ديباجة
لم تترسخ جذور المشهد الشعري بالمعنى التحديثي في تربة الجزيرة العربية إلا في أبان الفترة التي تم فيها توحيد المملكة حيث شبه الاستقرار الاجتماعي وكذلك إرساء قواعد الدولة الذي واكبها جعلت من إمكانية الحديث عن تحولات اجتماعية صوب التجديد في الأدب وفنونه في إطار الممكن والواقع.
والحجاز أكثر المناطق تأثرا بمسار تلك التحولات لأسباب جغرافية وتاريخية لسنا في صدد الحديث عنها هنا، لكنّ الانهمام بالتجديد لم يكن يخلو في بعض المناطق كالاحساء والقطيف ونجد وإن كان بوتيرة أقل، لقد كانت مرحلة النصف الأول من القرن العشرين مفصلية في تطور القصيدة شكلا ومضمونا حيث ستكون لاحقا القاعدة التي ستبني الأجيال الشعرية عليها سمات المشهد الشعري بالمملكة وتعتمدها كركيزة للنهوض، إنها مرحلة برزت أثناءها أصوات كانت تؤسس لمشهد شعري يحاول الخروج عن المحافظة والتقليد الذي لازم الكتابة الشعرية منذ فترة ليست بالقصيرة.
كانت دوافعها تنطلق من أهمية التطورات الإجتماعية والأدبية والسياسية والثقافية التي طرأت على مجمل الوطن العربي خصوصا في مصر والشام، في النهوض بالأدب وبعثه من جديد كي يواكب ما يجري من تطورات للأدب في البلدان العربية الأخرى، كما أن أدب المهجر وما لازمه من دعاوى ومقولات تجديدية في الشعر كان ماثلا بالتأكيد أمام هؤلاء الذين برزوا في تلك الحقبة، بالطبع كان الأديب محمد حسن عواد أكثر مجايليه من الأدباء كحمزة شحاتة وأحمد قنديل وطاهر زمخشري و..غيرهم، حماسة في تبني الآراء التجديدية التي راجت حول الشعر والأدب بشكل عام، ولم يكن كتابه:(خواطر مصرحة) سوى خلاصة مواقفه النقدية الطليعية التي ترنو إلى النهضة والإصلاح والتحسر على ما وصل إليه الشعر والأدب من جمود وتآكل.
في نهاية الأمر ظلت القصيدة على أيدي هؤلاء تتقدم إلى حداثتها ببطء بحكم ظروف المرحلة وثقافتها حتى جاءت فترة السبعينيات، التي شهدت فيها البلاد قفزة نوعية نحو الحداثة المادية ذات الطابع الاستهلاكي بفعل الرخاء الاقتصادي من جراء العوائد النفطية الضخمة التي امتلأت بها خزينة الدولة، الأمر الذي أحدث خلخلة كبيرة في بنية المجتمع السعودي وفي نظامه التربوي وفي شكل تلقي ثقافته وطريقة التعبير عنها، أي أن ظهور قيم ثقافية تمتاز بالنظرة الاستهلاكية حد التخمة نتيجة الإنفتاح والتحول نحو مكتسبات الحداثة هو الذي حكم مجمل العلاقات الإجتماعية فيما بينها من جهة وبينها وبين الدولة ومؤسساتها من جهة أخرى.
هذه الخلخلة أستطاع تأثيرها أن يمتد إلى العمق في النشاط الإبداعي والأدبي لجيل شعراء السبعينيات والثمانينيات أيضاـ لكنه تأثير مصبوغ بأزمات خارجية كذلك، فنكسة 67 وما تبعها من هزائم وشعور عربي بالإنكسار جعل من قصائد هؤلاء تنطوي على غربة مزدوجة: غربة البحث عن الوطن الإنسان في ظل الاستهلاك الثقافي، وغربة البحث عن الهوية العربية في ظل هزائمها المتتالية، وما بين الغربتين سوف تكتب القصيدة تاريخها الخاص فيما هي لا تكف عن قول ما لا يقال طالما كانت حياتهم التي يسقون أشجارها بماء الأحلام لم تملأ سلال صحراء الأجداد بالثمار الناضجة.
كان عليهم أن يمسكوا أغصانها كي لا تقع على كلماتهم، أو يدربوا الهواء المحروس من الضياع في قعر أرواحهم كي يصبح رقيقا حين يعبر فوق ظلالهم المكشوفة للشمس الحارقة، كان عليهم فقط أن يستعيدوا صوت السلالة من ذاكرة التراب، وأن يصقلوه بالغناء الشجي، وهذا ما كان حينما وظف هؤلاء الشعراء في قصائدهم الرموز التاريخية والشعبية والأساطير المحلية، لا لكي يستعيدوا حياتهم التي تناهبتها الغربة، إنما ليحقنوا قلقهم الوجودي والنفسي بمصل الأنا الجماعية التي أنزلوها منزلة المقدس في نصوصهم، وفي رؤيتهم للكتابة الشعرية الحديثة، يقول محمد العلي الشاعر المؤسس للحداثة الشعرية في تلك الفترة في قصيدة غربة: (أهنا تربتي؟، أهذي التي أنسلت رهافا من غمدها أجدادي ؟، يا حياة أركضي فقد ذبل النور، وشل العناء موت الحادي)، ويؤكد على هذه الروح أيضا الشاعر علي الدميني، ومحمد الثبيتي، وبتكثيف أقل عند محمد جبر الحربي والصيخان وفوزية أبو خالد وسعد الحميدين.
ورغم التباين في التوظيف وزاوية النظر، إلا أنهم كانوا يصدرون عن إحساس مشترك بالضياع، وما كان يغذي هذا الإحساس فنيا وأسلوبيا هو الأثر الثقافي والأدبي الذي تركته حركات التجديد في الشعر العربي، وبالأخص تجربة شعراء مجلة: شعر.
أما شعراء التسعينات فهم أشبه بالعاصفة التي تاهت في عمق الصحراء، كان على كل واحد منهم أن يتوحد بـ (أناه) الخاصة كي يصل إلى منابع الضوء وجمر الكلمات، كي يقول تفاصيله الصغيرة في الحياة، لذلك نمتْ تجاربهم في غفلة من صراع التيارات الثقافية والأدبية التي طوقت عنق الأجيال الشعرية السابقة وأصطبغت بصبغتها، وكأنهم ألفوا الهامش بوصفه الشرط الضروري لنجاة الشعر من التخشب، والإستهلاك، والتوظيف. لكنهم بالقدر الذي أستوطنوا ذواتهم وحفروا فيها عميقا كما يحفروا في أرض صلدة، كانوا يتأملون الأمكنة شعريا كهاجس قوي يستحوذ على جزء كبير من هذه التجربة المتنوعة والثرية.
لم يلتقوا كجيل شعري على مقولات وآراء فكرية وأدبية كالإيمان بالوحدة والهوية كما كان عليه الحال عند الجيل الشعري السابق، بسبب حياتهم التي عاشوها كجيل باعتبارها نتاج مرحلة تاريخية كانت هي البوابة التي تفضي للمتغيرات التي طالت بنية التفكير عند الفرد ناهيك عند المبدع والمثقف نفسه، متغيرات خلقت علاقات جديدة ليست على مستوى المنطقة فقط، وإنما على المستوى العالمي، وليس سهولة التواصل والإتصال في العلاقات الإجتماعية والثقافية سوى إحدى أهم مظاهر هذه المتغيرات التي نشأ من خلالها الجيل الشعري للتسعينيات.
لقد ذهبوا إلى الشعر متخففين من سلطة الآباء، وحين قيل لهم سمرة الصحراء علامة تدل على قصائدكم، وتفضح نواياكم، كانوا: يصرون على البحر، ويقولون: هناك علامة أخرى لن تنمو تحت أبوابكم، لكنها بين الكلمات ستنضج مثل ثمرة.
***
إبراهيم الحسين
- من مواليد الأحساء، عام 1960.
- بكالوريوس لغة عربية.
- يعمل في التعليم بمحافظة الأحساء.
صدر له:
- خرجت من الأرض الضيقة، شعر، عن سلسلة كتاب كلمات المنامة، 1992.
- خشب يتمسّح بالمارة، شعر، عن دار الجديد بيروت، 1996.
- انزلاق كعوبهم، شعر، عن النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية.
ذَهَبَ الرُّعاةُ
ذهبَ الرُّعاةُ، وتركوا لي ما صنعوا؛ ذهبوا وتركوا ثغاء أغنامهم يضيءُ الليل.. تركوا نايَهم، ليس نسيانا ولا إهمالا، فعلوا ذلك كي يدبَّ إليه نملُ تذكّرِهم، فعلوه ليرتفع المكان إلى أقصى ما فيه، يراهم فيتبعهم. تركوا نايَهم كي يهبَّ المكان فيه، ويعودوا غيابا وهم كثيرا ما يفعلون ذلك.
ذهبَ الرُّعاةُ بعيدا في غيابهم؛ ليستريحوا فيه، وليتخفّفوا من كل ما قد يجعلهم قريبين من مكانٍ لا يريدون الإقامةَ فيه؛ لينشبوا أظافرهم في مكانٍ ما عادوا فيه، في لحمٍ منتفض لحمٍ عارٍ كانوا فيه، ثمّ ذهبوا عنه، وعن دبيب أرجلِهم، وزهرةِ خُطاهم، وعن عشب أحاديثهم.
ذهبَ الرُّعاةُ، وتركوا شمسَهم وصيّةً على الترابِ، تجلدُه فيَأْلَمُ، ويأخذ عاليا حبيباته.
ما يفعلُ الرُّعاةُ إنْ أنا تشبثتُ بصوتي مثلَ شاةٍ.
أيُّها الرُّعاةُ:
تعالوا، فأنا لا أحسن رعيَ أغنام الغائبين.
ما يفعلُ الرُّعاةُ إن أنا ضممتُ شفتيّ على شوكِ غيابهم، ورغيتُ من أعلى نقطةٍ في سنامي.
ما يفعلُ الرُّعاةُ إن أنا أخذتُ ضوءَ الثغاء؛ لأقرأ حروفَ مكانٍ ما عادوا فيه.
ذهبوا من الرائحة التي غادروها، كي يؤسسوا لهم روائحَ في أماكن أخرى.
ذهبوا من الناي، لئلا يلمحهم أحد فيتبعهم.
خرجوا خفيفين حتى من مجرّد الإلتفات، لأن الإلتفات متاعٌ يُثْقِلُ على الخارجين خروجَهم.
خرجوا دون كلام، لأنّ الكلامَ سوْءَةٌ لا تليق بالذاهبين.
لم يتركوا أثراً، لأن الأثر وجهةٌ، ولأنّ الوجهةَ عبءٌ يبطئُ خطاهم، ويجعل اللحاقَ بهم سهلاً على الذي تركوا له ما صنعوا، على الذي جعلوه، على الضوءِ والناي، والمكان الذي لم يعودوا فيه.
القميص
ويعقوبُ يهملُ عينيه
كي ينام
يغسلُه الضوءُ
ويركضُ في
عتمةِ جروحِه.
كانوا يقولون:
خرجَ من الثوبِ
يعقوبُ؛
شَقَّ الحجرَ وانبجس
يلقي عينيه في النوم
كي ينام.
ويعقوبُ يصف عينيه
حين يصعدُ إلى هواءِ حنجرتِه
يقبضُ عليهما
يعلّقهما
على حافّةِ النوم
من أجل أن ينام.
لا أحدَ إلا يعقوب
ينهضُ في رائحةِ الخبز
يتجمَّعُ في حنينِه
ويلوبُ في القمصان.
ويعقوبُ يحفرُ عميقاً في صمتِه
كي يصلَ إلى عينيه.
يصرّون على البحر
إلى: قاسم حدّاد
يصرّون على البحر
البحر الذي يضربُ شفاهَهم
يعلّقون قنديلا هنا
وآخر هناك
يتحسّسون أخشابَ الجسدِ
وحينَ تجرُفهم الرِّيبةُ
حين تشتدُّ
يرسلون العقيرةَ ليس بالبكاءِ وحدَه.
كم مرَّ من الوقتِ
ليدركوا
أنّ الرذاذَ الذي يلامس أجسادَهم
كان مبعثه أصابعهم.
كم مرّ من الوقت
ليعرفوا
أن القمرَ اللائبَ في قمصانهم يعوي.
يصرّون على البحر
يظنّون
أن الجبينَ إذْ تتصدّعُ
لا تأوي إليها الطيورُ.
يظنّون
أن اصطدام مياههم
بصخرِ نظرتِهم لا يصيب.
الذائبون في قناديلهم
يمرّون
كأنّ رائحتَهم
ما أَجْرَتْ وراءهم حتى الحجارة
يعرفون
أنّ لعنتَهم تضيءُ
ويصرّون على البحر.
هؤلاء الجاحظون
كلّما مرَّ الهواء
فوقَ أجسادِهم بكى.
ضائعين في الضوء
إلى الفنان الصديق:
حسين جمعان
ما من جمرةٍ آنستنا، إلا باغتها الماءُ، فلم نسمع إلا شَهْقَتَهَا
ما من نسمةٍ، مرَّت إلينا، إلا تَخطَّفتْها المساربُ القاسية
هكذا مَرُّوا
ليس لثيابهم ذريعةٌ، وما من شمسٍ لكتابةِ وُجُوهِهِم، كلُّ هواءٍ حَمل أَسْمَاءَهُمْ، كان يترنَّح.
الذين تركوا الأشجارَ تحرسُ ذكراهم
والذين لِيطمئنوا أكثَرَ، اِخْتبأوا سَرِيعاً في الكُتُب
والذين تركوا لنا الأسماءَ، كي نذهبَ إليها، كلما اشتدَّ بنا العطشْ
والذين حين ضاقتْ بنا الأرضُ، سمَّيناهُمُ الأصدقاء
والذين قرؤوا وَرْدَتَنَا
الذين تاهوا بقهوتنا
والذين هَدْهَدُوا الصُّبحَ وأقنعوا القمر بملامحهم
والذين هَوَوْا في جُذَاذَاتِ، جِبْسِ" شارع الفوارس" لترتفعَ الخسارة إلى أحواضِهم يخوضونَ فيها وحيدين
الذين تركوا الجسر معنا
وما كفُّوا عن شحذ انتماءاتهم
والذين سجَّلوا عروبَتَهم
والذين ضاقوا بالمتَدَارَكِ أكثر مِنَّا
والذين فتحوا النوافذ ورحلوا
الذين اِثَّاقَلُوا إلى النسيانِ
وَمَالُوا أكثرَ
والذين
والذين
والذين
والذين انكسرتْ زجاجةُ الشِّعرِ بين أَيديهم
والذين انتبهوا إلى رؤوسهم على وسائد "مهيار الدمشقيِّ"
والذين ما عَرَفْنَا عافيةَ الألفِ إلاَّ على أَيديهم
علمونَا وضوءَ العشقِ
وأدخلونا أُمَّةَ الحروف
الذين انكسرُوا في آخر الأباريق
لأنَّ أصابِعَهُم أعلى في المصافحة
الذين يجيئون إلينا من أشواكهم
ضائعين في الضوءِ
خَجَلُ الأوراقِ لا يتَّسِعُ لابتسامتهم
والتماعُها أقلُّ من أيديهم.
من يستطيعُ الآن
مَحْوً خُطَاهُم في ظلال الفناجين
أَو تَشْذِيبَ نَظَرَاتِهِم التي اِستطالتْ في الزَّوايا ؟
من يستطيع حَذْفَ ضَحِكاتهم من وحشةِ الأبواب ؟
أولئك الذين تركوا نَدَمَهمُ الحارَّ
عالقاً في الجِبْسِ
الذين موَّهوا أقدامهم بالألوان
والذين نَسُوا رائحتهم في المنعطفات
الذين أَمْعَنُوا في الغيمِ
يهتدون الآن إلى شَفْرَةِ الْغَيْنْ.
***
أحمد الملا
- من مواليد الأحساء، عام 1961.
- بكالوريوس أدب عربي.
- يعمل مديرا تنفيذيا للنادي الأدبي بالمنطقة الشرقية.
صدر له:
- ظل يتقصّف، شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 1995.
- خفيف ومائل كنسيان، شعر، عن دار الجديد بيروت، 1997.
- سهم يهمس باسمي، شعر، عن دار رياض الريس ، بيروت، 2005.
- الهواء طويل وقصيرةٌ هي الأرض، شعر.
- الهائمون، شعر.
amulla1@yahoo.com
أرق
أليسَ هناكَ من يسمع ؟
تَعِبَ الليلُ من رفقةِ الشمع ِ
ولم يفطنَ اللهب.
أين ذهبَ الصمتُ نديمُ الغيابِ ؟
في أيّ نافذة ٍتوارى الكلامُ
ومالَ غصنُهُ ؟
متى تبخّرَ النعاسُ وغطسَ
في ضبابٍ آتٍ من البحر ِ؟.
الأرقُ يصقلُ القناديلَ
يفلِقُ الفجرَ
ويمتصُّ الندى
من حجر ِالنوم.
أكُلـَّما طافَ بي ولهٌ
خاصمَتني ثيابي
وانهالَ الفراغ ُ
على جسدي.
يا حوذيَّ الفجر ِأعِرني
حصانَكَ المنهكَ
وخُذ بيدي.
خبيئة التفاح
يَهفو ويَهتِف
ماذا خبأ َ التـُفاحُ لي ؟
دمٌ حائِر ٌفي يَدِ
جمر ٍأليف
وفي أثـرِ أيامه
ندفَ مِن رمادٍ وَريش.
يَهفو وَيهتِف
ماذا خبأ َالتـُفاح ؟
يُرخي قميصا ً
على عضلةٍ يفتَرِسُها
وشمُ غيابٍ
أزرق
كالأرق
خط ُ سكينةٍ
في عظمةِ القلب.
مالَ غُصنٌ
أثـّقـَلـَهُ حُلـُمُه بـِالمياه
جَرّد عُنـُقه
ليسألَ الفأس
برقٌ مالَ
يحرِثُ الهَواء
ويُلِحُ في طلبِ الصاعِقة.
فريسة ُ سرابٍ ونملٌ
لحاء قِشرُهُ اليأسَ
وسالَ صمغٌ
تلمعُ في كهرمانِهِ
فراشة ُ النسيان.
تَنـّخَزُ أضلاعهُ
الريح
عائدة ً برائحةٍ
ومطرح
قصبٌ يلسعُ قـلبَهُ بالسهو
وهو مُثقـَلٌ بـِعسَل
وموسيقى.
مِثلما تَغوصُ
فصوصُ الفقد
باطِنُ خَطـَواته
يُحصي انفراط َ قلبُهُ
اتساعُ الفراغ.
يَهفو
ثـُم
يهتِف
يَكتـُم
ثـُم
يكتبُ
قانية َ خبيئَتِهِ
وخَطيئَتهُ تستوي
على سدرة حائر ظلها
كلما استدارت
تداركه الوحش
وانتهبته الذئاب.
تكلم
ولأن الجبينَ أقربُ الأغصان ِللخريف، طاشتْ البراعمُ من كبدِ الريحِ، هبَّ الفزعُ كما شبّاكٍ واهن ِالخشب، وألتهَبَ الشيبُ مبكرا في خرقة ِالروح.
طرية ٌتلكَ الندوبِ ولم تفهمَ لذعة َالملح ِالذي ميّزَ العمرَ في نزيفِهِ الطويل.
هل من حياةٍ غيرُ التي تطلُّ من ناصيةِ الحجر هناكَ بثوبها الخشن ؟
هل من كتفٍ ؟
هل من كفٍّ تزيحُ كمائنَ الدربِ أو تسوّيَها عمّا قليل ؟
هل من نار ٍلدفءِ شتاء ٍيشققُ الحفاة َأو زيت ؟
لا لم يتبقَّ من البارحةِ
من أرقِها إلا طحينٌ في طرفِ الأنامل
الأناملُ التي دغدغها حلمُ رغيفٍ تخطـَّفتهُ أيدٌ جائعة إلى النوم.
وما الذي يلمعُ من بعيد ؟، ما الذي يقتربُ ويلسعُ ومضُهُ العينَ بسخونةِ الدمع ِ؟
بالطبع ِليس لها أن تكونَ السكينَ، فهي قاتمة ٌ بدم ٍ وصدأ ٌيأكلـُها في جراب
ولن تسعى شمعة ٌإليّ وتهدِرُ الليلَ بلا طائلٍ.
أجبني أيّها الحجرُ يا شقيقيَ الوحيدِ في اللهاث
تكلم أيها الجدارُ فمن غيركَ يُرخي على القيظِ ويُعيْرُني رداءَهُ.
غرف الغريب
غُرَفٌ عديدةٌ تناقلتْ جمرَهُ
لم تألفْ زواراً مثل ما حملت كتفيه
وما اعتادت جدرانُها
مثل ما علّقه الغريبُ من التذكر.
سَلُوهُ عما ينهضُ من صدرِه
ويلتصقُ بالنافذةِ في النوم ؟
سَلُوهُ ماذا يحنُّ في ثيابِه ؟.
هل غيرُ الألمِ مَن سمحَ له بالمجيء ؟
وما تناثرَ منه وهاجاً على الدرج
يروّعُ العابرين في عزلاتِهِم
هو الذي عرَفَ النجمَ هاوياً
أشدَّ مما قالت الشمسُ
أو
أسرَّ الليلُ له.
كلُّ بابٍ يوصدُه مرةً واحدة
يتدلّى ولا يأويه
تنزلُ أحلامُه
فتعشبُ الغرفةُ
تضيقُ بئرُها
تتوحّشُ الحبالُ
وتنقبضُ الرقبة.
***
أحمد الواصل
- من مواليد الرياض، عام 1976.
- بكالوريوس أدب عربي.
- يعمل محررا ثقافيا بجريدة الرياض.
صدر له:
- جموعُ أقْنِعَةٍ لبوَّابَةِ مَنفى العاشِق، شعر، عن دار الكنوز الأدبية بيروت، 2002.
- هَشيم جنازَةٌ لِخِطْبَةِ المَاردِ التَّائِه، شعر، عن دار النهار بيروت، 2003.
- مهْلَة الفزَع سلْوًى لغير هذا الليل النجْديِّ، شعر، عن مؤسسة الإنتشار العربي بيروت 2005.
- تمائم فصول النبع أو صريخ الفاكهة، شعر، عن مؤسسة الإنتشار العربي بيروت، 2007.
سورة الرياض، رواية، عن دار الفارابي بيروت، 2007. - الصَّوت والمَعْنى، مُطالعاتٌ في شؤونٍ غِنائية، دراسات، عن دار الفارابي بيروت، 2003.
- سحَّارة الخَليج، مقدِّمة ودراساتٌ في شؤون غنائية، دراسات، عن دار الفارابي بيروت 2006.
- الرماد والموسيقى، مطالعات في ذاكرة عربية غنائية، دراسات، عن دار الفارابي بيروت.
ahmad_alwasel@hotmail.com
شذَرَاتُ الحَيْرَة
1
الضَّجيجُ نحيبُ الفَرَاغِ.
2
لا تَهْوِ بوَجْهِكَ أمامي
قَلْبي معُوَّقٌ
وأطْرَافي مُسْتَقِيْلَةٌ.
3
تجْلِسُ وحْدَك
وأنا صَليْبُ قَصيْدَةٍ
تتَحَرَّكُ
أو
أنكسِرُ.
4
لماذا أيُّهَا الصَّمْتُ الأوَّلُ
تَحْمِلُ حُنجُرتي ؟.
5
شابٌّ وَسيمٌ هذا قدَري
أو قدرُكَ
أو قدَرُه !.
6
يَبْتَاعُني الصَّمْتُ لِتَاجر اسْمُهُ الوَقْتُ.
7
مَا لِحُنجُرَتي تُفِيقُ لِصَدَى أحْجَارِها ؟!.
8
لِمَاذا أنتَ حَميمٌ لِوُجُوهِ سِوَاك ؟
عَيْنانِ صَغيْرَتَانِ هُمَا امْتِدَادُ يدَيْ فيروز للسَّمَاءِ
أوشاجُ مَوْتُورِهَا يصارِعُ أنفاسِكَ
ورَجْعٌ يَهْذي لا يكْتَرِثُ لِمَنْ مَرُّوا !
يَسْتَعِيْنُ السَّفَرَ بوَجْهِكَ ليَتْرُكَ قَمراً
ونوْرَسَاً في أسَاهِمَا !
صَوْتُكَ يَحْنو علَى الفَراغِ
كَيْفَ يَعْلَقُ بكَ السَّيْفُ..؟.
9
السَّهْرَةُ كعَادَتِها
احْتِرَاقُ عُزْلَةٍ
وذِكْرَى صَديْق.
10
الفضَاءُ يَنزِلُ تَحْتي لِيُعرِّشَ في سُفُنِ الكآبَة.
11
لماذا أفْقِدُ وجْهَكَ حِيْنَ نجْلِسُ سوياً
فيتأوَّلُ خيالاً كُلَّ وَحْدتي ؟!
12
أسْمَوْهُ الغِيَابَ لِتَصِيْحَ الدِّماءُ
فتهْرُبُ أجْنِحَةُ اليَمَامِ
رُبَّما هِيَ غُصَّةٌ مُوْدَعَةٌ في يبَاسِ الرَّحْمَة !.
13
لا تَحُثَّ قَلْبي
أو تُوْحي إلَيْهِ
توقَّفَ عَقْرَبُ السَّاعة.
شذَراتُ العَذاب
1
يبْعِدُون أو يَقْرَبُون
أشْبَاحٌ في يدِ الوقْتِ
لا لِعُيونِهم طَريْقٌ يَحْتَطِبُ السَّفَرَ
ولَيْسُوا لِغيثِ المَكانِ
لا لأياديهم مُهْلَةٌ تتمرَّى كهْفَ التجربة
وليْسُوا في عِبْءِ النار
يكْبُروْنَ علَى الأرْضِ
أيُّ وهَنٍ يتَسابَقُ في هربٍ لِيسْمَعَ نحيبَ البداية ؟!
ذلك البَقَاءُ خَائِفٌ
لو قِيلَ عن تَمْتَمَة الذرَّاتِ
حين تساكِنُها زفرَةُ الرَّحيلِ.
2
لِغيابكَ يجْمَعُني الحُبُّ في وَرْدَةِ النار
رُجُوعُكَ في كَفِّ الرِّيحِ
وأنايَ مَزْرُوْعَةٌ في مَاءِ الانتظار
يَفيضُ
ولا يَحْتَمِلُ ورَقَ الوَحْدةِ
ورْدَةُ النار في جيبي.
3
غرسْتُ رَائِحَةَ النَّحِيْبِ
يَحْمِلُه ثوبي
لا يغيبُ.
ما الآهَةُ ؟
لَوْ كُنْتُ رَحِماً لِقلْبكَ والطُّفُولَة.
ما الآهَةُ ؟
لو كنتُ زَوْرَقاً ـ هوَ البُحيرةُ ـ
وأنْتَ حَفيفُ الأشْجَار
صِرْتُ أبْحَثُ عَنِ الرُّوْحِ
يجرُّ الصَّمْتُ أحْمَرَ تَنْهِيْدَتي
مُغْتَرِبَة
لا تَغِيْبُ !.
4
لِما تَسْألُني؟
فالطَّريْقُ يَنتهي اليَوْم
وأبْوَابُ الخَليج تُناديكَ
أيُّها الجَميْلُ !
لَكَ ذاتٌ بعَيْنيكَ تَسْألُني
فّكأني الطَّريْقُ بيَدَيْكَ
لَمْ يَشْكُرْني الوَقْتُ
ولَمْ أسْنِدْ له انطِفَاءَ النجْمِ !
ما عدَدْتُ ـ لُقيا الحجَر وانتظَارِهِ ـ
وأنا في رحَابك
تُومِئُ حُركاتُ الطَّرَيْقِ أن أبقَى
أو أمثِّلَ دورَ الوُقُوْفِ
وأنْتَ تَسيرُ.
عَزاءٌ نِفْطِيٌّ لِنسَاءِ الخَليج
لا نساءَ في الخليجِ
ينتظِرْنَ لُؤْلُؤة.
لا جمْرَ في العيوْن
لا وعودَ هِيلِ يا مَال.
انتهتْ تلْكَ الرئةْ
ولي هوًى
عذابُهُ أميْن.
لن تقولَ امْرأة:
"رَاحَ غَوَّاصُوْنَ
مَا عَادَ أحَدْ
لوَّحتْ أحْزَانُهُنَّ جَهْراً
فَلا البَحْرُ انْحَمَدْ".
كيف تولى جارحي
دون احتمال الصبْر في الظنوْن ؟.
"لو خمرةُ الأعذارِ
تكفينا السؤاْل
لو (سدرةُ العشاق) *
تُدْني غايةَ الفنوْن !.
فالدَّمُ أسْوَدَّ في أرْضِنا
ها شراعاتٌ عائدَةْ
إنما وحْدَها.
أين اكْتمال
الجُرْح ؟
الشِّباكُ تعودُ
بإعصارٍ جاءَ الخليجَ
الشباكُ حزينةْ
والنساءُ.
لا نسيانَ في السكوْن
ها طائر الولهْ
أقْصَتْه آمالي !.
أيُّ غوْصٍ..!؟
منذ آمالِ امرأةْ ؟.
..
..
لم تُجْدِ إشارةْ
تُرْهِفيْنَ الفَأْلَ
فَهَل عَادَ بَحَّارةْ ؟
..!
..!
آه ماذا عاد ؟
نهَّامٌ علَى خَشَبَةْ
يحْتَضِرْ
يحْتَضِرْ.
انتهى
هذا الهَوَى
يخوْن؟
-----
*إشارة إلى:
"سدرة العشاق - 1976".
شعر: مبارك الحديبي.
لحن:غنام الديكان.
غناء: شادي الخليج.
***
أحمد كتوعة
- من مواليد جدة، عام 1965.
- بكالوريوس علوم سياسية.
- ماجستير من كلية فليتشر للعلوم والدبلوماسية في بوسطن، 2005.
- يعمل بالسلك الدبلوماسي.
صدر له:
- كرة صوف لُفّت على عجل، شعر، عن دار الجديد بيروت، 1996.
- له ديوانان نُشِرا إلكترونيا هما: كما أشاء، 2004، وحيوانات الليل، 2007.
alloya12@hotmail.com
ضد الكلام
ضد الصمت
في القديم كانت الأصوات مادة سائلة قليلة اللزوجة والكثافة، وكان الهواء صهريجاً يحلم بالامتلاء....
لم تكن الشمس مرجلاً يستخدم في التبخير، ولا الجليد فريزراً لحفظ الأحافير....
كان اليقين صخرة لا تقوى حتى على التقيح، و كانت الأفكار تسدد مثل السهام من الحدس إلى الحدس....
الآن
في هذه اللحظة
أي قبضة من الخيوط تستطيع أن تكون كلمة مقبلة ؟
أي مصادفة ساذجة جداً ستزحف على السطر ؟
مراد الكلام في صميمه للغواية
مراد المعاني في تسلق جدرانٍ مطلية بالزيت
ومراد الأذهان في لعبة الانزلاق
أي الكلام مطرقة للصناديق ؟
وأي مفردة تخطف البصيرة وتفر بها إلى مخدع الأشياء ؟....
حسناً تعال وأنظر في هذه القطعة:
(( لا شيء ينفع كي يقال، ولكنها الثرثرة ونقض الكلام، فمثلا:
لو ذكرت أن الشارع مزدحم أو أن غباراً يحجب الرؤية في الخارج، أو ذكرت مرورك على الصيدلية فقد يعني أن نتجادل في أحبولة الزحام، أو سماكة الغبار، أو مضار الكيمياء لا لشيء إلا لغرض الكلام، لإقامة حفلة ترفيهية تلين فيها الأصوات مفاصلها، لسد الثقوب التي يدخل منها الصمت، وربما لمنع تغير رائحة الفم، ولتشغيل عضلات الفكين، وتقليل مرات استنشاق الدخان كما أنه قد يمنع إمساك كتاب، أو التمعن في فكرة، أو الدخول في نعاس يفضي إلى نوم....
ذباب هو الكلام لا يغامر بالإرتفاع كثيراً، وسطي حد الإنحلال، وقصير عن اللمعان، مذ كان الوصول درجة لا يقدر عليها الملفوظ، وكانت قاصرة على المحسوس....
في المحصلة أيضاً الكتابة فرع من الثرثرة، ركامات وحواجز ترابية يتعلم منها المحاور القفز إلى أعلى في مرة مقبلة نلعبها على سبيل العادة، أو الرغبة في مس الخبيئة أو الإمساك بياقة قارئ مازوشي....
ذبذبات كدبيب النمل، بتؤدة يحمل فتات عظام المتواري خلف المتاريس ذاك الذي ظن الكلمات حبارى تتشهى مخلب الصقر، وأن نهش جثة المعنى يوقظ المعنى، بينما يدرك الرضيع أن مجرد انطلاق الأصوات عمل مسل لا أكثر له وظائف أخرى ومسكوت عنها كأن تختبر صلابة نسمة عابرة، أو تعبئ بها بالونة لطفلك، أو تصنع منها حبالاً مجدولة تربط بها أيامك حتى لا تفر....
(كان هرباً من الذات، وقلقاً أجوف صبُّ المقاصد في قوالب صوتية إذ كان أجدى وأيسر للعبور أن تبقى الأصوات غرلاً).
والحقيقة التي لا تُمارى هو أن الصمت ثرثرة كما هو الكلام، إضمار متأخر لتقمص حكمة مرجأة، أو حيلة مبتذلة للدوران حول مصائد الأحرف الملتوية والمستقيمة، فهو على مرونته لا يستطيع النجاة من أسنان السين، أو خازوق الألف، أو بركة الباء المملوءة بالأسيد، أو قنبلة الطاء اليدوية، وهو إذ يفلح في صرف الإنتباه، يغمس قدميه في وحل الإضمار حيث لا يضمر سوى الخباثات وصمت الكائن حجة عليه.
والصمت مراد الغائب لولا الغياب تسديدة تامة
ومراد الغافل لولا لذة الإنكشاف
ومراد الميت لولا ظهور الأنبياء
وهو حربة تُسن
ورصاصة تحدق من فوهة
ومخلب يحوّم فوق الرؤوس
وهو إذ يتورم كالسرطان انجراح مسبق
وألم بأثر عكسي)).
هذا الكلام عبث شكلي يتسلى به رأس سئم، رأس وحيد بلا جسم ولا أطراف، معلق في مدخل بيت شعري، رأس لا يلوي على شيء سوى اللهو مع مفردات سئمت الأفواه والأقلام مذ كان السأم قبعة تستخدم في التفكير، وحيث لن تفكر دون متجر قبعات.
والسأم نحلة الكتابة ــ هكذا قالت فراشة، وشرقت بالضحك حتى استلقت على قفاها ــ لأن السأم ليس سادياً تماماً كما نظن، فهو سمكة تقفز مبللة على الكي بورد، وحين نهم بإلقائها في الماء تقفز كالجنادب، ونسميها الملل، وقد تكون أكثر خبثاً فتقعي بمؤخرتها كالفيلة فنظنها نعمة إلهية فنستبعد ما سواها وندعوها المكيدة.
جل ما في الأمر أن اعتباطاً هرماً يهزأُ، كمن يمسك بأرض خضراء ويلوح بها لمسافر في صحراء.
(هكذا أحل نفسي من استخدام مجاز السراب، وأزعم أنني أفلحت في تركيب صورتي كما تشتهي يداي، غير أن الصورة انعكاس لجزيئات الضوء الساقط على الجسم على ما ظن ابن الهيثم ــ إن كنت ذا نزعة شوفونية في العلم ــ، مرادها أن تبدو حلماً يتجول في رأس طائر ليلي، أو بقعة ساخنة تركتها فتاة على رصيف لتدل على أنوثتها).
خدوش
سأفتح عيني
الحلم قشعريرة
أتوسل الهواء أن يتجنبني
لا حنين لرجفة أخرى
سأدعها مطمورة في الجلد
حتى أرى عودتي بمفاتيح أكثر برودة من هزيمة الباب.
سأفتح عيني
لأحصر أشقياء الليل في جمجمتي
وأدقق أيهم شج مؤخرة الرأس ودفن ثقلا
سأحمل نصف رأس وأخسر الحلم.
الممرات لن تسألني إن كنت داكنا كوحشة
أم
وحشا يسحب الدبيب ويخرج.
النظرات التي تخطفني
أيها كانت الطمأنينة نائمة إلى جواري أتلمس شيخوختها.
أيها الفأس
الدفن
العابرة
وكيف أواري خدوشا تركتني غابة تسيل
من مسافة شجرة تتفحصني
لا ألقي تعبا رؤوما يلوذ بقدمي
وهدة السير غبطة للحجارة
الظل لم ينتظرني
حين جلست
أسند قدميه إلى كتفي.
الشمس جيفة لا تعرف كي تهرب رائحتها
الحشائش أسماك صغيرة
والسجائر علمتني أطيل النظر بوصتين
وأترك للوجوه غشاوتها
يتلبط النسيان
وتحرق المراكب.
الشارع على حين غرة
أمشي في الشارع لا أدركه
إن كان أبيضا
أو
أرجوانيا سيضللني
الشمس ليست حارقة لأمشي كمخمور
والهواء ليس سلكا شائكا لأخدش فيسيل الصديد
أمشي إذا لأمسح عتب الشارع بكعبي حذاء
يتخفى صوته بين فظاظة العابرين
شارع يدرك سر خطوي المتثاقل
يعرف أن هذا المشطوف باللاجدوى مهيأ للإنفلات
وعاء بال من القمح المسوس
أحمل كفين ساهمتين ظلتا زمنا تدفع جدرانا خلفها جبال
أمشي كمن يسمم الهواء بحضرته
لا أعرف من المشي سوى أطراف تتأرجح
وشارع يلهم عابريه المقاصد
نهايته بحيرة تطبخ فيها الأسماك
والعابرون أعشاب تعلق بين الصخور.
كرسي
أجدر بك ألا ترمقني من طاولتك
تعال وأجلس
لنفتح سيرة هذه الأمسية الطحلبية التي تعلق في الملابس
خذ المبادرة إن أردت
تحدث عن هذا الممر الطويل بين الطاولات
إن ظننت أنه لا يتسع بسهولة لمرور بدينين يتجادلان
أنا لا أريد شيئا منك
أحتمي ببلادة تتكلس علي منذ أول النهار
وأقعد على كرسي
يشبهك.
خيبات لامعة
بينما تبرد أحلامك القاسية بليل معدني بعد أن دحرجك النأي إلى زاوية في سرير يخلو كثيراً من حمامة تفقس ضحكاتها تحت الشراشف.
كم يتوافد عسس الغبار ولصوصه على البساط، فلا تملك غير أن ترقبهم فرداً فرداً وهم يدخلون بصولجانات وأحذية خفيفة شاهرين الجفاف.
لعلك تزدرد قطعة أخرى من مرارة طازجة في صحن قريب
هكذا أفضل
ليبدو الليل أكثر حيرة
في مواجهتك.
2
زمن نافق إلى جدار
ذباب أنيق
ودود مدرب
ينافقونه ليبقى خارج البيت.
3
هذه الثياب المبللة بالحكمة
والحماقات
العابثة حول وجوهنا المطفأة في منافض السجائر
هذه الثياب الماجنة
خيباتنا.
4
سيقطر من جوزة رأس باسقة
لبن الحكمة
كانوا ثلاثين طاسة ضراعة
وخلفهم
لم يكن له سوى دور غطاء.
5
كلما أستيقظ مختنقاً بمخلفات الدخان في حنجرته
يفتش عن ظلال كان يرافقها في شوارع ليست له
ويجالسها في مقاه خارج رأسه
ستكون له الجموع التي لم ينتظرها
وستفرح
إذ تستريح.
6
نتراجع جيداً
نغطس خيباتنا في بحيرات تمر من أمامنا
ونجلس مبللين حول حصون طافية
ونبكي جيداً.
***-
أشجان هندي
- من مواليد جدة، عام 1968.
- ماجستير في الأدب العربي.
صدر لها:
- حروب لأهلة، شعر، عن دار الآداب بيروت،1997.
- للحلم رائحة المطر، شعر، عن دار المدى دمشق، 1998.
- مطر بنكهة الليمون، شعر، عن نادي الرياض الأدبي الرياض، 2007.
- توظيف التراث في الشعر السعودي المعاصر، دراسة، عن نادي الرياض الأدبي الرياض 1996.
خشب
وكان أبي
إذا ما جئتهُ انتثرتْ على أخشابه البيضاءَ
أسئلتي
فراح يدقُّها في الماءِ
لا أثرٌ لها
لا الماءُ يشربها
ولا صدأُ المطارِ يحتفي بطنينها المبحوح.
يا أبتي
أشمُّ السوسَ في الأخشابِ
أسمعُ لونَهُ المسكوبَ مثل اللَّيلِ في رئتي
ألا ينهالُ هذا السقفُ فوق رؤوسنا
إن نامت الأوجاعُ بين ردائه والجلد ؟
ألا يبكي ؟
ألا يحتدُّ إن بعناه للجيران ؟
وكيف ننامُ دون غطاء ؟
يدقُّ أبي
يغيضُ الماء.
تفصَّد دقَّهُ عرقاً
وكشَّر عن بلادةِ أحرفي البلهاءَ وجهُ القاع
بسطت عباءتي السوداء
ورحت أدقُّ في شفتي
يُعلّمني ابتلاعَ الطينِ
حين تُطلُّ كالمسمار من بين الشقوقِ السودِ أسئلتي.
أبي النجّارُ
يحمي صدريَ المسلولَ بالأخشاب
يا اللّه
كم أشتاقه رطباً ؟
وكم أشتاقُ صوتَ الريحِ
ينخرُ ما تبقَّى منه متكئاً على الأضلاع ؟.
يدقُّ
يُطلُّ وجهُ القاع.
لا وقتٌ لعَصْرِ جدائلِ الزيتونِ
فأدهن "سحنتي" بالليلِ
تَكْسوني نشارةَ شهوةِ الأغصانِ في أن يُكْسَرَ المنشار
لا زمنٌ
عليك تَسَاقَطُ الأخشاب
منك تقافزُ الأسرار.
نــ..ا.. م
أبي
وعاد الطرقُ
من بالقاع ؟؟
لو جاوبتني
لعرفتُ كيف تُغيّبُ المفتاح ؟.
ضمائر
كلما حدّثني عن خيلِهِ
عن ليلِهِ
عن ويلِهِ
صحتُ:
لِمَ
تشرقُ الأرضُ ـ ربيعاً ـ بالظمأ ؟.
ولِمَ
عسعس الجرحُ
وقد كانوا من الأوتارٍ
ليلاً ينزحون
أخضرّ أوّلهم
من ضلوع النّزق المبتلِّ
سرّا ينسلون
مترعٌ نادلهم ؟
عسعس الجرحُ
قف
نبكِ ما حطّ على الأوجاع جرحٌ ونما.
كلّما عرّج الغيمُ
قف
وأمْطِراني ألما
وأقذفا روعكما
ناركما
سرَّكما
بعضكما
في حجبي
سادرٌ في لهبي
موسمٌ يغزل من غارات عشبي موسما.
وكما وُوريتْ في الطين سوْءاتٌ
وريشٌ
وارياني
دثّراني بكما
لكما
سكبُ روحِ الجمرِ في الجوفِ
ولي
أن أسلما
أنتما
بعضُ ما في البالِ من ليلٍ تباهى قِدَما
وأنا وهّابةُ الأقمارِ
ليلاً وسما
يصطفيني الحرفُ إنْ عاتبتُهُ
وإلى كفيَّ يعدو ندما
وخيول الشعرِ إنْ خاصمتها
أقسمت ـ للروح ـ أن تستسلما
ونديمي
كلما حدّثني
عن سيفِهِ
عن ضيفِهِ
عن حتفِهِ
عن ضيقِ ذاتِ الرّملِ
عن شُحِّ الحِما
صحتُ:
لونُ الأرضِ يزهو
عندما
نسكبُ الحرفَ على خدّ ربيعٍ ظُلِما
ثم نغدو حُلُما
ثم نغدو حُلُما.
***
ثريا العريض
- من مواليد البحرين، عام 1948.
- بكالوريوس التربية من كلية بيروت الجامعية.
- ماجستير في الإدارة التربوية من الجامعة الأمريكية في بيروت.
- دكتوراه في التخطيط التربوي والإدارة من جامعة نورث كارولينا.
- تعمل في شركة أرامكو السعودية.
صدر لها:
- عبور القفار فرادى، شعر، عن نادي الطائف الأدبي الطائف، 1993.
- أين اتجاه الشجر؟، شعر، إصدار شخصي الدمام، 1997.
- امرأة دون إسم، شعر، إصدار شخصي الدمام، 1997.
tarrayed@gmail.com
سيّدة الأوتار
" ليس لي إلا الذي كان لِغيري
وترٌ يصمتُ
أو يروي الذي كان وفات
ولِهذا حينما تأتين يا عشتار
يا سادنة الأشعار
نقشا في جروحي
خاتماً من فضّة ِالقلبِ
يفضُّ اللحن أسرار الجهات ".
*******
يبتدي الفجرُ بتغريبة حزنٍ
ونشيدٍ راحلٍ نحو انتشاءات جديدة
واحتمالٍ لِحساسين تغنِّي
وانتثار الياسمين الغضِّ في أبيات شعرٍ
ربّما همهمها يوماً غريبٌ راحلٌ بالصوتِ
والشوقُ ترانيمَ نهاراتٍ مجيدة.
كلُّ ذاك الأفق في نسغي
ولا تأتين إلا عندما ينعتقُ الأفق
فنضحي بدناً مرتبكاً
بالشوقِ مذهولاً تواتيه السُحُب
لغة الحمّى تعيد الشعرَ مرسوماً
ــ كما في لثغة البدْء ــ تضاريسَ تعب ــ
بدناً مرتبكاً بالحرفِ
لا يعرفُ إن مرّ به الصوتُ
أكانَ الملتقى ظلَّ دوحٍ يعربي الحزن ؟
أكان الوقتُ نارنجاً بِغرناطةَ ؟
أم نخلاً بِسامراء ؟
أم سدراً بأوبارَ أنتصب ؟
أرز قرطاجة ؟
أو لبنان إذ قدموس جاء ؟
ربما جوز سمرقند ؟
ودرّاق حلب ؟.
*******
مدنٌ دانت لها الدنيا
وكانت لي الملاعب
عشقـَتـني طفلةًً تلهو على همس النوافير
وعادت صهداً صمتاً إلى رملِ الحقب.
*******
" ليس لي إلا الذي كانَ لِغيري.."
مدنٌ تعزفُني أوتارُها شوقاً يشاغـب
هي غابت
ورمَتني في صدى خطو القوافل
مدنٌ غابت
وما زلتُ أناجيها
كأن القلب لا يفهم أن المجد راحل
كلّما يأفل بدرٌ أترجّاه هِلالاً يتفاءل
وإذا تحتفل ُالأقمارُ بحلمي
تضحك الأوتارُ من عصفِ سكوني
كلّما مرّت على ألوان حلمي
خُلتُها تهتفُ:
كوني
لكِ تشتاق إحتشادات السواحل
لكِ إغواء المدى المسحور في همس المراكب
حيثما تسترسل الريح وتغضي عن أنين الروحِ
عن أشرعةِ الشوقِ وألوان الغياهب.
*******
ليس لي إلا
تباريحٌ تضيئ الآن أجواء زماناتٍ بعيدة
من جوى روحي
وتـبعد
كلّما قلتُ لها هاتي خفاياك تردّ ّد
لكِ أسراري
لكِ الأذن
لك الصوت
فبوحي
ترتدي بحّة صوتي في تباريح القصيدة
وتناديني إلى موتي
فتحييني
أواسيها
وتهرب.
*******
إنما أطلبُها فيّ حياةً تتسرمد
مدنٌ كانت
وغابت
ترتديني
وتعيد الصوت
أوتار التواشيح الجديدة
حلما تغزله عشقاً ربيعيا أغرّاً كي أعيده
عاشقاً يرتادُ إعصارَ الزمرد
ذلك المجنون جلجامش مسكونٌ بِـِطَيفي
باحثاً عن دانة الخلد الفريدة
عاشقاً يبحث في ترحال أهدابي
عن السر الذي خبأّه سـِفر احتيارات الحقب
مدناً كانت لأجدادي العرب.
*******
ليس لي غير الذي كان لغيري
وترٌ يصمتُ
أويروي الذي كان كان وفات
ولهذا حينما تأتين يا عشتار
نقشاً في جروحي
خاتماً من فضة القلب
يفضُّ اللحنُ أسرارَ الجهات.
*******
ليس لي غير الذي كان
زمانٌ ينتضي بوحي
ويبقى
إنما أقرأ إسمي ألقاً ترسمه كفٌ تهب.
*******
أنتِ يا حاملة السرَّ
أنا
أنتِ يا أنشودة الأكوان
يا ترنيمة الماءِ
أنا.
أنت أنا
لو سمحتِ الآن أن ينعتق الغيم بـِِسرّي
يسكنُ الوجدُ تبوحين وأصغي
فـتغـنّيني
أغـنـّيكِ
نغـنِّي مدناً كانت
وما زالت تعاويذا بنسغي.
*******
صوتُ مَن يرفد صوتي عندما ينبجسُ الآن بعمقي ؟
ها أنا أنفضه غضّاً كما يعبق في القلب
انتشاء الياسمين الليلك
الليل الدمشقي.
*******
لا تردّيني:
أنا لا أعرف الدانَ
وشوق الدانِ
لا أعرف آذار
لا أعرف نيسان
الذي يجترح الزهرَ من الموتِ
ولا تمّوز في القلب كـَجمرٍ يلتهب
أنا لا أعرف أيلول الذي يبكي على باب السحب
أنا لا أبكي سوى تاريخ أمـّي
امرأة مرّت بآثارٍ رواها نبعُ "ديلمن"
ثم لا أبكي سوى حين يأجّ القمر القاسي
على الأطلال
فأعذريني
أنا منها
وأنا أنتِ
فـَلُمِّيني إليك.
*******
ربما أعرف "جلجامش" وجهاً
نابضاً يوماُ على بستان حلمٍ متمرّد
حاشدٍ في مدن الحلم السعيده.
ربما نقطف عشقاً ناضجاً مؤتلقاً
سرَّ اكتمال البدرِ
أو
تهليلة الرمان في صدري
احتفال التين
والتفاح
وأشواق العنب.
ربما نقتسم الأفق مع الدنيا البعيده
وأغـنـَّّـيها حقول القمح
أو غاب قصب.
آه لو تدركني الآن القصيده
لأريها كيف صوتي
يبدأ الدنيا وينهيها بأنواء شريده.
آه لو تدركني الآن لأسقيها جراحاتي
وتسقيني
إذا ما انتشت الدنيا
أناديها لأكوانٍ من الدانِ فريده.
*******
"ليس لي إلا الذي سوف يكون"
وأنا أنت
فهلا جئت يا سيدة الأوتار
كي يهجعَ جلجاميش
أو يرتاح مهيار الدمشقي
يرتوي الخيـّام شجواً من شجوني
وامرؤ القيس يعيد الشعر مأسوراً بأحلامي إليك
تعرفين الخطوَ محموماً
وليس الخطوُ إلآ رقصات الشوق
أو في القلب ومضٌ لاحتفالات الأهلـّة
تحتفي أحلام "أوروك" بأطيافك
كالفضة في لمع سرابات اللجين.
*******
أنت تأتين بأحلامي
وتمضين سريعاً
لا تروحي
أيقظي "أوروكَ" في صخب تباريحي
اسكنيني
كي نكون.
كلهن أنا
كلُّ هذي الوجوه
أنا
التي الحلم بأعماقها لا يموت
والتي دفنتْ حلمها في البيوت
والتي تتأرجحُ
بين الحقيقة والحلم
دون زمن.
كل هذي الوجوه
أنا
تحاصرني أينما أتجه
بأحلامها
بجدائلها
بالعيون
يكحلها الحزن كل صباح
يغلفها اليأس كل مساء
من يعاتب من ؟
من يحارب من ؟.
كلهن
أنا
في ثيابي الموشاة تنبض آلامهن
تلهث أنّاتهن
بصوتي أنا
كلهن
وجوه مشوهة في المرايا القديمه
محاصَرةٌ بين خوفٍ وظن.
كل هذي الوجوه
أنا
التي أشعل الحلم بأحداقها محرقه
والتي لم تزل
في متاهاتها غارقه.
كل هذي الوجوه
أنا
تطاردني
في الدروب العتيقه
لتُفضي إليَّ العيونُ الحزانى
بأسرارها
تطالبني أن أثور
تحمّلُني عارها
ثارها
مَنْ يحاسب مَنْ ؟
من يعاقب من ؟
ولأي جريمة ؟
الصراخ
السكوت
قبل الهزيمة
التناقض في اللحظات الأليمه
التعلّق بالرغبات السحيقه
تبث بأعماقنا النارعبر العصور
تنقِّب في اللاشعور
تواجهنا بالحقيقه
وتفتح باب الزمن
من يطالب من ؟
أنا كل موؤدة لم تكن
كل ذاتٍ تطالب ألا تموت
وتنضو الكفن
من يطالب من ؟.
كلهن أنا..
.. وأنا كلهن
فهل ستولد أحزانهن
بضعفي أنا صرح قوة ؟
وهل بأظافر آمالهنَّ
أنحت في صخرة الموت كوّه ؟
بأحلامهن المضيئه
أشعل في ظلمة اليأس جذوه؟
أفجّر في قنوات الجفاف بأعينهنّ
ينابيع نشوه ؟
بحلقي أنا تتأزم صرختهن
وأحبس أصداءها في الشرايينِ
حتى أكاد أموتْ
فهل سأمزق هذا السكوت
بأسناني العاريه
وأطلقها صرخة داويه
يهز صداها البيوت
تحطم كل المرايا الرديئه
تعري النوايا الخبيئه
وتجتث أنسجة العنكبوت
وتمحو عن الجبهات ندوب التشوه
تحرر وجهي
وكل الوجوه البريئه
من وصمة الخوف والظن
والعقد الباليه ؟.
***
حسن السبع
- من مواليد سيهات، عام 1948.
- بكالوريوس آداب جامعة الملك سعود، الرياض، 1972.
- ماجستير في الإدارة العامة من جامعة إنديانا، الولايات المتحدة الأمريكية، 1984.
- دبلوم علوم بريدية ومالية من المعهد العالمي للكوادر الإدارية، تولوز فرنسا، 1978.
صدر له:
- زيتها وسهر القناديل، شعر، مطبعة البكيرية الرياض، 1992.
- حديقة الزمن الآتي، شعر، دار الكنوز الأدبية بيروت، 1999.
- ركلات ترجيح، شعر، النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية، 2003.
- بوصلة للحب والدهشة، شعر، النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية، 2007.
- ليالي الناطفي، سرد يجمع بين الفنتازيا والأدب والتاريخ.
hsn_saba@hotmail.com
hsn_saba@yahoo.com
حصاد
قالوا:
إن الفكرةَ مثلُ البذرةِ تمنحها الأرضَ
فتنجبُ أشجارا
ما أقسى أن تحرثَ
تبذرَ
تسقيَ
تنثرَ أفكارا
ما أقسى أن ترعىَ
أرضاً لا تنبت إلا الشوك
وتنادمُ في المنفىَ
أحجارا.
الصنَّارة
طفلةُ الماءِ جائعه
مثل كلِّ صغارِ السمكْ
والوليمةُ مغريةٌ كالحياة
طبقٌ فاخرٌ على شكلِ صنَّاره
تتربص بالسمكه
بعد حينٍ
سيستدرج الطُّعمُ واحدةً
للكمينِ الأنيقْ
ستقاوم لكنه يحسم المعركه
هكذا ينصب الوقتُ فخًّا
لها
ولنا
ليصبحَ حبُّ البقاءِ
سبيلا إلى التهلكه.
مبتدأ
الزحام
الضجيج
الهواء الملوث بالفقر
والشاحنات
بائع الوهم
والخردوات
القصاصات
سقط المتاع
الرصيف مليء
بأعقاب بعض السجائر
يجمعها الصبية الأشقياء
النقود
الحرير
الملاهي
اليخوت
الثراء
ناطحات الفضاء
بشر فوق آهات كل البشر
كل هذا الذي نثرته القريحه
مبتدأ
فأبحثوا
إن أردتم
له عن خبر الفضيحه.
شرفة
هذه الشرفة
لن تشهد بعد الآن
ميلادَ التفاصيلِ الحميمه:
ضحكةَ الكرمِ على إطلالةِ الفجرِ
ورفاَّتِ الفراشاتِ الفتيَّه
ورفوفَ الكتب
والضحكات
والبهجة
والتهويم
والفوضى الذكيه.
هذه الشرفة تغدو بعد حينٍ
ومضةً آفلةَ العينين
أمسا
لن ترى بعد غياب الشمسِ
شمسا
أو غيوما واعدهْ
نحن تلك الشرفة الحبلى
بفيض الوقتِ
والوقتُ ـ إذا غبنا ـ
بقايا مائده !.
من نافذتها يتسلل الصباح
أطلَّ الصبحُ من شباكها الورديِّ
حقلاً من تثني الكرْمِ
من إيماءةِ الأعنابِ
والسُكَّرْ
أطلَّ الصبح
شلالاً من السندسِ
والإستبرقِ المسكونِ
بالياقوتِ
والمرمرْ
من أيقظ ذاك الصبحَ نوارا
وموسيقى
وأسرارا
وفنجاناً من القهوةِ
من أيقظ تلك الفتنةَ الحسناءَ
من شكَّل ذاك الموعدَ الماطرَ
نهراً فوق أوراقي
...
على إيقاع ِ مشيتها
تغادر صمتَها الأشياءُ
ترقص باقةُ الأزهار
تفتح زهرةُ الإغراء نورتها
وتبتهج الملاءةُ في سرير الوقتِ
والمرآةُ
والمشجبُ
والنواسة الكسلى
حتى المرمر المنسيِّ
ينسى دورَه اليوميَّ
يصبح إذ تلامس صمتَه القدمان أوتارا
تدندن
وهي تعبر بهوَ ذاك الصبح
أشعارا.
...
يسيل الصبح أطيافا على فمها
نسافر في الكلام العذبِ
نعزف مفرداتِ البهجة الأولى
ونستدعي اللآلئَ من مكامنها
وروح الكرم
والنَّوارِ
والدفلى
ونرحل في دوار البجر
في حلم المحارِ
وفي لهاثِ
الساعةِ العجلى
نغرقُ
ثم ننجو
ثم نغرق
في بحيرة وقتنا الأحلى.
...
أطل الصبحُ طيفا
يقرأ الفنجانَ
بوحَ البنِّ ممزوجا بضحكتها
ولفتتها
ورنةِ صوتها الفضيّ
ينثر في زوايا الغرفة النشوى
حكاياتِ الهوى
والثرثراتِ الشهرزاديهْ
سألتُ الصبحَ:
هل لاحظتَ ـ مثلي ـ
لهفةَ الفنجانِ في يدها ؟
ترى من يرشف الآخرْ ؟
ومن ذا غاب في تهويمة السكَّرْ ؟
وهل لاحظتَ ـ مثلي ـ
ما تبقّى في فمِ الفنجانِ من نجوى
حديث الوجد
والشكوى
حنين الجلنّار
وأرجوانِ الفجرِ
وهو يودّع المأوى ؟.
...
رويدك
يا صباحَ العشق
يا قطرَ الندى العذريِّ
لا ترحل
ولا تصنعْ لها عذرا
فما زالت حقولُ البنِّ
في فنجانها تترى
وما زالت تفاصيل الحكايةِ
في فم الفنجانِ
أمواجاً من الذكرى
وما زال الندى فوق الزجاجِ
يسيل بالرغباتِ بوحاً هامساً
سطرا ً
يلي
سطرا.
***
حمد الفقيه
- من مواليد الطائف، عام 1942.
- بكالوريوس دراسات إسلامية ـ جامعة أم القرى.
- يعمل في التربية والتعليم.
صدر له:
- نقف ملطخين بصحراء، شعر، عن دار الجديد بيروت، 1996.
- على طريقة لوركا، شعر، لم يصدر في كتاب نشِر على موقع جهة الشعر، 2000.
- تبسيط شعري لحياة تستعمل لمرة واحدة، شعر، لم يصدر في كتاب، نشِرعلى موقع قصيدة النثر المصرية، 2006.
alfageeh1@hotmail.com
على طريقة لوركا
لست لوركا لأحتطب الشائعات حول موتي
لكنني كنت دائما أمرر يدي طويلا على نهايات كهذه
ولعل هذا ما قاد سهو أصابعي سريعا لأتحسس المشاهد الخانقة التي ينمو بها العطب
ربما لأن أمي كانت رأت يوما أن ثيابي الملطخة بالغيم وتحرشات الأطفال تضيق سريعا على جسدي
ربما لأنها كانت تظن أنني سأكون سقفا لضراعاتها
وهي تفزع بنحيب عال فوق رأسي وأنا أكبر على صدرها كأنين.
لكنني لست لوركا لأحتطب كل هذه الشائعات حول جنازتي
لأنني أتذكر جيدا أن بيتنا لم يكن يتسع لصرخة طفل آخر
وهذا ما كان يومئ به أبى ذات حزن وهو ينفض ثيابه من بقية ندم
وحتى أقمت عاطفتي مشجبا لعابرين سرعان ما صارا نزقا يكبر بمرايا ندمي لم أكن لأصدقه.
لكنني لست لوركا لأحتطب كل هذه الشائعات حول جنازتي
ربما لأنني أنزلقت من وحشة امرأة لحضن أخرى فلم ألبث أن أفقت على أثر رائحة لبارود علق بثيابنا حيث كانت المعارك تعد طازجة أمام أبواب الصحف اليومية
وكان النشيج أعلى من جدار الدم الذي أقيم نصبا للخيبات وملح الشتائم.
بما لأنني لم أنج تماما من شحوب كان يلقيه علي حنين عابر
لولا أنني قطعت لنفسي ما يشبه القسم أن لا أموت في سرير أحد
كان ذلك بعد أن رأيت محتضرا يتقلب في قلق ميت آخر
كنت حينها أخرج من غرفة بيضاء تماما
ذابل القلب وكأن أحدا لـم يسبق ذلك الرجل إلى الـموت.
لكنني لست لوركا لأحتطب شائعات كهذه حول موتي
ربما لأن امرأة تدفعني خارج أخشاب العادة أخذت تعيد دراسة الماضي بمزاج رياضي
وتبحث عن نهاية تفضي إلى الأعلى
حيثما أثمر الخيال بالصدف الجاهزة والرغبات المكتملة
بعدما أصبحت نهبا لوشايات تنضج في فراشنا
لكنني لست لوركا
لأقرع نوايا الآخرين بعصا حدسي
ولعل الأمر يعود في هذا إلى أنني علقت جسدي بسقف العزلة
لأذهب مع كل هبة حتى أقاصي الحنين
لكن هل كان لوركا يضيق بالوقوف أمام المرايا ليتأمل عراء جسد عركته حمى المراهقة ؟ هل كان يعرف بأن المرايا تخبئ في انشراحها سوء الطالع
وأن جسداً كهذا سيصبح جذعا من الملح ؟
هل كان يربت بيدين حانيتين على رهافة ذلك الجسد لينتهي إلى حافة الرعشة ؟
وعلى كل فلست لوركا
إذ لو لم أكن تلميذا خابيا لا يكاد يذكره أحد بشيء
لما عرفت كيف يمكن لي أن أقطع الخيال كبريةٍ لأصل
وأنا على مقعد خشبي حتى تلك المرأة التي كنا نتلصص على عاداتها لأجد نفسي
وقد فرغت تماما وكأن شيئا دبقا يطيش في ثيابي لأعود منهكا لدرس الجغرافيا
الذي أصبح غباراً في هواء الذاكرة
ربما أن ذلك لم يكن ليحدث لو لم أكن طفلا خابيا ولا يكاد يتذكرني أحد بشيء.
لست لوركا
لأدفعكم أمام غرائزي في نوبات السرد إلى حائط من الدم لأقول هاهي النهاية
وليخبط شعراء سعة خيالاتهم ليقولوا أنى هنا... أو هناك
أو كلما عثر حفيد بورقة كنت أهملتها لتقفوا
وكأن كل واحد قد وضع غي يده على جمجمتي
ولأنني أدرك مشقة أن يموت أحد ولا يترك ما يدل عليه سوى ما يصدف أن يكون
في النهاية رواية لامرأة خرفة أذعنت طويلا لعلاقات بالمخدر.
لست لوركا
لأدفع بالرسائل في هواء يزدحم بسعال المارة والتمائم الليلية
وأبخرة النفايات
وكناسات الحلاقين
وتشنجات البريد الذي لم يعد يتسع لخاطر كهذا بعد أن كان بلاطه مشاعا لعظات كثير
من الأصدقاء الذين خدشت أيدي مجندين تكهناتهم وهم يتبادلون الصور الفوتوغرافية
مع نساء ببلدة أخرى.
لست لوركا
الذي أغمض عينيه على مشهد أندلسي ألهب حواس أراغون الذي أخذ يرتل حكاية موشاة بالقصب عن البلد الذي لا تنام فيه المياه.
وكأنه كان آخر من ذرف قلبه على أعتاب مشهد الخروج ليكتب تحت الصليب:
لا غالب إلا الله
لا غالب إلا الله
وعسى أن يقع حافر على حافر
ليمر دم إثر آخر
ولكنني لن أستطيع أن أمشي بينكم لألطخ نفسي بماض كالخطايا
ماض أصبح درسا على مقاعد الغفران
ذلك الماضي الذي كان شطحا لوراقين تنتابهم الأقاويل
فلعلي الآن أتوب من معاصيكم
وأكف يدي عن استملاء الأباطيل والسير التي كانت حطبا لصلف العامة.
لست لوركا لأحتطب مثل هذه الشائعات حول موتي
ولكنني ربيب هذه العشاءات التي أذكت الحروب الصغيرة، فكان صيفا لاذعا إذ كنت أسير لسنة رابعة في تقاليد الوحشة، وأمر خاملا تحت ظلال الشعائر قبل أن أقع في نوم آخرين قذفتهم رتابة النواحي البعيدة إلى ضجر الـمقاهي
إلا إنني أتذرع بالشعر في آحادهم.
لست لوركا
لأخبط بقدمي على أبواب هذه البلدة التي سالت رغبة بحضن صخرة وليس كما تكهن البعض بأن ملائكة اجتثوها ضحى من حديقة قروي بالشام
وطافوا بها حول مناسك البيت ثم ألقوا بها آخر النهار أسفل هذا الجبل
لست لوركا لأصدق مثل هذه الحكاية النابية على أفواه أعراب أصبحت البلدة غبارا لغاراتهم التي عكرت بياض عاطفتها.
لست لوركا
لأغسل خطاياكم بدمي
أو لتضعوا مناديل نسائكم على قبري لتخفق تجاه السماء
قبري الذي أنتظر أن يكون غيمة من دمع أمي، أمي التي أهب جسدي لريح تهب من ناحية حنينها الذي يمزق حنايا الناي
حنينها الذي عصف كبقية خريف
خريف يلقي على النوافذ صباحات شاحبة
فلن أكون قدرا سهلا لحظوظ مراهنات
تديرها بحنكة قسيس امرأة هشمتها علل الشيخوخة
وكان يجب أن أقول قبلا أن أمي لم تضعني على أنين حجر بغرناطة
ولم أدلي بقدمي في مياهها لأحرك الألم
ولكنني كنت أخلع على جسدي حكاية لتضع ظن يدك ما أمكن حيث تسكن المياه الغريبة
المياه التي ثلمتها أسارير الضوء
المياه التي أعارتنا شبقها ذات يوم
كان يجب أن أقول حينها أن ذلك الرجل الذي أفقت طفلا في أسر شبهه
لم يكن أبي كما كنت ألمح منذ بداية الأقاصيص
وإن كنت الآن أنازعه الخواطر نفسها التي تدلك قلبه فتذره قبضة من الماء
الماء الذي تنخره الحسرات
لكنه ليس أبي تماما.
لست لوركا
لأرى أن الغرقى لن يكونوا نفايات تكنس من رهافة المياه
ولكن الذين سوف يتعلقون بجدران اليابسة ربما كانوا قمامة تدفع بتأفف إلى الزوايا المظلمة
لذا فلم أتخذ فأسا لأحتطب جلبة تقي قلوبكم من خمائر الصدأ الذي ينموا على الأطراف
وينخر نوايا الضواحي
فأينما هب الهواء كـــــــان طيشا للأذى
ولا يمكن لشجرة أن تنمو حذاء مياه هرمة أن تكون ريحانة أو كستناء.
على نحو ما..
أو على هذا النحو
هؤلاء الذين يدفعون بالرسائل الممغنطة في هواء الغرف
ويخصون حكاياتنا بذكريات دامية عن حرب طحنت الشائعات وأحرقت الغلال
وهم يروجون الماضي على أغلفة اللعب
والعملات الورقية
هؤلاء الذين سرنا في جنائزهم ناكسي الرؤوس
وألقينا بالتحايا رطبة على ظهيرة أعيادهم
أعيادهم التي كانت أخشابا للخشية وكانت أكفنا سُقُفا لغبطتهم.
وعلى نحو ما
أو على هذا النحو
خبطنا بأيدينا الفارغة على أبوابهم لنسد وحشة أو نسيانا
ورفعنا خيالاتنا عاليا للدروس الخشنة التي كانت فضة لعشاءاتهم
عشاءاتهم التي كانت ثكنات لبكائين ذهب بقلوبهم حنين ما
هؤلاء الذين زيّنا مواسمهم ببريق شهواتنا التي كانت أناشيد رعاة ينتابها فرط الأمل.
وعلى نحو ما
أو على هذا النحو
كنّا نحوطهم بالأهازيج ولم نعنهم بملاحقات الألم
هؤلاء الذين كانوا رجعا لـمشقة الأسى وحاصل الحنين
فعقدوا قلوبهم على مياه الغفران وهم يعودون حيثما أفضى بهم رحيل إلى برار تحرسها قريحة الذئاب أو خلوات يحفها مزاج القلق
هؤلاء الذين مرّوا بيننا في ثياب شهداء همزتهم رياح شرقية فأثقلت قلوبهم بالغبطة ليؤلبوا الماضي على رجاله
رجاله الذين خطوا مكاتباتهم بماء أعينهم التي صارت فيما بعد أحجارا تدور العتمة.
وعلى نحو ما
أو على هذا النحو
يستسلمون لذريعة على فرض أن غدا لن يكون يوما في حبل العادة
وهل يعود الـماضي خطفة واحدة ؟
هل يكون نفثة ساحر أو وثبة خيال ؟
لكنه ليس حقلا نسقيه بمياه الخسران
أو راية تخفق فوق رؤوس تختمر بها الدسائس.
وعلى نحو ما
أو على هذا النحو
فأنا لا أضع نصاً تمليه علي مكيدة ما أو أسف
لكن يخطر لي كلما سرت وحيدا في نوبات كالهذيان أن أتْبَعَ أثراً لعابرٍ مرّ خفيفا
من هنـــا ....
أو حدسا لغريب نجا من سطوة الذكرى التي خبط في عماها آخرون
لكنه وقتهم الذي نخوضه على عجل وبلا أحلاف
نكبر بندوب على قلوبنا في هواء أفسده الإنتظار
ونربي أبناءنا في حجور أيامهم النزقة
وكأن أقداما غليظة تدهس ظلال رغــــباتنا
رغباتنا التي صارت طيورا تحلق في نعاسهم مخدوشة البياض.
يبقى القليل من الشعر
يبقى القليل من الشعر وكأنه مسنود بجلبة الحياة
ويبقى أي نصٍ أفقيا وكأنه ينجو بنفسه من فضيلة المعنى.
من قال:
أن كلّ كلمة ستجد مكانا رطبا تحت إبط امرأة أو في حياة كلمة أخرى.
من قال:
أن كل عبارة ستكون عتبة من خشب أرواحنا الذي يطفو خفيفا في مياه هذا العالم.
من قال:
أن هذا الرجل الذي يشدُّ حذائه على قدمه الوحيدة ويفكر بالأخرى التي وجدت طريقها
إلى الآخرة
كلما ابتعت حذاء جديدا حشرت هذه القدم الوحيدة (بالفردة) اليمنى ووضعت الأخرى بطرد بريدي كتبت عليه:
مع التحية:
القيادة العامة
(فرقة المشاة الرابعة).
من قال:
أن مثل هذا الرجل سيكون عارضا شعريا ليوم نحيل كالأحد.
يبقى القليل من الشعر وكأنه بوستر لملابس.. داخلية
تشفُّ عن أحاجي الخلقة.
القليل من الشعر يبقى في خفة عادتنا البسيطة التي نتذكرها ونحن نصنع شجارا باردا
مع زوجات أيامنا
اللواتي قطعن علينا عادتنا السرية بنكات الحب وبرودة أجسادهن في الفراش
وكأننا سنتحدث من جديد عن خشونة المعنى
وعن القصيدة التي يجب أن تكتبها مراهقة على ردف صديقتها
وتوقعها بنصف قبلة.
حياة فقيرة بالأسود والأبيض
بِنَفْسِ الأَصَابِعِ التيّ تَحُكَّ عَن كـــ التّشْبِيهِ بَرِيْقَ الْمَاضِي
بِنَفْسِ الرّائِحَةِ الدّبِقَةِ التيّ يَتْرُكُهَا عَابِرٌِ عَلى جَسَدِ امْرَأَةٍ فِي الثّلاثِيْن
بِنَفْسِ الفِكْرَةِ التيّ تُعَكِرُ ذِكْرَيَاتِنَا عَن الله والشُّعَرَاءِ
بِامْرَأَةٍ تَضَعُ يَداً فِي الغَيْبِ وَأُخْرَى فِيْ ثِيَابِ حُلُمٍ
وتَفْرُكُ دماً يَزْدَادُ حُمْرَةً فِي عُرُوقِنَا الضّامِرَةِ
بِالإِلَهِ الْجَمِيْلِ الذِي رَأَيْتُهُ فِي نَوْمِ دَخِيْل الْخَلِيْفَة
بِالإِبْتِسَامَةِ الصّغِيْرَةِ التيّ يَتْرُكُهَا أَحْمَدُ كَتْوعَه عَلَى سُمْرَةِ عُنُقٍ
بِذَرِيْعَةِ الأَنْبِيَاءِ فِي حَيَاةٍ فَقِيْرَةٍ بِالأَسْودِ والأَبْيَضِ
بِالْخَجَلِ الذي نَرْفَعُهُ عَن كَلِمَاتِ الْحُبِّ الأُولَى
بِمَا بَقِيَ فِي أَيْدِيْنَا مِنْ مَشِيْئَةِ الله
بِالْبَرْقِ يُضِئُ ذَلِكَ الدَّمُ النَّبِيْلِ فِي حَلْمِةٍ تَسِيْلُ عَلَى شِتَاءِ شَفَةِ
بِخَوذَةِ جُنْدِيّ يَنْظُرُ مِنْ خَنْدَقِهِ إِلَى بَقَيْةِ سَمِاءٍ
وَيَقُولًُ:
بِقُوَةِ الْخَيَالِ وَحْدَهَا يُمْكِنُ أَنْ نُكْمِلَ حَرْباً
بِكُلِّ هَذِهِ الشَّاعِرِيْةِ.
***
خديجة العمري
- من مواليد الكرك بالأردن، عام 1960.
- دبلوم معهد المعلمات.
- تعمل في وزارة التربية والتعليم.
لم تصدر مجموعة شعرية.
سـارة
ألا إن نجماً يساندُ همّي
وإلا فكيف يضيء على مقطعٍ وجهُ أمي؟!
أيا أمُّ لو تعرفينَ
دماؤكِ عارٌ رفيعٌ أمامَ الذين يسمّونكِ الصخرَ
قاطعَ في الأرض جذرَ انتمائي
ويا أُمْ
أشدُّ على ذكركِ القلبَ
مسرفةً في يقيني
فما بين ناري وماءِ الذي يتوهّم أن سيسوق بي المجدَ
بُعدٌ عصيٌّ
تضيق بأطرافه خطوةُ المسندين إلى زمن خافتٍ
فأمنحيني
أن أرى في النساء حضورَ المدائنِ
أن أبتني من رداء المعاصي الجميلة ظلاً
وأن أتماثلَ للفألِ
أُغري السواحلَ باللومِ
كيفَ ؟!
والطيرُ نائمةٌ والمدى أَعينٌ
همُّها أن تكونَ الكلابُ الأمينةُ
إني أَلِفْتُ الخياناتِ بعضاً
فمن لي بمن تسرق العفوَ من كفّ فجرٍ كريمٍ
وتمضي إلى حيث يرمي اشتهائي
ومن لي
ستبيضّ في جانبيّ الطفولةُ قبل اتّساق القصيدةِ
ليتكِ أورثتِني ما يفي
لصحراءَ تحملني محملَ الكرهِ
كلما قلتُ آنستُ أُلْفتَها أوجستْ خيفةً
ثم لاذتْ بأسمائهم
لكأن ّالرمالَ تغارعلى سمعها من أغاني القرى
وجهكِ والذرى
والطريقُ يطول
وكنّا سألنا:
ــ مضاجعةُ البدو ضربٌ من السطو هل تكتفين ؟
قيلَ إنّ الجراحَ إذا استوطنتْ جسداً
تمسكهُ أن يكونَ الضحيّةَ ثانيةً
كيف أنتِ وهم يسرقون الحِداد الذي تسترينْ.
عراقيةُ الحزنِ
لن أستعير جمالَ النوايا
لأبدأ حبّيَ من هدنة الآخرينْ
ولستُ أواري على سوأتي سوأةَ الإرثِ
إن مراهقةَ الأرضِ
سيفٌ يجرّدها من بنيها
لكِ أن تعضّي الشفاهَ على غلظة القولِ
لكنني لن أكون كمن يطربون على وترٍ خاملٍ
في حديث ضعيفْ
تلك غايتُهم
يكملون بها رغبةَ القائمين على الأمن بالصمتِ
أو الصمت حلمٌ وفي منطق القائمين على الأمن سلمُ
وليس كما أتوهّم كلَّ الأحايين ظلمُ
ــ عراقيةَ الحزن هل تضحكينْ ؟
إلى صدركِ الوعرِ
أنسب هذا المزاجَ الكفيفَ
وحين تنوح المقاماتُ في وحشتي
يجيء ائتلافي جميلاً على صحوكِ
في فراغ الجهاتْ.
إن تَرَيْ فَسّري:
أن يكون الهوى رحلةً عرضُها الرملُ
والمدى خرمَ إبره
وكيف سَيُوفي على حزنهِ
تعرفينَ الفؤادَ على ضيقه
شحَّ صبرُهْ
أو تري فسّري
أنني كلما استجمعتْ شهوتي الموتَ
أَجّلتْهُ
إلى أن تصيرَ القصيدةُ جاهزةً للحياه !.
أُربّي على بُعدك الحذرَ المرَّ
أرمي على شغف الآخرين النوى والسلامْ
وآوي إلى طرفٍ في نزاع قديمٍ
على لون هذا الدم المتعالي
فيعجبني أن أُوالي
يداً تُخضِع الآنَ أذني لبعض الهديلْ
كأني بكِ اليومَ أكملتُ ديني
على ملّة لا ينال الردى من يديها
غيرَ ما تشتهي أن يكون العظامْ.
إرَمْ
كيف ائتلافكَ والقوم عادْ
وأنتَ على كل بأسٍ بوادْ
تنازعك الموبقات به
فيغنم إثر النزاع اختلافكْ.
*********
وليس لتسرجها بالحيادْ
تمرّ بك الصافنات الجيادْ
وإن جرب الحزن فيك العناد
ولانتْ على راحتيه ضفافُكْ. *********
وذا السيف لو غافلتْهُ الأيادْ
ومالَ على حده السر
للواهمين الغنى بين جنبيكَ
أفشى كفافكْ
فكن مثلما أنتَ
خل إختلافكْ
وخل تُسمّيكَ ذي العاليات المراد
وما كنتَ تُنهي إليها مطافكْ
وخل غرابتك المشتهاةْ
بعيدًا
ومبلغهم منك كادْ
على قلة الزاد
ما أنشق جيب العفاف
فقد سبق الموتُ منك إعترافك.
تعاليل
بين غيّ المداد وسهو البلاد
وما أفترضَ الحزن أخطاءه في دمي
بين بابٍ وباب.
وباب يراودني عن فمي
أمرِّن عافيتي مرةً بالغناء
وحينًا أبلل بالصمت أعجازها الضامره.
*********
كيف لم أكتفِ شرّ ما يصِمُ الود بالزهدِ
كأن الذي بين روحي وهذي الوجوه
خيولاً تنام على مجدها
لتقتصَّ من كبوة الآصره
ولو كان للحرّ أن يتقي
أياديَ عزّته الجاسره
لكانت أمانًا على فقْرها
وكنتُ على فرطها الخاسره. *********
وإن حاولوكَ كما ظنهمْ
فلا بأس يا أصدق الواقفين على همّهمْ
هم يرون اليقين نعيمًا بمقتبل اليأسِ
لا بأس
فداك
فدًا.. عينك الصقر يا صاحبي
ألف رأسْ.
*********
بياتًا أتوا مضجع العيبِ
من مسلك الغيبِ
لم يجدوا غير هذا التطرف في البؤس!
تلك إذًا صفقة أطفأت شهوة المستريب
ببعدي
وقادت إلى حجر خاليَ البال سيْلَ
احتكامي
فلملمتُ خيباتهم في يدي
لهم ما لهمْ
ولي ما عليَّ
وما خلعتْ نيتي من حُليِّ
على جارح القول شدّيت حلمي وقمت
إلى الماء يسعى الذي غصَّ بالأرض
كيف ؟
إذا صار طين الجبين سماء
تَقَاصرُ عن سقفه حِيلَةُ الغيم. *********
لعمري وما يسرد الضيم
من ضيم في خاطر الهاجرة
ستبقى أياديهمو خلف ظهري
وعيني على ما يفوت الرياح من الرملِ
والسِّحَنِ الفاجره.
أقرُّ بها حُجَة الظلم
أنْ سأحيل الجهاتِ
أدوزنها وزْنَ قلبي
وأعرف
ما أختار إلا شآمًا
وما أحتار إلا شمالاً
لأبدأني
ثم آتي بكم
ذنوبًا على عَرْفِ يوسف ذاك السريّ الأشمْ
لأبدأني ثم أهوي بكم
جنوبًا
وللمرة الثانيه
جنوبًِا على جانب الفرع
أو آخر النزع
أو.....
أول الهاويه
وعنديَ لا فرقَ
أوووفْ
وأوووفٍ
وأوووفٍ
وأوووفْ
وأخرى بها أُوقِعُ الصمتَ بالحَكْي
عن ذمة الحاشيه
وأووفٍ
على كلِّ حالْ
وبال
وما بلبلَ
البال
غير احتمالي الذي لا يقال
الهوى
والجمال
هما أثقل الدين إن كان دَيْنٌ عليَّ جميل لكم. *********
وتلكم
تعاليلُ صدرٍ به كَمَدٌ
كمّدته الظنون طويلاً
بأمجادكمْ
وعَجْزٌ يقفّيه لوشاء ــ أقصُدُهُ ــ
نصفُ غفرانكم
وبعدُ
فليس يحدثني غيرُ زهوي بكمْ
بأني اليمانيةُ الباقيه
أعزي تغربكم
وأقيس المواجعَ
إذ تستوي
لا تليق بغير هداي
وإذ تلتوي
فأقلُّ القليل من الألفة القاصره
وذي لهفتي
توهَّنَ كاسرها فارتَخى
وظلت على جودها الذاكره.
***
زياد عبد الكريم السالم
- من مواليد الجندل، عام 1974.
- يعمل بالتعليم.
صدر له:
- وجوه تمحوها العزلة، قصص، عن دار أزمنة عمّان، 2001.
- المضاف إلى نفسه، شعر، عن دار أزمنة عمان.
مدينة الدُّمَى
سأرتّب هذه المدينة وأرحل
غير أنكم لن تروني مرة أخرى
يكفي أن أعلّق نكتةً سوداء على شفاهكم وأمضي
معي كلابٌ بيضاء تصعد الجبل
وقواقعُ ملوّنة ترشح بالأمس
ألوذُ بظلال النائمين حتّى دلوك الشمس
ها مدينتكم انشقّتْ فإذا هي وردةٌ كالدّهان
يحزمها طفلٌ بدمِهِ ويموت
ألم تروا ملائكةَ الماء مخلوعةً من القرمز
ألم تروا القنافذ الزرقاء تلهو على مائدة الهباء وتقذف الإبر
ما كنتم لتزهقوا الخضرَ في روح شجرة
انصرِفُوا إلى يوم الزينة
حيث الفتيات يصطدن الثعالبَ طمعاً بالمتعة
إحداهنّ تذيب الشمعةَ في كرة البلّور.
********
سأخلع على كلّ عتبةٍ عباءةً بيضاء، لئلا تذوبَ القوارير
قلْ هو كتابٌ يَنْصِبُ فخاخَه لنسوة الجبل، فأيُّ غوايةٍ تتهيّأ بآلاتها اللدنة لرمي النَّرْد ؟
وأيُّ سريرٍ هذا الذي يحوّل الحلمَ إلى يود ؟
قلْ هي مدينةٌ تحرس ساعاتِها المتشابهةَ داخلَ ألواحِ الخزف، كأنما تباغتك الدُّمَى المنسوبة لمغزلٍ أعمى، فما يُرَى ليس إلا طائراً يقترف رقصتَه المتأخرة في سوقه الأخير. ********
لا المطرُ المتشبّثُ بوميضِهِ الوحشيّ
ولا الأصابعُ المرتعشةُ باللذةِ المستلّة من أوّل الظلال
ولا الأوزُّ المتخافت تحت زرقة القمر
ولا الأباريقُ المنمّقةُ بألقِ الزنوج تقدرُ أن توقظَ مَن يغفو على سريره كحاوٍ يزدردُ الحصى على مقربةٍ من أنثى تتفحّص أساورَها
وتهمهم:
أنْ لا ضحكَ في المدينة !. ********
لنقتسمْ الفجيعةَ معاً
نهرٌ من الرّماد يؤرّقُنا بحبر الجنّة
وردُ الزينةِ لا ينمو
الحدائق ذابلةٌ بدبق خمولِها
من يحرسُ قنديلَ المدينة ؟
هل الفَراشُ العالقُ بالطينِ يلهو ؟
إليّ بالنقود المسكوكة مِن قوس قُزَح، عسى أن نسرف الأسبوع ممسوسين
بمناسك الليمون
لتكنْ الحُجُراتُ مُقْتَدَحةً بالكبريت
حسبنا صديقات يؤثثن التخوت بمراوح الريش
وربُّ الزجاجة هكذا تزهر المدينة
فيعود الحجرُ طفلا حاضرا يبادِهُنا بركضه الأخضر بعد غيابه المستحيل
يركبُ القاربَ الهاربَ من حقول الشجر، يلامسُ القصبَ فإذا هو قاذفٌ سُكَّرَهُ في الناي. ********
مدينةٌ بلا شرفات
كيف تكترثُ بالشجر؟
القنديلُ مُزَيَّتٌ من دم الطير
هل الفتاةُ محبوسةٌ بالقَنِّ تزهو؟
ها هم يهدرون حلمَ الوردة، فيما يقتنصون الحصص بأسيافهم المذهّبة
ولو أدركوا أنّ صورةَ السراب بلا ألوانٍ لانتفضُوا مخافةَ فتنة
ولعرفوا أنّ الإنسان طيفٌ مترحِّلٌ !
بل هو اللحظة التي تجيء. ********
مافتئتُ أنكّسُ رأسي
أنا المتربّصُ مدينةً يولَد فيها اللوزُ والغرباء
سأرمي مفاتيح البيت وأجنح نحو حانةٍ مشبوهةٍ
لأزدردَ زبيباً يحملُهُ إليّ نملٌ أحمر.
طائرٌ من سيرةِ النَّهْر
خُذْ الزنجبيلَ وعلّقْهُ على الشجرة
كنْ حذقاً مثل زئبق يتسلّل إلى نومنا ليحرسَ ساعتَه اللزجة، حيث الحلم وأشكاله اللاهية
إذْ يتكوّن عالَمٌ بلا تأريخ.
كنْ عُريَ المرآةِ، وأكشفْ مكيدةَ الأزل حين يموّهُ الموتَ مبتدعاً حماماتٍ منسيّةً في ملهاةِ الكائن.
ألتمسْ مهدَكَ المائيّ أيّها المُداهَمُ في خلوة التابوت
قربك حجرٌ ينزف في العتمة
هو الذي نزعَ عنكَ وحشتَك
وآنسَكَ بالميسر
وأوحَى إليك أن أنتبذ مكاناً أهلُهُ يربّون عبّادَ الشمس في حقولِهم
ويعرّون تحت صاريةِ المدينة عرائسَ أكثرَ طيشا من مجون المياه
دليلُهم الغواية
يمضون مُهْرِقينَ الصاعقةَ برقاً برقاً على حجر الروح.
********
ليس للنعامة إلا أن تحنو عليك
كلّما عوى ذئب من ورائك
نقشتْ ريشَها أو باضتْ في النهر
حتى إذا أويتَ إلى صخرةٍ ترضع الغمام
خفَّ إليك نوتيَّ تنزلق الشرانق بين يديه
يبلّل الليلَ بلعابِهِ
ينتحل نفسَكَ الأليفة
فيما يسمّيك زجاجةَ المدى
وعند شجرةِ الأغاني يلمّع نايَه بالحصى
مأخوذا بأطفالٍ يعقدون الأعشاب على رؤوسهم
ويرقصون. ********
يا مَن تلتقط بقفازِك بيضةَ الهباء ثم تهوي بها في الأقاصي
تمهّلْ قبل أن تؤذي النسناسَ النائم في خلاء مشمس
ذاك الذي كلّما غنّى أخضرَّ ما حوله
ألا تراه يسرّح دنانَه متوسّلاً بعينٍ أخرى داليةً تلوذ بها شهوة العنب
ستراه
وسترى ملاكاً يندلق الضّحى من ثدييه
إمّا رأيته
رأيتَ المكانَ مزيّناً بأباريق الظلال
لكنه كالورد يذوب في النزهة مرتشفا حبرَ الأنثى
حتّى إذا مرَّ به أوّلُ الطيور اصطفاه لنفسه
وأغواه بخواتم النيروز
تمهّلْ إذاً
تمهّل قبل أن تتهمه بدميةِ شمعٍ ملقاة على الساحل. ********
بادهتْنِي الريحُ
فوضعتُ ثيابي على شعر شقيقتي الممتد عن قريةٍ قصيّة تكاد تختفي الآن
رأيتُ من عيني الواقعة على قرنِ حلزون ذاهبٍ في النّعاس
رأيتُ صِبيةً أشبه بذباب الفاكهةِ
يلعبون في النَّهْرِ كأنهم يلهون في دمي
قلتُ:
خُلقتُ من هذا المكان
ولن أبرحَ حتّى يريَني الكلبُ زرقةَ قدميْه !. ********
لقطة زجاجية / مرايا البحر
الملاحون نائمون على خرائطهم الليلية
يرعون أعشاب البحر في قمرة أحلامهم
يكتشفون فناراً يضيء ناياتٍ تنتحبُ في زوارق الليل
قلتً:
هذه السفينة مخلّعة الألواح
أنّى لأهلِها أن يتأملوا القطنَ
وهو يدخل فترة الظل
طالما أن النوارس ترفو زرقةَ الأماكن. ********
كنتُ مطارَداً وموشِكاً
مثل بالون يحاول التفلّت من دائرة القطط
نفرتُ إلى كوخٍ بين جذوع النخل
يغزل اللهوَ لأشخاصٍ غامضين ذوي معاطف تثير الريبة
وغلايين مضيئة تتدلّى من شفاههم
إلا أنها مشغولة بغزلانٍ فقدتْ قرونَها ثمّ تاهتْ في البريّة.
الكائن في ملكوته
هكذا اكتشفنا أنفسنا !
سرب من اليعاسيب يجوس المكان الذي كنا هامدين فيه.
شجرُ البنج غائمٌ في كثافتِه، كأنما يتأهب لعبور النهر ظلاً ظلاً، كدنا نذبل على الرمال لولا الإبرُ أثخنتْنا وخْزاً؛ فألفيْنا أنفسَنا في الكهوف المنذورة لطفولة الأشياء
نتمرّغ برائحة المطر حتّى انحسار الضوء عن آخر عُشٍّ لبروز أول وطواط يخبّئ السر في العش ذاتِه!
هذا الحارسُ المتوجّس من فُرْطِ الريش، إنه متوحد بأذنيه اللينتيْن، يسكن مشكاةً تسبح في عتمة المواقيت، تتدلّى من خيطٍ غير مرئيّ، أكثرُ طيشاً من الفُجَاءة
وأقدمُ خفاءً من الفناء
وحدَهُ المتنسّك في عزلتِه سادرٌ بتلاوة الينابيع فيما يرقاتُنا تَنْصِبُ فكاهاتِها على درب التبّانة والبهاليل يدبّرون السلالم والفلك.
ثمّة وطواطٌ ملفوف بفطر داكن كُتِبَ على جناحه:
النايُ ينزُّ دماً كالعادة
الفوانيسُ لا تكشف الغَلَس
خُذْ تراباً لتجمع ذاتَك
منذُ أمدِ بعيد والطّاسةُ تحت الماء.
********
عبثاً، يهيّئ الماءُ صورتَه كيما نرى ملاعبَنا المهجورة تلك التي علّقتْها عناكب منكبّةٌ على حافة اللوح تستقرئ نبضَ الصندوقِ المسكورِ علينا الصندوق ذاته الذي تؤرجحه القردةُ منذ الأزل، في مساءٍ مسكونٍ بالكهنة، حين كان الأطفال يتحسسون أصابع الفحم لأول مرة ناسجين أسماءهم على العتبات الموطوءة بالقطن والدم، إلى أن تتخلّق النُّطْفة في إهاب الرذاذ المتناثر من شرفة الفتيات اللواتي يغتسلن بالموسيقى مبكّرا قبل ظهور المرايا في الشجرة راصدةً بلاهة الحجر، وقبل أن نصعدَ الدرجَ هابطين ظلاما مضاءً بمارجٍ من نار يخاله الرائي موتاً أو سحرا، ويكاد يرقص كأنْ لم يره !. ********
كتابة على جلد حوت
اُدخلوا المدينةَ خِفافاً على رؤوس أصابعكم، دليلُكم خلاسيّة من الخلاء ترشو الحرسَ بفاكهة الظلال ريثما يظهر عرّافٌ يدفن ساعاتِهِ في الرّمل ليعود طفلاً من الشيخوخة يعرفكم من قمصانِكم وأنتم له منكرون
تلك هي العلامة فأخلعوا قمصانَكم غيرَ ملتفتينَ إلى الوراء، تدفعكم الريحُ حتى إذا ظهرتْ المنازل رأيتم في ساحةٍ للحجارة فتاةً كالشفق يهمّ الناسُ برجمِها، خذوها معكم ولتمرحْ بين عرائس الذرة.
ما كانت إلا خلاسيّة من الخلاء. ********
كتابة على تابوت
كلّما فُطِمَ شخصٌ منكم عادَ ليرضعَ من جديد، لكنّكم في شُغُلٍ من أنفسكم يلهيكم الخرزُ الملوّن فلا تنتبهون.
***
سعد الحميدين
- من مواليد الطائف، عام 1947.
- مدير تحرير جريدة: الرياض للشؤون الثقافية.
صدر له:
- رسوم على الحائط، شعر، عن دار الوطن الرياض، 1976.
- خيمة أنت والخيوط أنا، شعر، عن دار الوطن الرياض، 1986.
- ضحاها الذي، شعر، عن دار الشريف الرياض، 1990.
- وتنتحر النقوش أحيانا، شعر، عن دار شعر القاهرة، 1992.
- أيورق الندم، شعر، عن نادي الطائف الأدبي الطائف، 1994.
- وللرماد نهاراته، شعر، عن مؤسسة الانتشار العربي بيروت، 2000.
- الأعمال الشعرية، عن دار المدى بيروت، 2003.
- غيوم يابسة، شعر، عن دار المدى دمشق، 2007.
culture@riyadh.com
بياض
في عام ما
في شهر ما
في يوم ما
ذات شتاء
مع شخص ما
في وقت مربوط الموعد
فوق سنام الجبل
المتلفع بعباءته الثلجية
المدثر بخيوط المطر الأبيض
والعين الحالمة
تعكس حبات المطر
تنسج سجادتها البيضاء الممتدة
بالنظرة تلقفها نظرة
والبسمة تحتضن الأخرى
أهصر خصر اللحظة
ليفيض الأفق
المتحرر في بؤرة صورة
تتأطر بلهاث الكلمات المحترقة
تمتزج الكلمات عجينة صمت
الشجر الأبيض
والكوخ الأبيض
والدرب الأبيض
والقلب الأبيض
حزمة ضوء تخبو في همسة عين تخترق اللهفة
وتدور
تمتص رحيق لهاث النظرات المبهورة
الريح تمر
والبرد يمر
والوجد يمور
والوجه المسروق من اللحظة
يرخي غلالته الشفافة
ويفيض بمسحوق الرغبة
والهمس المخنوق بحبل البسمات المرسومة
خطوات القلب تتواثب وتعج بنبض أبدي
يغزله الصمت
واللحظة تنمو تتكاثر
والأخرى منها تتجاسر
فيكون حوار موصول الحلقات
لا تستوعبه الكلمات
لا تقدره ساحات الأوراق
تعجز عنه كل القدرات
يروغ ويخبو دون إشارة
فالصمت
كلام .
مباخر الكلام *
(ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من قولنا مكرورا)
ركبتُ قطار الشعر من محطاتٍ كثيرةٍ
مَنْ لَبيدْ
حتى نزارْ
مررْت بالعصور.
دخلتُ في الأكواخ والقصور
سبكت الشِّعر في قوالب الخليل
مشيت في أزقة التَفعيلة
سرحْت في سهول النثر والنثيرة
لكنما سلاسل المقولة الأثيرة.
البعيدة/ القريبة
كما قَدْ قيل أو يقالُ
عن حقيقة الأشعار
من المعار والتكرار
في كل ما قد قيل أو يقال
كانت في كل قول ماثلةْ.
أنيت في النسيب والغزل
صرخت وانبحَحْتُ في المديح
بكيتُ في الرثاء
وهجتُ في الهجاء
دخلتُ في سراديب الكلام والمقاومة
وأحترقتُ
كما الأوراق
في مباخر الكلام
فما أراني إلا....
مردداً العبارة
مُكررا
مكررا
كما الرفاق
من قَبل أو من بعد.
وكمْ ركبت بغْلة العبارة
شدَدتُ في عٍنان الكلمة
أنختُ الجُمْلة الكبيرة المقيدة
على مساحة تراود الفكرة البليدة
لعلها تفيقُ من غفوتها الطويلةْ
تهبّ من غَطيطها
وتَعرف الحقيقة الملاصقة
فتكْسر الجرة والحصارَ
وتتجهُ مع الأنهارِ
في الصباح
في المساء
ما أصْعبَ اللحاق
فالقطار فاتَ
غادر المحطَّة
كيْفَ السبيلُ
تلَثمتْ عفونة الطريق
فتبزغ السنابل السوداء
وتلك الرائحة
أنا إبن بائعي الحكايا
والكلام
متى وضعتُ الغترة الحمراء والرداء
وأسْترسلتُ في الكلام
تعرفوني
فأنصتوا
وأستمعوا
وعوا.
* مقاطع من قصيدة طويلة من ديوان (غيوم يابسة).
***
سعود السويداء
- من مواليد حائل، عام 1973.
- بكالوريوس لغة إنجليزية جامعة الملك سعود.
- يعمل في وزارة الاتصالات.
صدر له:
- التخلص من جثة، شعر، عن دار الكنوز الأدبية بيروت، 2001.
ssswaida@hotmail.com
ملاك
حمل سهم قلبي
ورمى به غزالة
تقاسمنا لحمها
وأطعمنا روحها للأشجار
ثم أخبرني
أن أنام
ليحلم حياتي.
إصغاء
صيادون يفترشون
الضفة
الدوائر حول عيونهم
تجاعيد تبتسم للسمك
بإغواء.
لا يحملون في أيديهم شيئاً
لا ينتظرون شباكاً
صامتين
يراقبون المياه
كأنما يحيكون بدأب
تنويمة سحرية.
كانوا ثلاثة
أو
أربعة
جالسين حذاء بعضهم
على ضفة البحيرة
التي تكاد تنشفّ ويجفّ قاعها
تحت وطأة إصغائهم.
هواية
أحياناً
أحاول أن أمشي
منتصب القامة
قدر الإمكان
لا أبالغ في أنسنة مشيتي
ولا متدهوراً
بيقينٍ
كالبهيمة
ومنشغلاً عن نفسي
أحياناً
بمراقبة مشية
الآخرين ـ بعضهم له
سهو غيمة
ومنهم من يمشي مترنحاً
مثل مسمار
أسفل مطرقة ـ أعود
ألمح الطيف
أحياناً
أشعر أن الناس
يخفون عني سراً
مفاده أنني
عظيم.
الغريب
ظللت أنا والغريب
نذهب إلى البحيرة ذاتها
نصعد معاً نفس الطريق
نتبادل التحايا
والدعوات بودٍّ
كل يوم
أجلس
وأرمي شباكي في المكان ذاته
يذهب هو إلى الجهة الأخرى المقابلة
لا أكاد أراه
ذلك كان أفضل
لا نزعج بعضنا
يطلب كل واحدٍ منا الرزق لوحده.
ــــــــــــــــــــــ
كل لحظة أصطاد سمكة
أطعمها جوهرة صغيرة
من الكيس المشدود إلى حزامي
مليء بجواهر صغيرة ولآلئ
ثم أعيدها ثانية إلى الماء
تسبح من جديد
ذلك كان دأبي
كنت شاباً في ذلك الحين
أرى نفسي في الحلم كل ليلة
بعد أن أعود إلى البيت
جالساً فوق صخرة تشرف على بحر بعيد
أجمع لآلئ وجواهر صغيرة من بطون الأسماك
في قارة نائية
حين يفرغ الكيس يحلّ الليل
أحزم شباكي وأعود
بابتسامة وسلّة خاوية
أقابله في أول الطريق
أيضاً بسلة خاويةٍ
وعلى وجهه ابتسامة هادئة
مليئة بالرضا
نحيي بعضنا ونترافق في رحلة العودة
لا نتبادل الكثير من الكلمات
فقط ينظر كل واحد منا إلى سلة صاحبه
وندعو لبعضنا بحظ وافر
كل مرة.
ـــــــــــــــــــ
لا بد أن سنوات كثيرة مرت
لأنني لم أدر ذات يوم
إلا وشيخ كبير بجناحين أبيضين
يحدق فيّ بعينيه الصغيرتين
من خلال مياه البحيرة الساكنة
عندها جمعت أشيائي
ورحلت بحملي الخفيف إلى قارة نائية
لم يلبث أن أرشدني بعض المارة
إلى طريق البحر
حيث وجدتُ صخرتي هذه المحاذية للبحر ـ كما حلمتُ دائماً ـ
أجلس عليها منذ زمن طويل الآن
لا أرى أحداً
ولا يكاد أحدٌ يراني
تتناثر حولي أكوامٌ من جثث الأسماك
في كل مكان
ولا شيء في الكيس.
ــــــــــــــــ
رائحة العفن تتصاعد يوماً عن يومٍ حادّة
حتى تكاد تخنقني
وبصري يضعف أكثر فأكثر
لا أكاد أرى أصابعي وهي تقذفُ بالشبكة
ولا أرى الشبكة
ذاكرتي لا تسعفني
تمرّ أوقات أنسى فيها أين أنا ؟
وأنسى لماذا جئت لهذا المكان ؟
وربما أضحك بصوت عالٍ أو أبكي ناشجاً مثل طفل
وقد أحدّث الصخور والأسماك من حولي
أو أنهال عليها بسكيني
أحياناً
مثل حلم خاطف
أرى تلالاً من أسماك مبقورة البطون
تتعفّن على ضفة بحيرةٍ بعيدة
أحياناً
أتذكر الغريب وأفكر
ماذا لو كانت تختبئ خلف ابتسامته الهادئة
جواهر حياتي ؟.
حكاية
هذا البيت الذي أسكنه قديم
وفيه قناديلٌ
لكنني أحبّه معتماً
لأشفّ وأتطاير
في هباء الممرات وبين الغرف الرحبة
المفتوحة
خفيّاً
كي لا يدركني
صوتُ خطواتي الوحيدة.
عمره أربعة قرون
في مثل عمري
وتنام فيه أربع أسرة
ولا أنام
من خشب الزان
هذه الخزانة أيضاً
حيث يتململ
مثل ذئب حبيس
طيلة النهار
معطفي
الذي أرتدي كأول مرةٍ
كل ليلة
في انتظارهم.
أمشط شعري الفضيّ
وقلبي يخفق كالعروس
أشعر
بقدومهم
أحبهم
العابرون.
أعرفهم حتى قبل
أن يولدوا
أعرف أسماءهم وحكاياتهم
أكلاتهم المفضلة
والموسيقى التي يحبونها
أعرف أيامهم
لأنني أقف في آخرها
في السابعة تماماً
المائدة معدّة
بشمعة وحيدةٍ
لمقعدين
والردهة نظيفة.
واحدٌ كل ليلةٍ
أو اثنان
في الليالي الباردة ثلاثة
وربما أكثر
أطعمهم وأسقيهم
واحداً أثر واحدٍ
أسأل عن وجهاتهم
ويحكون لي حكاياتهم
وأعرفها
لكنهم يحبونني أ
سمعُ لهم ولا يسألونني حكايتي أبداً
حتى أقودهم إلى العلية
أمنحهم مرآتي السحريّة
يحدقون هائمين في وجوههم بينما
أنسلّ كيفٍ من ورائهم
وأدخل أعناقهم في الظلمة.
عندها فقط
منتشياً باللذة
أروي لهم حكايتي.
هل تعجبك حكايتي ؟.
***
شريف بقنة
- من مواليد خميس مشيط، عام 1981.
- بكالوريوس الطبّ والجراحة من جامعة الملك خالد ـ أبها، 2005.
- مُشرف ومُحرر موقع المسيرة الإلكتروني (الموسوعة العالمية للشعر والآداب). www.almasira.net
صدر له:
- مُقتطعات الرّنين، شعر، عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 2004.
- مُـدُن العُزلة، شعر، عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 2007.
- قيد العمل:
انطولوجيا الشعر الأمريكي الحديث، مشروع ترجمة لأهم الأعمال في الشعر الأمريكي الحديث في المائتي عام الفائتة.
buqnah@hotmail.com
buqnah@buqnah.net
almasira@almasira.net
مدن العزلة
(مقاطع)
1
مُوسيقى تغسلُني في الّليل
كائناً كونياً
كلّ يَوْم عنده
عالمٌ بأكمَلِه
أولُدُ في أوّلِـه
وأموتُ عند ساعة الصّفر.
أرمي برباطِ
عربَتي إلى النُجوم
لو أكتَفي بهذِه الأرضِ
وأترك ذلك الكوْن
مخذولاً
في صَدْري.
2
رأسُ هذا العالم حَرْب
وقدَميّه حَرْب
وبينهم الصابئون
مدمنو البّارود.
رأيتُ مُدُناً تفرّ خِلْسة
في ظلمة الليل
تستَحِمّ في ماءِ القُرى.
رأيتُني
تراشقني الأسهُمُ
وأنا أذودُ بدِرْعي
عَن صديق
أعرفه
قُمْتُ ورَشَقْتُ صديقي
بسَهْم
نِمْت
لم أُُرْشَق من حينها.
3
أبديٌّ ما بين نَجْمَتين
كَـوْن ينَام
ظلامُ الفَضاء وليْله الأبَيد!
Credo quia absurdum*
من يوقظ الفلك مَِن إهليجه
النّعسان !.
"لاشيءَ يُمكِنُ عَملَه
ولا شيء يستحقّ العَمَل" **
أكَمةُ الأرض يحاصرها خوارُ بَقَرة
يشبهُ غرغرة حنجرةٌ في نزعها الأخير
تتضاءلُ غرقاً
في لُجّة المُحيط.
عند دَفتيّ الفَتْرة
نطفحُ سأماً
ثم ماذا بعدَ الخَيْر والشّر ؟
قتلتنا لعنةُ الفترة.
4
صباحٌ خَوان عليهم
أرفعُ سِتارَ نافذتي
تربّصتني سَماءٌ سَوْداء
لم تَصحُ فيها نجمَةٌ واحِدَة !
ماتَت الشّمس
ولم أمُت أنا!
يَنْفجرُ الفَرَاغ
فَحْوىً من غَيْر ضَوْضاء
أنحَلّ من ذاتيّ
قشورَ لاذاتي
أعَوّض تذمّري
أمُـوتُ بِكُل طريقةٍ أعرفُها
هكذا
أفتَتِحُ قوانينَ البِدْء
لعِلْم الفُجاءة
أزهدُ بجهلي ذُخْري المَديد
لا شيءْ في نفسي الضّعيفة
ولا شيءَ في العالمِ الكَبير
غير مُرابطة الصّمت
وحَذَرٍ أبديٍّ كريه
تفاقم الوقتُ وضلّ الطريق
إنـّها روعةُ الخراب
وتهشّم الرّوح في تنّور الّروح
هكَذا
حتّمت عليّ الفَوْضى
أن أحترفَ عُزْلة القُوطي.
5
عُدْتُ من السّفر الطّويل
على الرّغم من أنني
لم أبرحَ المَكان:
يأتي صباحٌ
يستيقظ فيه شَيْءٌ
فلا تَغْرب الشّمس مِن بَعْده.
يأتي زَمَان
لا يستعبدُ الوَصْف من بعدِه
بالكَلِمات
ويسودُ الصّمت الرّهيب
العَظيمُ حينَها مَنْ يواري بَابَه
ويعتزل النّاس للأبَد
ما أجمل العُزلة في السّجن.
يَأتي قَضَاءٌ
يَقتلُ السأم فيه عبادَ الله
وتموتُ المَعْرفة
نُوارى أطلالَ عِلْم
قَدْ فَسَد.
يأتي صِراطٌ
لتِسْع وتِسْعين امرأة
كل واحدةٍ عقدَت ضفيرتَها
بعُنُقِ الأُخْرى
على نَحْر التّل يتسلقن
ثم يتساقطن بسَكَينة
حزناً على مَوْت الصّبي الوَحيد
في القَبيلة.
6
حُلمي يَقَظةٌ
وحَدْسي زُور
وتهلكةٌ مرهونة تساومُ بجَسَدي
ملاذاً للنّكبة.
موجَتي
لم تجد شاطئاً لَها
فارتَطَمت بإسفلتِ المُدُن
نَجْمَتي
لم تجد سَماءً تضيءُ فيها
فتخبّأت
وذات وضُوءٍ
مسَحْتُ عن قَدَمٍ
ونسيتُ الأخرى
"أفكلّما نحُل الغريب
وخفّ سريره
تمزقت الغرفة". ***
* قول كان شائعاً في القرون الوسطى معناه أنا مؤمن لان ذلك يناقض العقل
** بيكيت
*** أحمد الملا
سونيتة الشاعر
أمِيرٌ نَقيٌّ يصْطفلُ بين مَرايا مَنْسكه
إيثار من يَكتفي بذاتِه مركزاً للكوْن
كان في صِباه قد خرَجَ مَسْلولاً يقاتلُ
الأبديّة ولَمْ يعُد إلى داره من حينِها
شقاءه القَهْري كلما انحسَرَ في سويداء
قلْبه يشعُر برغبةٍ عارمة لإجتياح الفِضاء.
صَمْتُ هذا الكون الرّائع يُفزعُه !.
وتكرارُ الحياة اليوْميّة لا يَعْني بالنّسبة إليهِ
نجاحه في البَقاء
وإنّما نجاح الحَياة ذاتها
كآلةٍ مـتفوّقة تبطِشُ بالجميع كلّ صَباح
على قلَقٍ وجوديّ لا تكفيه ساعات
المَساءِ وقد أقسََم بأن لا يرى الصّباح.
وجهُهُ تبـاريحُ الغِواية تظنه محاربا قديما
لا يبرح سُرّة اللّيل قائماً يحرثُ قبرَه ميلاداً
في كل سَطْر يكتبُه بالمـاءِ والنّار
يَنْتشرُ يرتجفُ مُمَـغنطاً سنابكَ القصيدةُ
ثم يجتمع ويرحل
تظل الورقة
تغرقُ بألـف كُرةٍ أرضيّة
تلك التي كانت
قديماً تـدورُ وتحلُمُ أغنياتٍ مـتألّقة
حتّى المَساء
لكنّّ الأغنيات أستقالَت
لأنها أصيبت بالدوار.
الشّاعرُ لا يترفّعُ باللّغة *
لكنه يشعلُها
وينفضُ الرّمادَ عن أبيات قصيدةٍ تحترقُ
فتائلها وتنتهي بالقضاء على ذاتها
ولن يكتبَ مرثاة ً للدّخان.
* جان بول سارتر "الشاعر يترفّع باللغة".
***
طلال الطويرقي
- من مواليد مكة المكرمة، عام 1977.
- بكالوريوس لغة عربية.
- يعمل في التعليم.
صدر له:
- ليس مهما، شعر، عن مؤسسة الإنتشار العربي بيروت، 2007.
talaldahlia@yahoo.com
تمرينات للخيبة
ما الذي أحتاجه لدفع رتابة وقت كهذا ؟
قد أحتاج الكثير قبل أن أمرِّن خيبتي الشرسة
وجوها أعلقها
على رتابة وقتي الثقيل
مساءات لأكثر من ذكرى
غيابا مفتوحا
لأرصدة عمري القادمة
أحتاج أن تأخذني قدماي
حيث الدهشة محتملة على الأرجح
وقد أحتاج غيابك هذا
لأكثر من سبب يجعل حياتي طويلة ربما
فأنا أكره الرتابة كلما تذكرتكِ
ومررتِ هكذا كفكرة غريب تدونها اللحظة
لأكثر من سبب فحسب
أمدّ خيبتي للشمس كل صباح
أفتح النوافذ
أجفف ملامحك هنا
ليبقى اللون محايدا وشفيفا
وهذا كل ما أحتاجه بالفعل
أحتاج وجهكِ أيضا شماعة
أعلق بها خيبة يومي
دون أن يدركني أحد
أحتاج أن أختلس الفرحة
لتبقى الذكرى مبللة
خلف ملامح محايدة
وأحتاج كذلك أن تتركي قبلك مجففة فوق مرآتي
كي أدرك أن الزمن باق
وأني بلا ذاكرة على أقل تقدير.
طلق
1
لم تشتكِ أمي تعسُّرَ مولدي
فالطلقُ داهمها بقربِ البيتِ
لم تعرف طريقاً للمكوثِ
أمام َبابِ الدارِ
لم تشكُ غيابَ أبي
ولم تصرخ كثيراً في بدايةِ أمرِها.
2
لم تعترف أبداً
ولم تترك تقلُّصَ رحمِها
في لحظةِ الطلقِ الأخيرةِ لي.
3
لم تقترف يوماً أخيراً
من تفاصيلِ العلاقةِ
كي تبلِّلَ طفلَها البكريَّ
في ماءِ المخاضْ.
4
لم ألتمس ألمَ الحضورِ
مؤهلاً بملامحِ الذكرى
.....................
.....................
.....................
بعيداً خلفَ ميلادي
يواصلُ حبلُها السريُّ أوردتي
وتغيبُ في اللاوعي.
رفعتُ يدي
1
(المدادُ) (نزيفُ الحجرْ)
(هاتهِ عالياً) مثلَ (فأسٍ على الرفِّ) (بينَ هلاكينِ) حذرني قائلا:
(إن بي رغبةً للبكاءِ)
و(سبعَ قصائدَ) تحفظُ (ما لم يقلهُ بكاءُ التداعي):
(خرجتُ من الحربِ سهواً)
بـ (رأسِ المسافرِ)
(همسِ الدموع)
(قصائدَ راعفةٍ) (من أغاني المشرّد)
(حولَ خيامِ القبيلة)
(هذا هو اسمي).
2
(التضاريسُ) (أشعارُ مجنونة)
(وردةٌ في فمِ الحزن )
أو (لحنُ قلب)
(قصائدُ مرئية)
عن (كتابِ الحصارِ)
(لماذا تركتَ الحصانَ وحيدا) ؟
(خرجتُ من الحربِ سهوا)
(رياحُ المواقعِ) تطفئني (خارجَ السربِ)
ظلَّ (قصائدَ أولى)
وتعوي بعيدا.
ً
3
(زمنٌ لستُ فيه)
(تهجيتُ حلماً.. تهجيتُ وهماً)
(لماذا تركتَ الحصانَ وحيدا) ؟
(خرجتُ من الحربِ سهوا)
(لعينيكِ آتٍ)
معي (لوعةُ الشمس ِ)
تغتالُ بي (رهبةََ الظلِ)
حولَ (هجيرِ) (الفضيلة)
تمطرني (غيمةُ الصمغ)
تتركني (فاطمة).
4
(غربةُ الروحِ) (ذاكرةُ الجسدِ) الرثِّ
في (مدنٍ تأكلُ العشب):
(أرضُ السواد)
(دمشقُ الحرائقِ)
(لا أحد)
غيرَ (أشرعةِ الصمت)
(بوحِ السنابلِ)
(فوضى الحواس)
(جبالِ) (الدخانِ)
(رسومٍ على الحائط ِ) العمرِ (كنّا)
(لماذا تركتَ الحصانَ وحيدا) ؟
فقلتُ:
(انكسرتُ وحيدا)
(خديجةُ) بي (منسكٌ للسريرةِ في حرمِ الرمل)
(كيفَ أحبُك) ؟
فيَّ (نبوءةُ) (ليل)
و(وردٌ أقلُ) (طفولةَ نهد)
وتمضي (سريعاً كمن لا يمرُّ):
(سريرُ الغريبةِ)
ليس مهما. ً
نصوص قصيرة
سعال
حينَ كانَ أبي
يعصرُ الوجهَ عندَ السعالْ
كانَ يذبلُ
شيئا ً
فشيئا ً
فشيئا ً
هنالكَ ما عدتُ أبصرُهُ.
حديث
ستخطِبُ لي
من نساءِ العشيرةِ أجملهنَّ
تحدِّثُ أميَّ جاراتها.
مشرعة
سريعاً تركتَ فتاتَك مشرعة ً
مثلَ من يسرجُ الدربَ للسابلةْ.
صفات
كنتُ غضا ً كسيف ٍ
طويلا ً كثرثرةٍ عائليةْ.
ظل
حينما آذنتنا الشوارعُ بالقيظِ
كانت تظلِّلنا أمُّنا
ظهرَ يومِ الرحيلْ.
ذكريات
أول الذِّكرياتِ انتصارُ مرآيا
وأخرُها همهماتُ حَزَنْ.
عمر
لحظةُ الفوضى
تساوي في يقيني العمرَ كلَهْ.
منطفئون
تمرُّ المصابيحُ كلمى
يمرُّ بي الصبيةُ الأرذلون َ
كسرنا المصابيحَ بالأمس ِ
لم تكسرِ اليومَ بعد ُ
تركتَ مصابيحَ بيتك َ
في ذلَّةِ العابرينَ تضيءُ
على غيرِ عادتها
كلُّ تلكَ المصابيحِ لا تنطفئْ.
تحيَّة
يدي حينَ تفلتُ من يدها
سأدركُ أنّ التحيَّة َ
تنسربُ الآن بينَ الأصابع.
قصائد
لم تكن بعدُ يا أبتِ
تدركُ الطفلَ في َّ
ولم تكترثْ بالقصائد ِ
تنسابُ في دمعتي.
هاجس
دائماً كنتُ أهجسُ:
إنَّ المكانَ له ذاكرةْ
والمرايا لسانْ.
براءة
أن تتذكرَ
معنى هذا أنكَ تقتلُ يوميْ
وكأنكَ لم تفعلْ شيئاً.
فراغ
فراغٌ أظنُ له ألفَ وجهٍ
ولا شكل لهْ
تماماً يذكرني بالأميبا.
نشوة
مثلما يقفُ البابُ
في عتمةِ الدارِ منتشياً
كنتُ أسرجُ ضوءَ القصيدةِ
مكتفياً بالصهيلِ.
***
عبد الرحمن الشهري
- من مواليد الظهران، عام 1965.
- دبلوم لغة عربية.
- يعمل معلما بمدينة جدة.
صدر له:
- أسمر كرغيف، شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 2004.
shehry65@yahoo.com
منسي
ليس له حكاية يرويها
ولا سيرة يُلهم بها الآخرين
ولا يملك سوى كتلة من اللحم
قد تستوقف النحّات
وقد لا تثير فيه سوى الحسرةِ
على مصير الجسد الممتلئ
والعاجزعن القيام بردّة فعل
حتى ولو كانت إيماءة بسيطة
بإحدى العينين.
عادة
من الممكن رؤيته في الطريق
وهو يحمل كيسًا أو جريدة
ونادرًا ما يعير انتباهًا
لمن يراه على هذه الحال
لأنه تعوّد
أن يسير في ذات الطريق
كل يوم
وأن لا يتباطأ في سيره نحو الشقة
وأن يراه الناس هكذا
وهو يحمل كيسًا أو جريدة.
عاشق
لطالما وجد في المرأة عزاءه
ولطالما أحتلت مكانًا لائقًا بقلبه
بحيث وضعها في أيقونة لا تطابقها
ولطالما تعوّذَ من وساوس
تسيء إلى جسدها
كأنْ تكون فيها شامة هنا
أو كدمة هناك
أو آثار حريق تعرّضت له
وهي صغيرة.
مدخّن
الشيء الوحيد
الذي يمكن أن يملأ عليه حياته
هو الشيء الوحيد الذي يمكن
أن يقتله
ولن يتنازل عنه بسهولة
يقرأ على العلبة:
التدخين سبب رئيسي
يشعل سيجارة
ثمّ يدخنها بكل حبّ
وعندما تمتلئ المنفضة
بأعقاب السجائر
ينظر إليها بأسى ويتخيّل
أنه بالون.
مقبرة
لسبب لا يعرفه كان هناك
ينظرُ إلى الأشجار المغبرّة
والقبور المندثرة على جانبي الطريق
ويتخيّل أنه مرَّ بهذا المكان من قبل
هشّة هي الأوراق
والخطى لا يبدو أنّها تخطو في مأمن
والظلال كثيفة لدرجة توحي
بأنّ من هم تحت التراب ليسوا تحته تمامًا
بل في مكان ما من المقبرة
يتجادلون بشأن ميّتٍ جديد
سيدفن إلى جوارهم.
***
عبدالله السفر
- من مواليد الأحساء، عام 1960.
- بكالوريوس لغة عربية.
- يعمل مرشدا طلابيا.
صدر له:
- يفتح النافذة ويرحل، شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 1995.
safar111@hotmail.com
يُخْلُونَ سريرَ محبتِهِم
دَفَعَ بدمعتِهِ الرسولُ، وهامَ طَيَّ رسالةٍ لم يحملْهَا. أُخِذَ بالتهدّجِ، نالَهُ يأسُ الكائنِ، فراغُ الأملِ من صاحبِه، نفاذُ السكينِ، عُريُ الوردةِ من شوكتِها. وهذا الليلُ الذي لا يحسنُ مدافعتَه، حين الأصدقاءُ بمناكبَ مذعورةٍ يُخْلُونَ سريرَ محبّتِهم ويتهافتون إلى مراكبَ مخلّعةٍ مشقوقةِ الأشرعة. يعرفون أنها ليست مأوى في اليابسة، ولا تصمدُ لماء.
يغادرون فحسب لأنّ الرسولَ فاضتْ به الدمعةُ، وانجرحتْ منه الحنجرةُ؛ فطاشتْ سهامٌ خفيّةٌ لا ترأفُ. سُمُّها ضارٍ يبدّدُ الروحَ، ينثرُ الجمرَ في اللحمِ. يتسمَّى الجرحُ باسمِه. تنكتبُ الخيانةُ. تَطْلُعُ عروقُها السوداء. وفي الهشيمِ يبينُ رداءٌ. بقيّةٌ من رداء لا تسترُ جثّةً شاختْ وأسترسلتْ في العتمةِ، يرجّفُها بَرْدُ العقوقِ، نظرةٌ مقصوفةٌ لطائرٍ فُركتْ أجنحتُهُ.
ريشٌ في الهواء. يثقلُ. يحطُّ. يأتيهِ الدمعُ من كلِّ مكان. يثقلُ. يحطُّ. يزفِرُ. يفرفرُ.
لمعتْ الذكرى وانسابَ الحنينُ عن أخلاّءَ متروكين.. مقذوفين بغيرِ يدٍ تهمسُ بالوداع.
ظهورٌ تراصّتْ، بطّطَتْها القسوةُ. شروخٌ تطلُّ على النسيانِ. هاويةٌ موَّهَتْها الخديعةُ. مكيدةٌ تتربّصُ. صخرةٌ نهضتْ من أوّلِ الليلِ تفحصُ وليمتَها، تتبعُ خيطَ الدمعِ، شاغرَ الخطى. فمُ الكهفِ يقترب. ينصبُ اليأسُ مشنقتَه للعابرِ بدمعتِه، للزائلِ بلا أثرٍ.. بلا حلمٍ يهوّنُ.. بلا نطفةٍ من ضوءٍ يريقُه. الصخرةُ تتعقّبُه، تلزِمُه مضيقَ الألم. وفي لحظة الصَّعْقِ الفاجرةِ يتلوّى مبهوتاً. أظلمتْ عيناهُ. تشعّثتْ أشلاؤُه. ضاءتْ دمعتُه سريراً، وفي الأفقِ لاحتْ جنازةُ الغريب.
ها أنت على المشارف
ماذا كنتَ تظنّ، وأنت تترجّل في الغبار، وتدفع بقدميك في أرضٍ تميد. حرّاسُك الوحدة وبضعةُ وجوهٍ تستحضرها من همس الورق بحبرٍ باهتٍ؛ يخفَى.. يتخفّى حتى عنك. أتظنّه العمر. هذه الكتلة التي تداريها وهي تنفشُ ريشَها الذاوي الذاهبَ في الرماد والاتساخ. سوف تعجز. يضربك العجزُ. هل نظرتَ إلى اليديْن، شقّقَهما سوادُ التعب. سدّدتَ السهمَ إليهما تحملان الحطام من باب العام إلى باب العام.
الشرخُ طويلٌ وموجع.
تقف بجناحيْنِ ضاويين وسريرةٍ مشقوقة؛ نثارُها بعدد أوراق التقويم محقونة بالخيبات لإنتظارٍ ما عاد انتظارا سوى أنك تعوّدتَ على طعمه المرّ كشايك الذي تقترفه كل صباح مخلوطا بمرارة التكرار ومقعد الوظيفة؛ سترةِ الأولاد ولقمة الحياة. تتعقّل كثيرا قبل أن تركل المقعد وتلتمس هواء الجنون لمرّة واحدة وحيدة. تدفع بالمتَّكأِ وتهمس للريح أن تضمك، تطويك إلى غير هذه الأرض.
تقفُ
زادُكَ اللعثمة، وبحرُ الحيرةِ يصفعُك بملحِه. أيّةُ حفرةٍ جديدةٍ تستضيف أيامك. أحقاً بقي لك أيامٌ تُستضاف. لكنها حفرة، وعليك ألا تستمهلها، وألا تطمع.. تعرفُ مهما داورتَ وأبطأتَ الخُطى؛ فالحواف الزلقة تجتذبك بدبقها الذي حسبته يوما العسل والبهجة وحلوَ القطاف.
كنّاسُ الذكريات يتقصّى أوراقك،؛ بممسحةٍ ومقصٍّ وبرميل. تتداعى لهبوبٍ لا يستره ثوبك المشقوق. المنديلُ الرطب لا يجفّ أبدا من الوداع. تهزّه مرّاتٍ، تلوّح به في مرارةِ الهواء حيث العابرون يحملون شموسَ ضحكاتهم، وظلالَ الأيدي التي استرختْ طويلا على طاولة المنادمة والحكايةَ التي أزهرت قبّةً؛ حسبتَها أضلاعاً تقيك ما يلي من بردٍ يتفلّت من ورق التقويم؛ ينيخ عليك ورقةً إثرَ ورقة.
كأن أيامَكَ لم تُرصَد إلا لليلٍ يتنفّسُ العراءَ، يقلّبُ هذا النائمَ في ذهول الصحوة والإنتباه؛ إنه لا يمرّ. في هذه الحُلكة أنت المُبدّدُ في سرير الوحشة. لا بريقَ.. لا رنين. هو الحنينُ فحسبُ في هذه الحُلكة. عبرتَ النهرَ مرةً وإلى الأبد. أقمتَ عند شجرةٍ مسلوخةٍ تدّعي أنها عمرك؛ تنفضُ عليكَ صُفرةَ الأوراق وتهيل وجوهاً قضتْ في النسيان.
هاأنتَ على المشارف .لا تنتظرُ من يدفعُكَ.
ورقةُ التقويم. حفيفُ الورقة الأخيرة.
النَّفَسُ الفقير.
أُلهيةُ الأملِ وضجرُه.
المنسي في دفترِه.. وحيدا
هذه الوردة التي حشرتَ ساقها الضعيفة في فوّهة القنينة وخالجكَ طموحُ أن تبقى عدّة أيام؛ تفاجئك بذبولٍ مبكّر. أمالتْ رأسها، انحنت. ذهبتْ اللمعة. أريجُها الخفيف بالكاد ينبعثُ حتى وأنت تدسُّ أنفك كالمخبول بين أوراقِها.
ذهبتْ أيامُك
ذهبتْ
ذهبَ الأصدقاء.
في سرير الوحدة، تقبض على دفتر الذكريات. تُنْهِضُ الحبرَ النائم، تَسُوسُ الصورَ؛ تنبّهها من خدرٍ طويلٍ موجع، يسري بالرجفة إلى أصابعَ غضّنتْها الأيامُ وخالطَها بردٌ مقيم لايفارقها. الوحشةُ ها هنا. تدسُّ الأصابعَ في الدفتر، لعل الدفء ينبعث.
لعل سخونةً ما تتفجّر من أكوام الحطب المصفوفة تنتظر جمرةَ الغريب يأتي محمولا بالذخائر نسِيتَها. وها هو يلوّح بجمرته؛ يقدح الذاكرةَ على رماد المنسيين. رماد المنسي في دفتره وحيدا، أصابعُه لا تطاوعه. ينقبضُ عن أشباحٍ تخرج عمّا قليلٍ في ملاءاتِها السوداء تخفُقُ في ريحٍ ورملٍ وعطش.
لم تشخ كثيرا
لم تنفذ البهجةُ بعدُ
والوسادةُ، كلَّ مساء، تفضحك بالأحلام؛ بصبيبها تداريه حتى عن عروقِك.
لم.. لكنهم ليسوا هنا؛ مختبرُ الأحلام. شواغلُ اللهفة. الحدُّ المسنون للحظةٍ مشتهاةٍ تنغرس في خاصرتِك. ليسوا هنا. لستَ أنتَ. تشقّقَ الرَّحِمُ وانزلقتَ باردا، مهجورا، يقمِّطُك الحنينُ إلى حضنٍ غاب، إلى خيمةٍ فرشتْ، يوما، لك الأضلاع. فكيف تصبر. كيف تنسى.
الهاويةُ تلتهم روحك، والصورةُ مخلوعةٌ من مائها.
بركَ المسحورُ أمام الوردةِ يطبقُ على الهشيم، وها هو يجأرُ، وحيدا في فم القنينة.
***
عبدالله الصيخان
- من مواليد تبوك، عام 1956.
- عمل في المجال الصحفي والإعلامي.
صدر له:
- هواجس في طقس الوطن، شعر، عن دار الآداب بيروت، 1988.
كيف صعد إبن الصحراء إلى الشمس
أصعدْ يا حبّةَ قلبي
أصعدْ
أصعد كي تنفضَ عن عينيكَ غبارَهما فترى
وتماسكْ إنْ كنتَ ضعيفاً
ساقُك تسند ساقك
وذراعاك تمدّانكَ بالعزمِ
ووجهُكَ ينفحُ بالماء إذا ما أصبح بين الماءِ وبينك قافلةٌ من نُوقْ
وتماسَكْ حين ترى
سترى ما لا عينٌ نظَرتْ
ما لا أذنٌ سَمِعتْ
ما لم يوصف في الكتب المنسوخة عن عاشرِ جَدْ
سترى ناساً يقتتلون على ماءٍ
وأناساً يقتتلون على طرقٍ تفضي بالناس إلى كرسيٍّ وزبرجدْ
سترى خيلاً ليس لها أعناقٌ
وسيوفاً ليس لها أغمادٌ
ودماً
ينثالُ ليشربَ منه المرضى
والمقهورون
وأصحابُ الفاقةِ
والموهوبون
عطايا الربْ
كلّ الناس عِطاشٌ
فأصْعَدْ يا حَبَّة قلبي
أصعدْ
وتوسَّدْ صوتي حين أُناديكَ لتصعدْ
أخترتُكَ أنتْ
لستَ الظاهرَ بينهمو ولستَ السافرَ
أصعدْ كي تفتحَ عينيك على الصالح
والطالح
والفالحِ
والكالحِ
والفارحِ
والتارحِ
والجارح
والمجروحْ
كلُّ الأرض جروحْ
اُنظرْ
هذا بلدٌ يتقاسمه الباعةُ، تجار الليل
وذا بلدٌ
يتحلّق فوق يديه الصاغةُ
هذا وطنٌ يتقاسمه البُرصُ علانيةً
فأصعدْ
هذي الشمس تناديك وقد خبَّتْ حمراءَ شواظٍ فتواطأْ معها
مُدَّ يديكَ لها أغمضْ عينيكَ وقلْ
يا أيّتها الشمسُ خذيني
إبنُ الصحراء أنا
آتٍ منها
بي جدبٌ
وعليَّ قماشٌ من سندسَ أخضرَ بارقْ
هَمَستْ في أذني الصحرا
وأنا في المهد بأنَّ الشمسَ ستمنحني
يوماً نافذةً كي أصعدَ
أنفضَ عن عينيَّ غبارَهما
فأرى الطاووسَ يتيهُ على الإنسان ويختالْ
وأرى الكابوسَ يكمّم أفواهَ الناس على حلم منهم
وأرى الماشين على أوجههم في السوق مناديل كآبه
وأرى في الحبس مظاليماً
وأرى ظُلاّمَهمو
وأرى خيطاً
لا أسودَ
لا أبيضَ فأصومْ.
الملأ عطاشٌ
هذا اليومُ طويلٌ
والأرض سعيرٌ
والناسُ
الناس انحدروا في دارٍ مظلمةٍ لا أبوابَ لها صمّاءْ
والناسُ
الناسُ انكسروا في الصدقْ.
رمادياً كان الحرفُ
اللغةُ
الميزانُ
الإنسانُ
الطائرُ
والتاجرُ
والصاغةُ
والنسوةُ إذ يتوالدنَ وما ينجبنَ
رماديُّ الوجه
الساحل
والقاحل.
مَنْ يُفتي في أودية متشاجرة ؟
من يمشي ؟
من يتبختر؟
والموتُ رماديٌّ فأصعدْ
أنتَ المدعوُّ:
سليلَ الصحراء
المتوارثُ مجدَ الضرب علانيةً في غاربها
بدوٌ في بدنك يبتردون عطاشى
ورعاةُ الأرض على ظهركَ يرعَوْن.
ملحٌ في كفّيك
تطوف وتنظر في الأرض على غيم مقتعداً بين الموتى
أنت الباطنُ
والصَّاعدُ في الأبيضِ
والنازلُ في الرمل
المرتحلُ على زلزلة في القلب
المتدثِّر بالرغبات الأُولى
أن تعرفَ
وترى
وتشكْ
هذا الشكُّ يقينْ
حلمٌ أم علمٌ أم هذيانُ مريضْ ؟.
الأرض تدورْ
هذا الفلكُ القائمُ يُوغل في الظلماء
ولكني أنسج في بدني امرأةً تتحوّل في الصبحِ إلى كوكب عشبْ
أخضرَ رطبْ
فأرى
وأشكْ
ثم أحطّ يديَّ على وجهي
يغشاني النورُ
فأسأل:
أين أنا ؟
أتكاشف والشمسْ
فأرى خيلاً تتظاهر في ناصية الشمس
تمدُّ قوائمَها
والقهرُ يؤجّج في دمها حمحمةَ الأيّام الأولى
أضحتْ في المضمار مراهنةً ونقودْ
أتكاشف والشمسْ
لم يبق سوى مرمى حجرٍ وأصِلْ
أبراجٌ وسفائنُ
لهبٌ منحدرٌ مثل الماء
دخانٌ أبيضُ مثل الثَّلج ـ الغيمِ
أطفالٌ قُتِلوا في آخر حربٍ
فتياتٌ بثياب الدرسِ
يحمْنَ
ويسَّاقطن على زبدٍ من غدرْ.
أصعد يا حبّةَ قلبي
أِصعدْ
ستلاقي رهطاً يسترقون السمع على درجات الكونِ
فحادثْهم
أسمعْ ما يعطيكَ مفاتيحَ الأشياء
وما يمنح ساقك في الريح مدىً
ويديكَ نهارْ.
هذي آخرُ عتبات الكون الكاملْ
أنت الآنَ على لهبٍ منها فأدخلْ
وتيمّمْ بالنّار وصلِّ
تأمّل ما حولكَ
زاوجْ بين الرمل وبينكَ
بين النار وبينك
بين الماء وبينكَ
وأدخلْ في جدل الأشياء
أنت الآن ترى
أنتَ الآنَ
ترى.
فاطمة
كأنّ النساءْ خرجن من الماءْ
وفاطمةٌ وحدها خرجتْ من بَرَدْ
كأنّ ذوائبها الشهب
إن لم تعدْ إلى بيتنا
لن يعود أحدْ
أو
كأن مساءَ الثلاثاء مرَّ
ولم يتفرّسْ في راحتيه نهار الأحدْ
يقول له أن ما بيننا
يوم اثنين مسترسلٌ في بياض نَهَدْ
ذوى فيه نعناع ظلِّ وأغمض جفنيه حتى الأبد.
قيل إن الذين أتوا بعد يومين من دفنها
وجدوا في المكان
قمراً نابتاً خلف حنّائها
قمراً من حنان
ويداً نصف مسترخيه
سحب الله من خضبها خيطَ دمْ
فنما شجرٌ أخضرٌ
اسمُهُ فاطمهْ.
تمتمات المعزّين في آخر البيت أهدأ من كل شيءْ
ومن أي شيء تذكره ولدٌ شاف ضحكتَها ـ َنفْس ضحكِتْها ـ
في صباح مطير
ولدٌ ويتيم
قام من نومه باكراً وأعدَّ ـ وحيداً ـ فطورَ الأحد
ثم أخرج من كتبه صورة رطبة لا مرأهْ
تَفَرَّسَ فيها قليلاً
بكى
ثم قرّر أنْ يتنازل عن درسه اليوم
يبحث في وحشةِ
البيت عن ضحكة حية
هربت خلسة
من كتاب الصُور.
ولدٌ ويتيم
أمّه فاطمه
وتحب المطر
ولدٌ آخرٌ اسمه خالدٌ
قال ليوم الثلاثاءِ وهو يلُمَ حكاياه قبل السفرْ
قال أسرارَهُ ومضى واعداً أمَّه
لن أكون يتيماً هنا ورافقَها في السفر
نهارٌ
بصيف خفيضْ
شجرٌ أبيضٌ يعصبُ الرأس متكيءُ فوق منحدرٍ ضيِّقٍ..
شيلة ودعت وجْهَ سيّدةِ العائلة.
حديد يفارق أشكاله
خيطُ دمٍ نزَّ من عَرَبهْ
حديدٌ هوى من علٍ ثم فارق أشكاله
وتجمَّع خيطُ دمٍ سال من لعبة قاتله.
هل كان أحمد ينوي الذهاب بعيداً عن الحلم ـ تاركاً سره العاطفيّ معي
نحو حضن فلاه ؟
وهل كان أحمد إلا ندىً يتساقط في وردنا
ويحبّ الحياه ؟
ترى أي شيء قرأ
وأي فتاةٍ
نهضتْ من ملامحه ذاهلهْ ؟.
المعزّون لم يرحلوا فدخَلْتْ
وحين جلستُ إلى المائدهْ
كانت هناك توزّع نبض يديها على كل صحن
وحين أكلتْ لم أجد طعمها في الإناء
فتركت المكانْ
فالتفّ حولي سربُ قطا جاءَ من شجر العائلهْ.
أي شيء لعاشقها تركت فاطمه
شرشفاً نسيته على نومه
أم شذىً حائلي
هي يا ناسُ أملحُنا
يدللّها الأهلُ
يعطون أسماءها للحمام
لم أكن ابنها وحدَها
ولكنني ابن كلّ النساء اللواتي يشبهنها
وهي أمّي القريبةُ من بينهنّ
قيل إن الذين أتوا بعد يومين من دفنها في المكان رأوا مشطها الخشبيّ
مكسوراً
أساورها ضائعه
وأن الشهادة كانت هناك
على شرفة الركعة الرابعهْ
مرّت العرباتْ
نهضت فاطمهْ
من صلاة المكان
وطئت عربه من حديدٍ يلزّ
أساورَ فاطمةَ.
المهرة
التقينا
ووقفنا
فلنكن يا وردة النار امتداد العاشقين الحي
فليكن أنّا التقينا مرة في أغنية
وتعارفنا على حشرجة الوتر المشدود في كف المغني
فليكن أنّا تقابلنا على ناصية الشارع
قلتِ:
مرحباً
فالتفتت نبضة كتفي فالتفتُّ
فليكن أنّا التقينا مرة في الحلم
إني قد صحوت الصبح
ألفيتُك في ذاكرتي
فأدرت القرص
هاتفتكِ
أيقظكِ الجرس العالي، نهضتِ:
نخلة سامقة في البال تُدني لفَمي التمرَ الذي أنضجه الطين
وأروته الشموس
فليكن سيدتي
أنا طفل طاعن في الحلم
فلنفترض:
الآن التقينا
فلنكن يا وردة النار امتداد العاشقين الحي
أن نبدأ من حيث انتهوا هم
لا
من حيث وقفنا.
***
عبدالله ثات
- من مواليد أبها، عام 1973.
- بكالوريوس لغة عربية.
- ماجستير علوم سياسية.
صدر له:
- الهتك، شعر، عن وزارة الثقافة اليمنية صنعاء، 2004.
- النوبات، شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 2005.
- الحرام، شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 2007.
- الإرهابي 20، رواية، عن دارالمدى، 2006.
مشجب
اليوم جريت حافياً
خلعت سنيني العجاف
بؤس التجاعيد الجبلية
مسحت عن وجهي الزمن
وثيابي العربية ألقيتها رأس المنحدر
رميت نعلي باتجاه الشمس
وركضت بين جدران الطين، صارخاً:
أنا فرح !
أكل الحلوى المكشوفة
أمص أكياس التوت المثلجة
اليوم.. أعود طفلاً.
صمم
آمنت ألا ملاذ غير زمة شفتين
فهمت أنها الوحدة / المصير
رأيت السراب يرفضني
أرفضه
والهدهد العرّاف يبني عشه بي
فلا يسمع الفارهون نبوءته.
مَوْسَقة نهائية
بوق الأساطير يموسق فرقعات النهاية
اللاهثون ببلاط المارد حيارى
الأصفياء
مكتوفون في الزاوية
السارقون بإسمهم يضربون وجوه المساكين وأدبارهم
خسر السراب مواعيده
ويحها
صافرةً تنسف الوهم
تقلب طاولة القمار
فيجيء الأفق مضطرباً
ملتحفاً قوانينه الساذجة.
قنينة معتمة
نجمة القدر
الحضن أسطورة الشقاء
موقد التعب
حضارة الخطايا
مزاج المساكين في مقاهي القرى
قطار الجنازة يدنو
يعلو
ساقية بائسة
دوار الطواحين
قصة البحر
و(الأربعين حرامياًً)
والجوع مرآةً للصمت
الحضن مفردة بربرية
غباء البراءة:
النساء
والرجال استداروا
ضباب اليتامى:
الرجال
على شرقيات الجسد
كانوا فناجين مهملة
ترقب قارئها بثيابه المريبة
يقرأ فيها الحظ
المستحيل
مزاج اليتامى.
أقدام أربعة
أتوسل للطبيعة صقل طباشيرها
لترسم أنثاي على صحاف السماء
تشقّق اللوحة
والثواني تربت على كتفي
توقظني من كأس عبادتها
تمحوني من ذاكرة جبلي
تهشم طوق البيلسان
سحقاً للمجرة
تتآمر على البنفسج
للمدارات
تركل أغاني الرعاة
للقبلات بعدنا
أبداً
وي كأن الأشياء ما سكتت
والملامح لم تتخدر
يوم نستقبل الفجر
نمد على المتعبين
الأغطية.
***
علي الدميني
- من مواليد قرية "محضرة " بمنطقة الباحة، عام 1950.
بكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من كلية البترول والمعادن بالظهران، 1974. - عمل بشركة أرامكو السعودية، ثم انتقل للعمل في البنك الأهلي التجاري في السعودية حتى تقاعده، 2004.
- أنشأ مع عدد من الأدباء والنقاد السعوديين مجلة: النص الجديد،عام 1993، وٍترأس تحريرها.
- أشرف على تحرير موقع: منبر الحوار والإبداع.
http://www.menber-alhewar.com/index.php
صدر له:
- رياح المواقع، شعر، إصدار شخصي، 1987.
- بياض الأزمنة، شعر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 1994.
- بأجنحتها تدق أجراس النافذة، شعر، دار الكنوز الأدبية بيروت، 1999.
- الغيمة الرصاصية، رواية، دار الكنوز الأدبية بيروت ، 1998.
- نغم في الزنزانة لحن، نثر، المنظمة العربية لحقوق الإنسان، 2004.
- زمن للسجن.. أزمنة للحرية، نثر، دار الكنوز الأدبية بيروت، 2004.
- أيام في القاهرة وليال أخرى، سرد ثقافي، دار الكنوز الأدبية بيروت، 2005.
alialdumaini@yahoo.com
الطائر
رهيفُ الهوى سيّدٌ
وعينٌ ترى ما يلي
تخضّـبت بالكائنات ِ
وقاسمتها قاتلي
يشاغبني وجهها
وأصفو فلا تنجلي
ملئٌ بما ليس لي ْ
أنا الطائر الجاهلي.
الأصدقاء
هؤلاء الذين يربّون قطعانهم في حشائش ذاكرتي
هؤلاء الذين يقيمون تحت لساني موائدهمْ
كالهواء الأخيرْ
مرةً أستعير لهم فرح امرأةٍ في الجريدة
تبكي عليّ
مرَةً أُطلق السهم نحوي
فأخشى عليهم جنون الصبيّ
ومراراً أغسلهم بالحدائق كي يتركوا جثتي في المياهْ
عارياً كقميصٍ بلا شفتينْ
نائماً في رفاتي كما أشتهي
سابحاً في صفاتي كما ينبغي
وأتوّجني سيداً وأميرْ.
…
…
ولكِنْ
كيف لي أن أرى ـ دون قطعانهم ـ سترتي
فوق عرشي الضرير.
طفولة
أيها الآباء
هل أستشرتم أحدنا
حين أغويتم أمهاتنا
بفراشٍ من الولائم
وغاباتٍ من الوعود
وشجيراتٍ من الذهب
تضللهن في أسّرة النوايا البيضاء.
لا تقولوا كنا نبحث عنكم
فيقيناً نعرف:
أنكم كنتم مثلنا
تتلهون بعصافير الوقت
وتركضون خلف المسرّات
حتى أصبتمونا
حجلاً طافياً فوق الأنهار.
إننا نسألكم أن تبقوا بعيداً عنّا
أو قريباً إلى جوارنا
لكي نتعلم مباهج الطيران.
إعتراف متأخر
هو الحبُّ
لا صفة تترقّّى إلى وصفهِ
ليس من بدلٍ يتطاول في أخذ موقعه في الكلام ْ
ولا شيء يشبههُ غيرُ ما يتنزّلُ في الروح ِ
من وحيهِ
وضلالاته
وهداه.
سأعترف الآن أني ثملت من العشق ِ
حتى تجاوزت حد الكتابه
وأني تغرّبتُ بالحب حتى بلغت حدود الحرابه
وأني سلكت طريق الغوايهِ
حين أهتديت بنفسي
فشاغبت ُ أمسي
وأسرفت ُ في سفري صوب برق السحابه
لأبحث عن صورتي في الخريطهِ
عن قلمي في الجريدة ِ
عن حصتي من هواء المدينه
عن رايتي وحقوقي ْ
وعن منبرٍ لعقوقي ْ
وعن شرفةٍ أتطلع منها إلى ما وراء الجدارْ.
فوضى الكلام
وليكن ْ خلف صمت الكتابة ِ ضلّ الكلام ْ
ناشراًً ريشهُ
مثلما امرأة ٍ في الأغاني
تسير بعينين مغمضتين
مثلما قبلة ٍ في العراء.
وليكن للحروف القتيلة في حبرها
قبّةٌ من عزاءْ
للذي سال من وردةٍ وحجر ْ
للذي غام مثل الصور ْ
وطوينا أصابعنا حوله
عشبة ً في الغمام ْ.
وليكن لحبيبي عليّ ثلاثون حُجّة ْ
أولاً:
أن أصلي وأبكي عليه
ثانياً:
أن أغنّي إذا جاع بين يديه ْ
ثالثاً :
أن أعبّ هواء المدينة عني وعنه ُ
لأتلو صباح الحدائق من شفتيه ْ
رابعاً :
وليكن لي احتفاظي بباقي الثلاثين
إن صام ً
أو قام ً
أو نام ً
أو هام ً
أو غام ً
أو أدخلته القصيدة "فوضى" الكلام ْ.
ولتكن سهوة الليل مجلسنا فوق سطح القرى
عاكفين على جمرة الماء حول سحاب "المداعة" حتى نرى
صبحنا أخضرا
في ثياب القناديل حين تبوح ْ
بابتسام "الدِّلال" الصبوح ْ
وعليل "المحاميس" إذ يبلغ "البنّ" شهوته
فتغني الجروح:
يا حبيبي الذي كان لي ْ
قدحاً يصطلي ْ
قرب ناري الصغيرة ِ
هل كنت لك ْ
أم تراك الخلي ْ؟
ولنهيء لنشوتنا حجراً في الجبال ْ
ورياحاً شمال ْ
فإذا قيل هذا مقام عشيقين في التهلكهْ
أدمنا ترف الصعلكه
وأقاما من العسر ِ
واليسر ِ
والصبحِ ِ
والعصر ِ
والتمر ِ
والجمرِ
ما اقترفا مملكه
قيل صحّ المقال ْ.
وليكن للأصابع أن تتشابك تحت قميص المطرْ
أن تقصّ حكايتها للمرّ النحيل ْ
للندى وهو ينزع عنه القليل ْ
للهواء الذي يشبه الذاكره.
وليكن شاسعاً ما يؤرق ريش اليمام ْ
عبقاً
فليكن
جسد امرأة ٍلا تنام ْ
وليكن لحبيبي مفاتيح غرفته النائيهْ
يتسرّى بصورته في المرايا
ويداعب من فتحةٍ في الشبابيك
فتنتها الغافيه.
وليكن أن يضلّ حبيبي
مثلما غيمة شاردهْ
تستثير الأسى
في السواد الذي يتغضّن في النافذهْ
أن يصير حبيبي مساءً بعيداً على الشفتين
كعواءٍ على شجره
كصباح تأخر في نومه
كيتيم.
وليكن أن يُطِلّ حبيبي
من فراشات زرقته الغاربه
كسراج ٍعتيق ْ
كلما يبست بيننا ضحكةٌ
أو تدلّى على الباب صوت ٌ صديق.
يا حبيبي الذي لاح لي
نجمةً ً في مقام الولي
هل أشير إلى ما أرى
أم إلى ظلّك المقبل ِ؟
***
علي العمري
- من مواليد، تبوك، عام 1966.
- بكالوريوس إدارة أعمال.
- يعمل في وزارة الاتصالات.
صدر له:
- فأس على الرف، شعر، عن دار الجديد بيروت، 1996.
- ولا يدري أحد، شعر، عن دار الحوار سوريا، 2001.
- لا فوق لمثلك، شعر، عن دار المدى سوريا، 2004.
- أبناء الأرامل، شعر، عن دار الإنتشار بيروت، 2006.
- شظايا الجزيرة العربية، تجارب وحكايا رحالة غربيين، عن دار المفردة الرياض، 2005.
alialamri8@hotmail.com
جلال
ما الذي فطر قلب هذا الشيخ
كي يقتعد الليلة حذاءه
في هذا الممر البعيد
ويجأر؟
ألم يخش ما يسيّل القمر
على وجهه من فضة
وصغار الكلاب التي تشم من مكامنها
سخونة أعضائه ؟
لماذا كان ينشج
وهو يرفع أصابعه العشر في وجه السماء
ويحني رأسه صوب خشونة الإسفلت ؟
هل أتم الخط
ولم يصل ؟
أم أنه ضيع الجوهر في بطن أيامه
فأنقض بالدعاء على الجهات كلها ؟
والحكمةُ
ألم تعطه ولو دابة عرجاء
تحمله في هذا الليل إلى المنتأى ؟
من يدري
أي شيخ هذا
وأي جلال كان يبكي ؟.
صباح
رأى قدميه تتثاءب على العتبة
والكسل الساخن يكنسه عامل ضجر أسفل الشارع
فكر في الغبار
نخالة المستقبل الذي تحرثه ثيران في الأفق
ثم مط الهواء اللازج من أنفه
وولج الغرفة
الفتيلة التي اشتعلت في السقف منذ الليل
كانت مكثوثة على السجاد
ووساوس بائتة تهرش جلدها على الجدار
أسف ناحل يسيل من النافذة
تذكر أمه على السفح
تدعك السماء بعيونها
ودون كلل تنتظر
الأب الذي يربي عائلة من الفؤوس في غابة
صر الحنين في خرقة
وراح بأعضائه الكثة إلى مناجم النوم.
عين الوحيد
من المارّ تحت نافذة الطين
في أضيق النفس
المار الذي ترك كتاباً يحترق على النافذة
كلمات يعرفها من طقّها في اللهب
دهنها يسيل حافراً الجدار
قبل ينكسرعلى طرف الحصير.
الذي تراءى
ومر
صدقته العين
طاشت عليه
عين الوحيد
في أضيق ليلة
يُترك مدعوساً يئن على يقينه.
وراء الآية
الآن
على الحائط الغراب
والشرفة حيث الدم النائم
ولا أحد يسهو وراء التلاوة المتروكة في الجحر.
الآن
نداء وحكمة تسهر في البر
على اليقين
على نفس ينقطع .
الآن
يلهث الذئب في غسيل النهار
وراء الآية.
الآن
تسقط الإبرة
ويعرف الحائك الضجة في القلب
هواء على الناعس
غراب على الحائط.
الآن
تجرح العين من طولها اللحظةُ
يضحك الحجر على تراب النائم.
مزمار
لم أطرق الليلة لأترفق
ولا
لأدق على فراشكِ الطيب
جئت من الشعاب التي تُطحن
أريد دموعاً مسحوقة على سوادي
حتى أنام في الرغوة
أريد حناءكِ لأستطعم الأثم
وأعتكف عند رائحة الجريمة
أصغى
لمزمار الشهوة
ومسمار الحياة
خذي الدم الذي ينشف على ذراعي
ولنكسر السراج الجائع عند حذائكِ
لأكن أي حاف مر على قفاركِ
لأكن الطيف
وتعوذي من شر فساق الخفاء
قولي بعثر الخيش
وهيج في الظلمة الطحين
لكن لأبرد
ولنسحل الليلة شفرة
حتى نترك الرغبة عمياء
تبكي على فراشكِ.
الوحش عاجز عن الرضا
أوان المجيء تنكشف الدهشة، يحسها قاسية ندية الكائن، يصرخ مما هي مؤلمة قبيل أن يؤخذ إلى وكر، يقر حتى يفسد في يد الفكرة ثم كلما دب يرتاب فلا يبرح.
الخطوة ولو تكشفت القفار وبان في جوفها، المعبر يلوح، ولا تخطئ جزافاً ولا تأنس تمشي عدوة خطوها، مهابة الخطأ، خوف تنسحق النجاة على سدة السباع.
مبتدأ اليقين النجاةُ، ما لم تُفك من الفكرة الخطوة، تترك قدام خلاء تباغت الوحشة
لا تفرغ إذ ما يحسه الخطأ فهي علامة عابر جاء يجازف كلما نفره اليقين يخطأ.
يوم تسكن الخطوة الرمال يؤخذ الواحد ندياً إلى صميم القلاع، تعرف من لمحة الحياة
يعثر الواحد فيه على كل آثار الهالكين، عالياً تتصاعد على بعضها الحجارة، تُسقف الخشبَ إلا كوة تترك لتلمح منها السماء وقد أبيــّضت تحتها اليدان، ثم الهتاف:
غلـّق الباب يا سجان.
الذي لم يلمس الوجهة، ولا صبّحت الفكرة معتكر النهار، مقيم على سداه يأكله الندم
يرتاع تحت يائس الكوة، فلا يقوم، وإلا فثمة أمامٌ وعينٌ تدرب الصيد في الظلمات، ثمة الحيوان ذو القدرة كاسر الصرخة على فم الحارس يخطف اللحظة ضارباً الأوج في الصميم.
القدرة قربان الناب، ترفرف ولا ترى المخلب، تميل مع اللحظة، تتصيد صغائرها زاهية تفتنها الشواهق في سمتها الواهن، تدخل الشرك في زيّ الكاسر، تتقن الواجب الذي هو حيلة التلف ولا بد منه.
القاطن تحت ظلال الندامة بليّتُه الكثافةُ يُزهق الحواس في مهدها الضعيف، أنهكه المآل فلم يترك الراية ضاربة في الشديد، تتكثف عليه الفجاج حتى تغلّق ثم على تمامه القاطن ما مس إلا أحط الكلام.
حسب من أدرك أن لا يتفرج، أن لا يدع الإصبع تومئ إلا في الحبيس، حسب اللسان أن ينشف على طرف الحكاية تاركاً الزمن مجوفاً في العراء حيث يجر الرواة أذيالهم خلف أخبث الخبائث، حسبها الحكاية في الحيز يأكلها التمام أقسى من كل منتبذ وأبعد ما يكون عن الرضا.
تندفع بلا صوب المقاصد ما دام في النظرة ماء، يمضي طريد الفكرة كاسراً المجاز بهاجس اللحظة التي تبرق وكلها أفق يغيب وخلفها الشارد من رماده بما يظل من جمرة لا تطفأ ما دام في النظرة ماء.
أنى تفر الفريسة قدامها الصياد، مثلما العين قدامها الصخرة، وهباءٌ قدام الخطوة، كله الجسد قدامه الروح في الحفرة، ولا ما يحرك نأمة على اللسان، ولا همة تغري بها الفارغ من الحاجة، الهالك تحت بداهة المشهد، بلا طائل ولا ملاذ قدام ما كان.
وقفة شاحذ السلاح، وقفة اللمحة قبل يجهزعلى الطريدة السهم، وإلا فلا وقفة يضمرها الواحد ولا قرار.
أو ما يتغرب الواحد ينهره شوك السلالة ولا طويلاً يسمع الصفات تنهار، يتلفت في النبذ كأنما يُهان من شكله المفرد قبل يدخل، أناه تعوي، نثـّر أسلافها يبحث عما سيصمد لو ظل يمكث حتى تتقشر من نفسها الغربة، ولا بد يفكر قادحاً الركام حتى يلمس الحفرة، يدرك سدى الذات التي تقسو على عظامها في أصلب الظلمات.
جوالب الندم مبثوثة أينما الكائن أقبل، ندم الموئل، ندم الصدفة، الندم على الصبر تحت اللحظة، وندم الهيئة تُنكر غبراء في القفر، يصير غطاء على الكائن في المغلق ما دام يفتنه الندم فلا يفك الرؤية، ولا يطيق معاقل لا تحصى كلها مغلقة ولا مفر إلا منها.
ليس المعقل ولا العبور ما لا يطاق، ولا المشيئة مفتاحاً، ولا ثمة فكرة حتى تداس وما أمكن من الرؤية خاو ولا يشير، أما الندم فلا يؤخذ بالظاهر ولا مهرب منه إذا تكشفت الصدفة ولا يُدرك لولاه المعبر فليس سواه الريق إذا تيبست الحياة في الحلق.
لينخلعَ القميصَ، وليجرب النافرُ العريَ آخذاً التركة إلى الحطام، النافر من شفرة الرأفة ينفر من كل محبة تغري به الهوة، لا يترك حالاً على الشفا بل يدفع المسلك باليدين معكراً كل مورد لا ليطهر بل ليحس عبوره، النافر يدعس كل ما يغلّق الممشى، نابذاً الفكرة التي تأخذ بالزمام فالعالم يكتظ بأوكارٍ من الفكر الخبيثة، والنافر لا يُلمح إلا في شكيمة وحش عاجز عن الرضا.
***
علي بافقيه
- من مواليد حضرموت، عام 1955.
- درس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدارس الفلاح بمكة المكرمة.
- بكلوريوس هندسة مدنية من بوسطن الولايات المتحدة، 1985.
- يعمل في المؤسسة العامة للكهرباء.
صدر له:
- جلال الأشجار، شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 1993.
- رقيات، شعر، عن النادي الأدبي بالرياض بالتعاون مع المركز الثقافي العربي بيروت، 2007.
aaabafagih@yahoo.com
الغصن الأسود
1
أرى حشْداً
أرى حشداً من النَّحْلِ
أرى حشداً من الطّلْحِ على الحلمِ
أرى حافلةَ الصّبحِ
أرى أرصفةً بيضَاءَ مثل الكُحْلِ
حَشداً من نساء النَّخْلِ.
لو تَضْحَكُ في مائي
إذْن لاخْتَزَنَتْ برقي الذي يَشْطَحُ.
2
مقطوعٌ من جسدها
مثل غصنٍ من جِذْعِهِ
ونَظلُّ
نَقطر.
3
تَسيرينَ في جسدي كالمياه السحيقةِ
تبنينَ متَّكأً في الهواجسِ
أو تنصبينَ بقارعةِ القلبِ خيمَتَكِ الشَّجريةَ.
من أين جئتِ إلى البال ؟
كيف أقامتْ طيورُك هذي العِشاشََ
بأشْجاريَ النائيةْ ؟.
وتَهتِفُ لليلة الآتيةْ
وريْحانُها راحتي.
4
منهمرٌ
إنّه الماءُ غَطَّى الأصابعَ
هَيَّا أسرعي روِّضي الماءَ
حطِّي يديكِ عليهِ
ومنهمرٌ
دوَّخَ الوجْهَ والذاكرةْ.
حُطِّي يديكِ على البالْ
ضعي برعُماً في الممرِّ الْمُحاذي لعينين صافيتين
ومدّي يديكِ إلى أَوَّلاتِ الينابيعِ.
شيئاً
فشيئاً
كماءِ أنامِلِهَا
واْنْهري هذه الغيمةَ الهادرةْ
أنتِ وقتُ القصيدةْ.
5
أَرى في الْمَسيلِ الْحصَى يَتَضاحَكُ
أبيضَ
أبيضَ
والنِّسوةُ القَرَويّات يمزحْنَ والماءَ
والماءُ يكتظّ حيناً
وينعَسُ فوق القماشْ
وحين ينام الرَّشَاشْ
يَقُضُّ الهوى مضْجَعَهْ
ويرقى مَعَهْ
إلى موجةٍ تتلوَّى
وتشهق حتّى التلاشْ
فيُزْجِي الحصى أدمعَهْ.
6
هل تعرفين (الْمَلَزّ) نَهارَ المطرْ
نَهارَ أسير وبِي رغبةٌ لعناقِ الشّجرْ
لقد جرفتني
ولم يبقَ مني سوى حجرٍ
سالَ.
7
كم اْمرأةٍ خاصرتْ راحتي منذ مليون عام
كمِ اْمرأةٍ مشّطتْ أضلعي في المرايا
كم اْمرأةٍ في بلاطِ الحدائقِ
فَزَّتْ على نَفَسي
كم امرأة عبَرتْ بِي الرَّصيفَ
وغابتْ
فَفَتَّشْتُ عن أضلعي
في عَراءِ الشوارعْ.
8
عَرِقتْ نخلةٌ
فاستَدارتْ نَداةٌ على عُرْفِهَا
اْنْتَفَضَ السَّعْفُ
ها إنّها تتنفّسُ
تَكبو على الماءْ.
9
طيورٌ كَثيرةٌ
متشابكةٌ ومبعثرةٌ كمسبحةٍ اْنفرطَتْ تواً.
ضجيجٌ خافتٌ
ضجيجٌ أخضرٌ ومخنوقٌ
كسحابٍ مزنزن.
الحماماتُ سودٌ
بياضُهُنَّ يخسِفُ البلاطَ
ذلك الأبيَضَ المدْعوكَ بحنكة
لَهنَّ جلال الأشجار المغدورةِ
المرهونةِ بعيداً في الكونكريتْ.
10
أَيُّ صباحٍ يكونُ صباحاً
إذا لم تَمرِّي على العمر مزحومةً بالحياة ؟
وأيّ مساءٍ يكون مساءً
إذا لم تمرِّي على العمر مزحومةً بالعنب ؟
وأيُّ هواءٍ يكون هواءً ؟
وأيُّ حياةٍ
تكون الحياةْ ؟.
11
تعالَيْ
معاً نغسل الماء
نزجي هواءً رهيفاً على الجمرِ
نلمس بالعشْب أفئدةَ الناس
ثم نَفيءُ إلى نَخلةٍ خالطتْ دمنا.
غَيم
1
رُبّما عَلِقَ القَلْبُ قُبَّرةً
قبل أن يغرقَ القلبُ
أو رُبَّما كادَ يطفو
ويغرقُ في غَيْهَبِ الغَيمِ
أو رُبّما اْنفرطَ القَلبُ
مثل صِغارِ الشيّاهْ.
2
سوفَ آوِي إلى جبلٍ
رُبَّما أَستعيدُ الحصاةْ.
3
سَألتَمُّ مثلَ حصاةٍ
وأدحو دِمايَ إلى مَنْبَتِ الماءِ
شيئاً
فشيئاً
إلى القاعِ
حيث البقاعُ التي لم تزلْ
تتَخَامَرُ فيَّ
سوف آوي إلى طينةٍ في البطاحْ
سوف آوي إليَّ.
4
على الطّلْعةِ الجبليّةِ بينَ النّقَا والحُجُونْ
لا يزال الصغارُ
يضجّونَ في المَدْرَجِ الجبليِّ
يَدُسّون أوجُهَهُمْ في الزوايا
خفايا
خفايا.
وفي القريةِ الجبليّةِ
ـ في ظاهر الأرض ـ
لمّا يزالوا
يُحَنُّونَ أحْجَارَهمْ
يَقْطِفونَ الإناءَ الصغيرَ النّحاسيَّ
يبنونَ بيتاً من الطين
ثم يَقُضُّونَهُ.
***
عيد الخميسي
- من مواليد جدة، عام 1970.
- عمل محرراً ثقافياً ثم مشرفاً على صفحات الفنون بجريدة: البلاد، بين 1993ـ 2000.
- شارك في تأسيس، وأشرف على تحرير أول موقع الكتروني يهتم بالأدب السعودي: الزومال، بين أعوام 1997ـ2001.
صدر له:
- كنا، شعر، عن دار الجديد بيروت، 1998.
- البوادي، شعر، عن مؤسسة الإنتشار العربي بيروت، 2007.
eidalkhamesi@hotmail.com
eidkhamesi.maktoobblog.com
عرض غير خاص
الْكِيْلُوتْ الْبَنَفْسَجِيُ كانَ مُثْبَتاً بِتَباهٍ عَلَى خَلْفِيَّةٍ بَيْضاءَ
فِيْما الضَّوْءُ يُثِيْرُ وَقارَ الزُجاجِ بِسِرِّيَّةٍ
وَمِنْضَدَةٌ صَغِيْرَةٌ تَحْمِلُ فِي سُوْقِ (مَكَّةَ) الدُّوَلِيَّ بَقِّيَّةَ الْعَرْضِ بِخُشُوْعٍ
وَتُناوِشُ أَرْبَعَ عُيُوْنٍ تَسَمَّرْنَ لِخَمْسَ عَشْرَةَ دَقِيْقَةً فِي رَأْسَيْنِ
يُتابِعانِ الْحَدِيْثَ عَنْ قِطْعَةٍ فَنِّيَةٍ احْتَرَقَتْ عَلَيْهُما
وَمَعَ أَنَّ الذَهابَ وَالْمَجِيءَ إِلَى نُقْطَةٍ واحِدَةٍ
كانَ يَتِمُّ بِتَلْوِيْناتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَبِانْقِباضاتٍ مُفاجِئَةٍ
فِإِنَّ أَقْدامَ السَيِّداتِ اللَواتِي احْتَسَيْنَ شَرابَهُنَّ الأَسْوَدَ كَثِيْراً
عَرَفَتْ أَقْصَرَ الطُرُقِ وَأَدَقَّها
تِلْكَ الْمُؤَدْيَةِ إِلَى الْمَدْخَلِ
دُوْنَ نِقاشاتٍ حَوْلَ الْمِساحَاتِ الْمُتَبَقِيَةِ
لاثْنَيْنِ لا يُرِيْدانِ أَنْ يَبْدَأَ عَرْضُهُما مُبَكِراً أَوْ مُحْتَرِقاً.
إن أردت
أَعْرِفُ ذَلِكَ الْمَكانَ جَيِّداً
وَسَآخُذُكَ إِلَيْهِ إِنْ أَرَدْتَ.
لَوْ تَسْأَلُنِي سَأَدُلُّكَ عَلَيْهِ كَفُنْدُق
إِنْ دَلَلْتُكَ لا بُدَّ وَأَنْ تَدْخُلَهُ
إِنْ دَخَلْتَهُ لَنْ يُسْمَحَ لَكَ بِالْخُرُوجِ.
سَتَبِيْعُ الأَقْمِشَةَ هُناكَ إِنْ أَرَدْتَ
وَقَدْ تَسْنَحُ لَكَ الْفُرْصَةُ فِي جَناحٍ مَلَكِيّ لِيَوْمٍ واحِد
أَمّا بَقِيَّةُ الأَيَّامِ فَسَيَتَقاسَمُ الْمَكانَ مَعَكَ:
أُمَّهاتٌ
وَأَطْفالٌ
وَآباءٌ
وَإِخْوَةٌ.
حِيْنَ تَسْتَدِيْنُ مَبْلَغاً تَافِهاً لأَوَّلِ مَرَّةٍ
قَدْ لا تَكُوْنُ تِجارَتُكَ بَارَتْ تَماماً
لِهَذا سَتَسْتَمِرُّ فِي الاسْتِدانَةِ وَنَقْرِ الضِياءِ الْقَلِيْلِ الْمُتَسَلِّلِ مِنْ عَيْنَيْكَ
الصَّلاةِ
وَالْكَذِبِ
وَالشَكْوَى مِنْ رُطُوْبَةِ الْهَواءِ وَدَناءَةِ الأَشْجارِ.
سَتُصادِقُ آخَرِيْنَ يَتَأَفَفُوْنَ فِي أَوْراقَ يُخَبْئِوْنَها عَنْ الأَعْيُنِ
وَسَتَتَبادَلُ وَإِيَّاهُم مُناوَراتٍ لا يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَهِي.
الذِيْنَ يَنْصِبُوْنَ الشِراكَ لِلطُيُوْرِ الدّاجِنَةِ سَيَسْتَمْتِعُوْنَ بِانْشِدَاهِكَ وَأَنْتَ تُراقِبُهُم
فِيْما سَتَمْلِكُ قَدَماكَ مَهارَاتٍ جَدِيْدَةٍ فِي الإِغْماضِ
وَسَبْرِ السُطُوْحِ الرَخْوَةِ لِلْغايَة.
كتاب هجاء
كلمة في الأمام دون نافذة جانبية لأن باباً سيفضي هناك إلى زقاق بعرض حرفين أحدهما ينتهي بثلاث كلمات مربعة.
الأبواب الزرقاء لهذه الكلمات لا عتبات لها
سترفع قدمك فقط لتلج جدرانها البيضاء.
ستجد تقاويم معلقة للزينة
شعراً مدسوساً
وخيطاً أبيض يضئ مقابل نافذة خشبية.
ستركع لتجد خلفها:
جملتين اسميتين، وفعلا ناقصا يقود دراجته ويرتدي ملابس داكنة
الجملة الأولى من طابقين بسلم خارجي
والجملة التالية من عشر كلمات
ورغم ذلك فقد أصابها الصمم
لا تنتهي الكلمة عند هذا الحد فلو قسمتها إلى نصفين متشابهين ثم أعدتها مرة أخرى لكانت كلمة مختلفة بثلاثة حروف وصالة
كي تطالعها من الجهة المقابلة يلزمك أن تقف في وسط كلمة جديدة أكثر انخفاضاً فيها حوش صغير
وغرفة بسقف عالٍ
أما الجزء الداخلي فهو محكم الإغلاق
لم نر منه سوى باب رمادي
رائحة بخور (جاوي)
وأحذية كثيرة.
مناظر مبالغ فيها
عرفوا أنك تمر على نظرتك الثقيلة بمنشفة مبللة
ليجف الصمغ
ولا تلتصق بالمناظر الجميلة للعتبات
والجسور
والكلمات
أنك سكبت عليها الماء الساخن
وحككتها بأظافرك
أن شفاهك السوداء مجّت دخاناً كثيراً وهي تُطبق
وأنها لا تطبق على مناظر جميلة
عرفوا ذلك
وسيعرفون الأمر مهما بالغت في انتظارك.
كلمات غير مفهومة
ليس غريباً أن الفرح يتم وضعه داخل أكياس بلاستيكية صغيرة
في الجيوب الداخلية
وأماكن لا تُكتشف بسهولة
كما أن ليس غريباً ما يحدث للحرج
حين تتم معاملته بطريقة أنكى
غير المفهوم هو أنه حتى لو سال هلامه بين كل خطوة وأخرى
فإنه يظل يتأتئ بكلمات تبدو غير مفهومه.
كي تكون في مجال النظر
النَّخْلَةُ مِنْ أَجْلِكِ تَتَنَفَّسُ هَواءَ الأَعالِيَ
كَيْ تَكُوْنَ فِيْ مَجالِ النَّظَرْ
الطُيُوْرُ تُحَلِّقُ كَيْ تَسْنَحَ لالْتِفَاتَتكِ
الشُّرُفاتُ ابْتَكَرَتْها اللَهْفَةُ
الشَّبابِيْكُ اسْمٌ مِنْ أَسْماءِ الشَّوْقِ
السَّماءُ تَكُوْنُ صافِيَةً لأنَ الأَزْرَقَ يُرِيْدُ أَنْ يَلْتَحِفَكِ
الشَّمْسُ لا تُفارِقُ سَماءَنا لأَنَها تَعْبِيْرٌ أَكِيْدٌ عَنِ الدَّهْشَةِ
النُّسُوْرُ تَقْلِيْدٌ لانْحِناءَةِ حاجِبَيْكِ
الصَّحْراءُ الْكَثِيْفَةُ كَلِماتٌ لَمْ تَكْتَمِلْ
وَهِيَ تُحاوِلُ وَصْفَكِ
الطُرُقاتُ ليَحُفَّكِ حِيْنَ تَسِيْريْنَ النّاسُ
والْمُدُنُ فَكَّرَ بِها قائِدٌ قَدِيْمٌ كانَ يَتَساءَلُ:
هَلْ يَنْبُتُ الْبَشَرُ ؟.
الْمَطَرُ نَزَلَ بِكِ إلَى الأَرْضِ
هَبَطْتِ قَطْرَةً
وَمَشَيْتِ بَيْنَنَا.
***
غسان الخنيزي
- من مواليد القطيف، عام 1960.
- قصدَ النمسا وبعدها الولايات المتحدة الأمريكية استكمالا لتحصيله العلمي.
- مهندس في شركة أرامكو السعودية.
صدر له:
- أوهام صغيرة، شعر، عن دار الجديد بيروت، 1995.
ghassan_khunaizi@yahoo.com
اختبار الحاسة
الجمالُ
يُـودَعُ في القصيِّ من الأماكنِ
التي زارتـنا
ورفـقتْ بنا في النـشوةِ
وفي الترنيمةِ
وفي الخَدَرِ المـُبَـرِّحِ على الجسد
اليدُ التي أعرفُ
الخاصرةُ التي أكونُها
والنـشيـجُ
حينَ تـتـرنحُ المصائِرُ
بينَ النومِ الخفيفِ ـ الحرمانِ منَ اليقظةِ
وبينَ الشُـرودِ
في اليقظة.
الجوارُ غريبٌ
كما لو أن الجسدَ يطيرُ قليلاً
كأن حيرتَهُ
تلمُّ بالجوارِ كلِّه
والعلوُّ القليلُ عن الأرضِ كثيرٌ عليه
والصوتُ
أكبرُ من الغفلةِ التي كان فيها يومُهُ طويلاً طويلا.
الأوصاف
لم يُهمس بها
ولا كان النواح بديلاً عن التغزل في الجسد
يومَ كان الوجعُ طرياً وصادماً
الوقت واقفاً
والحاسةُ تُـختـبر
والأبدان
ماءٌ عطوفٌ يسري بـيـنها
لحظةَ كانت اللذةُ بلسماً ضد الألم.
الجسدُ
عندما يحزن
ويشيخُ من فَرْطِ ما حَزِنْ
والحنايا تزرقُّ
يتعالى أنينُها
وفي العالي من التَـأَوُّهِ
تـتذكرُ صِـبَاها
ومرحَهَا.
اليدُ
التي بحثت عـمَّا تُـقَـلِّبُـهُ
حينَ تداخلتِ الحَـنَايا في بعضِها
أو
حينَ أمتدَّتِ اليدُ إلى كتاب
اليدُ التي تحزنُ
تراهُ يمشي على الأنامل
موتٌ
حيث الجسدُ
لا يُحِـبُّ
ولا يُحـَب.
أية رمية حجر
أيُّ
نهارٍ إستدرجنا من المخابئِ حيثُ سادَ اللـهوُ أحادَ ومَـثـنى وثُـلاث، وأيَّةُ رميةِ حجرٍ أخذتـنا أو أخذتِ الصبيَّ فيـنا، وراءَها، عبرَ الوادي، حين كانتِ الصيحةُ تطولُ كالنهار.
أيُّ
أشباحٍ كنا في المخابئ، فأحبـبنا الجسدَ، وقلّبناهُ في الظلِّ حيثُ تخْـفُتُ الألوانُ، ويستـفحلُ الصوتُ؛ وأيُّ شاهدٍ أصاخَ السمعَ إلى دويِّ النحلِ حينَ استسلمتِ الملكاتُ وأنقطرَ العسلُ قطراً.
أيةُ
مائدةٍ للعسلِ مددنا نزولاً من قمةِ جبلٍ، حيثُ أقمنا الحبَّ حتى صفحةِ الماءِ، حيثُ لامستِ الشراشفُ طيورَ الماءِ في غفلةٍ منا، وأيُّ طيورٍ للماءِ كنَّاهمْ، وصفحةُ الماءِ تستـضيفُ عُـريَّـنا وجوعَـنا.
أيُّ
إفطارٍ كان، والعسلُ ينهرقُ بينَ الأصابعِ، والشمسُ تطلعُ على الوادي كسمكةٍ برتقالية وأيُّ سنواتٍ مررن، ونحنُ في الغفوةِ التي نمناها في ظلِّ نخلةٍ، تخـفـقُ في الريحِ كعلم.
أي
حبيباتٍ أتين إلى المأدبةِ، يصحبهنَّ الصوتُ الذي هو وهمُـنا ـ بل قل: غوايتـُنا التي أحببنا لأنَّ الروحَ عطشى، وأيُّ غيماتٍ ماشيْـنَهُنَّ، وتوقفنَ حينَ استرحنَ ضيافةَ السيلٍ، وأيُّ ريحٍ أتت في الصحبةِ، وراوغت قليلاً لتـنـفذَ كالإبرةِ في الجسدِ، كي تـترددَ الصيحةُ في الوادي ويطولُ الصوتُ.. بطولِ النهار.
شقيقة الروح
ما كان لذلك الباب أن يُـفـتحَ كاملاً ولا أن يُـغلق. كان له أن يظلَّ بين ـ بين، لأن حيواتِـنا ما كان لها أن تختلطَ أو أن تـتداخل. كان لها أن تـتجاورَ بفعلٍ لسنا نعرفُ، تمامَ المعرفةِ سحرَهُ أو لعنـتـَهْ. تلك الحيواتُ التي مرّت كشريطٍ من الوجوهِ للناسِ الذين أحبـبـنا وألِفْـنا في هذه المعيشةِ التي تحدث. التي تجاورُنا كما يجاورُنا الألمُ دائماً. هكذا.. نحتاجُ إلى التعطُّفِ.. إلى الحنين الذي يستغرقُ أيامَنا وليالينا.. والتوقِ إلى ما لا يُستعاد.
وجوهُهم كانت خاطفةً وتُـلمح لمحاً، أولئك الناس الذين شاركوني لحظتها دفءَ الصدرِ وعبقَ القرب، أولئك الناس الذين نغّصوا عليّ الإندغامَ في ما أرى وأحيا لحظتها.
النارُ التي صعدت في دماغي.. أهي نارُ الرغبةِ أم نارٌ أخرى.. نارُ المعرفة ؟.
أكنتُ لحظـتئذٍ بحاجةٍ لكي أعرفني؟، لأعرفَ إلى أي مدى كانت تلافيفُ النفسِ تختزنُ القلق. لست لأسمع الآن صوتاً أو أرى إلا ذلك المشهدَ وتلك الصفحةَ البيضاءَ الصافية القبولُ.. المجاورةُ.. كنتُ أشعرُ أني ملكُ اللحظة.
ندمي ليس كثيراً ولا قليلاً، ندمي يناسبني.. ندمٌ أليفٌ يجاورني، ويشاركني عبءَ المعيشةِ ولحظاتِ إندغامي في درامتها البهيةِ والبائسةِ سواءً بسواء. ندمٌ أخذني إلى مناطقَ وتخومٍ ما كان لي بدونه لأصلَ إليها، وإذا ما كان في ما أصلُ إليه ألمٌ وضعفٌ وفقدان ففيه أيضاً نورُ الكشفِ، وبهاؤه.
تراني لحظةً متفرجاً حيادياً، ولحظةً أخرى متـقبلاً للنعمِ واللعنِ التي تهبني إياها المعيشة. وتراني لحظةً ثالثةً إلهاً من آلهةِ الإغريق بمطري وزوابعي، بحبي وقلقي، برغباتي الفوارة، وبتقواي المتصوفة.
ندمٌ.. ولماذا ؟
ندمٌ لأني أراني الآن قد كنتُ عبدا،ً وكنت إلهاً في الوقت ذاته، كنت متفرجاً ومتـقبلاً وفاعلاً. ولكن ألم أكن ـ هكذا دائماً ـ مستغرقاً في المشهد ؟.
أراني، ونارٌ تصهلُ من عنقي إلى أصداغي لتُصْلي رأسي المليئةَ بالهواجسِ والأحلامِ البابُ الذي لم يُفتح كاملاً ولم يُغلق أبداً بإزائي. وقريبةٌ بعيدة، تلك التي لا تُسمَّى ولا تُوصف، شقيقةُ روحي دون أن أدري (أدري)، التي يجمعني وإياها حبلٌ سري كان يوماً ما ضوءَ حياتـِنا الذي إعتدناه، وظلَّ حتى بعد غيابِهِ، حاضراً فينا، مكانَ فرحتِـنا وأوهامِنا، وموضعَ غرورِنا وتواضعِنا. التي كانت قابَ قوسين أو أدنى وكانت بعيدةً في الوقتِ ذاته.
أراني مرةً أخرى، وأنا أقترب من شقيقةِ روحي التي تطارحني أنخابَ الألم،ِ وأنشودتَهُ الدائمة، ألمُـنا القليلُ الذي يأتي لكي يضعنا على حافةِ الأشياءِ، حافةِ الهاويةِ، وحافةِ النعيمِ، ألمُنا الذي به نحيا، وبه نرى أنفسنا تتقاربُ وتتباعد، وبه تصبحُ الحياةُ ذاتَ معنى شقيقةُ روحي التي إبتعدنا كي نقتربَ، وأقتربنا كي نبتعدَ يصاحِبُنا التأملَ في ما آلت اليه مصائرُنا.
شقيقةُ روحي التي صرنا دون أن ندري (ندري)، حكايةً، وأمنيةً، وحلماً لا ينـتـهي، يقالُ ويُذكر، لكي تكونَ حياةُ من يقولُهُ أكثرَ ثراءً بالحلم ليس إلاّ.
أراني أستمع، وضوءٌ قليلٌ يضيئُ نصفَ الوجنةِ المدورةِ، الشفيفةِ، التي بقدرِ ما يعتليها من أسى، تحيطُ بها هالةٌ من الحياةِ الخاصة، هالةٌ لا تسمى، ولا توصف، ليس لأنها الأكثرُ جمالاً، بل لأنها الأحلى روحاً. أستمعُ، ويعتصرني توقٌ إلى ما لا يُستعاد، يعتصرني أسىً ويعتريني حبورٌ بالحضرةِ ذاتها، بالحضورِ، بالإحتـفاءِ الذي يحدثُ ويتابعُ شقيقة الروح هذه.
أراني متـنعماً بالحضرةِ، مأخوذاً بها، مستـغرقاً في التوق إلى ما لا يستعاد أبداً. جالباً وإياي إلى هذه الغرفةِ ذاتِ البابِ الذي لم يُفتح كاملاً ولم يُغلق تماماً، جالباً حطامَ أحلامٍ كثيرة، نثارَ رغباتٍ دفينة، جالباً نفسي المتوحدة في كبرياءِ المظهر، الملعونة بالأوهام الشاردة في أحلامِ يـقظتِها، التي تختلطُ عليها الأماكنُ والأزمنةُ.. جالباً روحي المكسورةَ وقد إختلطت عليّ الأشياءُ من جديدٍ، لا أميزُ بين ذلك الهديلِ الذي يأتي حانياً وخالصاً من فوق قممِ صوتِك المتعبِ.. وبين نشيجِ الروحِ المضطربة في إسارِ دواخلي، الفقيرةِ إلى الحنان. لا أميز بين حاجتي لماءِ الحياةِ ورحيقِها الماثلِ أمامي، وبين نداءٍ أكثَر عمقاً أصيخُ السمعَ إليه، الآن فإذا هو قد صارَ ضاجاً وصاخبا.
أراني وقد هممت بكِ معتصراً إياك، منصهراً في أخلاطٍ من العاطفة والرغبة.
أيةُ عاطفةٍ، وأيةُ رغبة ؟
كيف لي، يا شقيقةَ روحي القديمة، يا التي وعيتُ إلى إسمي فإذا هو جوار إسمكِ قريبٌ بعيد، ووعيت إلى الوجوهِ الأليفةِ حولي فإذا وجهُك حاضرٌ بين الوجوهِ التي أعطتـني معاني الأشياء وتحنانِها على أنه وهو الأكثرُ إلتماعاً بماءِ الحياةِ.. هو الأكثرُ حضوراً وغياباً في الوقت ذاته، هو الأكثرُ مجيئاً ورواحًا، الأكثر انخطافاً وتحوّلاً وإنغماساً في فصولٍ هي الأقرب لملحمةِ الآلهة.
عندما لثمتكِ، وإعتصرتُ أضلعَكِ كنتُ أغرقُ في نعمةٍ أكبرُ من طاقتي على الحياةِ، وأكثرُ بهاءً من قدرتي القليلةِ على الحياةِ ذاتها، على الموت ذاته.
كنتُ مأخوذاً بنداءٍ قديمٍ قدمَ الحبلِ السريِّ الذي ربطنا لمائةِ سنةٍ مضت.. الحبلُ السريّ الذي يضعنا على حافةِ الأشياءِ بين ما يُـقال وما يُـسكت عنه.. بين ما يُـحكى في آواخر الليل وما يُـكبت طي السرائر والأكفان، وكأنه مقدرٌ له أن يظلَّ حبـيسَ قلاعٍ من الحُرماتِ التي هي في ذاتِ الوقتِ بيوتُ أُلفتـِنا الماثلةِ، التي تمنحنا جمالَها دونَ انـتـهاء.
كان حذري أن بيوتاً من الأُلفةِ قد تُـنتـهك، وجمالاً ألفناه، وعايشناه، وأبصرناه بضوءِ أعينـنا سوفَ يُـنتهك. هارباً كنت لحظتها من كلِّ شيء، فقيراً متلهفاً إلى تحنانٍ ما كان له أن يكتملَ منذ أفترقت مصائرنا، فقيراً إلى ماءِ الحياةِ الذي غرفتُ منه في لحظةِ العطشِ تلك جزعاً إنْ كان سينسربُ إلى الأبد، من بين أصابعي.
ألا تقول شيئاً ؟
ما الذي كنت أقدر أن أقول في تلك اللحظة.. أنا الهاربُ؛ يخفي مظهري الرزينُ طيشاناً وإلتياعاً هو زادي يرافقني حيث رحلت أو حللت.
كنت مندفعاً ومقبلاً، هارباً ومراوغاً، في تلك البرهة الخاطفة السريعة المليئة، أسترجعها الآن لا لكي أسترجعَ تفاصيلي، بل لكي أسترجعَ تفاصيلَكِ أنتِ أيضاً.
كنتِ تحناناً لا يُـنسى، ندمي الذي يعضُّ دواخلي هو إنني لم أتملاه لحظتئذٍ. وإذا ما أنسربَ شئٌ من بين أصابعي فهو ذلك التحنانُ، تلك السحنةُ التي إعتلتكِ؛ حسرتي إنني لم أدقق فيها كيما أرى صفاءً لن أكونَ بعده كما كنتُ من ذي قبلٍ، أبداً.
ماذا أقول ؟
الآن فقط أدركُ أنني هربتُ مما يُقال، ومما يمكن أن يُحكى بعفويةٍ ودون كثيرٍ من التقصُّدِ ذلك أنه معروفٌ كما هي معروفةٌ مصائرُنا التي افترقت. هربتُ مما يمكن أن يُقالَ ملءَ كلمةٍ واحدةٍ هي الأصعبُ، مخافةً أن في القولِ مماتَها، كان حذري أن أتـفوَّهَها فيكونُ فيها ألمي وألمُك الذي لن ينـتـهي، أن يكونَ فيها شرخُ روحينا، شرخٌ يتعدانا، ويهزُّ عرشَ الأُلفةِ التي نـنعمُ بها كلنا، نحن من ربطَهم ذلك الحبلُ السريُّ الذي هو ضوءُ حياتِنا ومجدُنا، وما يمنحُ أنفسنا القلقةَ لحظاتِ سكونِها و.. طمأنينتها.
***
فوزية أبو خالد
- من مواليد الرياض، عام 1956.
- تلقت تعليمها في المملكة ولبنان ثم الولايات المتحدة.
- دكتوراه في علم الإجتماع من بريطانيا.
- تعمل أستاذة في جامعة الملك سعود.
صدر لها:
- إلى متى يختطفونك ليلة العرس، شعر، عن دارالعودة بيروت، 1973.
- قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي، شعر، عن دارالعودة بيروت، 1985.
- ماء السراب، شعر، عن دارالجديد بيروت، 1995.
- مرثية الماء، شعر، عن دار المفردات الرياض.
- شجن الجماد، شعر، عن دار الخيال بيروت، 2006.
fowziyah@maktoob.com
ننعم بالرعب
كان هناك ضلع مشترك
بين سور مدرستنا الإبتدائية الخامسة
وبين مقبرة حي الرويس
شمال البحر بجدة
كنا أوقات الفسحة نزيح السور
بفزعٍ ونزقٍ
بخوفٍ وخفةٍ كأننا نرفع
ستارة مسرح عن أسرار المأساة في الكون
نكتم ضحكات طفلة في أكمام المراييل
ونحن نرى في سعادة نتستّر عليه
الهلع في عيون الملعمات
نهرع بين العالم السفلي
والعالم العلوي
ننتزع حكايات تُجزع الأحياء
وتُزعج الموتى
قبل صفارة المدرسة نكون أطلقنا العصافير
وحشونا حقائب المدرسة أشباحاً
وخفافيش نحملها معنا إلى الحي
لنعمم اللعبة بعد صلاة العصر
وننعم بالرُّعب.
استقامة
مزينة بالهزائم
وذكرى الخزامى
من كاحلي حتى هامتي مثل بلاد
سارت في هوى الأرباب.
حجامة
رؤوس لم تينع بعد
وتقطف تحسّباً.
سندريلا
أسمع وسوسة القبقاب في نقاء الهواء
فردة بقدمك الصغيرة
والأخرى خبأتها بقلبي
جنود الأمير السعيد يبحثون
عنحذاء نصفه ذهب
ونصفه
أين ذهب ؟.
قزح الظهيرة
أفتح كتاب الشعر
أو صمامات القلب
أية قصيدة تتسع لتلويحة يدكِ الصغيرة
على باب المدرسة ؟.
أي إيقاع يحتمل حركة قدميك في رئتي
ورنين مريولكِ في الهواء
وأنت تمرقين بين الشارع و.. قلبي ؟.
تشعل شمس الظهيرة شعركِ
يشعل شعركِ الكستنائي شمسَ الظهيرة
بألوان قزح
ترمين حقيبة المدرسة الثقيلة عن كتفك الصغير
كغصن يتحرر من حمولة التفاح
فأسمع رفيف الزغب على الأجنحة
تخلعين حذاءك المدرسي فيدفق
نهر من الحبر المقدس على لوح أقداري
تقتربين
تقفزين
تقبلينني قبلة تسكب في عروقي قلق الشعر
ومعجزات المشهد الهارب كمهر حر.
ضحكة
ضحكت الطفلة
من كل قلبها
لأن الأرانب أضاعت
هيبة الضبع.
ضحكت
لأن فتاة الجمباز الصغيرة
تتقلب في الهواء كحمام زاجل.
ضحكت
لأنها أمطرت بشدة.
ضحكت الطفلة
الطفلة ضحكت من كل قلبها
بدون سبب
حتى سالت الركبان
وطقت بغيظها فزاعة ذات عين زجاجية
كانت ترقب المشهد المدهش بعجز.
الحقيبة
تحشوني بما لذّ
وطاب
من أدوات الزينة
وتنسى أن تحملني
معها إلى حيث أشاركها دهشة الأماكن
وحين تعود أدراجها
لتستردّني
أرفّ من فرحي على كتفها
كحمامٍ يغادر الأبراج.
طبشورة
عزائي الوحيد
في حياة أقصر
من لمح البصر
أنني أحلم
بالخلود مثل باقي البشر
وقد تخونني الخطايا.
مسود
ليس سواي
يبصر الهالات السوداء التي يرسمها
السهر تحت عيونهم بحثا عن بريق
لم تفقؤه نظرةٌ سابقة.
ليس سواي
يسمع الشهقات المروعة
إذا مرّتْ أفراس اللغة
من الشباك
ولم تغسل حوافرَها في دم العاشق.
ليس سواي
يلمّ مزق القلب
بصمات الأصابع
مسحوق الروح
نخاع العظم
إندلاعات النيران
جمرَ الجسدِ ورمادَه.
ليس سواي
يحسّ جراح الأكف
تقرّحات الأحلام
تشقّق الخاصرة
بحثاً عن حرفٍ لم يتنفس فيه
إنسٌ ولا جان.
ليس سواي
يعلم كم ميتة
يموتها شهداء الوهم
قبل أن يطلع عليهم الصبح
وهم في تيههم
يهيمون.
كتاب
على رفٍّ مشترك
تركوني
وراحوا يفترفون
غير لو أن أيّاً منهم
يقرأ ما بعد الصفحة الأخيرة
في الكتاب
لعادوا طالبين الصّفح
أو مقترفين خطايا أشدّ فداحة
إلا أنهم لن يكونوا
كما كانوا.
***
محمد الثبيتي
- من مواليد الطائف، عام 1952.
- بكالوريوس علم الإجتماع.
- يعمل في وزارة التربية والتعليم.
صدر له:
- عاشقة الزمن الوردي، شعر، عن الدار السعودية للنشر والتوزيع جدة، 1982.
- تهجيت حلما.. تهجيت وهما، شعر، عن الدار السعودية للنشر والتوزيع جدة، 1984.
- التضاريس، شعر، عن النادي الأدبي بجدة، 1986.
- موقف الرمال، شعر، عن دار شرقيات للنشر والتوزيع القاهرة، 2005.
تغريبة القوافل
والمطر
أدرْ مهج الصبحِ
صبَّ لنا وطنًا في الكؤوسْ
يدير الرؤوسْ
وزدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابه.
أدر مهجة الصبح
وأسفح على قلل القوم قهوتك المرّةَ
المستطابه.
أدر مهجة الصبح ممزوجة باللظى
وقلّبْ مواجعنا فوق جمر الغضا
ثم هات الربابة.
هات الربابه:
الأديمة زرقاء تكتظ بالدما
فتجلو سواد الماء عن ساحل الظما
ألا قمرًا يحمرُّ في غرة الدجى
ويهمي على الصحراء غيثًا وأنجما
فنكسوه من أحزاننا البيض حُلةً
ونتلو على أبوابه سورة الحِمى
ألا أيها المخبوء بين خيامنا
أدمت مطال الرمل حتى تورّما
أدمت مطال الرمل فأصنع له يدًا
ومدَّ له في حانة الوقت موسما.
أدر مهجة الصبحِ
حتى يئن عمود الضحى
وجددْ دم الزعفران إذا ما أمّحى.
أدر مهجة الصبح حتى ترى مفرق الضوء
بين الصدور وبين اللحى.
أيا كاهن الحي
أسرَتْ بنا العيس وأنطفأت لغة المدلجينَ
بوادي الغضا
كم جلدنا متون الربى
وأجتمعنا على الماءِ.
يا كاهن الحيِّ
هلاّ مخرت لنا الليل في طور سيناء
هلا ضربت لنا موعدا في الجزيره.
أيا كاهن الحيِّ
هل في كتابك من نبأِ القوم إذ عطلوا
البيد وأتبعوا نجمة الصبحِ
مرّوا خفافا على الرمل
ينتعلون الوجى
أسفروا عن وجوه من الآل
وأكتحلوا بالدجى
نظروا نظرةً
فأمتطى علسُ التيه ظعنهمُ
والرياح مواتيةٌ للسفرْ
والمدى غربةٌ ومطرْ.
أيا كاهن الحي
إنا سلكنا الغمام، وسالت بنا الأرض
وإنا طرقْنا النوى ووقفنا بسابع أبوابها
خاشعينَ
فرتلْ علينا هزيعًا من الليل والوطن المنتظر
شُدّنا في ساعديك
وأحفظ العمر لديك
هَبْ لنا نور الضحى
وأعرنا مقلتيكْ
وأطو أحلام الثرى
تحت أقدام السُّليكْ
نارك الملقاة في صحونا
حنّت إليك
ودمانا مذ جرت
كوثرًا من كاحليك
لم تهن يومًا وما
قبّلت إلاّ يديك
سلام عليكَ
سلام عليكْ.
أيا مورقًا بالصبايا
ويا مترعًا بلهيب المواويل
أشعلت أغنية العيس فاتسع الحلم
في رئتيكْ
سلام عليكَ
سلام عليكْ.
مُطرنا بوجهك فليكن الصبح موعدنا
للغناء
ولتكن سورة القلب فواحةً بالدماءْ
سلام عليك
سلام عليكْ.
سلام عليك فهذا دم الراحلين كتاب
من الوجد نتلوه
تلك مواطئهم في الرمالْ
وتلك مدافن أسرارهم حينما ذللت
لهم الأرض فأستبقوا أيهم يرِدُ
الماءْ
ما أبعد الماءَ
ما أبعد الماءْ.
ـ لا
فالذي عتقته رمال الجزيرة
وأستودعته بكارتها يرد الماء.
يا وارد الماء علَّ المطايا
وصب لنا وطنًا في عيون الصبايا
فما زال في الغيب منتجع للشقاء
وفي الريح من تعب الراحلين بقايا
إذا ما اصطبحنا بشمس معتقةٍ
وسكرنا برائحة الأرض وهي تفورُ
بزيت القناديل
يا أرض كفِّي دمًا مشربًا بالثآليل
يا نخلُ أدركْ بنا أول الليل
ها نحن في كبد التيه نقضي النوافلَ
ها نحن نكتب تحت الثرى
مطرًا وقوافل.
يا كاهن الحيِّ
طال النوى
كلما هلَّ نجم ثنينا رقاب المطي
لتقرأ يا كاهن الحي
فرتل علينا هزيعاً من الليل
والوطن المنتظر.
البابلي
مسَّه الضر هذا البعيد القريب المسجّى
بأجنحة الطير
شاخت على ساعديه الطحالب
والنمل يأكل أجفانه
والذبابْ.
مات ثم أنابْ
وعاد إلى منبع الطين معتمرًا رأسهُ
الأزليَّ
تجرع كأس النبوءةِ
أوقد ليلاً من الضوءِ
غادر نعليه مرتحلاً في عيون المدينةِ
طاف بداخلها ألف عامٍ
وأخرج أحشاءها للكلابْ
هوى فوق قارعة الصمتِ
فانسحقت ركبتاهُ
تأوّه حينًا
وعاد إلى أول المنحنى باحثًا عن يديهْ
تنامى بداخله الموتُ
فأخضر ثوب الحياة عليهْ.
مسَّهُ الضُّرُّ هذا البعيد القريب المسجَّى
بأجنحة الطيرِ
شاخت على ساعديه الطحالبُ
والنمل يأكل أجفانه
والذبابْ
مات موت الترابْ.
تدلَّى من الشجر المرِّ
ثم استوى
عند بوابة الريحِ
أجهش:
بوابة الريحِ
بوابة الريح
بوابة الريحِ
فأنبثق الماءُ من تحته غدقًا
كان يسكنه عطش للثرى
كان يسكنه عطش للقُرى
كان بين القبور مُكِبًا على وجههِ
حين رفَّ على رأسه شاهدان من الطيرِ
دار الزمانُ
ودار الزمانْ
فحطَّ على رأسه الطائرانْ.
مسه الضر هذا البعيد القريب المسجّى
بأجنحة الطيرِ
شاخت على ساعديه الطحالبُ
والنمل يأكل اجفانهُ
والذبابْ
مات موت الترابْ
وأرتدى جبلاً
وحذاء من النارِ
كان الصباح بعيدًا
وكان المساء قريبًا
وبيتهما صفحة من كتابْ
تلاها
وأسقط إبهامه فوقها
ثم تسربل زيتونةً
فأضاءْ
حينها
فرّ وجه المساءْ
حينها
عَرَفتهُ النساءْ.
مسه الضر هذا البعيد القريب المسجّى
بأجنحة الطيرِ
شاخت على ساعديه الطحالبُ
والنمل يأكل أجفانه
والذبابْ
مات موت الترابْ.
تماثل للعشق ثم شكل ورمًا بين نهديهِ
فأقتاده وثن عبقريٌّ
إلى حيثُ لا تُشرق الشمسُ
بعد ثلاثٍ أتى مورقًا
وتكوّر في ملتقى الشاطئين
وحين تساقط من حوله الليلُ
كان يعاني الصداعْ
الصداعُ
الصداعْ.
دارت الشمس حول المدينةِ
فأنشطر البابليُّ
وأصبح نصفين
نصف يعب نخاع السنينٍ
وآخر يصنع أنية للشرابْ.
مسه الضر هذا البعيد القريب المسجّى
بأجنحة الطيرِ
شاخت على ساعديه الطحالبُ
والنمل يأكل أجفانه
والذبابْ
مات ثم أنابْ
مات ثم أنابْ
مات ثم أنابْ
أأنتِ هنا ؟
أََأَنْتِ هُنَا ؟
أََأَنْتِ هُنَا قَابَ قَوْسَيْنِ من أَرَقِي العَذْبِ
كَي لا أَنَامْ ؟.
أَأَنْتِ هُنَا
يَا الَّتي أَسْكَنَتْنِي حَدَائِقَها
وَحَبَتْني شَقَائقَهَا
وَسَقَتْني رَحِيقَ الغَمَامْ ؟.
يَا الَّتِي رُوحُهَا لَثَمَتْ وَجَعِي
وَمَلائِكَهَا هَدْهَدَتْ مَضْجِعِي
ثُمَّ أَسْرَتْ بِرُوحِي جَنُوباً وَشَامْ.
يَا الَّتي سَكَنَتْ غُرْفَة لا تُمسُّ سَتَائِرُها
وَحِين لَمسْتُ قُيُودِيَ كَانَتْ ضَفَائِرُهَا
فَاحْتَجَبْتُ بأَحشَائِهَا ألفَ عامٍ وَعَامْ.
وَصِرْتُ أُغَنِّي بِلاَ شَفَتَيْنِ
وَأَحْيَا بِلاَ رِئَتَيْن
وَأُلْجِمُ بَيْن يَدَيْهَا خُيُولَ الكلام.
***
محمد الحرز
- من مواليد البحرين، عام 1967.
- دبلوم لغة عربية.
- يعمل في التعليم.
صدر له:
- رجل يشبهني، شعر، عن دار الكنوز الأدبية بيروت، 1999.
- أخف من الريش أعمق من الألم، شعر، عن دار الكنوز الأدبية بيروت، 2003.
- شعرية الكتابة والجسد، دراسة عن مؤسسة الإنتشار العربي بيروت، 2005.
mohmed_z@hotmail.com
أنا الوحيد
عاليا
أسمع النداء
ولن أرتجف.
العصفورة سقطت على الرخام
وأنا أجر الرنين بيد واحدة
يا أبي.
لا أثر للصرخة
أو للسكين هناك
سأنتظر الدليل يأتي
لكنه لا يأتي.
حتى الصدى الذي ربيته في الطريق
ضاع من يدي.
أنا الوحيد يا أبي
دربت الوحشة لي ومضيت
شمسك غادرتني عند الضحى
والشعاع في المدن يتسول.
وأخوتي تركوا الوصية تكبر في الصحراء
في رحل طرفة بن العبد
في كلمة كانت تحوم كالطير فوق رؤوسنا.
فلا بأس إذن
لو كان النهار يرتد مع السهم
ليعود إلى القوس ثانية.
لو كانت التعويذة المدفونة تحت سور البيت القديم
أصبحت في عتمة الجذور نواة لمواسم التمر والرطب.
لكنّ الرماة خانوا
والماء في المجرى
أوقفته الأحجار
والأكاذيب
والطفولة.
المدى أوشك أن يعوي مثل كلب جريح
والريح التي خلعت جلدنا ونحن نناجيك
على هضبة عالية
اليوم مرت علينا
الخطوة هي الخطوة
والآثار هي الآثار.
سأنتظر عبورك ثانية يا أبي
أقدام الأخوة غاصت في الوحل
والحبل الذي عقدوه للنجاة أخذته العاصفة
إلى غابة كثيفة الأشجار
ولا منجى من حرب
قد تصل متأخرة بالبريد.
وعندما تعود
ستجد الليل أعمى يتكأ على سحابة
وأنا أجمع القطرات في إناء
ستجد رسائل أمي مبعثرة في صحن الدار
وهذه السلة على العتبة
مليئة بالحنين
بالوقت
بالعرق الذي عنوناه "حياتنا تصعد السلم".
سيكون أمل
لو احتسينا الرنين دفعة واحدة
في حانة الأيام.
سيكون أمل
عندما عشبة صغيرة
في وسط البحر تتشبث
بأجساد الناجين من الغرق.
لذا سأنزع ظلي
وأرميه على الجدار مثل حجر
لأن العراء
هو عبورك الأخير.
أنا الذي ترجّ رأسه العاصفةُُ
لا الصور الكثيفة التي تخرج من آلاف الحكايات باعتبارها حياة أخرى قادرة على إزاحة العاصفة التي في رأسي عن طريقها، ولا الدليل بإمكانه أن يصطادها في قفص مثل عصفور ثم يقول لك:
هذا هو العاشق الذي من شأنه أن يحول الكلمات إلى ذهب يلمع بريقه في أيديكم، ولا يغشى أبصاركم.
لكنها البشارة أيها القوم، فلا تتعجلوا بالمسير جهة المدينة، أنتم الواقفون على سورها المتهالك منذ ما يقارب أحد عشر ضوءا سقطت قرب بيوتكم، لا السماء أخبرتكم ولا المناجاة هيأت الثياب كي تتلقفوا ذكرياتها قبل أن يختلط نورها بالتراب.
كنتم واجمين من فرط الدهشة كأن طائركم الصغير الذي أطلقتموه في الأفق عاد إليكم بسرب من الملائكة، ولا أحد منكم تنبأ بذلك قبل الفجيعة.
عرفتم الكثير من العابرين، لكنكم لم تلتفتوا إليهم، ولم تمدوا أيديكم للمصافحة على الأقل كنتم لهم أشبه بالتحف الثمينة التي لا تزين صالات منازلهم وممراته فقط، وإنما كذلك غرف أوهامهم التي شيدوها في بيوت.
الكهنة والصوامع، تماثيل العالم لا تضاهيكم مكانة، ولا صانعيها، لذلك تأملوا أنفسكم جيدا ووسعوا من الصدع الذي تركته الريح على أكتافكم، ثم قولوا للمتفرجين: عليكم أن تضعوا غصن حياتكم في أيدينا، لأن الشجرة سوف تعود، والقناديل خلفها تتقافز مثل جرو صغير لا تتركوا المطر يغسل عريكم لأن الغبار العالق هو تاريخكم الذي نجا من المعركة قبل أن تبدأ.
ليست الوصايا التي انبعثت من قبور الموتى هي من تسند ظهوركم في هذه اللحظة، ولا أنا من تثقون به كي يعبر بكم الزجاج الصقيل دون أن تصابوا بخدوش أو جروح، أنا الذي ترج رأسه العاصفة، لم أمرض، ولم أقع على صخرة كي ينبت العشب في تجاويفها.
كنت أسير معكم في النفق ذاته الذي حاكه الخياط لنا في منعطفات العمر، وتقلبات المناخ لكنني فجأة تهت عن الركب، وكان عليّ أن أصعد تلة عالية، وأجمع الحطب من حولي وأغري النار بالمجيء، لكنها لا تأتي.
البرد مر من هنا، وكذلك الظلال الدافئة، الحجارة أيضا كانت ثقيلة بالكلمات، الآثار من أقدامكم تسقط بذورا، ولا أعلم في أي حقل سأجدها تنمو ؟، لا تخيفني الطريق، ولا القلعة التي انتصبت في آخرها، فلا بأس أن مضيت كي يحسبوني ميتا على هيئة جرة مكسورة.
ربما الأسوار عالية، لكن الحراس مجرد خطأ إملائي نمحوه بأقلامنا المهترئة، لن يبق ألم واحد تجره خلفك، جميعها ذهبت إلى الماضي قبل أن يخترعوا لك علاجا، لكنها بالتأكيد ستعود مع بقية أسمائك التي لم تصب بالزكام حين عبرت مستنقعات الحياة، لا فائدة من التذكر الآن، عيون كثيرة ترقب أغنيتك وهي تذوب في كأسك الأول، أيضا النسوة النائمات في معطفك الطويل تمسكن باللجام الذي تضرب به دمك قبل أن يتحول إلى جلطة دماغية.
لا وشاية تنضج كي تغري صوتك، ولا رقصة النرد في اللعبة تخطف حظك من الشارع ولا الرطوبة التي هجمت عليك وأنت تشاهد حلما طويلا عبر التلفاز يمكنها تذكر الحماقات التي أخذناها كأقراص منومة، ولم نؤذ بها سوى فكرة الموت حين كبرت كزائدة دودية على جدار الروح.
رقيقا كان الدمع على جلدك، وكلما حرك الرأفةَ في أجفانك يزورك المرضى ساخرين من حزنك الذي كبرت رموشه دون سبب، تزورك العصافير لا لكي تلتقط الزفير من أنفاسك وإنما لتملأ السلال التي واظبتَ على تنظيفها بهواء الجبال العالية.
قيل لك لا تتبع علامات غيرك، ولا تشر بأصبعك إلى جهة يلفظها البريد من جوفه، حاذر السير على السائل اللزج الذي يطفو على سطح اللغة، ولا تذكّر المقعدَ الذي تعودت الجلوس عليه في الرصيف بأنك الوحيد في هذا العالم الذي تخلص من عموده الفقري كي يوهم الشجرة بأنه مرايا لذكريات الجذور، لكنك لا تُبطل مفعول الذاكرة مثل قنبلة ولا بإمكانك أن تخفي النتوءات البارزة على الصدر بفعل ضربات القلب، الجسد لا يخبرك ولا العائلة كذلك.
أنت غريب على فتاتك الآن، فلا تضع قناعا على وجهك تكفيك الأفكار السوداء التي سمرتها بالمطرقة فوق باب غرفتك كمساحيق لا تذوب، ولا تهاتف الأرق كي لا يأتيك في المساء.
عليك أن تقول الحقيقة لهؤلاء الذين عثروا على مفاصلهم في الصحراء وقالوا:
قميصنا لا يتسع لحملها، ولا لأنين رغباتها، لذلك رموها في بئر مجهولة، لا يعرفها الذئب ولا أخوة يوسف.
لا بد أن ينكسر الجسر حين تعبره العاصفة قلت، ولم تلتفت إلى الوراء كأنك تدل الواقفين هناك على الحجر الأول للمدينة، الحجر الذي عثروا عليه يلفظ أنفاسه الأخيرة على أيدي الموتى، حينها لم يعلموا أن ظلاله سالت على التراب كأنها آخر رائحة نبتت في هذه الأرض.
لا بد أن ينكسر وأنت تفكر برأسك أين تضعه قبل أن تنام ؟، الحديد لن ينجو، ولا أحلام من عبروا عليه، والواقفون في مناجاتهم ينتظرون، سيخدعون الأغصان حين يميلون برؤوسهم جهة النهر، ولولا أيديهم لحرروا الماء من المصب، لكنهم وحدهم الذين تلمع أسنانهم في الليل حين يضغطون بنواجذهم على نواة صلبة من ثمر اللوز لا تنكسر ولا تتصلب وكأنهم يكسرون أقفالا كبيرة عن جبل ظنوه السقف الذي يحجب ندمهم عن السماء.
لا الباب، ولا الدم الذي فوقه كقربان يقربهم من النبع الذي تحرسه أفعى لا تلسع سوى أكاذيبهم، لكنهم لا يعلمون ذلك على الإطلاق، وكلما وضعوا أحذيتهم على العتبة جاءهم الضوء مسرعا مثل قطار، ولئلا يأخذهم إلى منحدرات يأسهم لا يزيتون قناديلهم ولا يلفون التعاويذ حول رقابهم، ولا يقطعون أحاديثهم بسكاكين حادة، ولا نومهم أيضا فقط يتأملون قطرات الضوء كيف تنزل ببهاء على أجمل وجه ينام فوق سريري ؟.
المتاهة لم تفكر بأصابعي العشر، ولا بالخوف الذي سقط من العربة حين طاردتني كلاب ضالة، ولا بالثلج الذي سد باب الحكمة، وهشم نافذة الجرح، وليس معنى ذلك السخرية من الأشياء المبتورة طالما لم نذهب إلى نومنا لنتلف ألم العظام، وطالما كان المنبه لا يفكر في موتي حين يُسمع رنينه في الأدوار العليا من المبنى.
الضحك وحده يراني خارجا، وفي يدي غصن متعفن، يبين في أطرافه نقش:
أنا على الأرجح مرضك الذي لن تشفى منه، في هذا اليوم الذي تقبل فيه حبيبتك قبل النوم بقليل.
***
محمد الدميني
- من مواليد الباحة، عام 1958.
- بكالوريوس علم المكتبات.
- يعمل في شركة أرامكو.
صدر له:
- أنقاض القبطة، شعر، عن دار الشروق عمّان، 1989.
- سنابل في منحدر، شعر، عن دار السراة لندن، 1994.
domainimg@yahoo.com
ملاك الحسرة
لا مقابر قرب هذا المنزل
كان الموتى قد سهروا حتى أطفأهم الصباح، ورأيتُ المعاصي وهي تضجر فوق ثيابهم وهذا الصباح بلا ضوء
لقد كنسته عربة القمامة
وفكرتُ في البحر ساهماً يتقرفص تحت هدير البوارج، وفيه أُودعت أحلامي لأن المصارف مقفلة هذا النهار
وقريباً من البحر
سيرقص القتلة
ويمتلئ الأفق بالدموع.
لن يضيء الشارع سوى لهذه المرأة المغدورة بالعتمة.
سلاماً
أيها المفكر
لقد انتهت الحفلة، وانتصبت الأشباح
وقريباً سيحدث الموت أمام عينيك
وستندلق عليك المواعظ الطويـ ...
الطويـ ...
الطويلة
من المنابر المجاورة
ستُصنع القصائد من الرمل
وفي الحيرة ستُبنى البيوت
وعلى القضبان ستنتحب خيولنا المتعبة.
وسلاماً
سلاماً
الطلح سيد الوادي
وفوق شجيرات اللوز تتلبّد طفولتي كحرباء، والفكرة الضالة مزّقت جسد صديقي
وقريباً من جثّته الحارة وجدت عينيه وقرأت بهما شغب البارحة.
هذا المطر لن يغسلني لأنني صحراء، ولم أرث من الأودية أكثر من صخورها الملساء وعقاربها اليَقِظَة
وفي حضن أمي رأيت التين يزهر
سأرتعد وهي تغتسل بالندى
وفي حضنها سأواصل موتي لأنه خديعتي المفضلة.
لتنم أيها الكلب
قرب قلبي.
يا أيها الضوء
أبق خليط غيمتي.
والقيظُ لن يشذّب هذه الوردة
لأنها تقتاتُ
من معاصيّ الفاتنة.
آخر تلة ودّعتها تلك التي جفت فوقها دموع الأم
كانت الجنادب تتقافز في حضرة شمس تنهض من سريرها
وتذكّر الأم بفتاها الذي سيكبر قبل أن تهطل أدعيتها فوق جنيّاته.
أمام نافذة البيت سيشرب الأب قهوته الفقيرة، وسيعدّ أغنامه مخطئاً، مراراً، قبل أن يتذكّر في ثغائها القارص رحيل سيّدها، حيث يزحف الضباب، فيمحو آخر ظلاله وهو يختفي وراء الحصون البعيدة.
بعد لأي
سيُفتح باب هذه الغرفة عنوة
لأن صمتي يطفح في الشارع
وسيعثر عليّ رجال الأمن
مسجوناً في كتاب.
هذا الحائط صديقي
لا الشمس التي تبترد في جسدي.
لن يمكث أحدٌ في السماء
أكثر
من هدنة الجنرالات.
هذه العين
جديرة بشاعر ليكتب.
سريري ليس للنّهدات البيضاء
ولكنه للأحلام.
وقريباً من الغيمة
سأعثر
على قطّاف المطر
وسأصنع ملكوتي
لأن الكهنة لا يعيرون
ملكوتهم.
سأطلب هذه الليلة
كفناً لآخر شهيد
ومنفى لأصدقائي الموتى
ومراثٍ لمائدتي
التي مزقها أنينهم.
الطلقة مثل القتل
خيانة آلة.
وحين توصد الأبواب
لا تتركوا شجرة تعربد في محبرتي
وثعباناً في سريري
ودناناً في شراييني.
لماذا تنسون
نهاركم في نهري
ودويّكم في عظامي
وحروفكم في قصيدتي
وأزرق ضوئكم
فوق رمادي ؟.
ولماذا ؟
ولماذا ؟
ولماذا ؟.
كل الحكمة سأتركها عند قدمي هذه الجدة وأحفادها الذين بلون الرصيف
والموت يتقدّم لأن الشاعر يتقيأ الكآبة فوق المنبر.
الشمعة التي لم تطفئها العواصف
سيقتلها الضجر.
وحين أعانق صديقي أشمّ اللغة وهي تنشج في جبينه، والقمر يجفّ في نشيده.
سأقرأ هذا الكتاب بعد أن يفرغ منه الفأر، وينفضّ عنه نمل الرطوبة
وفي المرآة (التي لا تُرى مثلومة إلا في الصباح)، شَهِدت أسوأ الخيالات
وبعد ساعة سينهض الضوء الذي يشبه هشيم البارحة
وقبل الوظيفة، سأتفقّد تراب الصمت الذي شيّده فرسان حائرون من خطب فولاذية وأسمال مدفونة.
وسلاماً
سلاماً
المدينة أثثت جرحك السري، فلا مطر هنا يَقِيْكَ هواجس الليل والذئاب، وستوصد الشرطة هذه المكتبة، لأن الصعاليك ـ منذ القدم ـ يحيكون أنخابهم المرة، ويتأملون عظام أحلامنا.
وفي المقهى الذي محت الرطوبة إسمه، سنثرثرعن الجحيم المتساقط فوق المدينة.
لم نعرف الجندي من خوذته، بل من شارة نصره، ولم نفكر في القبور إلا أمام التوابيت، ولن أغادر رأس هذه السنة قبل أن تؤوب هذه العقبان من سماء أطفالي، وتذبل الحيرة الناشفة في عصبي البغيّ.
مراث نحاسية
لهذه القبيلة التي نسيت أبناءها في المصنع المجاور، ورأتهم في الأسى البارد يخوّضون في الحكايات المغبرّة كتماثيل،
ويتنفسون برئات الموتى .
ومراث أخرى لهذه الحرب التي ألتحف فيها الشعراء موتهم المقيت، ولمعت فيها النصال حتى الصدأ، ولتلك المنازل التي لم نعرف سقوفها
قبل أن يوقظنا ضوء الفوانيس وهو يتململ تحت المطر.
ليلنا طويل
لأن شمسنا تشرق من هذه الزجاجة المطاردة (....)، وسنُبقي عند باب الجار موعظة عن الألم
وصمتاً يكفي لإطعام خرافه.
وفي جوار الحسرة
سأترك هذه الأنشودة السوداء
تنزف فوق معاطفكم
كما
نزفتْ
فوق
دفتري
الأبيض.
دم الكلام البارد
ليست هذه كلماتنا
طال سهرُها
ونامت مرتعدةً فوق القضبان
وهاهم يجرّونها منذ الصباح
من طريق الحرّاس.
اقتبسنا ناراً من نُصُب الموتى
فأحرقت أصابعنا
ولم تنضِج قدورنا الملطّخة بالنعاس
لم يكونوا يثرثرون فقط
كما يتجادل الشّجاع مع مومس
تزدرد الليل
بل كانوا منذورين
لكي يتبارزوا في الأعالي
حيث لا خناجر
ولا جلبة
وحيث الضغائن في الإنتظار
وفي وسعها أن تدفع للمنتصر من دمها البارد
ماذا نبقي للأمهات اللواتي رميننا على حصى الطريق
لكي ننبتُ في صلادتها ؟.
كثيرٌ هو الدم
الذي أهرقناه على عجل
أمام هذه الأرواح المسمومة
وفادحةٌ هي الوصايا
التي يبسَت في صناديق الأجداد
والتوت على الألسنة.
لم أصنع كلمات كثيرة
تليق بعبوسي الصباحيّ في المرآة
بعضها جمعتهُ بمقلاع أبي
وبعضه هبط مع خيالات فائضة
على سطح منزلي
وتسرب مختلطاُ
بأصوات الهداهد الفاصلة
بين الحقول.
لم أنس ألمها المعدني
وهو يقطر من عينيّ
كأسطوانة عكرة يطوّقها الليل.
حتى الذكرى
لا يمكن بذرُها
إننا نحمي ما تبقّى منها
لكي تصبح قلباً.
ليست طريقاً صائبة
هذه التي سرنا عليها
بلا قلب
وما ادّخرناه من كلمات
يغادر من شقوق النوم
هذا نصيبنا العادل من الريح.
ورشة أزهار
قلبُه ورشة أزهار
صباحٌ أجرد يطوّقه
وحراشف صلدة تتناثر بين قدميه
كمائن
تتربص بشمسه
له قمرٌ يهدي المحضيّات إلى ليلهنّ
وعليه
هداية النوارس إلى البحر
كلما أنطفأ في نومه
خرجت جحافلهم
تهدي
وتستهدي
تحت ثيابه
تتنفس العناكب
وتترسّب الأمنيات
حسبُه
أن يشعشع خلف هذا الزجاج
وأن ينهر ذكرياته
عن العطب
وأن يدعو جسده إلى السرير
ويبكيه قروناً
كثاكلة مدرّبة
إنها فرصته الفلسفيّة
كي يرفو
سلالته الجديدة
وأن يستلقي على السفح
كراعٍ تلعثم في عدّ النجوم
ونهض
تهديه أغنامهُ إلى البيت.
***
محمد العلي
- من مواليد الأحساء، عام 1932.
- بكالوريوس لغة عربية جامعة بغداد.
- عمل بالتدريس، وبالتوجيه التربوي بالإدارة العامة للتربية والتعليم بالمنطقة الشرقية وبالهيئة الملكية بالجبيل.
- كما عمل رئيسا لتحرير جريدة: اليوم في السبعينات من القرن الماضي.
- كاتب زاوية يومية بجريدة: اليوم السعودية.
- رغم انشغاله بالكتابه الإبداعية والنقدية والإجتماعية لم يصدر كتاباً، وقد جمعت الكاتبة المغربية عزيزة فتح الله مختاراتٍ من كتاباته المتعددة في شئون الفكر، والثقافة، والنقد، والشهادات، والمقالات التي كتبت عنه في كتابيْن صدرا في القاهرة وهما: (محمد العلي، شاعرا ومفكرا)، (محمد العلي.. سيرة وشهادات)، 2005.
alali42@yahoo.com
لا ماء في الماء
ما الذي سوف يبقى
إذا رحت أنزع عنك الأساطيرَ
أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوحلِ ؟.
ماذا سأصنع بالأرق العذبِ
بالجارحات الأنيقاتِ
إما لقيتك دون الضباب الجميلِ ؟.
كما أنتَ
كن لي كما أنتَ
معتكرًا غارقًا في السفوح البعيدة.
مختلطًا بالثمار
ومكتئبًا كالعيون الوحيدة
بيني وبينك هذا الضباب الذي يمنح الحلم أشواقهُ
يمنح الوهم أجنحة الماءِ
ها أنت فيه غويٌّ كنافورةٍ من نخيل.
يقولون كنت هنا من أول فجر
وآباؤنا بذروا فيك أحلامهم
بذرونا ـ ولما نزل في الأماني ـ على الموج
وكنا حقول الهوى فوق زرقتك البكر
كنا الزغاريد تشعلها الفاطمات إذا ما أطلوا مع السحب
)دانه.. دانه.. لا.. دانه(
ها نحن جئنا
ولسنا نريد اللآلئ
لسنا نريد الذي لم يزل نازحًا في إمتدادك
إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج
أسماؤنا
أن نسير على الأرض دون انحناء
وها أنت كالحزن تنداح
تنداح دون انتهاء
وبيني وبينك هذا الضباب الجميل
ترمدت الشهب الحلمية
يلبس عري الصخور هو الآن
لا ماء في الماء.
أوقفني مرة نورس كان في البعد
أسمع من ريشه المتقاطر لحنًا
وأخيلة تغسل الموت من كل أوهامنا المشرئبة بالخوف
لكنه ذاب في الملح.
أعدو قرونًا على السيف
أسأل كل الشموس التي أختبأت فيه
كل الحرارات
كل الرياح
المرايا
المراكب
سرت إلى أين
يا زرقة علمتنا الأناشيد ؟
كان الأصيل شهبا (...) ما التفتا بعد
خامريني غزلٌ مثقفٌ بالعصافير
لكنها لم تجئ.
زرقة علمتنا الأناشيد
أطفأت قلبي
جميل سهاد المحبين
حين يكون الظلام خليجًا
وتأوي إلى الأرض أنهارها
ثم ينأى الخليج الذي يحمل القلب
ينأى إلى حيث يبقى الضباب: الحداء ـ الدليل
هناك أقتل هذا الكمين المخاتل
وأرقص
أرقص
والذكريات الحييات
عن أمس
أوعن غدٍ سوف يأتي
بيني وبينك هذا الضباب الجميل.
العيد والخليج
تنفستِ الجداولُ
سالتِ الأكمامُ أغنيةً
وللأبعاد بوحُ الماء وهو يتيهُ
ينسج زرقةَ الشطآنْ
تبرّجتِ السفوحُ البكرُ
نَفّرتِ الحجارةُ صمتَها الأبديّ بالأغصانْ
وساجٍ أنتَ كالأكفانْ.
جارحةٌ هي الأصداء
باقيةٌ تدير بذهنيَ الأقداحْ
لمن عبروا
ترنّحتِ المعابرُ بالخطى
والشمس
والأثمارْ
سوايَ، وضجّتِ الأفراحْ
سواكَ، وضجّتِ الأحزانْ
وساجٍ أنتَ كالأكفانْ.
ومرّ العيدُ بعد العيد مغترباً على الأبوابْ
ومسفوحاً على الطرقاتْ
ولم تُسمع خطاه البيضُ
لم تسمعْ
وفي الساحاتْ
بريقُ الضفّة الأخرى على الأثوابْ
ومجمرةٌ من التاريخ فوق توهّج الأطفالْ
وتجهش حوليَ الأسوارُ
والمذياع
والأقفالْ:
(صوتِ السهارى يومْ مرّوا عليّه عصريّة العيدْ(
فتنحب في دمي الأكوابْ
وتثلج حولكَ النيرانْ
وساجٍ أنت كالأكفانْ.
لبقيا من نثار الريش فوق تمزّق الأمواجْ
لنورسكَ الذي ما عاد يمسح وحشةَ الآفاقْ
سأحمل واحةَ الأشواقْ
وتبرح قلبيَ السفنُ الشتائيّهْ
وفيك توقّف الماضي الذي (نضجتْ به الأعناقْ(
وما سقطتْ بكفّ الريحِ
لم تبرح أثيرّيه
تُخِّلد فجأةَ الإشراقْ
أجلْ
ها
تلك
قد زُفّتْ..؟
هي العقبانْ
وساجٍ أنتَ كالبركانْ.
***
محمد جبر الحربي
- من مواليد، الطائف، عام 1956.
- عمل في المجال الصحفي والإعلامي.
صدر له:
- بين الصمت والجنون، شعر، عن دار العلوم للطباعة والنشر الرياض، 1983.
- ما لم تقله الحرب، شعر، عن الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، 1985.
- خديجة، شعر، عن دار الأمير بيروت، 1997.
mjharbi@hotmail.com
خديجة
جاءت خديجة
طلعتْ فتاة الليل من صبح الهواء
فأورقت تيناً وزيتونا ً
وألقت للنخيل تحية الآتين من سفرٍ
فأينعت الوجوه شقائقاً
ونمتْ حبيبات الندى مطرا ًَعلى تعب القرى
قمراً على الباب العتيق لعالَمٍ نسي الحديث الطفل، والكلمَ
المذابَ مع ارتخاءِ النهرِ أولَ ما ظهرْ
نسي القمرْ
نسيَ التطلعَ للقمرْ
طلعت على مد البصرْ.
جاءت فتاة الليل من صبح الهواء فأسفرتْ
دخلت على الأطفال موالا
ومالت للحديث فأزهرتْ
قرأت كتاب الله
وانتثرت على الكلمات دفئا ً أسمرا
قمراً على وجع القمرْ
دمعتْ
مشتْ
مشت الدروب على خطاها
واكتفتْ
بالصمت حين تحدثتْ.
اللوح أسود
فاستروا عري البلاد وسوأة المدن اللقيطة
واحتموا بوجوهكم
وتبينوا أن جاءكم نبأُ
هذا أنا تعَبٌ
ومرساةٌ
وقيدٌ رافضٌ للقيد
(من يزرع قلوب الناس يُحصد:
ذا زمان الحصد
من يسرق يُجازي بالتي..).
وضعت يديها فوق نافذة الكلام وأسرجت خيلاً
لعنق الشمس
واحتفلت بميلاد الحروفِ
وأطلقت عصفورها للبوح في طرق السماءِ:
لا تزرعوا قمحا ًمن قبل أن يجد الفؤاد طريقة للناس
لا تركبوا بحرً من قبل أن يجد الحمام مكانه في القلب
لا
لا تطلبوا أجراً على وجع الكلام
وحرقة القلب المضرج
قبل أن يفد الحمام
قالت
وأسدلت الكلام.
تتذكر الآن البدايةَ
مفرق الطرق القديمة
كان "شام"
(إن تغرس السكين في الظهر ستغرسْ
ألف سكين بظهركْ)
جلست على طرف الكلام
هذا معاويةُ الذي. . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويضج طفل البوح في فمها ويشتعل الكلام:
لا تقرأوا التاريخ
زيفٌ ما يسطِّره الذيول
كفاكمو زيفاً على زيف ٍ
سنيُّ العمر مرت ما قرأت حقيقة
مرت كما مرت على الصحراء صائفة الغمام
تعبٌ وحال الناس في الأرض التعب
أن جاءكم نبـأ ٌ
فهذا ساحل الرؤيا
وإن عجَّت به ريح الشمال
تظل أصوات النوارس
صرخة الحيواتِ ملء رماله
فتبينوا أن جاءكم نبـأ.
دخلت على الحجرات في القلب المشاع
وجدت رماداً
ملؤه وطنٌ
وأسئلةٌ تثار
ولا إجابة في المنابر
لا إجابة في رحيق السيف
وجدت نخيلا ً واقفا ً بالباب منحنيا ً
جداولَ جف فيها الطين
أسرابا ً من الوجع المهاجر
لا أمان
ولا مكان
ودمعتين
نوافذ التوق الذي أدمنته عاماً فعاما ً
ثم نمت على الحجارة
لم أخن
كشفتْ
وكم كشفت عن الأوراق في حجراته
وأنا أصيح:
قصيدتي وجه الزمن.
صرختْ
صرختُ، وما فتئتُ أردد الصلوات في روحي
وأسترق الوطن:
كلا وربِّ السيف
والكلمات
والمدن الخرافه
ما ناشني فرحٌ
ولا دونت اسمي في دواوين الخلافه.
مضت الفصول
خلعت جلدي
يا بلادا ً باعها السمسار للسمسار
وأستبق الغزاة إلى ملابسها
وتجار الصحافه.
لهفي على وطنٍ يغادرنا
ليسكن في المحافل والفنادق
تترك الصحراء أنجمها
وتبحر في ملفات العويل
وواجهات النشرة الأولى
وأقبية الفراغ
وتترك الأنهار أبناء القرى
لتنام في برك السباحه.
طلَبتْ موانئ
فتَّشتْ في السفْن عن وطنٍ بديل
تعبتْ من البحث الطويل
تعبتْ من الركض الذي يمتد من فرح الأجنة
وانطلاقات الجذور
إلى انحناءات الكهولْ
تعبت من الوطن البخيلْ.
وطنٌ سرابْ
غابٌ من القيم الخرافه
وانتماءٌ مرَّغ الوحل به أنف السحابْ
وطنٌ
عيونٌ فيه تستسقي
وتُسقى جمره
جيفٌ تفتش عن غرابْ.
وطنٌ ترابْ
يقف النخيل
وكم يطول الوقت بالنخل
وكم ينأى السحابْ
وطنٌ ضبابْ
إن تدرك الأطراف
تدركْك المنية
يا معذب
فالتئم بالتربة العذراء
وليكن الغيابْ
غابٌ وغابْ
لا أرض في الأرض التي تهب السوادْ
لا أرض في الأرض اليبابْ
وطنٌ ترابْ
وطنٌ ضبابْ
وطنٌ سرابْ
سرابْ
سرابْ.
طلبتْ مداداً
جف ماء البحر
صرختها استحالتْ نبتةً في غرَّة الصحراء
دمعتها استحالتْ قطرةً
(الغيث في الصحراء لا يأتي
إذا تعبتْ أكفُّ الريح، وانهزم الجوادْ).
طلبتْ مزيداً من مدادْ
وطلبتُ منها أن نكونْ
أبقيتُ في يدها يديَّ
فكفتْ الدنيا عن التجديف
ذا بحرٌ
وقفنا
والسموات انتهتْ فينا
وكنا راحتين تحوطان الشمسْ
شفةٌ وشمسْ
لغةٌ ترطِّب مبسمين
حمامةٌ ترتاد ساحتنا.
نُحِبُّ
نُحِبُّ
يا الله نحن الحبُّ
نحن الصرخة الأولى
ولون الماء والأشياءْ
لوَّنـّـا الجداول
فأستدار الماء بالأسماك
وأحتفلتْ على يدنا بميلاد الهواءْ
ولوَّنـّـا البلابل في صباحٍ غائمٍ بالحب
أسكنَّـا حناجرها مفاتيح الغناءْ
ولوَّنـّـا القبائلَ
ذاب فصُّ الملح
والصحراءُ
من بحرٍ إلى بحرٍ
وهبناها مساء الخير
والكلمات
فرحتَنا.
نُحِبُّ
نُحِبُّ
دفءَ اللحظة الأولى
وطعمَ الخبز ممزوجاً بطعمِ الرمل
وجه النخلة العفويَّ.
نحن الحبُّ
نحن الحبُّ
ما كذَب الهوى قسما ً
ولا كذَبتْ يدان تحوِّطان الشمسْ
جاءت على شفةٍ وشمسْ
طلعتْ خديجة من تفاصيل الهواء فأشرقتْ
ونمتْ على يدها القرى
ونما الهوى أبداً
وما كذَبَ الهوى
كلا.. وما كذبتْ تراتيل القرى.
المغــــني
أنـا أَول العاشقين
وآخرهم
سقـطتْ نجمةٌ عنـد بابي
صرختُ ثيابي
نزعتْ من شبابِــي الطـفولـةَ
أََدركتُ أَني
عـلـى غـيِـر ما أستَسيغ أغني.
إلهـي أَعنِّي
أأبكي ؟
أَكـلُّ الذي يـفعـل المرء فِي صمـته أَن ينوح ؟
أَكل الذي في البريِـة يُحمد ؟
إِني أتـخذتـك همي
وساءلـتُ نـجـم العـشـية قُـدني
أَبي ليـس يـعـرف
أمي مـضتْ
فـمـن ذا سـيـرفــع رعب العـبارة عنِّي ؟.
وماذا يظلُّ ؟
ومن ذا على هدمه سوف يبني ؟
ومن ذا على ذمه سوف يُثني ؟
بلادٌ أحطتُ بها لم تحطني
وأهلٌ كما الماء في الماء
لا دهشةٌ في الغياب
ولا دهشةٌ في المآب
ولا دهشةٌ في التجنِّي.
سأذكر ما ليس يُذكرُ
إني أفتقدت البراءة
حين أفتقدت التمنِّي
فقد كانت الأرض
ناعمةً
والطفولةُ
مجنونةً
والليالي
مهادنةً كالتانَّـي
وكنا نغني.
ولكنما الوعي أفسد بوح الشجيرات للماء
بوح الحقيقة للحق
بوح المدانين بالدين
بوح العصافير صادحة دون مَنِّ.
وماذا يظل ؟
الحقيقة أم جفوة الرمل ؟
هجس الفجيعة أم هجعة المطمئنِّ ؟.
أيا أيها الوعي
يا أيها الوعي
أفسدت ذوق المغني.
***
محمد حبيبي
- من مواليد، ضمد بجازان، عام 1968.
- ماجستير في الأدب العربي.
- دكتوراه الفلسفة في الأدب العربي.
- أستاذ مساعد للأدب العربي بجامعة جازان.
- أنجز وعرض تجارب شعرية مرئية:
- غواية المكان، تجربة شعرية مرئية، وزعت بأسطوانة مدمجة (إصدار خاص)، 2006.
- حدقة تسرد، تجربة شعرية مرئية، وزعت بأسطوانة مدمجة (إصدار خاص)، 2007.
صدر له:
- انكسرت وحيداً، شعر، عن دار الجديد بيروت، 1996.
- أُطفِئ فانوس قلبي، شعر، عن نادي جازان الأدبي جازان، 2003.
- الموجدة المكية، شعر، عن دار طوى بالتعاون مع مؤسسة الانتشار العربي بيروت، 2007.
- الإتجاه الإبتداعي في الشعر السعودي الحديث، دراسة، عن المهرجان الوطني للتراث والثقافة، الرياض، 1997.
www.habibim.com
habibihhm@hotmail.com
منصّــة
بمحْضِ إرادتنا
إِرتقينا المنصّةَ
للكنَـبَيْنْ
لنلهو:
عريساً
عروسهْ
بغير إرادتنا أنزلــونا
وقالوا لنا:
ـ هيهْ
ـ أنتما
ـ يا صبيّ
ـ يا صبيةْ
عَيْــبْ.
بمحضِ إرادتهمْ
صعّدونا المنصّةَ
نلهو:
عريساً
عروسة
وقالوا لنا:
ـ هيهْ
ـ أنتما زوجٌ وزوجه.
وكمنحوتتينِ
بأطرافَ باردةٍ
وإرتعاشِ يدينْ
مغمضَينْ
وفي ظرف
ثانيتينْ
وحقلُ كلام يجفُّ
(نسيناه ملقىً بطاولة الحلم والشمعتين)
ارتطمْنا
(بقربِ المنصّةِ حيث قديماً صعدنا)
كما
رتِّبوا
جثّتينْ.
نافــــذة
الفتاة التي كنتُ أعرف
ألوان مريولها
يتصعّدُ في خضرة
زرقة
وبنفسج
يشرقُ تفاحُ وجنتِها
غمضُ ضحكةِ شفّتها العنبيةِ
أعرف
جِلْد دفاترها
شدها للصديقات
عرْكَ الحقائبِ
حافيةً ركضها بالحديقة.
الفتاة التي لم أعرها اهتماماً سنيناً
وراء شفيف الستائر
ترقبني
ثم تفتح أزرار لمبتها
وتعابث خصلاتها
عامدة.
الفتاة التي كبرت
صفعتني بلفتتها الباردة.
الفتاةُ ـ التي خلف قضبانِ شُبّاكها ـ نافذة
علمتني:
الحياةُ نوافذُ بيت
حياةُ البيوتِ النوافذُ
نافذةُ البيتِ فاصلةٌ من هواءٍ
وحنجرةٌ لكلامِ الرصيفِ
تمرّرُهُ النافذة.
أسبوع الشجرة
غصن
ما كانوا حطابينَ
فقط
أرَّقهم كَلف الغصن المخلوع اليابس
"كيتيم مقطوعٍ من شجرةْ"
حملوهُ برفْقٍ
دهنوهُ برأسِ حديدٍ
غرسوهُ
لمراتٍ
كي يرضعُ من خِصْرِ الشجره.
شجرة
كلَّ الأغصان بجارتها
أقتطعوها
حطباً
مع ذلك ظلّتْ واقفةً شجرة
لما بدأوا قطع الجذع الأول منها فأساً
لم ترتجف الشجرة
قطعوا غصنينِ:
حُنَوا أحدَهما قوساً
مدّوا الآخر سهماً
فبكتْ
باقي الأغصان
سلام الأعشاشِ
معلقةً بأمان الله على الشجرةْ.
قطعوا جذعين ثلاثةَ
خمسةَ
أكثرَ
سحلوها طاولةً ومقاعدَ
قطعوا
قطعوا
ق
ط
ع
و
ا
لما وصلوا آخرَ غُصْنٍ
وجدوه ضعيفاً
كان وليداً للتو
تردّدَ أوسطهم:
ـ هل نقطعُ ؟
ردّ الآخرُ
ـ قد يصلحُ مرسمةً.
قطعوهُ
أخيراً
لحظتها
ما اختُرِقَ
الغيمُ بأنفاسِ صلاةٍ
كصلاة الشجرةِ
للطفلِ الممسكِ مرسمةً
يبريها
ويعودُ
ليكملَ رسمته
غصناً
غصنين
ثلاثة
خمسة
...
...
...
حتى أكمل آخر أغْصَانِ الشجرة.
***
محمد خضر
- من مواليد الباحة، عام 1976.
- بكالوريوس لغة عربية.
- أسّس ملتقى مدد الثقافي: www.mdaad.com، 2006.
- يعمل في التعليم.
صدر له:
- مؤقتا تحت غيمة، شعر، عن دار أزمنة عمان، 2002.
- صندوق أقل من الضياع، شعر، عن دار فراديس للنشر والتوزيع المنامة، 2006.
alghamdi225@hotmail.com
الأنثى
قالت الأم لطفلتلها:
يا بنتي أحذري أن تعدي النجوم كي لا يصاب وجهك
بالأثلول
أو البقع.
هزتّ البنت رأسها
ـ حاضر يا ماما.
قالت الأم لطفلتها:
ـ يا بنتي
أحذري أن تقذفي أسنانك المتساقطة
لصندوق القمامة
أقذفيه لشمس الله الندية
وأشرعي بالأمنيات.
قالت البنت:
ـ حاضر يا ماما.
قالت الأم:
ـ يا بنتي
إياك أن تتركي قلبك
مثل بحيرة أزهار
ملقاة في الطريق.
قالت البنت:
آسفة يا ماما.
%المُتحوّل
لأنه مصاب بالوحدة
والشيزوفرينيا المستعصية مثل جبل
مصاب بمشاهدة قناة (فوكس(
وتقليد عمر الشريف في خطواته نحو حبيبته
يقرأ صحيفة واحدة تهتم بكرة القدم
ويكتب أحياناً مذكرات صغيرة بعمق حبة كرز
يلتقي الأصدقاء
مرة بلحية طويلة كلحية كاسترو
ومرة بلا شوارب، ويبدو منظره غاية في الظرافة
ولأنه آمن مؤخراً بجدوى أن يكون خليطاً من الأفكار
أصبح يرتدي الجينز، ويغني لإلتون جون
لكنه بالكاد يترجم Delete و Help
لأنهما المفردتان اللتان تجعلانه وحيداً وصامتاً كقديس.
كأننا لم نكبر يوماً
الشيخ ُ الذي يقلنا للمدرسةِ
منذ صغرنا إلى اليوم
أصيب بالسل
وراحوا يغطونه بــ 18 بطانية
بحيث لا يظهر إلا أنفهُ
كانَ صادقاً وهو يخبرنا
أن الموت قادمٌ
بأية طريقةٍ
كلما توسلنا إليه
أن يخفف من حاسة الكوابح.
....
كان صادقاً أيضاً في رحيلهِ
حينما أخبرنا آخر مرةٍ
أنه لم يعد قادراً
على تمييز يوم الإجازة
من غيرهِ
لذا
لم نره ـ مجدداً.
رؤيا
الواقفة في ضمير الغياب
أمسكتْ بمعصمي
وأختبأنا خلف كومة الثلج
لولا رائحة القيع المشوي
لما جاءت الريح
بزلاجتها الجائعة
وأطفأت العناقَ المغسول بالنار.
تفاهم
لماذا نعلّق الأسئلة
في خزانة الصمت ؟
لماذا لا نجرّب أن نرتديها
حتى لو كان قميص الإجابة ضيقاً ؟
تعالَيْ نجرّب أن نشربَ من الفنجان
نفسه
ونشتم بعضنا بحيادية.
هوامش الريح
الريح أختارت عصفورة المساء
لحضور احتفالات الحزن
يزغم الغبار أنه كان حاضرا
في الصف الأمامي
لا لشيءٍ
إلا للإثارة.
بينما تدرك الريح
هذه السلوكيات الصبيانية
تلثم عصفورتَها
وتواصل البكاء.
حزن الفراشة
لأن الأيام لا تبقي على أحد
كما يثرثر الجاهزون
حزنتْ الفراشة
الفراشة التي أحتضنتني
ثم نامت في صفحة الضحك
مشيتُ آخر الليل
تركتُ الوصايا العائلية
وخرجتُ
المرأةُ التي ترسم لوحات فان جوخ
وجدتُها تمشي آخر الليل
وتغنّي:
"إيدي بيدَّك يا بو صلاحْ "
مشيتُ حتى الثامنة.
تعويذة للفقد
في البدءِ اخترنا علامة ومضينا
كان الشارع يهمس لغريبٍ يقاوم الفقد
جاء مكللاً بسماء صافية
رفعْنا أصواتنا قليلاً لننتخبَ الضوءَ
فراشاً يحترق
غادرَ النهرَ مربوطاً بأقاصي الحزن
وثمّة أغانٍ جبليّة
مكتوبة بشروط الوزن
أختفتْ فجأة في الزحام
زحام الشارع الأسود المفقود
أَوَ كلُّ هذه الإيماءة ولم ينتبه أحد.
ترادف
يشبه الريحَ
حين ترخي رأسَها
في تجاعيد الغبار الحزين.
تشبه الوردةَ المائلة
حين تسقط قطرةُ الندى
في نخاعِ غصنِها المبلول.
***
حمد زايد الألمعي
- من مواليد عسير، عام 1958.
- بكالوريوس كلية الأرصاد الجوية من جامعة الملك عبد العزيز.
- يعمل في وزارة المياه.
صدر له:
- قصائد من الجبل [بالإشتراك]، شعر، منشورات نادي أبها الأدبي.
نرجسة الخيلاء
وأنتصبتُ
على شرفاتِ المدينةِ أسألُ
عن قاتلي المرتدي كلماتي
وأهصر فيكم مواعيد جوعي
وأعرف أني بلا أملٍ
أرتجي رشداً
في ضلالاتكم.
وأنتصبت على شرفات المدينةْ
خرجت عليكم
ودارت عليّ دوائرُكم
وكان لقاءُ الخطيئةِ بالنار
أقسمت
أنّ دمي كان يشبهكم
وأن الذي جاءني في المنام
ـ مهيباً ـ، كهذي الجبال
هو صدرٌ عصيٌّ
يناجز روحي
التي آذنت بالزوال
وأقسم ـ ثانيةً ـ
أنني لم أُدِرْ غير أوجاعكم
وجعاً
وأني حملت زماناً
من النرجس الجبليّ
فماطلني
وزماناً من العوسج المرّ
أرخى أصابعه في جفوني
وها تعبي:
ليس أوّله أن ريحانةً في الحقول القصيةِ
كانت تحاصرني بملامحها
حين أبني بعوسجةٍ في المدينة
تعصمني من ضياعي.
وهذي المدينة عجفاء
قاماتها في الملوحة رعبٌ
وأقدامها في الدماء
وبين الملوحة والدم
أنصبُ من أضلعي هيكلاً للغناء
المدينة عجفاء
والليلة امرأةٌ
من ترائبها يخلق الشعراءْ
والنواحي التي أبحرت
ما أستقرت لربانها
فالشوارع مثل التوابيت
تنتظر الموت مقرورةً
والسكارى بهذا البريق عيونٌ
تقيّح تحت محاجرها النومُ
وهي تفتش عن نجمةٍ
سقطت من حطام السماء.
المدينة عجفاء
تفترع التيه درباً
وتلبسني سحنة الغرباءْ
وها أنذا أتلمس
بين الكهوف طلاسم وجهي
وأقسم ـ ثالثةً ـ
انها لعنةٌ عبرت في غضون سمائي
فأسكنها الخلقُ وجهي
فمزّقتُهُ
وخلعت من إسمي القبيلة
وأرتجلتني البلاد نشيداً
من الرفض والأمنيات
وها أنا أقرأ بين الكهوف طلاسم وجهي
وتلك التي قلدتني نياشين زهوي
رمتني بهذي الدهاليز
وحدي أعاقر خوفي
وريحاً تسلسل أسرارها في غباري
وتعوي فأنفض عني المدى
ثم أقرأ وجهك
يا طائر الرفض
أقرأ وجهك:
كم تشتريك القراطيس
كيما تداجي الرياحَ التي تكسركْ ؟
تشتريك القراطيس
واخجلة الفقراء
حتام تنكر من قلدتك نياشين زهوك
حتام تجهل أنك مهما احترفت التمذهب
لست الذي تتلبسه امرأةٌ من نحاس وملح
وأنك مهما تشرذمت بين السلالات
لن ترث السلف المعدنيّ
ولن يتحدر من صلبك الخصبُ
والقمح
والحيوات.
فيا أيها المستريب ببعضك
هلا تيقنت أن الذي في ملامحك
الآن ليس بوجهك
لكنه وجه من أطعمك ؟
وهذا خلاصك
فوق سراط الحقيقة
هذا خلاصك فارجع
فماعاد
فـــي العمر متسعٌ
كي تميل إلى ضده أو إليه
لك الآن أن تتراجع عن موتك المعدنيّ
فإن القبور سواء
ولكنها ميتةٌ
سوف تحييك
أو تقتلك.
والمدينة عجفاء
قاماتها في الملوحة رعبٌ
وأقدامها في الدماء
وبين الملوحة والدمِ
اقرأ وجهك فوق بكائي
وأقرأ تيهك من دفتر القائمين على مزقي
وأحبُّ توحدهم فيّ إذ يرسمون شتاتي
وها تعبي:
ليس أوله أن ريحانة في الحقولِ
القضيةِ كانت تحاصرني بملامحها
حين أبني بعوسجةٍ في المدينةِ
تعصمني من ضياعي
وهذي الدروب
تحاورني
كي أموت
فأقبل في ولهٍ
أحْطِم الجهرَ
ـ حتى أرى قاتلي
حين يعبر بي في مجرات روحي
ويرجعني
ـ قبل أن أتطهر من دنس الطينْ
ألعنه
وأعود
لأبحث عن قاتلي من جديد.
أتفيّأ في ظلّ قيظٍ
وسربَ نساءٍ أفلن على جسدي
ثم أَمرعنَ بي
وما كنّ غير رياحي التي هجدت
فتضجر منها عبوسي القديم
وما جئن إلاّ بوحل المدينة
نحوي
فإذْ بالنواحي التي في يدي
ليس تعرفني
ودمي ليس يشبه صوتي
ولا لغتي تشبه الأرض
يعثر بي قدمي في حطام الطريق
وفي أمم أتفرس فيهم
وهم لا يكونون شيئاً
ولا يوصفون
وليس بهم فاقةٌ للحياة ولا الموت
ولكن لهم فوق ما لا يكون لنا
ولهم همُّ من جرّنا نحو همّ لهم
ولنا همهم
وهمٌّ على شرفات البلاد الضريرة
يتبع أطفالهم
ولنا وحدنا
مهرة الصمت
تستقبل الشمس
في عنفوان الخصوبة
مكتظةً باللغات
تطهر بالكلمات رمادَ الخطيئة
والشعراء.
وهذي المدينة عجفاء
قاماتها في الملوحة رعبٌ
وأقدامها في الدماء
وفي الأفق الصلد خيلٌ
تحمحم جذلى
نساءٌ يزغردن في حمأة الخيلاء
وبين الزغاريد والخيل
أنصب من أضلعي هيكلاً للغناء
تخلع الشمس هيئتها
ويموج المدى
المكفهرّ الزبدْ
لا نحبّ أحدْ
بل نحبّ بلدْ
طلع نرجسةٍ في فلاةٍ
وقهقهةُ امرأةٍ
خلف نافذةٍ من زبدْ
وعراك زمانين لا نعرف اسميهما
وفوضى كلامٍ
نرتله
ليس يعني أحدْ
لا نحبّ أحدْ
بل نحبّ بلد
ونحبّ الذين سيأتون
بعد قليلٍ
يدورون
في شغبٍ فاضحٍ
وتراتيلهم تتعالى
فتعتصر الأرض معدنها
من تخوم الأبد
لا نحب أحدْ
بل نحبّ بلدْ
لا نحبّ أحد
لا نحبّ أحد.
شيءٌ عن الظمأ
إذا اْجتاحني عنفوانُ النّغمْ
وفتشتُ عن جسدٍ يتلبَسُ روحي
وغامرتُ بالكلماتِ الرديئةِ
أدهشني أنني لا أصِلْ.
........
لستُ وحدي الذي تتلبًّسه الكلمات
فيلقى الترهّلَ فوق الحروفِ المكبَّلةِ الآسنهْ
لستُ وحدي الذي يجعل الصمتَ متكأً للنساءِ الجميلاتِ
في الوحدةِ القاتلهْ
كنتُ من ألفِ عامٍ أمنِّي بقاياي بامرأةٍ أو ألمْ
كنتُ أجتثُّ روحي
وأعدو لأجسادهنَّ
وأسقطُ
أسقطُ حتى اتقادِ العدمْ.
.........
مرَّةً قلتُ لامرأةٍ عابرةْ:
غرغري من دمي ما تبقى
وكوني ابتداءً لموتــــي
وصوغي لعينيّ أفقـــاً
يشاكٍلُ أهداب صوتــي
وردِّي ضميري لأشقى
ومدِّي شرايين وقتـي.
.........
تدلَّت
كما شئتُ
حتى أرتني ضفاف الجنون
ولكنها
قبل أن أبدأ الموت
كانت تغادرني نحو باب الحياة.
.........
هل امرأةٌ أصطفيها لتطعمني شوكة الألمِ المتمردِ
أم أنها تصطفيني لكي لا أكون ؟
أيها المطرُ المتساقط في داخلي :
إنني ظامئٌ للعذابْ
ظامئٌ لاشتعال الترابْ
ولكن:
هل امرأةٌ تعرفُ الظمأالغابرَ
القاتلَ
المتوسِّدَ وجهي
من البدء حتى الغياب ؟.
***
محمد عبيد الحربي
- من مواليد المدينة المنورة، عام 1955.
- بكالوريوس هندسة من جامعة البترول والمعادن بالظهران.
صدر له:
- الجوزاء، شعر، عن نادي جازان الأدبي، 1988.
- رياح جاهلة، شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 1992.
الصمت
إلى: عبد الرؤوف الغزال
إننا نتعلم الظل بعد الحليب الملوث بالطعنات
ونترك الأمطار على كرسيها العالي
مهجورةً ومُنكَرَه
لقد أصابنا اليتم من كثرة آبائنا
ومن نحيبهم المتواصل في الليل
ها هو أبونا الجديد
لم يجد موقعاً في دمائنا
فتأمّلَ حنانه
وأغرورقت عيناهُ
بنا.
الحنين
لم يكن الحنين سهلاً وممتعاً كما عهدناه
ولم يكن جارحاً كامرأة خافتة
حين جلسنا على أرائك البعد نعاشر المكاتيب
لم نجد الحنين مطراً خائفاً
ولا لهباً يعاقب الأذهان على قمة جبل
الأهلُ مثل الأهل
الأصدقاء مثل الأصدقاء
ونحن مثلنا:
نحلم
بشجيرات الجفاف التي انحنت في البال تُزهِر
على حافة العناق والوصايا
النسيان وحده لا يجيء
أيها النسيان
يا قرين الشرق
لم يكن الحنين أصابع نكتب بها.
الخائفون
لو أنهم أتوا من غضب الوردة
لخرجتُ
ونظفتُ حديقةَ منزلي من الأعشاب الواهمة
ونسّقتُ الياسمينة الأعلى من الرأس
وفركت الصدأ
عن الصنبور الذي يُصدّرُ الضجيج بعد الغروب
لو أنهم تركوني
لأخرجتُ أطفالي
في نهار.
مهنة أخرى
أسمع خطو الطفل
في الطريق
مربوطاً بيد أبيه
مغرماً بالعصفور الذي يغني على كل فوق
وبسرعة أنادي من يسكت في صفحتي
أعطيه ريشة
لا ليطير
بل لينتحر أمامي
وبالمصابيح أتبعُ خطوات الطفل
لآخذ يد الأب
إلى مهنة أخرى.
شاعر
1
تزفه عصافير البخور إلى قاعة الكلمات
على أجنحته المغموسة في الملح بقايا رماد
وحده المفتون
يلبس اكتراث السطور التي سرقتْه مرتين
يكلّم أنامل الهواء
يرشّ تلاميذ النهار بأشرعة طليقة
وبحماس ميمون يعانقُ فراشات الريح
القاعات المصفوعة بالأحلاف تمد ذراعها
الكراسي المجيدة تلتوي على ثمراتها الفسيحة
والأبواب التي من خشب (التيك) الهندي تتذكر:
القارات الممسوحة عن أبنائها
وتفكّر.
2
لا بر يداوي فمه
ولا بحر.
3
قبل أن يلده دمُه المدبّر
والصحراء تذهّب معصميه
بالرمضاء
ثم تمنحه رأساً من غضى.
***
هاشم جحدلي
- من مواليد ثول بالمنطقة الغربية، عام 1967.
- دبلوم لغة عربية.
- مساعد رئيس تحرير جريدة عكاظ.
صدر له:
- دم البينات، شعر، نادي حائل الأدبي.
- مذكرات عبدالله القصيمي، دار الجمل ألمانيا.
- الحياة السريّة لعبد الرحمن منيف.
hbbj19@hotmail.com
دم البيّنات
البداهة
في انحناءة غصن وحيد
تلعثم طفل يبوح بأسراره للقصيدة
في وردة تسكن الريح
كان اختبائي.
...
فكيف إذن، لا تكونين أنت سمائي.
اجتهاد
ربما يذبل البحر في جوف صمتي
أو في ارتباك الحجارة
أوعندها نتذكر أن المضرج بالشعر والعشق
يوما سيبلى.
...
أرى أن نموت جميعًا.
متتالية
على البحر طفل يرتق أحلامه
طفلة من ثرى الحلم تجبل أفق المطر
على موجه نورس يشتهي خمش وجه الأفق
على النورس الغض بعض دم.
...
وعلى البحر أيضًا شواهد موتي.
سيرة
ويحترق الصمت
يأتي العجوز ويطعنه البحر
يطمس أسماءه
ثم ينساه محتميًا بالملوحة واليود والماء
معتمرًا بالبهاء.
...
ويومًا سيحترق الموت.
وحدة
وحيدًا ومستوحشًا كنت
في لثغتي لوعة.. واغتراب
وإذ للشموس التي في نهايات أيامكم
انتمي.
..
وحيدًا
ولكنكم تسكنون دمي.
ريبة
بيدٍ مرّة أثقلتها الذنوب
تهيأت
ثم كتبت على الطين
صحوي رذاذ
ووجه المليحة نهران من حنطة وحنين
يداها الملاذ.
...
وها إنني بيدٍ مُرّة جئتهم مرّه
فأستعاذوا.
خليقة
فتأتي التي أينعت من ضلوعي
وكونت أعضاءها الساحلية
من طين روحي
وباركت لثغتها
واشتعال الطفولة في منكبيها
فكانت فتاة.
...
فتأتي التي أينعت من ضلوعي
احتوتني أخيرًا.
قصيدة اللوعة
أي قلب يمدُّ يده
أي حضن مكين
أي إغفاءة لا تكون الممات
أي امرأة عندما عانقتني
تجلت أنوثتها
وانتشيت
أي بيت
نوافذه لا تجافي.
...
أي منفى يليق بهذا الشتات
أي هذي المنافي.
...
أي شيء يكون البديل عن الموت
إني تعبت من البحث عن موطن لجنوني
فلا الأبجدية باحت بأسرارها العاصيات
ولا البحر كان الصديق الصدوق.
ولا شيء
لاشيء
هذي الخرائط ملعونة كم أضلت
خطى الطيبين من الأصدقاء
وما أرشدتني إلى الباب
ما أرشدتني إليه.
..
وهذي الشوارع تيه.
..
وإني تعبت من البحث عن أي شيء
ولو بعض أطراقه.. للبعيد.. البعيد .. البعيد.
..
أي حلم صغير
أي نجم يهلّ ولا يتدثر بالغيم كي لا أراه
أي معنى .. ولو كان فظًا لهذي الحياة
أي وجه يطلّ من الذكريات
ولا يحتمي في غيابه.
أي ليل مطير
أي ليل مطير
أي حرف يصب بمنتصف القلب
نار الكتابة.
***
هدى الدغفق
- من مواليد الخرج، عام 1967.
- بكالوريوس لغة عربية.
- تعمل في التعليم وتمارس الكتابة الصحفية.
صدر لها:
- الظل إلى أعلى، شعر، عن دارالأرض الرياض، 1993.
- لهفة جديدة، شعر، عن دار الكنوز الأدبية بيروت، 2002.
- سهرت إلى َقَـدَ ري، مجموعة شعرية مترجمة إلى الانجليزية والأسبانية، 2006.
- حقل فَرَاش، شعر.
hu2002d@hotmail.com
سماؤها
نتفت ريشتيها
العصفورة
ناولتهما إياه
طارتا
يداه جناحان.
قبل ذلك
القهوةُ
وحدي
ذاكرةٌ
أتأججُ.
أظافري تتعرّى
تسبقني
إلى وليمتها
أسناني
تخلع عظام أناملي.
.....
التوترُ
العاصفُ
هذا
الشاخصُ الآن
القابضُ
الخافضُ
بؤرة رأسي
كلّما
يفوُر بجمر كلماتي
يعصرني
إلى متى
قصيدةً
أهْمي..ي..ي..ي.ي.ي.
سبورتي البعيدة
لم أعد التلميذة الساكنة في كرسيها
ومازلت أفرّ
مِنْ كلّ دفتر يشبه دفتر المدرسة.
قبل أن ألبس العباءة
نسجتُ روحي عباءة لدفتري
فيه خبأت بذورها.
لا أدري بعد
لماذا تـنبت في الصف
قصيدتي ؟
تشرد بعينيّ
في حضرة الدرس
تتسلّق صوت المعلّمة
والجدران
والسقف
إلى سبورتها البعيدة
عن سبورتنا.
عيناي
تشرقان في خيمة صفِّنا
مصباحهما قصيدتي
كم مرّة تطفئهما
كلّما
معلّمتي الغاضبة
مخالب تهبط
على دفتري.
عيناي
دهشة تذوي
إذ تطردني معلّمتي.
قصيدة
دمي
يتسرّبُ
باكياً
من باب الصف.
الزوجـة
لست ِسوى امرأةٍ
تأكلها النوايا
تتوضأ بالأحلام الخجلى
امرأة
ترشف العسل
تُزهر الأبناء
ستذبلين
لا يحنو عليك
سوى
أرض ٍ
تُلمْلِمُكِ
حفرتها
السوداء
هكذا.
***
هيا العريني
- من مواليد القصيم.
- تعمل في التعليم.
- برزت في أوائل الثمانينات من القرن الماضي.
- كانت تنشر تحت أكثر من اسم مستعار، وأشهر تلك الأسماء: (غيداء المنفى).
- انقطعت زمناً عن الساحة الثقافية، وعادت مؤخرا تكتب بإسمها الصريح: هيا العريني.
لم تنشر مجموعة شعرية.
Hno_51@hotmail.com
تداعيات عطشى
إلى عنوان ما
كل أغنية عذبتني
وعذبتها
خلعت فصولي عليها
ومارستُ
فيها العقوق الأثيم
أضاءت عناقيدها لحظة
ورمتني.
أنا امرأة عشقها عاشرتْه العصافير
وأجتاحه السيل
نازلته سيوف القبائل.
قالت لها الشمس يوما:
أستمطري مدن الثأر
ولتبحثي
عن عيون رحيمة.
***
أربكت خطواتي الدهاليز
والطرق المعتمة
قتلتني الممرات
إن المدينة مرهقة
والحصار يعاقر نافذتي
والرداء الذي يرتديني ثقوب.
القصيدة تلبسني بإشتهاء
رائعة هذه الطفلة الآثمة حين تأتي
وتعبث في جسدي كالحياء
متوحشة واجهات العواصم
كل العواصم
في دمي
امرأة خائفة
ترتعد كاللقيطة في مدن الأولياء
وجهها يحمل الغيم
وجهي براري
ظمأ
نخلتان على صدرها
والعيون مطر
أربط الأمتعة
فأين الموانئ ؟
أين المحطات ؟
والطرق الآن
ضائعة
والمدينة
قديسة تنتحر.
****
مباح هو الرقص في الزمن المتهاوي
فحين المجرات
تسقط في الوحل
حين الصغيرات
يصبحن بعثاً ردئ المذاق
حين المليحات
يغرقن في الماء
يرقصن في الماء
يعشقن تحت الخباء البريء
فلا شيء سيدتي
يستحق الرثاء.
الشاعر
يا شاعري
لا تقلب الفنجان
أو تقرأ خطوط الكف
في (مدن الغبار)
لا تسأل الغجرية السمراء
عن قيظ تراكم فيه غيم الصيف
والقمر
استدار
والماء
خيط من شعاع الشمس
ملتفاً على جسد النهار
أغلق نوافذك التي لا تنبت الرمان
وأفتح فوق صدرك معبراً للنهر
كي تشرب غزالات القصائد سكرها
عشقاً
وتفاحاً
وظل
وأنظر (رصيفك) هل تبيع به الجميلات
الحسان.. أصداف وزار؟
يا شاعراً يتنفس الصبح الجميل على يديه
وجدائل الأشجار تورق بهجة في ساعديه
أن القصائد متعبات
أن القلائد في صدور الغيد
ينقصها السبات
أغسل خطاياك التي ملأت إناءك
وأغتسل برداً
وأسجد على طرف السحابه
وأعصر كؤوسك حنظلاً
فلربما قتلت بداخلك الكتابة
وأرحل مع الشعراء
صعلوكاً
تغازله الكآبة
فلربما مرّ الربيع هناك
أغنية لعذراء الصبابة
ولربما
جاءت إليك
قصيدة هيفاء
تلبس في أقدامها
الخلخال
ترقص للربابة
فأنثر بقاياك الوفية
وأنا
وأنت الآن
في درب يطول به النهار
(فأنفض عن الوقت الغبار)
لا شيء أروع صدفة من شاعر
يجتاز أروقة النساء
يا قادماً تنبت على جنبيه غابات النخيل
وشعره لغة احتضار
أنفض عن الكون النجوم
وأنفض عن الأرض الهموم
وأرحل مع القمراء
ظلاً
ليس له نهاية.
عاشقة
عام ولى
وجوادك مسروج تحت الضوء
وفوق شميم الصحراء
وعد
يسقط يا هذا بين النخاسين
يداهن صمت أنثى
ويقطع خاطره الصحو
ويملكني كالدهشة في وحي العشق
وكالهاجس في لحظات الإغماء
عام نفضته الدنيا صفرا فوق ردائي
عارية كلماتي حين يغيب الومض
ويمطرني الخوف جليدا
في المنفى أحيا
جارية ترقص بين مئات الأقدام
تغفو بين جدائلها أحلام العبيد
وأوجاع الفقراء
ما أشهى أن تبقى وطناً فوق شفاهي
غابات في خلجاني
وملذات في زمن الوحشة والبأساء.
****
إني أجتزت العالم يا هذا في عينيك
محيطاً
غيماً
مطراً
ورمالاً تصلبني وجهاً إغريقيا
يولد بين الأطلال
ألقاك متى ؟
يا قدري النابض كالنزف
الجارف كالسيل
ألقاك وأنت تحاصرني في الأسماء
أعترف الآن بأني أحببتك أكبر من جرحي
أقوى من خوفي النامي في خاصرة الحزن
أعترف الآن بأني أحببتك أرضا
هزتني مواسمها الرحبة
جعلتني أعشق هذا الإسم الغارق في صخب الأمطار
إني أعشق فيك التعب الصامت
أعشق فيك الموال.
****
أشهد أنك ميلادي الطاهر في إثم الأسماء
وأنك مطري في عهر الصيف وفي وهج الرمضاء
وأنك تأتيني في ذاكرة البحر وفي حد السيف
طعماً يختال وراء الضوء ويسكن كل الأشياء.
****
أعرف أن الوعد ينازل فرسان النسيان
وأنك هاجرت إلى وطن أسقفه ثلج ورماد
والطرقات المهزومة فيه تغني نشيد البحر
وتلبس أوحال الشاطئ
غيب يتسكع
يشرب قهوته المعتادة
يجتاز حدود الذاكرة الملعونة
يقراً أخبار النفط
يختصر الزمن الضائع من أوراق الغربة
يلمح فوق زجاج الساحل وجهاً شرقياً
يدنو من جثة فاتنة تلبس شالاً بدوياً
وبكفيها ما زالت
رائحة الحناء.
***
هيلدا إسماعيل
- من مواليد مدينة الرياض.
- ماجستير في التربية الخاصة تخصص تخلف عقلي وإعداد برامج.
- مسئولة التأهيل ضمن المجتمع بجمعية المعاقين بالمنطقة الشرقية.
- منسقة فنية في برنامج مشترك بين مجمع الأمير سلطان وإدارة الرعاية الصحية الأولية.
صدر لها:
- ميلاد بين قوسين، شعر، عن دار دار الفرات، بيروت، 2002.
- أيقونات، شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005، وصدرت ترجمته بالإنجليزية: ICONS، عن: Stacey International Publisher
www.hildaa.com
melad77@hotmail.com
تناهيد
أَحْتاااااجُ يَدَك
/
\
/
\
هاتِِها
لِنُجَدِّفَ (بَالقَصيدةِ)
ضِدَّ المَوْت.
أَرْذَلُ الشِّعرِ
نَصٌ طَويـــيـــيـــل.
/
\
/
أطْرُقْني أَيْقُونَةً
أَيْـ.. قُونَة.
رُوحي
مَدْعُوكَةٌ بِالضَّوْء
كلَّما انْحَزْتُ لكَ
أسْتَطَالَ ظِلِّي.
وَيْلِـ..ي
ي
ي!
كَيْفَ عَنْ كُلِّ الأشْياءِ
تَخْتَلِف
رَغْمَ أنَّ كلَّ الأشْياءِ
تُشْبِهُك
كَلِمَةٌ ما..
نَفَخْتَها فِي فَمِي
تَمَثَّلَتْ لَنا
(شِعْرًَا) سَويَّا.
يا شَاعِرِي
اكْتُبـْني قَصِيْدَة.
/
\
/
لا يُرْجُمُني بَعْدَهَا وَطَنْ.
كَتَنْهيدَةٍ
تَسْبِقُ فِنْجانَ قَهْوَتِك
كَكُلِّ الأَسْرارِ الصَّغيرَة
أفْشَيْتَنِـ...ي
ي
ي
ي.
لَدَيكَ..
وُلِدتُ بِلا ذِراعَيْن ؟
لا شَيءَ يتَشَبَّثُ بِكَ
إلاَّ قَلْبِي.
بَيْنَ شِفاهِكَ
لَنْ تُطْفِئَنـ..ي
ي
ي
ي
لُفافَةُ امْرأَة
لِلتَّوِ
لِلتَّوِ
للتوِّ اشْتَعَلَتْ.
أتعرفْ
أَنا لَم أَجِفَّ صُدْفَة.
لَمْ أَلْمَسِ السَّماء
/
\
/
ولِلنَّجاةِ
لَمْ تَكُنْ طَوْقا.
بَحْثًا عَنْكَ
تَكَسَّرَتْ سَاقاي
حَبْوًا
أَنْهَيْتُ الطَرِيق
وحِينَ زَمَّرَ ليَ الحُبُّ
لَمْ أَمْلِكْ أَقدامًا
لأَرْقُصَ بِها.
مِنْ مُنْتَصَفِ الخَصْرِ
حَتَّى طُلوعِ الآه
رَاقِصْنِـ..ي
ي
ي
ي.
أحْزِمْ نَجْمَاتِك
اللَّيلُ
لَنْ يُشْرِق
إلاَّ سرَّا.
بِالكادِ
نَزَعْتُها
أَظافِري
بِالكاد
/
بِالكااادِ
أنْتَهى ذاكَ العِنَاق.
لَنْ تُذِيبَني
أَمطارُ نِسَائِك
كَبُقعِ النِّمْرِ
سَأَظلُّ عاااالِقةً بِك.
وكَـ(ضَفِيرَتَيَّ)
سِأَنْشَطِر إلى امْرَأَتَيْن
إنْ نَسِيتُكَ
ذَكَّرَتْنيَ الأُخْرى.
مغرورة بي
توهَّمتُ هدهدة (الدنيا)
أرجَحَتَها
وقضْمَ أظافرها القصيرة.
"دوها.. يا دوها"
على حجري
أهَزْهِزها
أُدلِّلُها
أكحِّلها
وتعميني.
بيني وبينها عقوقٌ
سوءُ أمومةٍ
وذروةُ ما أشتهى الموت.
مجنونةً قالوا عنِّي
أو هي
بعض أعراض الأنوثة.
وفي وجهي
كم أرتفعتْ أصابعهم الوسطى ؟
وكم لعنوني كثيرًا ؟.
للجنونِ نهاياتٌَ أخرى
جسدي
إلى المحطة يسبقني
يكنسُ
يمسحُ
يفترشُ الرصيف الذي أضاء.
عامل نظافةٍ
يرتدي كيسَهُ الأسود
ويُراقص مكنستي.
بائعةُ لبانٍ
تلوكني
تعلكُني
وبين أضراسها أصْطَكُ
وأتشَابك.
نزواتُكَ الأخيرة
لا خطأ فيها
لا صواب
إنَّها هنا
أمامي تتسكَّع.
جفنايَ
أسنَدتهما تحت عجلة القطار
وللأبد
للأبدِ
أغمضتهما.
في دمي أتخبَّطُ
أتلوَّى
بيني وبين الموت ردهة
سأعبرها
وأستقيم.
مساءٌ للموتِ، ولا أشهى
قلبي
يركلُ الحياةَ
فيهتَّز بياضُ الكفن.
أُخوتي خلخالي
m&m's
Nero café
المصعد المعطَّل
هكذا
بكلِّ بساطةٍ كانوا يبكون.
أمّا الورديةُ وسادتي
فكنتَ محشوّا في قطنها
معكوفًا
في شقٍ صغير.
الوسادة التي مجانا باعتها أمّي
أيمكن أنها
على فِراشِ فتاة أخرى الآن ؟!
الأكيد
أن على فراشٍ رجلٍ آخر
تتأوَّه قصائدي.
"دوها.. يا دوها"
هذا المساءُ
كان عليَّ أن أموت
ليتذكّروا أنني قيدُ الحياة
كنتُ يوما.
قبل أن يُخاصرني الموت
بلا شك فاتنة كنتُ
وإن على مضضٍ
حلمتُ بأشياءٍ نيِّئة.
كأن أجد رجلا ناصعًا
أدْلِقُ ظلِّي عليه.
أن على الأرصفة أتمطَّى
وبلساني
أعرقِلُ المارَّة.
أن أمتنع عن الـ cookies
الدونت
الكاكاو
لأراقصكَ بساقين ممشوقتين
وخصْرِ فستانٍ ضيّق
أو...
أن أعبثَ بالحبِّ
وبأصابعٍ مبتلَّةٍ باللعاب
أفقأ قلبي.
"دوها... يا دوها"
لا أذكر كلَّ أحلامي النيِّئة
غيرَ أنني بلا شك
فاتنة كنتُ.
بعد موتي بخطوتين
أمّي زارتني
مع الورديةُ وسادتي
وعجائزٍ
في مناديلهن يُطرِّزن البكاء.
بكاؤهن لم يعد يزعجني
أيمكننا يا أمي
أن نزعجَ الموتى.
أيمكنني إخبارك
أن الموتى هؤلاء
لا يحدِّقون بي حين أستلقي.
أن السمراء جارتي
لم تعد تراقبُ زوجها المعتوه
حين صدفةً نخرجُ معًا
أو
عمدًا يتسلل إليَّ.
أن الله
بسبب قصيدة
لم يعذِّبني.
هذا الشعر.. خبيث أيضًا !
هذه الـ(أنا)
خفتُ أن أناديها باسمي
وبالإشارة
اكتفيت.
لم أعد " قصيدة "
ما منحنَي الشعر إياه
سرقته الغربة.
في وجه امرأة أخرى
لمََحْتُني
عرفتني من عينيَّ
تلك الملعونة لها رمش طويلٌ
وبالبكاء تتعثر.
ذاته ذاكَ البكاء
يربِّتُ عليَّ
في الغربة
حتى الأصابع
تذرف الدموع.
هنااااك عرفت
أن أصبعاً واحدا يكفي
ليستيقظ الخبث
حينا في أعينهم
وحينا في دمي.
هذا الشعر خبيثٌ أيضًا
علَّمني الغناء
وعلَّمك كيف تملأ عشا بالتراب
كيف خارج السرب تموت
وحيدا
وحيدا
في حلم قصير.
لا
لا
لا أيها الطائر
ليس هذا قلبًا للرقص
أودعتُك جناحيَّ
ونسيتكَ قصيدةً في يدي.
كلّ مساءٍ
أعْبُرك ولا أذكر
على عنقك أترك شامتي اليمنى
وضحكاتي
بين شفتيك أنساها.
وكل صباح
أقفز من عينيكَ
قطة الشارع أسألها عني
عن لون الحليب
وغيمة كانت معي.
من بعيد
ألوِّح لجسد في قاربٍ صغير نسيته
في ذلك القارب الذي للعشق اخترعناه
كم مرة نسيت جسدي !؟.
بحفنة وطنٍ
بوسعي أن أتسلل إليَّ
أن أكونك
وأكون القصيدة التي لم أعد.
وبحفنة وطن
لا غير
بوسعي أن أتذكرَني
أن أركلَ البحر
لينزاح الموج
عن طفلةٍ لطخ فمها الشعر.
عن طفلة
كانت" أنا "
خلسة تأكل القصائد
ولا تشبع.
%مُقَشَّرَةٌ
كلُّ ما اهْتَرأَ
لا يَدُلُّ عَلي.
الزمنُ
إلى ( أنصاص)
يُقشِّرني.
في لُـبِّيَ
عجوز (مؤجَّلة)
منذُ عشْرين قشرةٍ
لم تَنْتَزِعُها يد.
لا يمنعَون عني الحبَّ
هم
يَنْسُونَ منْحِيَ إيَّاه.
ينسونني
وقبل الساعة العاشـ(ق)ـة أحتضر.
2
أن أتأجَّل
فكرةٌ عذراءَ
معرَّقة اليدين.
بظهرِ ملعقةٍ
أحدِّق :
أبَعدَ سنواتٍ
أُشَاجر تعارِيْجي ؟.
عند التعب
نصفٌ مترهِّل
يُداعِبُ خشَب العكّاز.
نصفٌ يداعب
(سُرّة) ضامرة
ودمية من خزفٍ
أرضعتها.
طفلة ملفَّقة
كأنني
لا أعرف الوقت.
3
نلتقي
تُسمِّرُني فتحة قميصه
ويُسَمِّرُه
نصفيَ المجعّد.
يتَساءَل:
أين شَعْريَ الكستناء ؟
أُتَأتئ :
(نُص) الحمْرةِ غادرتنا.
ساعته
بـ آآآآآهةٍ
تَهُزّني
وخلف هذا الصدى
نركض.
أحَدُنا
بالقلبِ يَسْتأثِر
أحَدُنا
يحرصُ على ركضٍ معَاكس.
أن أتأجَّل
نِصْفيَ ليسَ كافياً
لإغواءِ رجلٍ أخير.
4
نتجاااسد
ـ هوـ
نصْفيَ الحلم
والآخر
وقتٌ يُتَكْتِكُ بأضْلاعِي.
تكَ
تكَ
تكْ
يُفْسِدُ ترتيبَ العظام.
روزْنَامتي
تقفُ عند البارحة
وأجْسَادنا
مُتأخرةٌ تَجْيء.
يَحْملُ نَكْهةَ الإنْزِياح
جسَدهُ الذي صَافحَني
ومضى.
ـ أنا ـ
أثاثٌ مخذول
لافتة منبعجة :
(نُصُّ) امرأة للبيع.
5
لنْ أصعدَ
أنثى
مكْسُورٌ ما بعدي
لن أقنع أحدا.ً
البغايا
يصْعَدْنَ (أنصاص) الليل
يصْعَدْن
يصعدن
وتَنْكَشِفُ مؤخَّراتهن.
في مدينتي
يصعدُ السيِّئون فقط
وبعضي
فوق بعضي
يتساقط.
من بابٍ نصفِ موصد
أتدَلَّى
وبداخلي
نافذةُ عَدْلٍ
تمووووت !!.
أتَأجَّل
وفي الظلام
كلُّ الـ(أنصاص) تَلْتَئِم .