكتب.
مطر وأغنية إذا
مطر يحرّضني على الفيضان
والأطياف تنبع من زوايا غرفتي
وتصّب في مجرى القلم
بالحبر تكتب نخبة الفوضى
وبالدم يكتب الشهداء
والمغلول يكتب بالشجن
سأفّر من زمني
ومنّي ذات صيف
لكن عليّ الآن أن أبقى هنا
لأدّثر امرأتي وطفالي
وأكتب ما ستمليه عليّ جراح أطيافي:
ـ بعثت إليك حشرجتي لتنشرها بتونس
ثمّ ترسلها إلى بغداد أرغفة
فقد جاعت فراخي.
لن أحّرف ما ستمليه عليّ جراح أطيافي:
ـ تركت حبيبتي
ووريث مأساتي
تركت عراقي المجنون مصلوبا
وعدت إلى صحاري ليبيا
وتدا حزينا
لا أميل سوى على ساعي البريد
اليوم عيد يا أخي
وأنا وحيد.
ـ يا صاحبي
باريس أرحب من بلادي
إنّما ليست بلادي
ليس فيها حضن أمّي
ليس في ساحاتها شجري
وظلك
ليس في حاناتها
وهجي
وغيمك
ليس في حاناتها غير الشراب
وما تيّسر من دمي.
يا صاحبي
هي دمية كالموت واحدة
تغيّر وجهها وثيابها
وتحبّني دوما على عجل وتمضي.
ليس في باريس غير الثلج
والحبّ المبرمج
ليس في أعراسها غير الحنين إلى الوطن.
يا سيّدي المطر المطّل علي من بلّور نافذتي
ألم تيأس من الأرض اليباب
يا ليتني حجر تفتته.
فبي تعب الرياح من الهبوب
وألف طيف حول أغنيتي
أتسمع ضّمة الأطياف في لغتي ؟
أتسمع
أم أعود إلى عناقك مرّة أخرى
وأطلب من يدي رسائل الغرباء ؟
أنشرها لتقرأها
وتهطل بالدموع نيابة عنّي
فقد جفّ الجسد.
سألاحق الأطياف في كفن رهيف ذات صيف
لكن عليّ الآن أن أحيا لأسكر داخل اللغة الحرام
وفي بلادي
من سيحتضن الندامى كلّما انكسر وشرب ؟
من سيملأ كأسها من روحه
ويخاله الأموات معتوها
يصبّ الخمر في كأسين
وهو جليس وحدته طوال اللّيل
من سيحبّها ويحبّها
ويحبّ سيّدها ويشرب ؟.
من سيطلق كالغبي حمامة
من قبضة الجسد المهيمن ؟
من سيحمي كالنبّي نقاءها
من شهوة الزاني وشهوتها
يخلّص نهدها من كفه
لا
بل يخلّص كفه من نهدها
ويضمّ أغنية ويشرب ؟.
ليت قبري من زجاج
ليته كأسي الأخيرة
ليت شاهدتي القصيدة
ليتني أنهي الضياع برقصة تحت المطر
سيكون لي غسل أخير ذات صيف
لكن عليّ الآن أن أتجشّم الدنيا
وأكتب.
بي حنين لإبنة الجيران
أحضنها فتغفو.
بي حنين للفتى
ما زال طفلا يا بلادي
إنزوى في ثلج غربته وفي ضيق العبارة.
بي حنين للعليّين الذين هووا تباعا
لا دويّ
ولا غبار.
بي حنين للذين يحاصرون حصارهم
بحفيف ثوب قصيدة
لا عهد للدنيا بها
تختال فوق جسور دجلة
ألف طيف حول أغنية الغريب
وألف سيف
وأنا أخاف لكلّ خلق الله من بطش الحنين
ومن مماليك القرى
ويهود يثرب.
غيرأنّي لم أكن إلاّ لأكتب
ثمّ أكتب
ثمّ أكتب
ثمّ أرحل ذات صيف.
***
منصف الوهايبي
- من مواليد حاجب العيون بالقيراون، عام 1949.
- أستاذ محاضر بكلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة.
من إصدراته:
- ألواح، شعر، عن منشورات سيراس تونس، 1982.
- من البحر تأتي الجبال، شعر، عن دار أميّة تونس، 1991
- مخطوط تمبكتو، شعر، طبعة أولى عن دار صامد تونس، 1998، طبعة ثانية عن دار الينابيع دمشق، 2004.
- ميتافيزيقا وردة الرّمل، شعر، القيروان، 2000.
- فهرست الحيوان، شعر، عن دار محمّد علي تونس، 2007 .
- كتاب العصا، شعر، عن دار النّهضة العربيّة بيروت، 2007.
- الدّار الخضراء، عمل مسرحي، تونس،1977.
- تحت برج الدّلو، ترجمة، كتاب شعريّ للسّويدي أوستون شوستراند، سيريس تونس 1984.
- يا بلدا يشبهني، فليم وثائقي خيالي عن زيارة الرّسّام بول كلي لتونس والحمّامات والقيروان 1914، بالإشتراك مع المخرج هشام الجربي، كتابة وسيناريو تونس، 1996.
- ما ينقص الأخضر ليكون شجرة، ترجمة، كتاب شعري للبرتغاليّة روزا أليس برنكو بالإشتراك مع الشّاعرة، عن سلسلة كتاب تمبكتو تونس، 2002.
- نخلة القيروان، باللّغتين العربيّة والبرتغاليّة، كتاب شعري لروزا أليس برنكو، ترجمة بالاشتراك مع الشّاعرة، بورتو البرتغال، 2003.
- أبناء قوس قزح، متخيّر من الشّعر التّونسي المعاصر، أنطولوجيا، عن منشورات وزارة الثّقافة اليمنيّة صنعاء، 2004.
كتاب العصا
فاتحة
في ضباب من الضّوء حيث الهواء
يتلابس والظلّ
قال الكتابة تلزمها كلمات مفاتيح، لكنّها لم تدر قـطّ
في قفل قافية من قوافي امرئ القيس والمتنبّي.
الكتابة لا تفتح الباب إلاّ لتغلقه
ولذا كان لا بدّ أن يتبقّى لنا في الأصابع
من عضّة الباب
أبيض جرح
وفي الكلمات
دم الكلمات.
الكتابة تحتاج منّا إلى كلمات أصابع
تحــفـر الأرض
توقظ أعمى الحجارة
حتّى إذا نهض البيت فوق رؤوس الأصابع
قلنا:
إذن كان لا بدّ للبيت بيت القصيد
من يد حرّة
كان لا بدّ كي نتوحّد نحن وهذا النّشيد.
الكتابة يلزمها ـ لتكون ـ لسان
كحيّة آدم مزدوج
فتقول بنا ونقول بها.
الكتابة مثلي ومثلك
تحمل أمواتها في ثنايا الكلام
والكلام لهم هؤلاء الذين ينامون في نومنا
حيث نحن ننام
في منازلنا
أو على مقعد في الحديقة
أو في رخيص الفنادق
مثلي ومثلك
في حلمنا يحلمون.
الكتابة ليست سوى رمية النّرد
حيث السّماء
تتزلّج في الأرض
والصّوت يشرد من كلمات لنا ولهم
تتدحرج مثل"البولينج"،
تصلّ صليل حصان أبي الطّيّب المتنبّي
وقـد حجبت شمس شيراز عنه
منازله في الشّام.
الكتابة ألواح سومر تطبخ في النّار
حزّة أقلامهم وهي تحرث أصواتنا البائده
الكتابة آخر ما ينشد الجاهليّ الأخير
الكتابة آخر ما يتـنزّل في سورة المائده
في الوداع الأخير.
الكتابة مثل الفراشة وهي تحاكي لحاء البتولة
مثل الفراشة أيقونة بجناحين
لكنّها لا تطير!.
الكتابة مثلي ومثلك
مرجأة أبدا
بين مدّ الحضور
ومدّ الغياب.
غيـر أنّ الكتاب الذي أنت تكتبه
بأصابع مبتورة
ليس إلاّ كتابك بعد الأخـيـر
لا مداد لـه
إنّما سير جلد يلفّ على قـلم كالعصا
وحروف تـضـمّ إلى بعضها الـبعـض
مثل الوعول
عـند منحدر الغاب
إذ تتشمّم
رائحة المطر الإستوائيّ
يقرع بلّوطه كالطّبول.
دقّ في السّـير زرق مسامير لحمـك!
كي يتماسك
غيّر يديك!
وخـطـّ عليه سوانـح من فرحة
هي أقصر من رمية النّرد
في رقعة من ذهول.
ثمّ سـلّ المسامير!
قل:
هـل ترى غير نمنمـة
ونـقـاط مبعثرة في البياض !؟
إذن كيف نقـرأه ؟
قال:
هذا كتاب العصا
أو كتاب الرّمال
والقراءة تبدأ يا صاحبي دون أن تـنـتهي
حين نطوي الكتاب!.
موليسيروس ـ آفيرو ـ ذات خريف
1
في تـلـك الأيّام الأولى من سبتمبر
والشّمس هنالك لم تبرح برج العذراء
كان لسان البحر ينام كنهر طفل
في لثّـة آفيرو
وقوارب موليسيروس الفينيقيّـة
رابضة في المينـاء.
لم يستيقـظ أحـد من نزلاء الفندق
في ذاك الأحد الدّافئ من مطر اللّيل سواي
وأنا أدفع في لـطف بابا دوّارا
وكانّي أتسلّـل من بين أصابع أمّي
نحو لداتـي
في باحة حارتـنا.
لا أحد عـنـد لسان البحر يراني
لا شيء يصغي لهسيس خطـاي
حتّى بلح البحر المـكسـور فـقـد ردمــتـه أقدام البحّـارة والمصطـافيـن
وقوارب موليسيـروس هنـالـك ما زالت
تتـرجّح في الفجر المبلول بيـوتا من مــاء.
ثمّ كـأني أسمع أصـواتا طازجـة تحـملها رائحة الملح
كأنّي ألمح كهّـانا في زيّ ملائكـة سود
يرسمهـم قـلم فحـميّ
وظلالا بـيضا في قمـصان دون عباءات
تـقفـز راجفة فوق رصيف الحاجز
نحو قوارب موليسيـروس قوارب أولاء الفينيقيّـيـن
(أنـجليز الأزمنة الأولى).
مضوا فـجرا
في أكواريـل الضّحكــات
يديـرون صواريـهم ناحية الرّيح.
2
أمـراء فـنيقـيّة في جلابـيـبهم
يـقطعـون صـنوبر بـيـبلوس
ذا خـشب لمراكـب ترشيش
ذا للصّواري
وذا لـتوابيـتـنا
(جفّ زيت الصّنوبر في الجلد
لكـنّ رائحة منـه
سوداء
كانت تضيء لنا وسط جبس الضّـباب).
3
قطـرات الـمطــر
لم تكــن غير أصواتـهـم
وهي تبـحث عن كلمــات أرقّ مــن المــاء
حتــّى إذا لاحت الشّمــس ثــانية
أخذت تتسرّب في باطن الأرض
لائذة بالــحجــر.
مطــر يتســاقـط
ثـمّ يرمّـم أجراس بــلّــوره بالغــبــار
ويخــلطها بالــتّراب
لأقـولـنّ عـن الأمطار
إذن
ما قلت عـن الأشجــار قديــما.
هي أيضا بــيوت
ولكـنّها لسوانا
ولــكنّ أحجــارها تتـنضّد إذ تـتــساقط
منــحـلـّـة في خيوط الهواء!
سأقول:
إذن هي مثل الشّجــر
فضلـة البحر منذورة لذوات الجناحين
أرض لمــن يملــكون السّمـــاء
وأقول المــطر
لم يكــن غــير معمــار هذا الفــضاء.
4
رأس غــزال في مــقـدّم الـسّـفـينه
وذيــلها يـعـلو كـجـيد الـبجـعه
مـرتــفعــا إلـى الــسّــمــاء
وفـي يــدي عـــصا طــويــلة
بــهــا أجـــسّ نــبــض المـــاء.
5
قــلــت أســتـدرج الــبنــت وقــت الرّحــيــل
إلــى ســطــح تــرشـــيـــش
حــيــن تــفـكّ حـــبال المراســـي
ســتأتـــي بــنعــلــين مــن فــضّـــة
وأســـاور مــن ذهـــب
ـ قــبــل أن يــطــفأ الــبحــر زرقــته الــبارده ـ
وغـــطــاء عــلى الرّأس فــي هــيـــئة الباز
قــلـــت:
طــفــولــة آلـــهة هــشّـــة هــذه الــبــنت!
تــخرج من رئــة الــبحــر
أمــســكــها مــن ذراعـــيــن يـكـــسوهــمــا زغــب الــبـنّ.
قــلــت:
أفــكّ فــراء الــثّـعــالب عنها
أحــلّ ظــفائر مــن خرز ومحــار
وأعــتــصر الــضّــوء فــي ضربـة الــرّيـــشــة الواحــده!.
بـــعــد حــيــن تـجيء
بـــعـــد حــيـن تــكــون الــحــراشــف أجــنــحــة
بــعـــد حـــيــن يــكــون الــمثــلّـــث دائــرة
تــتــفــتّــح شــيــئا فــشــيــئا لـــه
وهــو يــســـقــط مــن نــفـــسه
وســـفـــينــة حـــانـــون ذي تــتــقــدّم
فـــي زبــد وطــحــالــب يــجــتـرّهــا الــبــحــر
مـــرفــوعــة فــي صــيــاح الــنّــوارس
يــخــفــرهــا ســمــك طـــائــر بـــين مــاءيـــن حتى التخوم.
6
فـي أوّل فـجـر بـعـد الطّـوفـان
وطـأت قـدمـاي الـمـاء
لـم يـبـق مـن الـطـّوفان سـوى ذاكـرة المـلح الأعمـى
طـعـم طـفولـتـنا
لـم يـبـق سـوى ذكـرى الـعـشـبة
بـنت الـنّـسـيان الـبيـضاء.
سورة الـعشبة
(إلى جاك لاكريار)
العـشـبه
فـي كـلّ مــكان تـنـبـت
فـي الـرّمـل الـنّاعـم
بـين شـقـوق الـصّـخـر
(عـظام الأرض الـصّلـبه)
عـند حـواشـي الـطّرق المـأهـولة
تـغـرز ساقـا
أو تـنـصـب فـخـّا للـرّيـح
وتـصـغـي لـقوائم حـملان تـرعى.
الـعـشـبه
بـنـت النّـسـيان الـبيـضاء
تـتـمـدّد فـي مـمـشى مـهـجور
فـي مـنزلـنا الـصّـيفـي
أو تـبـزغ فـي حـاشية الـماء
تـتـسـلـّـق قـبر أخـي الـضّـائع بـيـن قـبـور.
فـي لـشبونـة
فـي مـنزل فـرناندو باسّوا
حــيث أمالـيا تـسـتـيـقظ فـي الـفادو
واللّـيل يـكاد يـجـنّح
فـي أذنـي كـلب أخـضـر بالـباب
يـتـتـبّـع رائـحة الـظـلّ
ويـنـظـر فـي عـيـنـيه.
حـيـث نـبـاتـيّـون إلـى مـائدة اللّـيل
(نـبـيذ أخـضـر يـرشـح فـي الأكـواب
كـرز يـحـمـرّ بطـيـئا فـي سـكّـره الأخـضر
أصـداف مـحـار فـي قـرمزهـا الـكـحـلي...).
حـيـث فـتاة ريـو دو جـانـيرو
فـي زيـنتـها الـغجـريّـة
عـقد من كرز خـشـبيّ
قـرط أزرق فـي الأنـف
وقـرط أسـود فـي الـسّرّة
تـستظهـر ضـحكـتـها.
حـيـث الـعـشـبة
(مـن نافـذتي)
فـي أفــق مــن أعــشاب
بـفم أخــضــرتـجـتـرّ الأرض علـى مـهل وتـدور
كـنّا نـحـن جـمـيعا:
الأخـضر والأحــمر
والأزرق والأســود
والـعاشـب واللاّحـم
أطــفالك أيّـتـها العــشــبة
يــا صــانــعة اليــخــضــور!.
1
أن يــذهــب حــانــون فــي رحـــلتــه الــكــبــرى
مــن قــادس نــحــو ســواحــل غــانـــا
مــنـتــظــرا مــا يــأتـــيــه
فــــيــمــا ألـــقـــي بـخــرائــطــه الــبحــريّــة فــي المــاء
وأرحـــل هــذا الــصّــيــف شــمــالا كــي ألــقـــانــي
مــنـتــظــرا مــا لا يأتـــي
فـــلـــكـلّ مــن رحــلـــتــه شـــأن يـــغـــنــــيــه.
2
Jongleur
كــوّرالأرض إلى أن أصبحت طــوع يـديــــه
كــوّرالأرض لــكي يــمســكـها تــفّاحة
أو كــرة يـــلــهو بـــها
حـــتّـــى إذا أعـــيــتـــه ألـــقــاهـــا
وألــــقــانا إلــى هــذا الــفضــاء
هـــكـذا نــحـن مــن الــبدء إذن
كـــرة صــاعــدة من يـــــده
نــازلـــة فـــي يـــــده
كـــلّــما قـــلنـــا أرحـــنـــا واســتــرحــنــا
وتـــنـــاديــــنـــا عـــلـــيه
قــذفـــتــنا يــــده ضــاحـكــة عـــبر الــهـــواء!.
3
وأنـــت يــا ســلــيل قرطــاجـــنّـــة الـــصّــغـــير!
أيّ طـــائــر
هــذا الــذي يــنـــزل مــن تــــرشــــيــش
فـــي قـــمــيــصه الطّــويــل دونـــما عــباءة
إلــى الميــنــاء
(قــل هـــل ســرقــوا عبـــاءة الأمـــير فــي الحمّــام!؟)
بــضــائـع باريــس مــعــروضــة فــي الــرّصــيف:
قــرون مــن الآبــنوس
عـــطـور
قــنــانــي زجــاج
جــلود
أوانــي نـــحــاس
بـــخــور
نـــبــيذ الــشّــواطئ
قــار يـــهــوذا
قــبــاقــب
أقـــمشــة (مــن مــحــار المــريــكس قرمــزهــا).
خــرز
عــــنـــبر فــي صــناديــق عـــــــاج.
4
ســـيــجيء اللّــيل
ويــهــرع ظـــلّــي الـفارع لاستـــقــبالــي
ثــمـّــة"مــأغــون" قـرطــاجــنّـيّ مــن عــنــب الــبـســتان
مخــــتوم في الطّــيــن
ســبانخ
أصـداف محــار فـي قــرمــزها الكــحــليّ
فــطائر في الـصّحن الــخزفــيّ
مدخّــنة.
مــن نــحن هنــا ؟
أجــساد أم عـربـات مـن طــيـن مـحــروق
بـجــيـاد أربــعـة نــحــو ســريـر اللّــيل تــجــرّ ؟
(ألـم يــأن لــجــســمــك أن يــتــعــلّــم كــيف يــكــون ـ إذا اســترخــى ـ، ليــديــه يــدان
وكــيف يكــون لــساقــيه هـنا ســاقــان؟).
Bela - dona
لـكن قــولي
لــم أســمع مــفــتاحا فــي الــقــفل يــدور طــوال اللّــيل ؟
وأقــداما صــاعدة نــازلــة فــي درج الــسّــلّـم ؟
قـولي هــل أحــكمنا غــلق الــباب ؟
(الآن هــــنــا أدرك
أنّ الأعـوام تــضاعــفــنا
أنّــا مــا عــدنـا نــســمع غــيـر صــدى جــســديــنا
وعــلــيــنا أن نــبــدأ ثــانــية
أن نــتــعــلـّـم مــثــل العــمـــيــان!).
5
كــلب يــصرع وعــلا
عــجــل أســود يــرضــع جــاموســة عــــاج
طـــابــــور مــن أســـرى بــين يــدي مـــلك الــرّومــــــان
(لــن تــنــطــفئ الــشّــمــس
ويــأتـــي اللّـيـل الأعــمى
إلاّ وقــد اتّــخـذ الـفــيــنــيقيّ الــقـرصــان
هــيــئة تــمــثــال مــن حــجــرالــجــير).
يــجيء يــبــانــيّــون صــباحــا
يــقــفــون إلــى جــانــبــه
يــلــتــقطــون لــه ولـــهـم ـ فــيـما الـّذئــبة تــرضــع تــوأمــهــا ـ
صــورا بالألــوان.
6
Bela -dona ! Bela- dona ! Bela- dona !
قــولــي بأيّ هــذه الأســماء ؟
كـان عــليّ أن أنــاديــك إذن
يــا قــدري!
أيّــتــها الزّهــرة !
يــا ســيّـدتــي الــحــســناء !
كــيف يــرى هــذا الــذي أعــطــيــتـه لـؤلؤتــيـن مثــل عــيـنـيك وســيــعــتــيــن ؟
لـكــنّــه مــن يــومــها مــســتــيــقــظــا يــنــام أو يــهــجــس بــيـن بــيــن.
كـــيف يــرى ؟
هــذا الــذي
مــن يــومــها
لــم يــطــبــق الــعــيــنــيــن ؟.
(بــعــد الأوان عــرفــت:
كـــانتــا بـــلا أجـــفــان!)
قـــبر أجـيـتـو غـونـسالفـيـس
(إلى جينياه)
هــذا الأجــوف سـمّـيـناه المـوت
ولا إسـم له
زمـن يـنـصـل فـي الأحـجـار
وصـوت مـا يـنـهـض مـن حـيـث
صـنـوبـر تـابـوت كـان تـتـدلّـى فـي الـبـئر
يـتـنـقّـل بـيـن ضـفاف وظـلال.
ثـمّـة أصـوات مـا هـائـمة لـم تـعـثـر بـعـد عـلى كـلـمـات.
(المــيّـت نـام
تــعـرّى حــتّى الـعــظــم
رجــاء لا تــزعـج راحــته!).
حــطـّـــت زمّــجــة بــيـضاء عــلى الــقــبر
وأدارت عــيــنــيـها نــاحــيــتي
فــيــما نــحــن هــنا لا صــوت مــنك ولا مـنّي!
قـلت الــطّــير يــديــرعــيونـا لـذوي الـصّـوت
تــراها كــانت تــصــغــي لــدواخــلــنا المكتـظـّة بالأصـوات !؟
تــحـــت جــســر بـورتـو
غــصـن قــلــق يــتـدلّـى مــن شـمس غـاربـة
يـرسم ظـلاّ مـضطـربا فـي مـاء الـنّـهـر
وفـي أعـلى الــجـسـر تـمـرّ الـسّـيّـارات مـعـلّـقة
كـمـصابيح نـحاس
تـتـهـجّى مــوكـب أشـجـار الـدّلـب عـلى الطّـرقات
(لا ثــمـر عــند الـدّلـب فـيـعـطـيه ولا زهـر)
فــي "الـنّيـغـرسـكو"
(سـأسـمّيه مـقـهـى الـمشـبوهـيـن)
كـانت أحـجـار الـثّـلج تـذوب بـطـيئا فـي كـأس" تـكـيلا "
وفـتاة ريو دو جانيرو فـي زيـنـتـها الغـجـريّة:
عـقد مـن كـرز خـشـبيّ
قـرط أزرق فـي الأنـف
وقـرط أسـود فـي الـسّـرّة
تـضـحـك أو تـرقـص.
قـالـت لـعـجـوز كـان يـغـازلـها:
لا شيء هـنا يـهرم فـي بـورتـو!
لا شيء سـوى الأشـجار
ضـاحـكة
كـان عـلـيـها أن تـسـتـنـبـت أجـنـحة مثـلي!.
لـكـنّ الأشـجار هـي الأشـجار!.
قـلـت تـذكّــر يــا مـنـصف
أنّــك تـجـلس وحـدك تــحت الـجـسر
حـيـث الـزّمّـج كــان يــحــطّ قـريـبا مـن صمـتـك
كــي يــتـوحّـد والـظّـلّ الـعالق بالأحـجـار
وتــعــلـّـم أن تـضـحك أو تـرقـص
إذ تــجــلس أخــرس فــي جــســمك هـذا الـحــجــر المــلمــوم
تــعـلـّـم أن تــصـغـي للإيـقـاع الـنّـاشـب فـي دوّامـات الـماء
ودع جــريــان الــنّــهـر لــماء الــنّــهر!.
حــديــــث الــنّــهــر
لا تــستـغــرب أن آخــذ والـنّــهـر بأطــراف حــديــث ما!
أن تــصـطـفـق الأبــواب بلا صــوت
ويــهــلّ عــلــيـنا زوّار غــربــاء.
أن تــقــفــز نــحــوي أســماك بــحــراشـف أو أجـنـحــة
أســماك كــانت تــبلـغ أعــتاب بــيوت الــبصــرة
بــصــرة ســعــدي يــوسف.
أن يــضــحــك مـنّي صـرّار ذهــبيّ أخـرجه فتحي النّصري
مـن أحـقـاق طـفولــتـه فـيما كـان يـفكّر فــي"غـيلّـفـيك".
أن تــرقص حــولي فـاخـتة بــجــناحـيها المـقــصوفــيـن
وتــسألــني عـكّازا كــي تــقــطــع نــهر الدّورو
أن يــنــضو حــلزون مــعــطــفه المــطريّ
ويــنزل أدراج المـاء.
أن يـتـوافى أحـمد عـبد المـعـطي وقـطاه الـنّـهر معا فـي شرك
كـان يـجـاذبـه
يــسأل إن كـان لـه أن يـسـتهـدي
بالـنّـجم الفـيـنـيقيّ إلى مــصر!.
أن يــأتي شــوقــي بــزيع فــي هــيـئة أوزوس الـصّـيّاد
ويــلقــي جـذعا فــي الــنّــهر
ثـمّ يــجــذّف دون يــديـن
ويــقــول:
مـلاحـة يـوم لا غــيـر!
كـي أبــلــغ صــور
وأرفــع للنّـار وللرّيــح عــموديـن
أعــرف لا ثــعــبان فــيــها يــحرس زيــتــونة عــشــتارت
لا نــسر
صـور المشــطورة بــيـن جزيرتــها والـشّـاطئ
صــور الـطّافــية الآن عــلى الــبــحر!.
أن يـفـتح علي أحمد سعيد بابا فـي شـجـر المر
يـخرج منه أدونيس ويخرج فـيـنـيـقـيّـون بـقـطّ وحـشيّ أو فـهد أو ثـور أحـدب
أن يأتي مـعـهم
عـبر موانئهم مـتعاقبة طـول الـسّاحل
شـمس الدّين يـنحت سـلّـمه فـي الـصّـخـر.
أن يـأتـي مـحـمود درويـش بجـداريّـته
أن يصعـد نـحو سـماء تـحـلج قـطنا
وجبال عـطور تـترجّح فـي الرّيح.
أن يـتـعـب هـذا الـجــسر
هـذا الـجاثي فـوق الـدّورو مـنذ سـنـيـن
أن يـرفع ركـبـته الـيمنى حـينا أو ركبـته الـيسرى!.
أن تجيء الـحـياة
هـكذا فـجأة
تــنـحــني فـوقـنا
وتــقــبّـل مـا بـين أعـيـننا
ثـمّ تـتركــنا وحـدنا للحـياة!.
هـذي أشـياء تـحدث يا أوجينيو دو أندراد
حـين نـكون وحـيدين على مقـعدنا
مـتّـكـئين قـريـبـا مـن نــبـض الــنّهـر.
يـكـفي مـصـباح فـي اللّـيل وحـيـد
لـيـعـيد إلـينا الـظّـلّ الهـارب.
مـطــهــر دانــتــي
يــــد مـــن فــي الـغــمام ؟
أهـي الـشّـمس تــضــبط أوتــاره مرّة
ثـمّ تــرخــي لهـا مـرّة ؟
أم هـي الـرّيـح لائـذة بالـشّـجـر؟
يـد مــن فـي الـغـمـام ؟
مـطــر يــتـخــلـّــل نــومـي
وأنـت إلى جـانـبي
وأنـا بـيـديـن مــن الـغـيم
كـنـت أفــكّ فــراء الــثّــعـالـب عــنـك
وأمــســح ريــش الــنّـعـام
والمـــطــر
يــتــريّــث أم يــتــعـجّــل
هــذا المـــطــر؟.
فــي الـقــطـار إلى أفــيـرو
قــلت هـامـسـة:
ســوف نــنــزل قــبل مــحــطّـتـنـا!
لا أحــبّ الأخـيـرة
أعــرف أنّ لــكـلّ مــحــطّـتـه حــيـث يــنزل
وهــي الأخــيـرة
لـكـنّـها ـ لــو يــفــكّـرـ لــيــسـت ســوى الــموت
يــســتــقــبــل الـقادمــيــن
ويــحـمل عــنهم حــقائــبـهم
وهـو يــغــمــز للـذّاهــبــبيـن.
ثــمّ ضــاحــكـة:
لا حـدود هــنا لــجــهــنّـم !
ثــمّــة درب صــغــيــر يـؤدّي إلى الــبــيت
كــيف أســمّــيــه ؟
ســوف أسـمّــيـه مــطــهــر دانــتـي !
مــرايـا مــحــدّبــة
أو مــقــعّــرة مـــثـل مــوتـي ومــوتـك
حــيــث لــنا أن نــرى جــسـديــنـا بهــا
حــيــث نــسـلـخ أشــبــاحنا ونــحــب
حــيــث نــنــسى ـ ولو مــرّة ـ مــا تــقــول الــكــتــب.
هـــو:
ـ ثــمـّــة خــــيــط مــا بــيـن الــعــطــر وهــذا اللامــرئي
ســمّــيــه مــا شــئت
اللّه
أو
الـمـطــلـق!
لا نــبــصــره
وعــلــيــنا أن نــتــشـمّـمــه فــي عــطــر
أو فــي مــجــمــرة ســوداء !.
هــي:
ـ لا أذكــر مــنه ســوى مــا كــانت تــحــكــيه لــنا أمّي
مــن قــصـص الـجـنّ
ولــكـنّي لـم أسـألـهـا ـ إذ كـانت تــأتـي مــثــقــلـة بـهـدايــاها ـ إلاّ عــن بـابا نــويــل.
مــن يــتــخــفـّـى فــي لـحــيـــته الــبــيــضاء ؟.
قــطــرات الــمــطــر
لــم تــكــن غــيـر مــاء الــحــجــر
يــتــســاقط
فــيــما أنــا واقــف
أرقــب الــصّــحو يــمــطر فــي غــيمه
والــحــديــقـة تــفــتح نــافــذة
ثــمّ ثـــنــتــيـن
ثــمّ ثـلاث نــوافــذ
ثـــمّ مـئــات الــنّــوافــذ
غــيــر أنّ الـسّــمـاء
مــن مــشــبّـك بــيــتـك
أوســع مــن كـلّ هــذي الــنّــوافـذ !.
5
شــبــكــت يـديــها
كــي تــريـح الأرض مــن دورانــها
قــالـت:
ســأجـلــسـهــا قــلــيلا، ثــمّ أتــركــها لشـأنــي
الــشّــمــس مــا زالــت هــنــالـك عــند بــرج الـدّلــو
لــي مــن صـيــفــها عــســل الــبراري فــيــك
لــي يــنــبــوعــهــا الــكــحــليّ
لــي شــهواتــهــا
ولــسـوف تــعــطــيــني فلا أرضــى!.
ســأرقــص كلّ لــيلـي
كــلّــه
وأدور حــــولـــي.
أمّــا أنــا !
فــكــعــادتــي مــا زلــت مــحــتــفــظا بــعاداتــي
وحــالاتـي عــلى حــالاتــها.
لا تــعــجــــبي!
إن جــئـتــكم مــتأخّــرا
فــي هـــامــش مــن لـــيــل
هــي عــادة الــشّـــعــراء حــتّــى لا يــكــونــوا وحــدهــم
لـــو بــكّــروا
لا تــعــجــبي !
إن جـــئــتــكم عــنــد انــتــهاء الحــفــل.
6
بــاب دوّار لـم نــعــرف حــين دفــعــناه
أكــنّـا نــدخــل أم نــخــرج ؟
بــاب كالــنّـوم يــدور بــنا
فــيما أصــعــد فــي عــطــر الــفـانــيــلـيـا
أو أهــبـط فــي رائـحــة الــفـطـر اللّـبـني
والــباب يــدور بــنا فــي مــنــعــرجــات اللّــيل
لــيــقــذفــنا فــجــرا
مــنـــهــوكــيــن عــلى الأعــتــاب.
هــل كــنّــا نــتــقــدّم أم كــان اللّــيل إذن؟
أم كــنّــا هــذا الــبــاب!؟
***
المولدي فروج
- من مواليد البرادعة بالمهدية، عام 1955.
- دكتوراه الدولة في الطب.
- طبيب.
- عضو الهيئة المديرة لاتحاد الكتاب التونسيين، ورئيس مؤسس لفرع المهدية.
- رئيس تحرير النشرية الإلكترونية لاتحاد الكتاب التونسيين.
- عضو اتحاد الكتاب العرب.
صدر له:
- بالجرح على الجبين العربي، شعر، منشورات الأخلاّء تونس، 1981.
- وطن في قلبه.. وامرأة، شعر، عن دار الرأي تونس، 1982.
- مرارة السكر، شعر، عن منشورات الأخلاء تونس، 1990.
- زلة لسان، شعر، عن منشورات الأخلاء تونس، 1995.
- دعي الكلام.. لي، شعر، عن دار المعارف سوسة - تونس، 2000.
- مدونة المبدعين في ولاية المهدية خلال القرن العشرين / الجزء الأول، دراسة، عن منشورات امبريميديا، 2002.
- امتداد، ديوان صوتي، تونس، 2003 .
- مدونة المبدعين في ولاية المهدية خلال القرن العشرين/ الجزء الثاني، دراسة، عن دار المعارف سوسة - تونس، 2004.
- توقيعات، ديوان صوتي، تونس، 2005.
- الصدى أعلى من الصوت، مسرحية شعرية، عن مطبعة التسفير الفني صفاقس، 2006.
- كأن العالم أعرج، شعر،2007 .
- البيادق، مسرحية، 1990.
- أبو زيد، مسرحية، 1993.
- ليلة المواجع، مسرحية، 1995.
امرأة النهدين
نَهْدان
يا خَوفِي
على النَّهْدينِ من لَهْفِي
فلي كفٌّ حريق
عِقْدان مرّا فوق عودِهما الرقيقِ.
نهدان
مُذ وُلِدا
كأنَّ الأرضَ لم تطلعْ لها
شمسٌ
ولا قمرٌ
ولا حتّى بريق .
***
نهدان مذْ كَبرا
وشعّ الخوفُ
لم يتبيّنا وجهَ النهارِ
فلو
سَعَى
أعْمَى
ضوئِهما
لأبْصرَ
في ظلامِ الليلِ
نملاً
في المضيقْ.
نهدان
والصّدْريةُ الحمقاءُ
تعتصر الغريق.
***
نهدان لا يتلامسان
كأنما
قد فرَّق الوجْدان بينهما
فما حنَّ المرافق للرفيق.
نهدان لا يتكاسلان
وإنما
قلبي يفكر فيهما
فيَهيمُ في رسم الطريق.
نهدان ناما
طول عمرهما
فهل من يستفيق ؟.
وجه بغداد
كانتْ هنا بغْدَاد
كالجبلِ المطلِّ على العبَاد.
كنا نشنُّ عواصفَ الصَّحراء منها
ونمتحنُ الزمنْ.
قل لي إذنْ
كم يلزمُ الأصنامَ من ريحٍ
ومن قلقٍ
ليمحُوها الوطنْ ؟
ــ لا تذكرُوا وَطني
إذا لم تفهمُوا وطنًا بكَى
لما كبَا
أسفًا على سرج يُطرَّز بالفتنْ ــ
وتعثرتْ خطواتهُ طُحْنا
وما سقط الرّكاب.
قُمنا على وخزِ القفاَ
ما كان يُجدي
أن نقومَ على يدٍ مكسورة ٍ
رجْلٍ فقطْ
بل كان يلزمُنا الوفاء.
قل يا جَليّ الصوتِ
كم في النفس من وَجعٍ !
وكم للقلب من وَجلٍ
ليفضحَني الكتاب ؟
قل أخطأ التاريخُ في نَسبي
فصِرْتُ أعضُّ أوراقََ الغبارِ شَماتةً.
أجري
وخلفي أمَّتي
تحبو
فتَلعنها المآذنُ.
كالمدنْ ؟
دارت كحبّات الغبار
ولطَّخت وجهَ الشوارعِ بالسُّباب
بحّتْ حناجرُها
شحّتْ خناجرُها
ضاعتْ
كما لو أنّها ملحٌ
تناثُر في التُّراب
ماتـــت كما
لا تستحقُّ
جنازةً
كانــت على حـــــــــرْفيْن
من بيــــتِ القصيد
كانــت على حــــــــرْبيْن
من بــَــــــلدٍ.
ــ لا تذكروا بلدي بِغيرِ الوردِ
في خدّ الجليد ـ .
سنُطِلُّ من أوراقنا:
إن كان للتّاريخ وجهٌ واحدٌ
فَلَنَا الوجوهُ الأربعهْ
الشمسُ تشرقُ عندنا
والقِبلةُ الأولى هُنا
ولنا الغروب
والليل يبقى فاضِحًا شوكَ الشّمالِ
على الدروب
ساجنُّ
كالريح التي ما أمطرتْ
أو لم تعِ الصحراءَ ما كانت تقول
واحِــنُّ
بحْــثا عن أحِــبة رحْــلتي
إني سأحْــضن ودَّهمْ
ــ أهلي وقد كبُروا مَعِي ـ
فالأرض تعصرُ أضلعِي
وتقول لي:
قل ما ترَى
لا ما جرَى
لتظلَّ سرْولةََ العروبةِ.
نخلََََها
أو ظلَّها
لتظلَّ نادبَها الوحيد
من أين أرحلُ بالقصيد ؟
من تونِسِ الأبوابِ
من باب الرباطِ
إلى عدنْ
كم تهت يا عمان في عدّ المحنْ !
وتناثرت أشلاءُّ ارضِ الله
ما بين الخرائط
والمدنْ
وتشابكتْ بنّا السبل
عاد الذي باع الحصانَ
ألَمْ يمتْ ؟
فالموت في بغداد فاكهةُُ الغلال
والقلبُ أحزنُ من سواد
ملت تواريخي من الكذبِ المنمَّق في المداد.
ــ لا تذكروا بلدي بغير الصّدقِ ــ
فالتاريخ أرقامٌ
وها بغداد صارت في المَزَاد
علبًا تصدَّرُ من ضفافِ الرافديْنِ
بلا نسَبْ
تاجًا على رأسِ الغرابِ
خريطةً تَهدي اللصوصَ إلى العربْ
لم يكذبِ التاريخُ
علّمنا الكذبْ
لو يكتب التاريخُ
يعرف خطَّنا
ويطوف بالأشعار ما بين الخطبْ
كانت هنا بغداد تُمضي باسْمِها
كسروا الذراعَ وألجموا
قلمَ الغضبْ
قامت على إبْهامِها المكْسورِ.
ما كان يجدي
أن تقوم على يدٍ مكسورةٍ
رَجُلٍ فقطْ
من أين تأتي باليدِ الأخرى
وبين الأهل قطاعُ الطرقْ ؟
لا تذكروا بلدي بأسْماءِ الذين
تخبَّؤوا منَّا بأشلاءِ الورقْ
كانت هنا بغدادُ
يطفو فوق جَبْهتها العرقْ
كانت هنا
بغداد
لو لم يذبحُوا
من فوقِ نهْديْها الحضارةَََ
والجواد.
***
يوسف رزوقة
- من مواليد قصور الساف، عام 1957.
- انتخب سفيرا لدى جمعية أمريكا اللاتينية لشعراء العالم بالشيلي، ممثّلا للعالم العربي، 2005.
- تمّ تعيينه في جينيف سفيرا عالميا للسلام، 2006.
من بين إصدارته:
- أمتاز عليك بأحزاني، شعر، عن دار الأخلاء تونس، 1978.
- الأرخبيل، رواية، عن دار الإخلاء تونس، 1986.
- أسطرلاب يوسف المسافر، شعر، دار الرياح الأربع تونس، 1986.
- الذئب في العبارة، شعر، عن دار سوتيبا تونس، 1998.
- أزهار ثاني أوكسيد التاريخ، شعر، عن دار تبر الزمان تونس، 2001.
- إعلان حالة الطوارئ، شعر، عن دار سوتيبا تونس، 2002.
- يوغانا، كتاب اليوغا الشعرية، عن دار سوتيبا تونس، 2004.
- الفراشة والديناميت، شعر، عن دار سوتيبا تونس، 2004.
- أرض الصفر، شعر، عن دار سوتيبا تونس، 2005.
- Le Fils de l'Araignée، شعر بالفرنسية، عن دار سوتيبا تونس، 2005.
- Yotalia، شعر بالفرنسية (بالإشتراك مع الشاعرة الفرنسية Héra Vox)، عن دار سوتيبا تونس، 2005.
- Poèmes 1001، شعر بالفرنسية (بالإشتراك مع الشاعرة الفرنسية Héra Vox)، عن دار سوتيبا، 2005.
- Le Jardin de la France، شعر بالفرنسية، عن دار سوتيبا تونس، 2005.
- Tôt sur la Terre، شعر بالفرنسية، عن منشورات إيماجين باردو تونس، 2005.
ملحمة الخاتم
ما الشّعر؟
فالنّقّاد، إن وجدوا
فلاسفة
وتلك مصيبة كبرى
ولا قانون للشّعراء
يحميهم
من الظّلم العظيم.
ي / ر.
قالها ابن عربي:
المكان الّذي لا يؤنّث، لا يعوّل عليه.
1
العَالَمُ امْرَأَةٌ
تَعَالَقَ نَبْضُهَا
مَعَ كُلِّ نَبْضٍ فِي الخَرِيطَةِ كُلِّها
لَمْ تُشْرِقِ الشَّمْسُ الَّتِي هِيَ شَمْسُهَا
إِلاَّ لِتَغْرُبَ
حَيْثُ فَائِضُ ظِلِّهَا.
2
العالم امرأة
بحيث إذا بكت
حلّت بظالمها المصيبة
كي يعيش معلّقا
في حبل مشنقة له
بشعور من يخشى النهاية:
أنّها ستخونه.
3
العالم امرأة
وإنّ مجرّد التّفكير في تجريدها
من حقّها
في أن تكون
جريمة في حقّها.
4
العالم امرأة
بحيث إذا رأت في شكلها
ما لا تريد
تهشّمت مرآتها.
5
العالم امرأة
ويكفيها الشّعور
بأنّها امرأة
لينهض خلفها رجل تعاظم حلمه
حتّى بكى.
خوض في وضعيّة امرأة تعسّر وضعها.
هركانوس الطّوبي
تاريخ آخر تكتبه امرأة
لا بدّ من امرأة
ليقوم هنا قصر
قال الرّاوي:
هو قصر العبد
بوادي السّير
وما خفي
امرأة
في قصر من حجر بازلتيّ
هشّ
أدماها القيد.
من بين مخطوطات زينون القديمة
ـ هكذا تروي نهى العمريّ ـ
جاء
مكبّلا في عشقه
فتح اليدين
وخرّ بين يدي حبيبته
وقال لها:
هلا!
وبنى لها
بجوار وادي السّير
قصرا هدّمته الرّيح
بعد هنيهة من رعد هركانوس
بعد هديّة
هي برق أجمل عاشق
ليموت بين يدي حبيبته
وقد أغواه منها ما بدا منها
كوعد ممكن
وغياب هركانوس
والشّيطان
فاستبقى يديها في يديه
إلى حدود فراره من نفسه
للإنتهاء أمام عينيها
وذلك مطلق الإيمان
بين حبيبة وحبيبها.
في ظلّ مخطوطات زينون القديمة
يوسفيوس والآخرين
تلاقيا
هو عاشق في حكمها
وهي الّتي أعطته شيئا من هشاشتها
وكان النّسر
حتّى وهو مشدود إلى جدران قصر هدّمته الرّيح
بعد هنيهة من رعد هاركانوس
يرمق ما يرى
ليطير
من شرق إلى غرب
ومن غرب إلى شرق
إلى هذا الزّمان
وكان يا ما كان.
لكنّ الّذي أرويه في هذا المكان
له سياق غائم
هو خاتم
ضيّعته
أو ضيّعته يد من الأيدي الطّويلة
ذات زهو
ذات لهو
ذات سهو
عند بئر أريس
حتّى أنّني غادرت صحرائي
وجئت إلى هنا.
بجوار غادارا القديمة
بين مينيبوس
ميلاغروس
ثيودوروس
قامت خيمتي
لأمرّ بين عشيّة وضحى
بمجنونين ما عادا، بفعل البحر، مجنونين.
أهلا بالمسيح
عليك منّي
من صديقيّ
السّلام
قنا الهلاك
وكلّ شرّ داهم
وأجعل إقامتنا
بمنأى عن خنازير الخريطة كلّها
وأفتح لنا في الأرض
بين حجارة البازلت والتّاريخ
نافذة نعانق عبرها بحر الجليل.
الوضع ليس ملائما
لأقول إنّ الوضع ينبئ بالّربيع
ولست بالرّجل المناسب في المكان
وفي الزّمان
لأفتح امرأة بجيش خائن
هو جيش هولاكو ومن معه من الحمقى
وقد شربوا السّعادة كلّها
فرأوا
ـ وهم أعلى من التّاريخ والجغرافيا ـ
أنّ الخيانة واجب
فهي الطّريق إلى دمشق
إلى العراق
إلى الفراشة
وهي تدرأ
ـ مثل كلّ فراشة في الشّرق ـ
مرحلة الغراب.
وكان يا ما كان
أنثى في تمام شروقها
تأوي غرابا غازيا
سرعان ما استولى على ياقوتها
بدءا بدانتيلاّ جناحيها اللّذين ترهّلا قبل الأوان
وإنتهاء بجمالها الطّاغي
أحسّ بكلّ نرفانا الوجود
بأنّه فعلا غراب لا غبار عليه
بالمعنى أحسّ غرابنا
بالفخر
فأبيضّت سعادته
ليقتل وهو يمعن في الأذى
تلك الّتي كانت قبيل هنيهة أنثاه
فهي ككلّ مدينة أخرى
وأنّ النّصر في منقاره.
لكأنّّه الرجل الوحيد
على الخريطة
يعشق الدّرب الّذي يفضي
إلى امرأة
بلا خلفيّة للنّيل منها
يعشق البحر الّذي فيها
بحيث يحبّها
ليخونها
حتّى إذا باتت جزيرته
رأى فيها حبيبته الّتي ليست له
فيخونها ليحبّها
فإذا تراءى أنّ شيئا مّا
يعكّر صفوها
أخفى الحقيقة
وهو في الصحراء
يحلم باحتلالهما معا.
الوضع ليس ملائما
لأقول عكس إرادتي
إنّ الرّبيع
على مسافة سنتمتر واحد
من أرضنا
أرض الحقيقة والنّشاز
وليس لي الوضع المناسب
كي أجازف مثلما فعل الأباطرة القدامى
بارتكاب جريمة ضدّ البلاد
وأهلها
فأنا مجرّد حاكم
في شبه منطقة ملغّمة
لها ما للقصيدة من بحور لا حدود لها
لها ما للسّماء
لذا أراها
ـ وهي خارج أرخبيل الخارطات ـ
تحاكم التّاريخ
والفاشست
والفقراء من عظمائنا
لتعود ثانية
إلى أرض المجاز.
الوضع ليس ملائما أبدا
لأيّ تلاعب
بمشاعر امرأة
تعاني منذ بئر أريس
وضعا خارج الموضوع
ضاع الخاتم
الأجداد ضاعوا كلّهم
وكذلك الأحفاد
ضاعت جنّة أولى
وثانية
وثالثة
وضاع البحر بين يدي وحيد القرن
ضاع المنجنيق
وضاعت البصمات
ضاعت في الحريق مدينة أولى
وثانية
وثالثة
وضاع الخاتم
الإنسان والتّاريخ
ضاع الخاتم
القسمات والينبوع
ضاع الخاتم
المعنى الذّي فينا وفي الموضوع
ضاع الخاتم
الكلمات والجغرافيا.
امرأة فقط
ظلّت على قيد الحياة
ومنذ بئر أريس
وهي تعيش وضعا خارج الموضوع
بل هي تلك زرقاء اليمامة
أمعنت في سمل عينيها
لترحل بين عاصمة
وعاصمة
وعاصمة
وعا...
عمياء
ذاك أقلّ فداحة
من رؤية امرأة تعسّر وضعها
حتّى انحنى لصراخها نخل العراق
وذاك ثانية
أقلّ ضراوة
من رؤية السّيّاب في تمثاله
وقد انحنى
ليلمّ بين شظيّة وشظيّة أشلاءه
بل ذاك ثالثة.
أقلّ شراسة
من رؤية الإنسان: رعد مطشّر والآخرين
فريسة التّمساح والمارينز.
ماذا أرتجي
من رحلتي شرقا وغربا يا ابن خلدون ؟
انتهى الإنسان
بين مخالب القط ّ الّذي ما أطلقوه على المدينة
منذ بئر أريس حتّى الآن في نسخ مبرمجة
سوى أولى الخطى
نحو المدينة تلك
وهي تعوذ من فئرانها للتّوّ
بالقطّ الّذي ما ضمّها
إلاّ ابتغاء هلاكها
ولغاية في غابة
ليعود هوميروس محموما إلى شبه الجزيرة
باحثا عن لوتس النسيان
في إلياذة أخرى من الزمن القديم.
الوضع ليس ملائما
ليلومها أحد على إجهاض ما في بطنها
آن الأوان
لطرح تاريخ بأكمله
يعجّ بكلّ كاريزما الغبار
ونحوه
آن الأوان
لوضع كلّ تراثنا العملاق
موضع شبهة
الوقت ليس ملائما للّوم
أمّا الوضع
وهو كما يرى النّاعي
فبات ملائما للّؤم
تلك رسالة الغربان
منذ هزيمة أولى
وثانية
وثالثة
ورا...
بجوار غادارا القديمة
لا أرى
إلاّي
أمشي القهقرى
هو خاتم
ضيّعته
أو ضيّعته يد من الأيدي الطّويلة
ذات زهو
ذات لهو
ذات سهو
عند بئر أريس
حتّى أنّني غادرت صحرائي
وجئت إلى هنا.
هيستوريا أخرى
أبا التّاريخ هيرودوتس
أم هيستيريا ؟
للنّيل موهبة الخروج
ولا مجال لأيّ يد
ولو طالت إلى حدّ افتكاك رضيعة من أمّها
للنّيل منه
لمصر هذا النّيل مصدر كلّ شيء نابع من أمّه
هبة هو النّيل الّذي هو نبضنا
وكذلك الأرض الّتي هي أرضنا
هبة لنا
ولغيرنا هذا الطّريق
إلى ذرى المعنى الّذي تخفيه هيرودوتس
خلفك مكرها
كمؤرّخ حرّ
له شطحاته
وفخاخه
ويد
تحرّك ما وراء ستائر المبنى المقابل للحديقة
هاتها
هههاتها
لي شبه معجزة
لأقنع جارتي
بالقفز من شبّاكها
نحوي
وأجعل في حدود شجاعتي
أمّا تلوذ بربّها
وقد انثنت بالفعل
عن ملهاتها
هههاتها.
في قلب غادارا القديمة
ألتقي في اللّيل آرابيوس
شاعرها
أقول له:
هلا!
قيجرّني من ظلمتي العظمى
ويصرخ في دمي:
ـ أيها المارّ من هنا
كما أنت الآن
كنت أنا
وكما أنا الآن
ستكون أنت
فتمتع بالحياة
لأنّك فان.
هاتها
هههاتها
هي كلّها صحراء
بدءا من يديها
وهي تصنع مثل كلّ ضحيّة
كفنا يليق بعرسها
أو من سعادتها الّتي تنمو مع البطّيخ
كالفوضى
على ضوء القمر
هي كلّها صحراء
حتّى أنّني غادرت كلّ مدينة
لأعود
بعد هزيمتي الكبرى
إلى الحيوان
يا داروين
أصل سلالتي الأولى
وأرقى كائن ما لوّثته يد البشر
عو!
عو!
أسمعوه
كأنّه ذئب
كأنّنا بشر
كأنّ السّاعة المليون قد أزفت
كأنّ كلامنا هذا لغير زماننا هذا
كأنّ يدا تلوّح من بعيد:
أيّها النّاجون ممّا نحن فيه
ختامها بئر
ففي أغواره
كنه الجدود
وخاتم
هو أصل غربتنا الّتي طالت
فمال من الغرابة برج بيزا
وانحنى
عند الغروب
لحالنا
نخل العراق.
هذا الخليفة
وهو في الأرض الخراب
يثير أكثر من خلاف خلفه
ولذا أمانع أن أكون خليفة في الأرض
حتّى أنّني صلّيت في محراب ربّ العالمين
ولم أزل
وسألته عفوا عظيما
أن يحوّلني إلى لا شيء في هذا الوجود
فذاك خير لي
من الشّيء الّذي يمشي على قدمين
وهو أنا
بهيئة مستشار سابق
لخليفة ماّ
قد طغى في الأرض
حتّى أنّني خالفته
ورفضت مشروع الأنا
لأكونه