إنجاز: سعدية مفرح

لم الهروبُ أيها الظل
أنا الذي أقبلَ يحملُ الدفءَ إليك !
ومعه رداءْ
غزلهُ من فرح الفجر ومن صبابةِ الأصيلْ !
حتى مع الشتاءْ
تظل عارياً يا ظل ؟
أحمد العدواني

الإهداء
إلى فهد العسكر
شاعرا
وشاهدا
وشهيدا

بألفتهم يخدشون الماء

وعلى رسلهم يحرثون اليابسة، هم حداة الغيم والوحشة، يتنزهون على شواطئ السراب ويتنسمونه في شميم الشعر ليحددوا ملامح الخريطة وفقا لمحض اندياحاتهم بين الماء والصحراء حيث ينمو الوطن على ضفاف الشعر، وحيث تتأنق الضفاف بسيرتهم وسيرورتهم، وحيث الشعر، بغض النظر عن تعريفاته المستحيلة، دهشة.. مجرد دهشة تصل بالشاعر إلى حد البكاء دائماً، وإلى حد الضحك دائماً، ليس بوصف البكاء تعبيراً عن حزن عميق، ولا بوصف الضحك تعبيراً عن فرح غامر، ولكن بوصف الممارستين تعبيرا إنسانيا راقيا عن دهشة ما تجاه شيء ما في هذا الكون اللامتناهي في تكوينه المتراكم.. دهشة متسائلة، مأخوذة وآخذة. وما الشعر إلا قبض عفوي وذكي على لحظة الدهشة الملتبسة تلك.. أما نار الشعر المقدسة فإنها تلك البعيدة إلى حد التماس مع الروح والقريبة إلى حد التماهي مع الحقيقة الأخيرة وعلى مدى الخطى الفاصلة بين الحدين تغوينا شهوة الشعر وتغرينا لذته المستحيلة.
وشعرائي، الذين يستشرفون الغيم بعيون الدهشة، المتناسلون من بيت الشعر الأول في أرض العرب الأولى، الذاهبون إلى حدود الكلام بشفرات مصنوعة من فولاذ الموهبة ومروية بدم القلب، المندسون هنا، بين خبايا الحدث الشعري المتواصل في الكويت منذ قيامة الكويت، ما زالوا هنا.. يصقلون بلور القصائد، ويكتملون في صنعها كلمة وشهقة وموسيقى ونارا تتأجج بين الحنايا ووطنا جميلا وحنونا. وما علي الآن سوى أن أسميهم واحدا واحدا، غائبا وحاضرا، فكلهم حضور لحفلة القول الشعري، وكلهم شهود على لحظة القصيدة.
وقبل أن أبدأ في مهمتى ..هذه إشارات لا بد منها:

  • سعدت بإعتماد مصطلح "شعريات"، لتصنيف هذا الكتاب بدلا من مصطلح "أنطولوجيا" الذي شاع كثيرا كترجمة للمختارات الشعرية لدى كثير ممن أنجزوا مثل هذا النوع من العمل من شعراء ونقاد عرب، رغم الفرق الكبير بين مفردتي أنطولوجيا (ontology)، وأنثولوجيا (anthology)، فالأولى تعني "مبحث الوجود: دراسة الكائن في ذاته مستقلا عن أحواله وظواهره" ، أما الثانية فهي "في الأصل مجموعة من القطع الشعرية، ويقصد بها الآن أي مجموعة من المختارات الأدبية شعرية كانت أو نثرية .
    ولعلها فرصة مناسبة كي أذكر بمصطلح عربي قديم ومهمل يمكن أن يغنينا عن هذا وذاك وهو "الحماسة"، حيث أستخدم النقاد والشعراء العرب في العصور المتقدمة مصطلح الحماسة تدليلا على مختارتهم الشعرية، فكانت هناك حماسة أبي تمام، وحماسة البحتري، وحماسة الشجري، وحماسة أبي هلال العسكري وغيرها، ولا أدري لماذا لا نعيد إحياء هذا المصطلح شبه المندثر بدلا من إستخدام مفردة غير عربية بطريقة خاطئة، غالبا.
  • فضلت أن أقدم لهذه المختارات الشعرية بمقدمة تاريخية موجزة رغبة مني في رسم إطار عام للمشهد الشعري قبل الغوص في جمالياته ورصد أسمائه وشواهده الشعرية.
  • على الرغم من أن فكرة الشعريات أو المختارات أو الحماسة تمنح منجزها ميزة أن يختار ما يشاء من أسماء وقصائد وفقا لما تقترحه عليه ذائقته، إلا أنني تخليت عن تلك الميزة، مفضلة تقديم صورة بانورامية متكاملة للمشهد الشعري في الكويت خاصة وأن الكتاب ينشر ويصدر في الجزائر، بعيدا عن الكويت ومحيطها الجغرافي الضيق، فلم أغفل سوى من لم أتحصل على معلومات كافية عنه أو نتاج شعري له لحظة إعدادي لهذا الكتاب.
  • كان لا بد من بداية محددة واضحة المعالم، ولأن بدايات الشعر في الكويت غامضة غموض كل ملتبس تحت ركام التاريخ البعيد، ولأني لم أحظ بفرصة كافية للبحث بين ذلك الركام عن نصوص تليق بأسماء شعرائها، فقد أخترت قصدا، أن أبدأ إختياراتي تاريخيا بالإسم الشعري الأهم في مشهد الشعر الكويتي، فهد العسكر، ليس إنحيازا لشعرية هذا الشاعر من دون غيره ممن سبقه وحسب، بل أيضا لأنه كان مفصلا من مفاصل الحركة الأدبية في الكويت والمنطقة الخليجية ككل .
  • عدد القصائد المختارة لكل شاعر لا يعتمد على حكم نقدي أو موقف تفضيلي، بل هو خاضع لاعتبارات فنية تتعلق بعدد صفحات الكتاب أحيانا، ولاعتبارات تتعلق بما توفر بين يدي من نصوص لكل شاعر أحيانا أخرى.
    وبعد ...،
    فها هو المشهد الشعري الكويت، كما أراه تحديدا، لعلي في ما رأيت.. رأيت، ولعلكم ترون، كما رأيت.

ديباجة

قراءة لذاكرة الشعر في الكويت

توافق معظم من درس تاريخ الشعر في الكويت على أن عبد الجليل الطبطبائي (1776 ـ 1853) هو أول من نظم الشعر في الكويت، مع ملاحظة تلك البدايات التي يفترض منطقيا أنها متحققة عبر سيادة الشعر المكتوب باللهجات العامية أو ما يسمى بالشعر النبطي الذي برعت به أسماء شعرية معروفة، وإن كان أحدا لا يستطيع الجزم بنسبتها إلى الكويت وحدها إعتمادا على الجغرافية التي أنتشر فيها مداها الشعري آنذاك، وإذا كنا ما زلنا نتنازع بحثيا وتوثيقيا وحتى إعلاميا على إسم الشاعر عبد الله الفرج إن كان نجديا أو بحرينيا أو كويتيا أو عراقيا، إتكاء على المدة الزمنية التي أقام فيها في كل من تلك البلدان، فإن أسماء أخرى سبقت تاريخ ظهور الفرج سيكون الإختلاف عليها أشد بالتأكيد، ومنها عبد الجليل الطبطبائي نفسه، والذي لم يعش في الكويت سوى السنوات العشرة الأخيرة من عمره.
ورغم أن المنطق يفترض وجود شعراء مجايلين للطبطبائي، إلا أن الأسماء الأكثر شهرة ستكون لاحقة بقليل بمرحلة الطبطبائي، وهي المرحلة التي ساد فيها شعر الفقهاء وفقا للباحث د. محمد حسن عبدالله ، ومن هؤلاء خالد العدساني، وعبدالله الفرج، والشيخ يوسف بن عيسى القناعي، وأحمد بن خالد المشاري، والشيخ عبد العزيز الرشيد، وصقر الشبيب، ومحمود شوقي الأيوبي، وخالد الفرج، وعبد اللطيف النصف، حيث أنعكست في أشعار أغلب هؤلاء الذين برزوا في النصف الأول من القرن العشرين (توفي الشبيب وهو آخرهم زمنيا عام 1963)، الكثير من المبادئ الإصلاحية ذات الطابع الديني، فكانت دعواهم للإصلاح والتغيير والتطوير تنطلق من الجذر الديني رفضا لكل مظاهر الغلو فيه وهي مظاهر وافدة على المجتمع الكويتي المنفتح بطبيعته رغم تدين أفراده الفطري، وتتعداها أحيانا إلى الجوانب الإجتماعية التي كانت عرضة لتأثير عوامل خارجية كثيرة تسارعت في البروز على واجهة الطقس اليومي للمجتمع الكويتي آنذاك، وكانت أبرز معالجاتها تلك التي تتخذ من مسألة تعليم الأولاد والبنات قضية لها.
على أن ما يلفت النظر في تجربة هؤلاء الشعراء ذلك الإهتمام المبكر الذي أولوه للقضايا القومية في كل مكان من الوطن العربي ومنها ثورة الريف في المغرب، وإرهاب الاستعمار الإيطالي في ليبيا، والإستعمار الفرنسي في تونس والجزائر، والإنجليزي في مصر، بالإضافة إلى القضية الفلسطينية التي حظيت بالإهتمام الأكبر من قبل أولئك الشعراء وخصوصا خالد الفرج حيث أهتم بالكتابة عن تحولاتها منذ العام 1928.
على أن شعراء تلك المرحلة تقاعسوا عن تناول القضايا السياسية المحلية، ومنها تلك الأحداث المتعلقة بالمجلس الإستشاري عام 1921، والمجلس التشريعي عام 1938، في قصيدهم على الرغم من أن تلك القضايا كانت من الأهمية التي رافقت بدايات نشأة الدولة بمعناها السياسي الحديث في النصف الأول من القرن العشرين، خاصة وأنها كانت من الموضوعات المهمة التي تناولتها الصحافة الكويتية في مراحل تطورها المختلفة، كما تناولها الشعراء الشعبيون أيضا، بل أن الكويتيين أتخذوا في كثير من الأحيان تلك الأحداث مرجعا تاريخيا وتوثيقيا للأحداث الإجتماعية والشخصية الموافقة لها في تواريخها كأن يقال حدث ذلك الأمر في سنة المجلس وهم يقصدون عام 1938، وهو العام الذي قام وحل فيه المجلس التشريعي مثلا.
ولعل في ذلك الغياب الشعري، الفصيح، عن الحدث السياسي الكويتي المحلي قبل الإستقلال عام 1961 ما يرجح رأي من يقول أن "الشعر الكويتي لم ينشر بعد، وخاصة ما يتصل منه ببعض الأحداث المحلية التي تتسم بالحساسية" ، وهذا يفسر ظاهرة وجود قصائد شعرية شعبية عامية حول تلك القضايا، حيث جرت العادة على تداول القصائد الشعبية وتناقلها شفهيا بين الناس دون الحاجة لكتابتها وتسجيلها، وعدم وجود قصائد فصيحة مما يصعب حفظه وتناقله شفويا في مجتمع لم يكن التعليم منتشرا فيه بشكل كاف.
ولكن هذا الغياب الشعري الفصيح عن الحدث السياسي المحلي، في مقابل حضوره تسجيلا للأحداث السياسية والحربية الخارجية أي تلك التي كانت تتعلق بحروب وصراعات تجري بين الكويت وجاراتها، لم يكن تاما، فقد سجل الباحث د. خليفة الوقيان في بحثه عن "الجهود الثقافية المبكرة في الكويت 1682 ـ 1939" أبياتا كان قد أرسلها الشاعر عبد اللطيف النصف، الذي يعده الوقيان من أكثر الشعراء الكويتيين جرأة في نقد الوضع القائم، لصديقه الشاعر خالد الفرج عام 1926، يشكو فيها تردي الأوضاع في الكويت، فيرد عليه الفرج بأبيات أخرى مشخصا بها الداء بأنه نتيجة طبيعية لحكم الفرد.
لم تكن المعالجات الشعرية لقضايا الإصلاح الديني والقضايا الاجتماعية والسياسية كل ما شغل بال شعراء تلك المرحلة في الكويت، إلا أنها كانت الأبرز في قائمة إهتماماتهم، بل أنها سجلت حضورها حتى في تلك القصائد ذات الطابع المغرق في تقليديته وفقا لأغراض الشعر القديمة كالهجاء والرثاء والغزل، كأن نجد قصائد كاملة في هجاء أولئك المعارضين لأية حركات إصلاحية أو المتشددين دينيا وإجتماعيا بما لا يتناسب ورياح التغيير التي بدأت تهب على المنطقة ويتنسمها شعراؤها إعجابا وتأثرا، أو نجد قصائد رثائية لشخصيات علمية معروفة بنزوعها نحو الإصلاح، والتغيير، وتشجيع التعليم للأولاد والبنات، أو نجد قصائد غزلية يتخذ منها الشاعر ساحة للدفاع عن المرأة وحقها في الحياة وفقا لخياراتها الخاصة ومساواة لأخيها الرجل.
وإذا كانت رياح التطور والتغيير قد أنعكست بشكل واضح وإن بشكل تدريجي على قصيد شعراء تلك المرحلة، بمستويات متفاوتة وفقا لإهتمامات كل شاعر ومدى ثقافته وحجم موهبته وإستعداده لتطويعها خدمة لما يؤمن به من قضايا، إلا أن تلك الرياح كانت تهب بدورها على المنطقة وبتجليات مختلفة، وبالتالي أختلفت آثارها وتأثيراتها على المجتمع بشكل عام والشعراء منه بشكل خاص بمستويات مختلفة أيضا، وكان التعليم بمفهومه الحديث المتجاوز لفكرة التعليم الديني التقليدي وفقا لنظام الكتاتيب، من أهم تلك التجليات التغييرية على الصعيد الفكري، حيث تسنى لأبناء المنطقة لأول مرة الدراسة وفقا لمناهج حديثة نسبيا مع إنشاء عام 1911 أول مدرسة في الكويت وهي المدرسة المباركية، قبل أن تتبعها مدارس أخرى للبنين في السنوات اللاحقة، قبل أن يقتنع المجتمع بفكرة تعليم البنات عندما أنشئت أول مدرسة حديثة لتعليمهن عام 1938، وقد أستلزم إنشاء المدارس وفقا للأنظمة الحديثة في الكويت إستقدام عناصر تعليمية قادرة على التدريس في هذه المدارس من أبناء الدول العربية التي سبقت الكويت في دخول العصر الجديد بعد قرون الظلمات، حيث قدمت أول بعثة تعليمية من فلسطين عام 1936، وتتالت بعدها البعثات التعليمية العربية بشكل جماعي وفردي، وهو ما يجعلنا ننظر إليها على أنها أحد أهم تجليات رياح التغيير التي أثرت على الشعراء الكويتيين وبالتالي على الشعر في الكويت وعكس المستوى الفكري الذي تكون لشعراء المنطقة بدرجات متفاوتة.
وإذا كان يمكن النظر إلى تأثير التعليم والبعثات التعليمية على الشعر والشعراء في الكويت باعتبار تأثيرها غير مباشر، فإن تأثير الصحافة عليهما كان من المباشرة بحيث يمكن اعتباره أنه أهم تلك التجليات التأثيرية على شعراء تلك المرحلة خاصة بالنظر إلى طبيعة تناول الصحافة للقضايا الفكرية والثقافية والسياسية تناولا مباشرا بل ودعويا تحريضيا في كثير من الأحيان ، وقد يتضاعف أثر الصحافة العربية، في نظرنا، على شعر وشعراء المرحلة ليس في الكويت وحسب بل في كل البلاد العربية التي كانت تصلها صحف تلك الأيام الصادرة في القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق إذا ما اكتشفنا البدايات الفكرية والأدبية بالذات للصحافة العربية، فقد نشأت معظم الصحف والمجلات العربية في بداية القرن العشرين أو قبله بقليل على بجهود أدباء وشعراء معروفين مما جعلها تولي الجانب الأدبي والفكري جل اهتمامها.
وإذا كانت الكويت عرفت الصحافة المحلية لأول مرة عام 1928 بصدور مجلة الكويت على يد الشيخ عبد العزيز الرشيد، إلا أن الكويتيين كانوا قد عرفوا الصحافة قبل هذا التاريخ بسنوات كثيرة، عبر إطلاعهم على عدد كبير من الصحف والمجلات العربية التي كانت تصلهم من القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق، بل إن الكثير من الشعراء والكتاب الكويتيين أعتادوا النشر في بعض هذه الصحف، وخصوصا بعد توقف مجلة الكويت عن الصدور بعد سنتين، وتحولوا للصحافة المحلية عندما عادت إلى الظهور عام 1946 بصدور مجلة البعثة، التي وإن كانت تصدر من القاهرة على يد طلبة البعثة الكويتية الدارسين هناك، ثم تتابع إصدار الصحف والمجلات الأخرى.
ويلاحظ أن الكويت آنذاك، ونتيجة لكل تلك الظروف التغييرية، وأيضا توكيدا لها كانت نموذجا مصغرا لأثر ما كان يحدث من تغيرات سياسية وفكرية عامة في قلب الخريطة العربية حيث عواصم عربية مثل القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق تمور بأطياف فكرية حادة في تداعياتها، ومتناقضة في تجلياتها السياسية المتواترة والسريعة، على العواصم العربية الهامشية الصغيرة في شرق وغرب الوطن الكبير.
وعلى الرغم من أن هذا النموذج الهامشي الصغير بدا نشطا جدا وجادا جدا في التأثر بما يحدث حوله، ويصل إليه دعاوى وشعارات وأحزاب متسللة عبر الصحافة أحيانا وعبر وافدين عرب أحيانا أخرى، وعبر مواطنين درسوا في الخارج وعادوا إلى الوطن أحيانا ثالثة، هذا النشاط الجدي تجلى واضحا في أكثر من صورة محلية مباشرة في تطلعها وهويتها مثل الروابط والجمعيات والنوادي الفكرية والسياسية والإجتماعية، والصحف والمجلات، غير أن الشعر ظل بعيدا إلى حد كبير عن المشاركة في تكوين ذلك النموذج في مرحلة ما قبل الإستقلال تحديدا، مع إستثناء واضح تمثل في وجود الشاعر فهد العسكر، قبل أن تلحق به، ثلة من الشعراء المعبرين عن ملامح تلك الصورة النموذجية للكويت المتطلعة فكريا وثقافيا وسياسيا وفقا للنموذج العربي السائد في الستينيات، أي بعد إستقلال الدولة وقيام مجلس الأمة فيها. مما يجعلنا ننظر لفهد العسكر باعتباره مرحلة.. وحده.
فهد العسكر... الشاعر المرحلة
لا نستطيع التحدث عن تطور فني أو موضوعي مهم وملفت للنظر ألم بالشعر الفصيح في الكويت إلا من خلال الحديث، عن الشاعر فهد العسكر(1913 إلى 1917 ـ 1953)، ولكن ليس بإعتباره مشكلا لملامح ذلك النموذج الكويتي في صيغته العربية طوال فترة الأربعينيات وبدابة الخمسينيات وحسب، ولا بإعتباره مجددا حقيقيا في الشعر فقط، بل أيضا بإعتبار تأثيره البالغ على من جاء بعده من شعراء المنطقة وحجم ذلك التأثير ومدى وعيه به أيضا، بالإضافة إلى حجم الموهبة الشعرية التي أطرت ذلك الوعي الجديد ومستواها أيضا مقارنة للسائد من المواهب الشعرية آنذاك.
فهد العسكر لم يكن شاعرا عاديا في ديــوان الشعر الكويتي أو العربي، فلقد ظهر ضمن تلك الإرهاصات التاريخية التي كانت تنبض في تضاريس المنطقة العربية بأكملها ونتيجة لها، فكان الصورة النموذجية، والوحيدة في تلك المرحلة، في الكويت للعصر العربي الخاص، شعريا وسياسيا وإجتماعيا، وقد رشحه نتاجه الشعري الغزير والذي لم يتبق منه سوى القليل بعد أن تعرض للحرق المتعمد من قبل ذويه الذين كانوا يرفضون خياراته الحياتية المتناقضة مع خياراتهم وخيارات مجتمعهم التقليدي، وللإهمال غير المتعمد من قبل الكثير من أصدقائه الذين لم ينتبه سوى قلة منهم لقيمة ما يحتفظون به من قصائد له.. نقول أن هذا النتاج الشعري رشح فهد العسكر ليكون واحدا من طليعة شعراء جيله ليس في الكويت أو المنطقة الخليجية وحسب، بل على إمتداد خريطة الوطن العربي بأسرها، وقد كان يمكن لهذه المكانة أن تتسع أكثر، ولهذه الشهرة أن تتضاعف أكثر وأكثر لو أن العسكر كان ممن يحرصون على نشر نتاجاتهم الشعرية في المنابر الصحفية التي أتيح له النشر فيها فعلا، فقد كان زاهدا في الشهرة حريصا على عدم نشر كل ما يكتب من قصيد جديد، ويرى عبد الله زكريا الأنصاري "أن الشاعر فهدا كان غير ميال إلى نشر قصائده في الصحف العربية، وكان يتردد كثيرا، إذا ما طلب إليه نشر قصيدة من قصائده في إحدى المجلات العربية، ولا نعرف الأسباب التي دفعته إلى التردد والإمتناع أحيانا عن نشر قصائده، وربما رجع ذلك إلى إعتقاده بأن هذه القصيدة أو تلك لا تستحق النشر، والذي يؤلمنا أننا كنا نعرف أن لديه مجموعة كبيرة من أشعار يحتفظ بها، وأنه أعد قسما كبيرا منها للطبع، وقد أخبرني بذلك شخصيا، عندما زرته في أحد الأيام، كما أخبرني أنه لا يستطيع طبع جميع قصائده، لأن فيها ما يسوء بعض الناس، وهو لا يحب إثارة خواطرهم، وسيتركها للزمن يفعل بها ما يشاء".
ولعل الشاعر كان يشير إلى أسباب ذلك الزهد في النشر عندما قال في بعض شعره مما يمكن النظر إليه أيضا على أنه تنويعه جديدة على المضمون الشعري في الكويت حيث الوطن، بإعتباره كيانا سياسيا، هو مادة للنقد المباشر والصريح:

وطني وأدت بك الشباب
وكل ما ملكت يميني
وقبرت فيك مواهبي
وأستنزفت غللي شؤوني
ودفنت شتى الذكريات
بغور خافقي الطعين
وكسرت كأسي بعدما
ذابت بأحشائي لحوني
وسكبتها شعرا رثيت
به منى الروح الحزين
وطويتها صحفا ضننت
بها وما أنا بالضنين
ورجعت صفر الكف
منطويا على سر دفين
فلأنت يا وطني المدين
وما أنا لك بالمدين .

لكن زهد فهد العسكر بالنشر والإنتشار لم يكن هو السبب الوحيد في تأخر مكانته الإعلامية والثقافية عن الطليعة الشعرية العربية التي كان في صفوفها الأدبية الإبداعية. فإذا كانت تلك الطليعة قد حظيت بإهتمام نقدي وإعلامي وثقافي كبير نتيجة إنتمائها لبيئات عربية متقدمة ثقافيا وفكريا ومتصلة إتصالا مباشرا ومستمرا مع التيارات الثقافية المستجدة، فإن فهدا العسكر ظهر في بيئة منغلقة على نفسها مقارنة مع غيرها من البيئات العربية المنفتحة في ذلك الوقت، كما أن ظروفه الشخصية، والرفض الأسري والإجتماعي له، وتعرضه للمرض ثم فقدان البصر أسهمت في تغييب صورته عن مشهد الشعر العربي في النصف الأول من القرن العشرين، برغم إنتمائه الحقيقي لهذا المشهد، وتأثره بكل التيارات الشعرية التي كانت سائدة في ذلك الوقت إتساقا مع نزوعه لكل ما هو جديد ومع رفضه المطلق لكل ما هو قديم.

تحول.. وثورة مبكرة

رغم أن فهدا نشأ نشأة عائلية ومدرسية دينية متميزة تجلت في حرصه على تسخير موهبته لخدمة قضايا الدين وإعلان شعريته عبر قصيدة دينية في الإحتفال في المولد النبوي، ألا أن هذا الحرص تبدد بعد ذلك شيئا فشيئا تحت وطأة إهتمامه المتزايد بنوع جديد من القراءات لم تكن المنطقة تعرفها كثيرا. وكانت المجلات الأدبية الصادرة من القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، زاد الشاعر المتطلع، حيث فتحت له تلك القراءات الجديدة آفاقا جديدة على الشعر الجديد، وجعلته يبدأ أولى خطوات ذلك التحول الكبير الذي أنعكس على الصعيد الشعري أولا ثم على الصعيد الفكري والإجتماعي، فتحول من شاعر تقليدي محافظ وشديد التدين، إلى شاعر رومانسي ثائر على التقاليد الموروثة، حالم بمستقبل أفضل، شديد الجرأة في محاربة ثوابت المجتمع البالية، والمتعصبين من بني قومه، وهي الجرأة التي أوصلته إلى حدود التهور في كثير من الأحيان مما أسهم في تحريض أسرته ومجتمعه عليه، وإثارة غضبهما، وقد كانت الشكوى وسيلة فهد العسكر الشعرية الأولى في التعبير عن ثورته العارمة ورفضه لكل ما كان سائدا في راهنه الراكد.
في هذا الصدد تقول الدكتورة نورية الرومي في كتابها "الحركة الشعرية في الخليج العربي بين التقليد والتطور"، " أن شعره كله على إختلاف قصائده ومناسباته يدور حول شكوى شاعر من واقعه، وتبرمه بظروف حياته، وليس أدل على ذلك من أن كلمة الشكوى نفسها تتردد في أشعاره بصورة غريبة تجعل من ذكرها ظاهرة فنية في شعر فهد العسكر(…..) إن شكوى فهد العسكر ليست في حقيقة الأمر سوى هذا القلق الوجداني الذي يصيب هؤلاء الشعراء دون سبب حقيقي في أكثر الأحيان، أو ما يسميه الرومانسيون بمرض العصر، يقصدون به الأحزان التي تغلب على هؤلاء الشعراء من غير أن يكون لها سبب محدد. ومن الغريب أن هذه الشكوى الغامضة قد أنتجت شيئا آخر في شعر فهد العسكر هو كثرة ذكر الدموع والبكاء والعويل والصراخ، وما يتصل بها من المعاني والكلمات، وقد أحدث فهد العسكر بهذه اللغة الوجدانية الحزينة ضجة وصراخا يجعل قارئ شـعره يحس بأحزانه وآلامه، ولكنه لا يستطيع أن يتبين أسباب هذا البكاء أو ذلك الصراخ ….." .
وتمثل قصيدة فهد العسكر الشهيرة التي كتبها عام 1946 بعنوان (شهيق وزفير) ذلك الرفض الشاكي الذي تميز به الشاعر خير تمثيل، لقد كتب الشاعر هذه القصيدة مخاطبا بها والدته طالبا منها عبرها أن تكف عن توجيه اللوم له فهو لم يعد قادرا على تحمل اللوم ولا على تقبل الإنتقاد لا من أسرته التي قست عليه أشد القسوة فطردته من رحمة العيش في كنفها، ولا من مجتمعه الذي أتهمه بالكفر والمجون، لمجرد أنه رفض الصمت، ورفع صوته عاليا في الدفاع عن آرائه ومعتقداته، وعن الأحرار من بني وطنه ممن يرى أنهم أصبحوا يعانون من الحرمان والبؤس بل والسجن أحيانا في وطن يتمتع فيه الآخرون بكل شيء.
يبدأ الشاعر أبيات هذه القصيدة الشهيرة بذلك الخطاب المرير قاطع على والدته سيل احتجاجاتها وقسوة عتابها بقوله:

كفي الملام وعلليـــني
فالشــك أودى بالـيقين
وتناهبت كبدي الـشجون
فمن مجيري من شـجوني
وأمضني الداء العياء فمَن
مغيثي ؟ مَن معـــيني ؟

ويرسم العسكر لوالدته ملامح صورته الجديدة التي لا تحتمل ذلك النوع من العتاب القاسي، فيقول:

أنا شاعرٌ، أنا بائــسٌ
أنا مستهام، فأعذريني
أنا من حنيني في جحيم
آه من حــر الحنين
أنا تائه في غيهـــب
شبح الردى فيه قريني
ضاقت بي الدنيا دعيني
أندب الماضي دعيني.

ثم ينتقل في قصيدته إلى أسباب ما هو فيه من ضيق وأسى وغربة حقيقية تجلت في قسوة الحياة التي كان يستشعرها وهو في وطنه، محاصر بمن يضيقون عليه الخناق، ويقفون حجرة عثرة أمام تطلعاته الشخصية والوطنية، ودعوته للنظر إلى المستقبل بعيون يملؤها الأمل والرغبة في ممارسة الحياة وفقا لإشتراطاتها الجديدة، ولعل مما يخفف على الشاعر مأساته أنه يعرف أولئك الذين تحاملوا عليه ظلما وعدوانا وأرهقوه، ولكنهم ما زالوا في غيهم يعمهون فلا يعرفوه سوى شاعرا كافرا وخارجا على قوانين المجتمع التي وضعوها أو ورثوها:

فعرفتهم، ونبذتــهم
لكنـــــهم لم يعرفوني
وهناك منهم مــعشر
أفٍ لــــهم كم ضايقوني
هذا رماني بالــشذوذ
وذا رمـــــاني بالجنون
وهناك منهم من رماني
بالخــــــلاعة والمجون
وتطاول المتــعصبون
ومـــا كفرت وكفرونـــي
وأنا الأبي الــنفس ذو
الوجدان والشرف المـصون
الله يــــشهد لي وما
أنا بالذلــــيل المـستكين
لا در درهـــــم فلو
حزت الــنضار لألهـــوني
أو بعت وجداني بأسواق
الــــــنفاق لأكرمـوني
أو رحت أحـــرق في
الدواوين البخور لأنــصفوني

فعرفت ذنبي أن كبشي
ليس بالكبــــش السمين
يا قوم كفوا ديـــنكم
لكم ولي يا قـــــوم ديني .

ولعلنا لا نبالغ إذا أعتبرنا أن قصيدة (شهيق وزفير) لفهد العسكر تمثل نقطة مفصلية واضحة المعالم، ومحددة الوعي في تاريخ القصيدة الكويتية بأسرها لجهة عكسها للتطور الفكري الذي ألم بالمنطقة وأثر التحولات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية على أبنائها.
على أنه حافظ في كل قصائده على عمود الشعر القديم حتى وهو يتوق لإستخدام تعبيرات المدرسة الرومانسية ولغة شعراء المهجر، ومفردات العصر اليومية، وبعض الإحتيالات اللطيفة على الوزن والقافية ولكن وفقا لمدارس شعرية قديمة كانت سائدة أصلا، رغم أن إرهاصات التجديد والتطوير في القصيدة العربية على صعيد الشكل كانت قد بدأت في الظهور الخجول في تلك الفترة التي كانت تمثل بالنسبة لفهد العسكر القمة في مستوى إنتاجه الشعري، على إننا لا نجزم أن الشاعر الذي توفي عام 1951 بعد فترة طويلة ومزعجة من المرض والحاجة والعزلة والكآبة قد أطلع بشكل واضح على نتاجات الشعراء الحداثية ومقترحاتهم في سبيل كتابة القصيدة العربية الجديدة، وهي القصيدة التي صار معروفا الآن أن الشاعرين بدر شارك السياب ونازك الملائكة تعاونا في رسم خط بداية التأسيس والتنظير الواضحة لها أواخر الأربعينيات، بعد عدة اقتراحات فردية متفرقة ظلت ترد هنا وهناك في خريطة الإبداع الشعري العربي طوال النصف الأول من القرن العشرين.
ومرحلة أخرى.. جديدة
لكن القصيدة الجديدة التي أنتشرت بقوة في الخمسينيات والستينيات تحت لافتات مختلفة مثل قصيدة التفعيلة، وقصيدة الشعر الحر، والشعر المرسل، على يد روادها في العواصم العربية التي كان ينظر لها تقليديا بأنها عواصم المركز الثقافي مثل القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق متجاوزة كل رهان التقليديين بسرعة فشلها في المحيط العربي ذي الذائقة الشعرية المتأسسة تاريخيا على النمط العمودي، سرعان ما واصلت صعودها على يد روادها ومريديهم في كل مكان، متبلورة بنماذج متقدمة ومتجاوزة إقتراحاتها البدائية الأولى نحو إقتراحات اكثر جدة، وأبعد عن شكل القصيدة القديمة، ولعل مما ساعد تلك القصيدة الجديدة على إكتساب شرعيتها بشكل نهائي ذلك الإنفتاح المزدوج الذي مارسته الثقافة العربية آنذاك على تراثها الثقافي ذي الإقتراحات الإبداعية الثرية من جهة، وعلى الثقافة الغربية بتياراتها الفكرية والفلسفية التعددية من جهة أخرى في ظل خطاب عربي قومي تحرري متصاعد وصاخب على الصعيدين الفكري والسياسي.
وقد كان لصعود القصيدة المدوي وفقا لتلك التحولات الواسعة عربيا صداه المزلزل في الخريطة العربية الواسعة المحيطة بعواصم المركز، ووفقا لما يناسب ظروف كل قطر عربي على حدة، وإذا كانت البحرين هي الأسبق في التأثر وفي هضم هذا التأثر وتمثله وإعادة إنتاجه شعرا حديثا بالنسبة للمنطقة الخليجية ككل، على يد مجموعة من شعرائها الشباب آنذاك نتيجة لتراكم ثقافي ميزها على صعيد المنطقة دائما، فإن الكويت كانت قد بدأت مرحلة حافلة من مراحل الحراك الثقافي والسياسي تساوقا مع مرحلة الإستقلال عام 1961، والتحول الكبير على الصعيد السياسي الذي ألم بالكويت والكويتيين لإثر صدور الدستور الكويتي عام 1963 الدستور الأول من نوعه في منطقة الخليجية بأسرها ممهدا لظهور حياة نيابية وسياسية نشطة ترجمت توق الكويتيين المبكر للمشاركة في خضم التحولات والتطورات السياسية والعربية والتي كانت مظاهرها قد تشكلت في ظهور تلوينات مختلفة من الأحزاب والتيارات السياسية التي تمركزت دوائر التكوين والقرار في عواصم المركز وتمددت أفقيا في مدى الخريطة العربية كلها.
وكان للتغيرات الإقتصادية الناتجة عن إكتشاف النفط في الكويت ومن ثم تصديره تجاريا منتصف الأربعينيات قبل تصبح عوائده المادية هي المورد الأساسي والوحيد تقريبا في ميزانية الدولة الكويتية في الستينيات، أكبر الأثر في ذلك التحول الفكري والثقافي السياسي الذي ألم بالحياة الكويتية اليومية وجعلها أكثر تقبلا للتجديد في كل مناحي الحياة ومنها المنحى الإبداعي في أكثر تجلياته تماسا مع الجمهور التقليدي وهو الشعر.
وإذا كان ظهور القصيدة الحديثة بمسمياتها المختلفة، على يد مجموعة من الشعراء الكويتيين الشباب آنذاك هو أحد أشكال ذلك التحول لديهم، فإن تلك القصيدة من ناحية أخرى كانت هي الأكثر تعبيرا عن ذلك التحول، أي أن القصيدة الحديثة كانت صورة للتحول ومعبرا عنه في نفس الوقت.
ولعلنا لا نبالغ إذا أشرنا إلى إقامة أحد أهم شعراء القصيدة العربية الحديثة والمؤسسين لها والمروجين لتيارها إبداعيا وتنظيريا في ذلك الوقت بالكويت وأثره المباشر في التسريع بعملية إنتاج القصيدة الحديثة كويتيا، فقد أدت إقامة الشاعر بدر شاكر السياب في الكويت في سنواته الأخيرة بشكل متقطع ثم بشكل دائم إلى أن توفي عام 1964 في أحد المستشفيات الكويتية، إلى تأثر الشعراء الكويتيين بتجربته انبهارا بصيته المدوي عربيا وإعجابا بنتائج تلك التجربة، وأكثر من أهتم بكتابة القصيدة الحديثة وفقا لصيغتها المتفق على تسميتها بقصيدة التفعيلة من الشعراء الكويتيين آنذاك هم أكثرهم إلتصاقا بالشاعر بدر شاكر السياب إبان إقامته في الكويت وهما محمد الفايز وعلي السبتي.
وإذا كان من الطبيعي أن يتأثر الفايز والسبتي بالسياب نتيجة لظروف ذلك التقارب بالمشترك بين الشاعرين الكويتيين من جهة وأحد أهم وأشهر رواد الحداثة الشعرية العربية من جهة أخرى، فإن من المثير أن يبلغ ذلك التأثر مداه في تلك القصائد التي كتبها السبتي والفايز عن السياب.
فقد كتب الفايز قصيدة بعنوان (الذي أحترق ولم يمت) ويقصد به السياب حيث يقول فيها:

لا تذرفوا دمعا عليه
بل ألعنوا الليل الذي لعنته أغنية إليه
ولتلعنوا ليل الذئاب
ليل الأظافر والحراب
لا تذرفوا دمعا فبدر لن يموت .
كما كتب السبتي ثلاث قصائد حول السياب جاءت كلها رثاء ومعاناة وذكرى، ومن يقرؤها يشعر وكأن السياب يتحدث فيها عن ذاته إذا تمتزج روح السبتي بروحه، وتحمل معاناته، كما يتضح في قصيدته (قبيل الرحيل) حيث يقول:

أواه لو أبكي
لو دمعة تهمي
من عيني الثلجية الأعصاب
الليل أقبل والأشباح ترعبني
والذكريات سياط النار ترعبني
حتام أبقى ونار الهم تحرقني
أنا الغريب سدت بوجهي الأبواب:

كل الدنا غربة.
فهذه هي غربة السياب في أواخر أيامه وغربة السبتي بالتالي من أجله وغربته الوشيكة بعد رحيله.
وإذا كان السبتي (1936 ـ ...) هو أول من أدخل الحداثة الشعرية صريحة في ساحة الشعر الكويتي عندما طرق بابها بقوة عبر قصيدته (رباب) عام 1955، التي كانت إفتتاحا رسميا لهذا الشكل الجديد الذي ستكون له الصدارة في ستينيات القرن فإن هذا الدخول إلى الحداثة لم يتوقف عند قضية القافية المهندسة، ولكنه حمل معه معنى من معاني الروح الجديد في الشعر الذي يصعب أن يستوعبه الشكل القائم، فقد كان السبتي يقدم النموذجين ويخلط بينهما في التجربة الواحدة ، فإن محمد الفايز (1938 ـ 1991)، سجل عبر قصيدته الطــويلة الشهـــيرة (مذكرات بحار)، إسمه ضمن شعراء الحداثة العربية المعدودين في ذلك الوقت تقديمه لهذا العمل الملحمي الذي حمل " ملمحين أساسيين: أولهما تلك الصياغة الحديثة التي تعتمد شعر التفعيلة وتعتصر أجمل إمكانياتها الدرامية، أما الملمح الثاني فهي أنها دخلت مجالا جديدا هو القصيدة الطويلة، ذات النفس الملحمي، فقد جاءت في عشرين مذكرة، كل واحدة منها تقدم جانبا من جوانب حياة البحار، وميزة هذه المحاولة أنها أستطاعت التخلص من السائد على الساحة الأدبية آنذاك وهو إستحضار الرموز العالمية. ، يقول في المذكرة الأولى:

سأعيد للدنيا حديث السندباد
ماذا يكون السندباد
شتان بين خيال مجنون وعملاق تراه
يطوي البحار على هواه
بحباله
بشراعه
بإرادة فوق الغيوم .
لكن الغريب، والذي لا يبدو متسقا مع تلك البداية الشعرية الجريئة للفايز والسبتي ذلك الطور التقليدي التراجعي الذي أنتهى إليه الشاعران وخصوصا في إصداراتهما الشعرية الأخيرة، فقد دأب الفايز قبل رحيله بسنوات على نشر قصائده في الصحافة اليومية بشكل يومي تقريبا وعلى مدى فترة زمنية طويلة نسبيا قبل إنشائها مجموعات شعرية، مما يجعلنا نضع أكثر من علامة إستفهام في نهاية رصدنا للمراحل الشعرية التي مر بها الشاعر الراحل يجدر بدارسيه ـ إن وجدوا ـ البحث فيها، أما علي السبتي فيكفي أن نقارن عنواني مجموعتيه (شاعر في الهواء الطلق) و(بيت من نجوم الصيف)، بعنوان مجموعته الأخيرة التي أصدرها بعد توقف طويل عن النشر، بعنوان (وعادت الأشعار)، لنكتشف ما يمكن أن نسميها بظاهرة التقهقر الشعري التي عانى منها السبتي، ومن قبله الفايز، وربما شعراء آخرون، وإن بدرجات أقل.
لكن المفارقة أن الشاعر أحمد العدواني (1920 ـ 1990) الذي كان مقلا في إنتاجه الشعري وأهدأ في نشره، حتى أنه توقف عن النشر تماما سنوات طويلة، بل إن ديوانه الشعري الوحيد الذي صدر في حياته لم يصدر سوى عام (1980) ، كان يمثل تجسيدا حقيقيا لمرحلة فكرية أنعكست على المسار الشعري في الكويت ككل هي مرحلة الستينيات والسبعينيات، المفعمة بروح المد القومي العربي وتجلياته الثقافية والفكرية والإبداعية أيضا، إلا أنه على رغم هذا لم ينساق وراء تلك اللغة الشعرية المباشرة في تجديده الشعري وفقا لإقتراحات الشعر المعبر عن روح تلك المرحلة على الصعيد القومي.
وعلى الرغم من أن العدواني ظهر في الزمن الذي ظهر فيه شعراء آخرون، ظهروا معه أو بعده بقليل، وفاقه بعضهم في حجم إنتاجهم وشكل موهبتهم مثل علي السبتي ومحمد الفايز، وخالد سعود الزيد، إلا أنه سجل تطورا فكريا يصعب تجاوزه في ديوان الشعر الكويتي ككل، خاصة بالنظر لقـصائده التي تجاوز فيها دلالات تشي بملامح الواقع المحلي أو العربي نحو أفق إنساني متسع بحيث يندغم فيها البشري الخاص بالبشري العام في تداخل لا بد له من رؤية فلسفية تفسره شعريا، وفي قصيدته (إعتراف)، إعتراف جريء بالإختلاف في الرؤية وفقا لذلك التطور الفكري الذي لا يقرأ نتاج العدواني الشعري إلا في سياقه، يقول:

حدقت في مرآة نفسي
فلم أجد نفسي
بل لاح لي حشد من الظلال
جميلة الشكل
لكنها واأسفا ـ ليست لي
حدقت في مرآة نفسي
فلم أجد نفسي
بلى...
وجدت هيكلا
تمردت كنوزه على البلى.
واأسفا
كنوزه تمردت على البلى
فصار للقبر وللتابوت والصنم
في ظل وجداني حرم
حدقت في مرآة نفسي
فدار رأسي
يا أنتم !! يا أهلي
لكم مرايا في نفوسكم
فحدقوا فيها
لكن بصدق لا يهاب السيف أو يخشى القلم
وخبروني... ما الذي تقوله المرايا
عن عالم الخفايا
يا أنتم يا أهلي
عودوا إلى أنفسكم
وحدقوا فيها
لعل بين ظلالها ظلي
فأنتم أهلي
واأسفا مثلي .
ويحاول العدواني في قصيده أن يمارس النقد الذاتي فيوجه سخريته المريرة للواقع الثقافي العربي الذي تراجع عن دوره في تقديم النموذج للسياسي، كما كانت تبشر بدايات النهضة العربية في مطلع القرن العشرين، وصار تابعا للسياسي من جهة ولصاحب رأس المال من جهة أخرى مفسرا لافعالهما ومنظرا لها، خاضعا لعمليات التدجين التي سادت أوساط المثقفين وتصاعدت وتيرتها في تلك الفترة، يقول:

أفكارنا دجاجة
في كنف السلاطين
خراجة ولاجة
في قن أصحاب الملايين
وبيضها يثمر حسب الحاجة
أفراخها مدجنة
تلقط حب الذل والقهر بمسكنة
حتى ترى خلاصها،إخلاصها
للذبح بالسكاكين .
وقد ظل يعزف على ذلك الوتر الحساس والممثل للعلاقة غير المتكافئة ما بين المثقف والسلطة في تنويعات شعرية غارقة في كوميدياها السوداء وسخريتها المريرة محملا إياها أسباب النكسات والهزائم العربية المستمرة، واضعا إصبعه على الجرح العربي الذي ظل يسيل دما على مدى الخريطة الواسعة لأمة العرب، يقول في قصيدة (برقيات من الميدان):

نحن لم ننهزم ولكن الهزيمة
في ضمير الأنظمة
عششت فيها وباضت فرخت فيها السجون المظلمة
...
شوهت آثارنا
فرغتنا للحياة الهرمة
...
رهنتنا للخدم
قتلت فينا الهمم
...
فغدونا أمة مستسلمة
هزمتنا الأنظمة .
وقد ظل يمارس دوره كشاعر بإعتباره شاهدا على كل التحولات التي مر بها مجتمعه في فترة كان مزدحمة بأسباب التحول ومستجيبة له، مما أتاح له أن يلتقط من ذلك الزمن أبرز نقاط الإرتكاز فيه على الصعيد القومي وكذلك المحلي ليحولها إلى قصائد لم يحفل كثيرا بفنيتها قدر احتفاله بتضمينها لرؤياه المستشرفة، مما جعل البعض يعتبر "أن المحور الأساسي الذي ينطلق منه شعر العدواني هو التنوير، بالمعنى الذي يقوم على توظيف الإبداع في النظر إلى الواقع فتجسدت دعوته هذه في عدد من البنى الفكرية، ينتظمها خيط واحد من العلاقات الــمتواشجة التي تدور في فضاءات الثورة والتمرد والرفض لا بالمعنى الخاص وإنما بالمعنى العام الذي يجعل من العدواني أحد شعراء التنوير العرب الذين أفنوا حياتهم في سبيل قضية نــبيلة آمنوا بها طــريقا إلى التقدم والنهضة غير مبالين بما ينالهم من أذى في سبيلها .." ، وقد انصبغت تلك المرحلة التاريخية في ديوان الشعر الكويتي بصبغة العدواني المقل والصامت أحيانا رغم بروز الأسماء الأخرى في ذلك الوقت تحديدا.
ومن تلك الأسماء الأخرى اسم الشاعر خالد سعود الزيد (1937 ـ 2001)، وهو "شاعر باحث شغله البحث الأدبي والتوثيق عن إستكمال طريقه في الشعر، تعطي بداياته إحساسا بالتفتح، وحرية الشعور، ومرونة التشكيل الفني، ثم أتجه إلى التصوف فكتب فيه عددا من القصائد " .
ويبدو أن التصوف كان طريقه الأول الذي لم يستكشفه إلا متأخرا رغم أنه أنتج تحت مظلته مجموعة من أكثر قصائده إكتمالا فنيا وشفافية إنسانية وبعدا روحانيا أخاذا، يقول في قصيدة له بعنوان (صورة):

مَثَلٌ قد تجسّدا
وقديمٌ تجدَّدا

وجديدٌ جذورُهُ
ضارباتٌ بلا مدى
أرضُهُ أو سماؤهُ
مثلما الصوتُ والصدى
ما ترى من تفاوتٍ
مُطلقاً أو مُقيَّدا
ليس شيءٌ كمثلِهِ
جمع الحُسنَ مُفرَدا .
وقد صدر أول ديوان شعري لخالد سعود الزيد عام 1970 بعنوان (صلوات في معبد مهجور) ورغم النجاح النقدي الذي قوبل به هذا الديوان الشعري الذي كان إضافة فنية مهمة للشعر في الكويت، إلا أن الزيد توقف بعده عن إصدار دواوين شعرية لمدة 15 عاما، فلم يصدر ديوانه الثاني (كلمات من ألواح) إلا عام 1985، وبعده بسبع سنوات تقريبا صدر ديوانه الشعري الثالث بعنوان (بين واديك والقرى)، أما ديوانه الرابع (صلوات من كاظمة) فهو عبارة عن مختارات من دواوينه الثلاثة السابقة، وثلاثة دواوين شعرية تبدو عددا قليلا بالنسبة لمسيرة خالد سعود الزيد الأدبية النشطة .
ولعل قراءة سريعة لعناوين دواوين الزيد الشعرية الثلاثة بالإضافة إلى المختارات على الأقل تجعلنا نكتشف ذلك النفس الصوفي الديني الذي ميز قصائد خالد سعود الزيد دون أن يهوي بها إلى مهاوي التقليدية، كما فعل بغيره من مجايلي تلك المرحلة الكثر مثل عبد الله زكريا الأنصاري وفاضل خلف وعبد الله احمد حسين، وفيما بعد خالد الشايجي.

ستينيات وسبعينيات

يتجاوز خليفة الوقيان (1941 ـ ...) من سبقه مباشرة من الشعراء ليمسك طرف الخيط من يد العدواني في إستشرافه للتحولات الفكرية وإستقرائه للواقع عبر قصيد مفعم بالنفس القومي هو انعكاس لواقع الأمة العربية في ستينيات وبداية سبعينيات القرن العشرين.
وقد بدأ الوقيان رحلة الكتابة الشعرية والنشر منذ منتصف الستينيات، ورسخ معالم تلك الرحلة عبر إصداره لأربعة مجموعات شعرية في مراحل زمنية متفاوتة، إلا أن هذا لم يعرض شعره لتلك التبدلات التي قد تحل بشعراء تعصف بهم أهواء تتماس مع معتقداتهم السياسية على الصعيد القومي كما حدث مع الشاعر الذي ظل مؤمنا بأفكاره القومية منساقا وراء إشتراطات الإيمان بها حتى وهي تمر بتلك التحولات والتي بشرت بها واحدة من أهم وأشهر وأجمل قصائده، وهي قصيدة (تحولات الأزمنة)، والتي حددها عبر أربعة أزمان هي الزمن الترابي، فالرصاصي، فالنحاسي، فالخلاسي، ثم تنداح تلك الأزمنة أخيرا في دائرة واحدة لها ملامح الزمن العربي كله.
وقد ظهر مع الوقيان في مرحلة جديدة من مراحل الشعر الكويتي عدد من زملائه مثل عبدالله العتيبي (1943 ـ 1995), الذي حلق قصيده عبر صوت المغنى الكويتي الشهير شادي الخليج في عدد من الأوبريتات الوطنية ذات النمط التقريري المباشر والتي قد لا تتوافق مع بدايات تقليدية رصنية كان العتيبي قد دشن بها مرحلته في منتصف الستينيات، وتكرست في مجموعتين شعريتين أصدرهما الشاعر قبل سنوات قليلة من رحيله.
أما يعقوب السبيعي (1945 ـ ...) فقد أهتم، في مجموعاته الشعرية الأربعة التي أصدرها حتى الآن، بشعر الغزل وفقا للنموذج التقليدي مأخوذا بدفقات عاطفيه كللت قصيده بحداثة لفظية لم يتجاوز بها ذلك التطور الذي حظيت به القصيدة على يد زملائه السابقين، ولكنها تساوقت مع تجارب أخرى لشعراء آخرين سبقوه في العمر والتجربة الشعرية مثل يعقوب الرشيد (1928 ـ 2007 ) شاعر الوطن والمرأة والذي جعل منهما ثنائية توازعتها مجموعاته الشعرية بالعدل والقسطاس، وأحمد السقاف (1919 ـ ...) الذي كرس شعره الكلاسيكي دفاعا عن إيمانه القومي الذي لم يتزحزح، وعبدالله سنان (1917 ـ 1984) بقصائده ذات الحس الشعبي المميز والتي حجزت له مكانة خاصة في وجدان الشعر في الكويت، وعبد العزيز سعود البابطين رجل الأعمال المرموق الذي هجر موهبته الشعرية المبكرة ثم ليعود إليها نظما وإهتماما بكل ما يتعلق بها، فأنتج مجموعتين شعريتين غارقتين في بحار الرومانسية ذات الطابع الكلاسيكي العذري النزعة، وغيرهم كثيرون تساوقوا مع هذه التجارب دون أن يخرجوا من إطار الصورة العامة.

تجربة ثلاثية مبتسرة

أما من خرج من الإطار لاحقا فكانوا ثلاثة شعراء تبلورت شعريتهم مع بداية السبعينات، ولكنها أبتسرت لاحقا لأسباب مختلفة كما يبدو من سياق التجارب الثلاثة، أما أولهم، تاريخيا على الأقل، فهو نايف المخيمر (1949 - 1978)، الشاعر الذي أصدر أول مجموعة شعرية ذات نمط جديد على صعيد الروح التي تمخضت عنها، فقد أصدر المخيمر (وجها لوجه) عام 1970 مفتتحا ذلك العقد بشعرية بدت في حينها إيذانا واضحا وصريحا بإنطلاقة كان الكثيرون يتوقعون أن تسم العقد الجديد آنذاك بميسمها الشعري، ولكن هذه الإنطلاقة سرعات ما خمدت نارها ذاتيا عندما تخلى الشاعر عن شعريته، بل وتبرأ منها في نكوص لا نعلم يقينا سببه الدقيق في ظل غياب توثيق أو تأريخ حقيقي لسيرة الشاعر الذي هجر الشعر، كما تقول بعض الروايات الصحفية، تحت وطأة نوبة من الإلتزام الديني التي ألمت به، فقام بجمع نسخ مجموعته الشعرية المذكورة ونسخ مجموعة أخرى كان قد كتبها وفقا للسياق نفسه باللهجة الشعبية، من المكتبات وأحرقها، ولم يلبث المخيمر أن رحل عن الدنيا إثر حادث مروري بعد عودته من الحج.
أما ثاني الثلاثة فهو سليمان الخليفي (1946 ـ ...)، وهو روائي وقاص متميز، ولكنه قبل هذا وذاك شاعر أكثر تميزا وخصوصية على صعيد إهتمامه الخاص باللغة، والتي يحتفي بها ويوظفها لتكون في خدمة تكريس شعريته بشكل مبتكر، وحرص كما يبدو من مجموعته الشعرية الوحيدة التي أصدرها متأخرا عام 1986 بعنوان (ذرى الأعماق) على تقطير المفردة تقطيرا قبل أن يضعها في سياقها الشعري، ولسبب غير معروف، توقفت، على الأقل على صعيد النشر، تجربة الخليفي الشعرية عند حدود ذرى الأعماق دون طموح، كما يبدو، لبلوغ الذرى.. أو الأعماق.
لكن ثالث الثلاثة السبعينية أستمر أكثر من رفيقيه.. قليلا متكئا، ربما على صوته المختلف كثيرا، ففي صوت الشاعر سليمان الفليح ( 51/52 ـ ...) بحة الإختلاف التي ظهرت باكرا لتميز هذا القادم من صحراوات الألم مغنيا هواجسه الخاصة عبر قصيد شجي، بشر بميلاد شاعر مختلف عن الآخرين، ليس لأنه كان صوتا مختلفا في لغته ومفرداته ومحتويات ذاكرته الشعرية وحسب، بل لأنه ذكر بالنصف الآخر من المجتمع الكويتي، فإذا كانت الكويت قد نشأت مدينة ساحلية بإمتياز، فإنها لم تحلق إلا عبر ذلك التوافق الحي بين جناحي البحر والصحراء، ومن عمق الصحراء جاء الفليح مغنيا أحزان البدو الرحل في صحراء الألم :

ها قومي أنحدروا من مرتفعات الماضي ـ شهب الأعين ـ
تجلدهم ريح المستقبل نحو الواحات المأهولة بالأمطار
ها هم مثل جراد القحط القادم من آخر أقليم في الدنيا
جاءوا وأنتشروا في هذي الصحراء الرملية مثل الأحجار
هاهم عند حدود الغيم الأزرق ناموا .
وقد أستمر صوت الفليح في التدفق طوال فترة السبعينيات والثمانينات والتسعينيات ولكن بحركة تقهقرية إلى الوراء تتضح لنا من خلال مقارنة مجموعته الشعرية الأولى (الغناء في صحراء الألم) والتي صدرت عام 1979 بمجموعته الشعرية الأخيرة (رسوم متحركة) والتي صدرت عام 1996، ويبدو أن "الظروف" الخارجية التي ألمت بتجربة الفليح أعاقت تلك التجربة من النمو بشكل طبيعي متصاعد، وفي توقفه عن نشر الشعر بعد إنتقاله للإقامة في المملكة العربية السعودية قبل ما يقرب من عشر سنوات ما يفسر جزءا من أسباب الغياب أو التوقف.

عقد نسائي من الشعر

رغم أن صوت المرأة الشاعرة غاب طويلا عن أجواء ديوان الشعر الكويتي، ألا أن عقد الثمانينات يمكن إعتباره عقد نسائيا على صعيد الشعر بكل جدارة، وإذا كانت بعض الأصوات النسائية قد بدأت رحلتها الشعرية منذ الستينيات إلا إنها كانت بدايات خجولة سرعان ما توقفت، أما السبعينيات فقد حمل إرهاصات نسائية أستمرت بعد ذلك وتواترت حدتها وتصاعد تجريبها، وكانت البداية السبعينية قد تحققت بصدور الديوان الأول للشاعرة سعاد الصباح (1942ـ ...) عام 1970، ثم بظهور صوتين لشاعرتين مجتهدتين هما جنة القريني ونجمة إدريس، ولكن الثمانينات كانت هي عقد التحقق النسائي على صعيد الشعر، ففي بدايته صدر الديوان الأهم للشاعرة سعاد الصباح، وهو (فتافيت إمرأة )، وقد حملته الشاعرة همومها المستمدة من هموم المرأة العربية تقليديا، وتباشير ثورتها المبدئية في سبيل تحررها من نير تقاليد بالية ظلت تضعها في مرتبة دون الرجل بكثير، ورغم الأجواء الثورية التي أضفتها الشاعرة على المجموعة، ألا أن أنوثة مغوية يمكن تتبع تفاصيلها على مدى قصائد الديوان، وقد ظلت سعاد الصباح في مجموعاتها الشعرية التي تلاحقت بعد ذلك تحلق بجناحين من الثورة أحدهما يحمل ملامح المرأة والآخر يحمل ملامح الوطن، وهي عبر الجناحين تحلق بعيدا وعاليا مستخدمة كل تقنياتها الشعرية، تقول وتحاول تقديم إقتراحها لـ (أنثى 2000 ):

قد كان بوسعي
أن أتجنّب أسئلة التّاريخ
وأهرب من تعذيب الذّات..
قد كان بوسعي
أن أتجنّب آهة كلّ المحزونين
وصرخة كلّ المسحوقين
وثورة آلاف الأمواتْ
لكنّي خنتُ قوانين الأنثى
وأخترتُ مواجهةَ الكلماتْ .. .
ويبدو أن جناحي سعاد الصباح الشعريين حلقت بهما بعد ذلك كل الشاعرات اللواتي أزدحم بهن عقد الثمانينات، في غياب تام للشاعر الرجل عن هذا العقد كله.
لكن حضور الشاعرات آنذاك حقق إنتاجا شعريا على صدر الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات، وفي الأمسيات الشعرية في حين تأخرن في إصدار مجموعاتهن الشعرية حتى نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، بإستثناء سعاد الصباح التي دأبت على نشر مجموعاتها الشعرية بإنتظام دائما، فقد أصدرت جنة القريني ( 1955 ـ...) مجموعتها الأولى(في حدائق اللهب) عام 1988، ثم مجموعتها الثاني (الفجيعة) عام 1991، لتخط لنفسها خطا شعريا واضحا أحتفى بحرية المرأة وتحرير الوطن في تنويعات فنية مختلفة كثيرا ما كان التراث الشعبي فيها مرجعيتها، والقلق فضاؤها، تقول :

خذيني يا رفوف النور
فالأيام تحمل لي
حقائب حزنها المجدور
تسبقها دروب الدمع
تدفعها مراكب وجدها المأسور
تلقيها على الرمل الممدد
فوق زند شواطئ الغربة
تراقب جنح ضوء مس طيف الفجر
تبحث عن ملامح نسمة
عن ريش حرف
لم يبلله الأسى المنقوع في الوجدان .
أما نجمة ادريس (1953 ـ ...) والتي صدرت دواوينها الشعرية الثلاثة في التسعينيات، فهي على رغم احتفائها بالقضايا التقليدية التي شغلت المرأة الشاعرة في الكويت، الا أنها حاولت تجاوز ذلك في كثير من قصائدها نحو أفق إنساني أوسع أهتمت برسم تضاريسه انحيازا لقيم حداثية كبرى على صعيد الشكل والمضمون، وفي قصيدتها (من سفر الحداثة) ما يشير إلى خيارها الأخير. تقول:

أطلق النار
على القافية
وأغرس السكين
في لحم الوزن
أعد عصير الدم
لوليمة المساء
يرقص " الخليل "
مع " سوزان برنار "
على موسيقا البوب
ويعرج .
ولأن غنيمة زيد الحرب ( 1949 ـ ... ) ورثت موهبتها الشعرية من والدها الشاعر الشعبي زيد الحرب، فقد كان ولوج عالم النشر بالنسبة لها يمثل تحديا حقيقيا لموهبتها في ظل واقع لا بد وأن يقارن بين التجربتين الكلاسيكية الشعبية للأب، والحديثة الفصيحة للإبنة، وربما لذلك تأخرت في الإقدام على إصدار مجموعتها الأولى والتي رأت النور في ظل الحماسة لنشر ما كتبته في أيام الإحتلال العراقي للكويت، وهكذا صدرت لها في بداية التسعينات أربعة دواوين شعرية تضمنت القديم والجديد في ثلاث سنوات فقط، فقد صدرت لها أولا (قصائد في قفص الإحتلال) لتنطلق بعدها القصائد الأخرى من قفص القلق في (هديل الحمام)، و(خيمة الحلك)، و(أجنحة الرمال)، وضح فيها صوت شعري خاص لشاعرة تتعامل مع أدواتها بإحتراف متمكن ولغة شفيفة، وهوية متسائلة:

أنا هناك
فمن أنا غير الصدى ؟
وغير صورة تجمدت
على جدار الوقت
وأمحت
أنا هناك
من يطير بي
إلى مطار الضوء
كي أرى حقيقتي
وأرتدي
كينونتي
تلك التي خلعتها
لكي يقول الغير أنني أنا .. .
وبالإضافة إلى سعاد الصباح وجنة القريني ونجمة إادريس وغنيمة زيد الحرب، ظهرت شاعرات آخريات ينتمين لتلك المرحلة الزمنية منهن من توقف عن النشر بعد تجربة قصيرة من التعاطي الشعرية مثل خزنة بورسلي (1946 ـ 2004) التي صدرت مجموعتها الشعرية الوحيدة عام 1976 بعنوان أزهار أيار، لكن أزهارها سرعان ما ذبلت، أما فوزية الشويش فقد تأخرت كثيرا عن النشر لتنطلق بقوة في التسعينيات شعرا ورواية أيضا.

تسعينيون

ورغم أن حدث الغزو العراقي لدولة الكويت في الثاني من أغسطس عام 1990، قد أنعكس سريعا على الحركة الشعرية في الكويت، إلا إنه ظل انعكاسا باهتا، لم يتمثل إلا في التعبير عن حجم الصدمة التي شعر بها الشعراء الكويتيون تجاه ما حدث، وتوصيفه وتوكيد إلتزامهم الوطني، وفي تلك التجربة أختلطت الأجيال فيها في تقديم نماذجها المختلفة وفقا لإختلافها وإختلاف الأساليب المدارس الشعرية.
ولعل الملاحظة الأولى التي يلحظها المتابع لحركة نشر المجموعات الشعرية في الكويت، هي أثر ذلك الحدث المزلزل للكيان الكويتي في عناوين كثير من دواوين الشعراء الذين تناولوه، فقد أطلقت غنيمة زيد الحرب على مجموعتها الأولى عنوان (قصائد في قفص الإحتلال) في حين أسمت جنة القريني مجموعتها (الفجيعة)، وعالية شعيب (الذخيرة في أصرخي فيّ فمي)، وسعاد الصباح (برقيات عاجلة إلى وطني)، وأحمد السقاف (نكبة الكويت)، وفوزية الشويش (حارسة المقبرة الوحيدة)، ومبارك بن شافي الهاجري (نزيف أغسطس)، ونورة المليفي (العزف على أوتار الوطن)، وتسميات أخرى لشعراء أخرين أنطلقت من الهم نفسه وتأثرت به.
إلا أن الشعراء الكويتيين سرعان ما تجاوزوا الحدث في تداعياته الاولية، نحو القصيدة الأكثر جدة وجدية.
وقد ولدت هذه القصيدة على يد مجموعة من الشعراء الذين بدأوا في نشر مجموعاتهم الشعرية إعتبارا منذ عام 1990 أو قبله بقليل، حيث أصطلح على تسميتهم بالتسعينين، ومنهم: علي حسين الفيلكاوي، وعالية شعيب، وإبراهيم الخالدي، ودخيل الخليفة، وأحمد الدوسري، وصلاح دبشة، ونشمي مهنا، وسعد فرحان، ومبارك بن شافي الهاجري، ورجا القحطاني، وفهيد البصيري، وأحمد النبهان، وعلي الصافي، ومحمد النبهان، ونور القحطاني، وعيد الدويخ، وسعد الدهش، ونورة المليفي، وفاطمة العبدالله، ونايف العنزي وسعدية مفرح.
وتجاوز التسعينيون تلك المرحلة التأسيسية لكل منهم أولا ولمجمل حركتهم الشعرية كتيار أو كجيل ثانيا بإتجاه التحقق الشعري بمستقر ضمن محيطه الإبداعي العام، وصار لكل واحد منهم تجربته التي يحاول تجذيرها إتكاء على شعريته، وعلى هاجس ذاتي يؤمن لهم الإستمرار في التحقيق الشعري الخاص رغم 'المــعوقات"، أو النظرة التقليدية التي تقيم كل مرحلتهم أو نتاجاتهم الشعرية ضمن إطارها النقدي العام.
وعلى رغم نفور شخصي لدي من استخدام مصطلح الجيل تعبيرا عن تجربة يتشارك في تكوينها شعراء ينتمون لفترة زمنية واحدة، ألا أنني أجد نفسي مضطرة الآن لإستخدام هذا المصطلح توصيفا لتجربة هؤلاء الشعراء تمييزا لهم عن سابقيهم من جهة، وإدغاما لهم في تجربة مجايليهم من الشعراء العرب من جهة أخرى.
لقد تميز هؤلاء الشعراء بجرأة محسوبة أتاحت لهم أن يخوضوا غمار التجريب في نماذج شعرية حققوا فيها رؤاهم الخاصة من جهة، ونسخهم الشخصية للرؤى الفكرية والإقتراحات الفنية في التعامل مع القصيدة والتي سادت أجواء الشعر العربي طوال العقد التسعيني من جهة ثانية.
ويبدي هؤلاء الشعراء في قصيدهم نوعا من الحساسية المفرطة، والمؤدي غالبا إلى النفور العام، في تعاملهم الشديد الذكاء مع ما كان يسمى بالقضايا الكبرى، مفضلين عليها الإنكفاء نحو دواخلهم القصية في ردة عكسية يتشاركون فيها مع زملائهم من الشعراء العرب الذين ينتمون لنفس الجيل، نتيجة، ربما، لإحساس هذا الجيل بالإحباط تجاه قضايا الأمة والتي تقاسم الغناء لها، ولرموزها الموحدة عربيا شعراء الستينيات وأمتدت آثاره وبقايا كلماته في ذهابها نحو نهايات الخط الفكري الذي بدأت فيه منذ الستينيات وحتى الثمانينات.
وتعبيرا عن ضرورة الهروب من تلك القضايا التفاتا نحو الداخل الإنساني يقول صلاح دبشة في تقديمه القصير لمجموعته الشعرية الثالثة (مظاهرة شخصية 2") :

نحن
تربة خصبة
ينمو فيها كل شيء
ما عدا أنفسنا .
وفي مجموعته الأولى والأخيرة (خديجة لا تحرك ساكنا)، يقول علي الصافي:

أنا لطمة المظلوم
ووحشة الغائب .
وترسم عالية شعيب "بورتريه" لنفسها منطلقة به نحو رسم بورتريه للجيل كله:

عندما عانق الهواء نفسه
خرجت سحابة سوداء من فمي
عيني اليمنى تكتب دمعة
تعد لها اليسرى
فراشا وخبزا .. .

ويقول نشمي مهنا معرفا بالمدخل نحو ولوج عالم هؤلاء:

أسماؤنا
مداخل الينا
سيماء وجوه
دلالات بقارعة الضباب
وشم ذوات نرفعها بأعين الآخرين
تهديهم إلينا .
ويضع محمد النبهان إحداثيات الإنطلاقة الجديدة:

تَغوينا الصحراءُ
بأنْ نَحزِمَ قلباً ينْدِفُهُ الهَجرُ
ونَرحَلُ أبعدَ في عبثِ الصّحراءْ .
لا نفتحُ بابَ مُغامرةٍ
إِلاّ لِنُعلِّمَ أَجيالاً تأتي :

أنَّ الأَرضَ تدورُ على قرنِ الثَّورِ
فَتُسْقِطَهُ
لِتَدورَ بكلِ الأَشياءْ .
ويبدو أن لجوء هؤلاء الشعراء إلى التمرد الأسلوبي على كل التجارب الكتابية السابقة بشكل أكثر حدة وشجاعة وإعلانا من التمرد التقليدي المتوقع عادة من قبل أي متعاطي للشأن الإبداعي بين الأجيال التاريخية المختلفة هو إحدى أبرز السمات المشتركة التي تجمع بينهم وبين مجايليهم من الشعراء العرب الذين يبدو أن إنطوائهم على ذواتهم القلقة وانكفائهم نحو دواخلهم المتعبة من إرث الأباء الثقيل، ونحو الداخل، والنبش من المصادر الذاتية مادة لإبداع هؤلاء الكتاب، سمة مشتركة بينهم بشكل عام، ولعل أبرز أسبابها الشعور الجمعي بالهزيمة.. ليس على مستوى الأحلام الكبرى للأمة وحسب وإنما أيضا الإحساس بفقدان القضية العربية المركزية "بفضل" من "جهود" الساسة العرب الذين "نجحوا" في الإستيلاء على دور المثقفين التقليدي في صياغة الخطاب العربي المعاصر بالإضافة طبعا إلى احتفاظهم الأناني بدورهم الموروث في إحتكار تنفيذ متطلبات هذا الخطاب وتحقيق عناصره! لكل ذلك ربما أحس الشعراء الجدد أن دورهم في صياغة خطاب الأمة قد سرق منهم حتى قبل أن يبدأوا في التعرف على ملامحه المباشرة، ولم يكن من الصدفة أن يصر نقاد الجيل السابق لهذا الجيل على تسميته بجيل الهزيمة على اعتبار النشأة في ظل الأجواء العربية الملبدة برائحة الهزيمة على مختلف الصعد.
وقد عبر شعراء هذا الجيل عن الإنكفاء نحو ذاتهم بأكثر من شكل كتابي وبإصرار على الكتابة في موضوعات كانت في السابق شبه سرية أو هي محرمة إبداعيا، فقد لجأوا إلى التجريب الكتابي بجرأة غير مسبوقة، وأهتموا بكل ماهو يومي وتفصيلي بعيدا عن كليات العقود السابقة والتي غرق في لجتها شعراء الماضي القريب، كما إنهم ألتفتوا إلى "الجسد" بشكل مباشر وصريح وجعلوا منه موضوعا إبداعيا كتابيا مفضلا، وإذا كان مجايليهم من الشعراء الكويتيين قد توافقوا معهم في خوض غمار التجريب والنبش في دواخلهم بحثا عن محرضات خاصة لموضوعاتهم الشعرية ذات التفاصيل اليومية والملامح الجزئية فيما يمكن أن يكون ذهابا نحو منطقة ما بعد الحداثة وفقا لمفهوم المصطلح الثقافي، فإنهم تجاهلوا الإلتفات إلى الجسد بشكل عام ما عدا تجربة خاصة للشاعرة عالية شعيب (1964 ـ ...)، حيث قدمته ضمن نصوص شعرية حرة في مجموعاتها (عناكب ترثي جرحا)، و(الذخيـرة فـّي أصرخي في فمي)، و(نهج الوردة).
بالإضافة إلى السمة المشتركة لشعراء هذا الجيل في الغناء لآلامهم الخاصـة على هامش التغيرات الخارجية التي تعصف بالإنسان، نجد أن لكل منهم بصـمته الشخصية، ومنطقته الشعرية ذات الملامح الجمالية المحددة والتي عبر عنها قصيده وفـقا لمـدى اهتمامه ودرجة وعيهم وحجم موهبته، وتفاصيل معاناته الخاصة أو تلك التي يشترك في تحملها أو عدم تحملها مع آخرين، فعلى الرغم من أن الشعر الذي أنطـلقت مـفرداته ورؤاه الجديدة في عقد التسعينيات فارق مشكلات الجماعة وتخلى عن صـوته الجمعي كنشيد تختلط في تضاريسه الأصوات المختلفة، مفضلا أن يكون صوتا منـفـردا في فضاء العولمة الإنسانية المنفتحة على بعضها البعض، إلا أن هذا لم يمنع شـعـراء هذه المرحلة من البحث عن تميزهم الفردي على صعيد إنتاج القصيدة الواحدة، فيحاول دخيل الخليفة (1964 ـ ...)، أن يؤاخي بين صورتين متقابلتين ومتوحدتين في كيان شعري واحد، تتجلى في الصورة الأولى ملامح وطن مستحيل، وفي الصورة الثانية تتجلى ملامح امرأة مستحيلة، وبين المستحيلين يمتد قصيد الخليفة في حركة مستمرة ومتصاعدة تمارس توترها الشديد بفنية عالية، وهو يستعين في سبيل تحقيق قصيدته المميزة بموهبة فطرية أصيلة، يرفدها بوجد إنساني مغرق في سوداويته، ولأنه لا يريد لقصيدته أن تترك عوالمها الأثيرة يتردد كثيرا قبل ولوج عوالم مبتكرة ومساحات تجريبية، ولكنه عندما يفعل فإنه يحاول أن يرسم ملامح جديدة لصورتيه المفضلتين، ففي صورة الوطن يتجاهل المعنى الأساسي ليصير مجرد محور تدور حوله دعوة الآخرين، يقول في قصيدة (ذاكرة الهباء):

دمنا
حفنة من صديد
مباح لكم في النهار
إنما في المساء أتركوه لنا
كي نرتب أحلامنا من جديد .
وفي صورة المرأة يتشظى الشاعر بين ملامح المرأة الحلمية والمرأة الواقعية فيذهب بها نحو مدى واسع من الأسئلة المفتوحة:

وأسأل:

كيف النساء الجميلات
يغزلن أعمارنا
ثم يرحلن دون وداع...؟
تمرين ضيفا
أيا صلوات الندى
تمرين طيف
تذوبين حلما بليلة صيف
وترتحلين
فأي رماد بنا تتركين ...؟ .
أما صلاح دبشة (1968 ـ ...) فقد كان بلغته المنحازة لعوالم مغرقة في الدهشة والمفرطة في البساطة يبدو وكأنه يحاول خلق علائق جديدة للربط بين الأشياء والبشر، ويقدم تعريفاته الخاصة لمفردات العالم الجديد وفقا لرؤية نابعة من تضاريس وعيه الإجتماعي الحاد والمنعكس على شكل موهبته الشعرية تعاملا ذكيا مع اللغة والموسيقا فيها، وهو يبدو أكثر شعراء هذا الجيل في الكويت انحيازا نحو ذاته في محاولة لتنظيم مظاهرات شعرية تراوح ما بين عنف المعنى رغم بساطته الظاهرة، وهدوء اللغة رغم اختراقاتها الذكية، وفي قصيدته (جذاذات ولد مهذب)، يقدم هوية مغوية لشاعر قادر على ممارسة لعبة الإغواء حتى حدودها القصوى، يقول:

لن أطير الآن
حتى لا يلتفتوا إلي
ويقيدوني
لم أكن كاذبا
عندما أبتسم الحظ .
أخفف موتي دائما
بالأصدقاء
وأعذب الذين لا أحبهم
بيني وبين نفسي
كلما حاولت أن المس الوهم
تضحك يدي.
مللت من نفسي
هذه
التي تفتح لي وحدها
كلما طرقت بابا.
ويمضي دبشه في جذاذاته تعريفا وتقديما وتمردا وربما هروبا:

عندما ولدت
نسيت أن أصرخ
دعني أيها الحلم
لقد فقدت قدمي .
ويتكئ ابراهيم الخالدي (1971 ـ ...) على التاريخ، يجوس بين سطوره العتيقة بحثا عن حلول للمشكلات الجديدة، يقول في قصيدته (الخطوط الرئيسة لكتابة التاريخ العربي):

فاعلن. فاعلن. فاعلن
آن للشعر أن يترجل عن صهوة السطر شيئا فشيئا، ويهدي الحروف إلى صوتها
عامدا
أفتح الآن كل الدفاتر مستوثقا من دمي :

قطرة. قطرة
ثم أستودع الرمل أحجيتي.
أحتسي قرب أسلافي الغابرين نبيذ البلح .

ويمضي الشاعر المرهق من تضاريس حاضر مضطرب في بحث مستميت عن بقايا مجد غابر لا يستيقظ حتى يبدأ بمحاكمته رجعيا عبر رموزه المكرسة تاريخيا وحضاريا، منتميا لعراقة متخفية لا يريد إعلانها إلا وفق خريطة شعرية خاصة بـ(الفتى الهاشمي)، وفي قصيدة بهذا العنوان يعلن مصيره:

عاد من حيث جاء
الفتى الهاشمي النقي الرداء
كان في مصر والشام والنهر وإن
وكان بقصر الخليفة حينا
وفي معصميه بلاء بيوم حنين
وفي مقلتيه حنين لكرب البلاء
جال في الأرض حتى تململ من سيفه المنتضى
وأرتضى
غيمة لا تخون خزائنها
وطنا في السنين الخواء .
وبين الرموز التاريخية وما أندس بينهما من رموز ذاتية تمضي أسفار إبراهيم الخالدي الشعرية في رحلة مستمرة تحتفي بالماضي وتتطلع نحو المستقبل عبر لغة رصينة تنداح في حداثتها.
ويرفد علي حسين الفيلكاوي ( 1965 ـ ...) المشهد البانورامي للشعرية الحديثة في الكويت بمجموعتين شعريتين صدرتا على فترتين متباعدتين، ففي حين صدرت الأولى بعنوان (الرومانسي الأخير) عام 1988، حاملا تباشير الصوت الواعد في قصائد مبكرة، صدرت مجموعته الثانية عام 1997 بعنوان (لمسات ضوئية) مستأنفا فيها لغة الحلم وإن بإمكانيات أكبر في تحقيقها، وفي قصيدته (أجنحة في جسد الصمت) وعدا أكيدا بإستمرارية شعرية أكثر حضورا:

برقك الماء
توج قافلة الغيم
فوق إمتداد الخليج
لتنبت من عشبك الأرض
يشبع جوع الرحيل
فمذ كنت والموج
يخفق بين يديك
على صدره تستريح المرافئ
والسفن المتعبات
وأنت الصغيرة في اللانهاية كنت هنا .
أما أحمد الدوسري (1963 ـ ...) الذي صدرت كل مجموعاته الشعريه بعد أن غادر الكويت للعيش خارجها منذ بداية التسعينيات حتى الآن، فقد حاول أن يعكس واقعه الجديد بقصائد حملت ملامح الغربة والفقد والإبتسار، ويتشابه في تجليات غربته الشعرية مع شاعر آخر هو محمد النبهان (1971 ـ...) الذي غادر الكويت منذ منتصف التسعينات وأقام خارجها ما يقرب من اثنتي عشرة سنة تكونت خلالها شخصيته الشعرية، قبل أن يعود، مستوفيا إشتراطات غربته في قصائد توزعتها مجموعتاه، إستغراقا للتجربة وإستيحاء لها، وربما تخلصا من تبعاتها فيما بعد حيث نجح في إنتاج نصوص تحاكي إغواءات الذات البشرية في أقصى كمائنها بمجرد افكار شعرية غاية في البساطة:

منْ فَرْطِ شفافيةٍ
أو فَرطِ السُّكرِ
عبَرنا الجِسرَ
لنوقِظَ أحلاماً شَتَّى
ونُعلِّمَ أجيالاً تأتي :

أن دُروباً عَذراءَ وَلَجْنا في لجةِ وجدٍ جاحد
أو ضَجَّةِ خيلٍ جرداء ْ .
والنبهان الذي يحتفي كثيرا بالفكرة الموسيقية يبدو كمن يمشي على جمر المفردات محاولا ألا يحترق بنار دقائقها دون أن يستفيد من تلك النار في تخليق أفكاره الشعرية الأساسية، متكئا في ذلك على بلاغة لغوية رصينة وإحساس رهيف بالجملة الشعرية:

المدى؛
لَحنانِ متَّزنانِ في صمتِ الجنازةِ فجأةً
وحدي المشيَّعُ والْمُعزّى/ الفاقد المفقود
والحَزِنُ، الوحيدُ، الرّاحل، الفردُ، الزّعيمُ
أنا على تاجِ الخسارة.
القاتلُ المقتولُ، واليَقِظُ المرابضُ
فوقَ صخرةِ قبرِهِ المطمورِ، مُحتشداً على بعضي
على لَحنينِ مختلفينِ في بوحِ القصيدةِ
أَينما وجَّهتُ وجهي
وجهكَ الطِّفليُّ يحضنني ويختصر العبارة.
ولا يبدو أحمد النبهان (1969 ـ ...) في مجموعته الشعرية الوحيدة (الأب مفتتح سيرة ذاتية للإبن) مخلصا كثيرا لفكرة الحكمة وفق مفهومه الخاص لمعناها خاصة أن أطيافا كثيرة لشعراء كثيرين تطل برأسها هنا وهناك رغم حرفية الشاعر الواضحة في محاولة توظيفها ومحاولة الخروج منها بصوت خاص:

مصصت دم الغيم
علقته بالمسامير
أشعلت في قدميه الشوارع والنازحين
تركت اغانيه في ملحها سابحة
لهثت وراء فراشات وحشته
وثقبت لها العين والدمع والوجد والطلة السارحة
رأيتكِِ كنت تجرين ثور الظهيرة من قرنه وتغيبين في
ركضت
ركضت
لأنجو من المذبحة .
ويفضل الشاعر دائما اللجوء إلى المفارقة في قصائده القصيرة بالذات حيث يستكمل بها وحشته الشعرية ويحاول أن يرسم خرائطه الخاصة عبر قصائد تبدأ وتنتهي إلى حيث يريد الشاعر بالتحديد دون أن يتيح فرصا كثيرة لمزيد من الإحتمالات المفتوحة، خاصة أنه كثيرا ما يقع في شرك اللغة الفضفاضة التي يشتغل عليها أحيانا بمعزل عن هم القصيدة ومنبعها الداخلي، لكن الشعرية المغلقة إلى أفق الشاعر الذاتي تبلغ مداها في القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها (الأب ِِِمفتتح سيرة ذاتية للولد) ويهديها إلى مجهول يرمز إليه بحرف "غ"ِ والقصيدة التي تذكر بأجواء حداثة الخمسينات الشعرية تحاول أن تحيط بتفاصيل سيرة معقدة ولا ينبغي الإفصاح عن مفرداتها إلا عبر الشعر الذي يقترح لمشكلاتها حلولا مستحيلةِ.
أما عالية شعيب (1964 ـ ...) فقد بدت وكأنها تغني قصائدها خارج سرب النسق الذكوري بإصرارها على قصيدة ذات ملامح خاصة جدا، أنتجتها معتمدة على احتفاء واضح بتجارب الجسد في تحولات شعرية ذات تجريب ذاتي خاص ودقيق، وفي كل مجموعاتها الشعرية التي صدرت لها حتى الآن، ظلت عالية مصرة على خصوصيتها الشعرية متكئة على جرأة في إنتاج النص على الصعيد الفني، وكذلك على صعيد ابتكار الفكرة والولوج في عوالم لم يعتد زملاؤها أن يلجوا فيها عبر القصيد:

أستيقظ على همس جلدك
يمد نعناعه الوارف
هسهسات
تطهرني منك مني
إلي إليك .
أما نشمي مهنا (1964 ـ ... ) والذي تأخر في النشر قليلا مقارنة مع أبناء جيله حيث صدرت مجموعته الشعرية الأولى، والوحيدة حتى الآن، عام 2001، فقد بدأ رحلته منداحا في مناخات واسعة من الشعر، الفصيح والعامي، أتاحت لـه موهبته المتوقدة أن يتعامل مع تنويعاتها وتشكيلاتها المختلفة بذكاء شديد، وإحتفاء ملحوظ باللغة، ووعي فكري حاد حقق له حضورا لافتا في المشهد الشعري الكويتي بسرعة وثقة، وعلى رغم انحيازه للقصيد وفقا لنظام التفعيلة، إلا أن توقه المفرط لتجريب كل الأشكال المتاحة وفر لمساحته الشعرية أن تتسع وتدور حول مركز ثابت قوامه موهبة أصيلة، ولأنه قادر على ممارسة اللعبة المغوية في اشتراطاتها المتعددة، نجده يحاول أن يستغل ذلك في قصيدته دون أن يقع في شرك الإغواء الموسيقي إلا قليلا، وفي تقديمه لرؤيا بانورامية مقترحة للذات الشاعرة راهنا:

تنداح كرات الثلج
من سفح ايامي
تجتاح ذاكرتي
تأتي
أغسل بماء الورد زوايا القلب
أمحو بقايا أحزان يومية
أزرعها
عتبات الدرب
تخضر عيون الشعب
أحرق قلب الجمرة
بخورا / شوقا للقيا
أدخل طقوسا قدسية
أطفيء عين الشمس
أشعل شمعة
التمس الرؤيا
أتأهب
تأتي
يذوب الثلج
يغمرني ماء الصحو ! .
لكن ماء الصحو الشعري غمر علي الصافي (1966 ـ 2000) حد الموت، فرحل عن مجموعة شعرية واحدة حجزت له مساحة متميزة في منطقة التسعينيات الشعرية، والتي شارك بقوة في تشكيل معطياتها الثقافية بشكل عام، وفي مجموعته اليتيمة (خديجة لا تحرك ساكنا)، حرك بعض المياه الراكدة في شعرية ذلك الجيل تحديدا، خاصة وأن المجموعة احتشدت بأكثر من علامة استشرافية:

رصاصٌ عوى
حين كنت تجسُّ الضلوع
لتعرف أنك ما زلت تحيا
وها أنت تحيا وتطوي الدروب
وهذي الشوارع تولد في بعضها
والبيوت قلاعُ
رصاصٌ عوى والبيوت قلاعُ
وقد رنَّ في هدأة الكون
قرطٌ
ورجَّ الكلام .
الصافي الذي رحل قبل أن تبلغ تجربته أوجها الفني، شكل علامة فارقة في تاريخ الجيل الذي أنتمى إليه بقوة، ليس على صعيد التجريب الذي خاضه على استحياء وأن كان ذلك بإدراك ووعي وحسب، بل أيضا على صعيد رحيله المفاجئ حيث مثل ذلك الرحيل رمزا لغياب لف مجايله بأثوابه الهلامية على الرغم من إصرارهم على إنتاج نصوص شعرية متوترة في غالبيتها.

غيابهم ..!

وإذا كان الموت قد غيب علي الصافي فيبدو أن أسبابا أخرى قد غيبت آخرين عن المشاركة في المشهد والحراك الشعري على الأقل في ظاهرة متكررة إلى حد ما في واقع الشعر الكويت تاريخيا، فهناك من عزف عن النشر بشكل تام تقريبا كما فعلت نور القحطاني، ذات الموهبة الجميلة والخبيئة، على رغم إكتمالها، بين مساقات التكنولوجيا والشبكة العنكبوتية بعيدا عن الواقع الورقي، وهناك من توقف عن النشر قبل أن يصدر أي مجموعة شعرية كما فعل عيد الدويخ الذي نشر بعضا من قصائده ذات الوقع المختلف والجميل قبل أن يختفي وهو يردد دائما أنه يحتفظ بديوان مخطوط "لن يرى النور قريبا" وسعد فرحان الذي أختفى دون أن يقول شيئا، وهناك من توقف بعد أن أصدر مجموعة شعرية واحدة كما فعل أحمد النبهان وأيضا سعد الدهش الذي صدرت له مجموعة (الخروج من ساحل الإثم) عام 1996، وهناك من توقف بعد أن أصدر خمس مجموعات شعرية دفعة واحدة كما فعل نايف العنزى(1968 ـ ...)، حيث توقف غير آبه للشذرات الملتمعة في مجموع ما أنتجه من شعر حتى الآن.

#تجارب أخرى
وتشابهت تجارب مجموعة أخرى من شعراء هذا الجيل الذين أصروا على البقاء في خندق النظام الموسيقي التقليدي للقصيدة الكلاسيكية، فأنتجوا نصوصهم في ظل عمود الشعر وفقا للاقتراح الخليلي، مما جعلهم يخلقون تصنيفهم الخاص انسياقا وراء جيلي الستينات والسبعينات في معظم النصوص، ومن هؤلاء مبارك بن شافي الهاجري (1964 ـ ...) الذي أقتصرت تجربته الشعرية الفصيحة على مجموعة (نزيف أغسطس) بدت، كما يشي عنوانها، تعبيرا عن إفرازات تجربة الغزو العراقي للكويت على النفسية الكويتية:

إن من جاءوا بسيف غادر
وأراقوا عند دسمان دمائي
قتلوا أنفسهم ما قتلوا
عزتي أو أنقصوا من كبريائي .

وفهيد البصيري (1959 ـ ...) الذي أصدر مجموعته الشعرية الوحيدة أيضا بعنوان (هجير الشوق) تعبيرا عن رومانسية مفرطة وكلاسيكية عبر عنها بلغة راقية وصور لافتة بل بدت مشتعلة في كثير من مواضعها، ونورة المليفي (1965 ـ ...) التي أصدرت ديوانها الأول عام 1991 بعنوان (العزف على أوتار الوطن) إحتفاء بقيمة الوطن وعزفا على أوتاره، وفاطمة العبدالله والتي أحتفت عبر قصائدها العمودية بالوطن في كل تجلياته ورموزه، ورجا القحطاني (1965 ـ...) الذي وظف أوزانه المحكمة وقوافيه المنتظمة لمعالجة قضايا يعاني منها المجتمع، ووليد القلاف الذي لجأ للغة تقليدية محكمة السبك لتكوين قصائده الوطنية والعاطفية.

هوية مفقودة

وإذا كانت الهوية المفقودة هي أحد أهم المشكلات التي وجد شعراء هذا الجيل في الخريطة العربية كلها ـ ومن ضمنها الخريطة الكويتية التي أنفتحت على خريطة العرب شعريا علي يد شعراء هذا الجيل بشكل غير مسبوق على الصعيد الفني أو تشكيل القصيدة وتحديد ملامحها ـ، أنفسهم يتحدون تبعاتها في عالم كوني يموج بالإنجازات، ولكنه في نفس الوقت يحتشد بالإنكسارات الفردية والجمعية، فإن هناك مجموعة من شعراء الكويت الشباب وجدوا أنفسهم يعانون من تلك المشكلة بشكل مضاعف نتيجة معطيات واقعهم المحلي الذي وضعهم بين أقواس محددة دون هوية مما جعلهم يمارسون الكتابة الشعرية تحت وطأة القلق الثقيل وهو قلق يتخلق في سبيل البحث عن هوية على هامش من واقع لا يريد الإعتراف بمفردات هذه الهوية، وفي قصيدته (علقيني وساما لهذا التوحش) يحاول أحمد النبهان، أن يفصل:

لا أحد
لا أحد
غيرنا في النهار الطويل
الرحيل وتد
والخيام البعيدة عينا قتيل
تلاحقنا مثل عصفورة متعبة
تحط على كتف العمر
تندس في معطف القلب
تستدرج الريح فخا
لخطوتنا الهاربة
تصيح بنا
لنعبر بين الرصاص وأجسادنا
بين نهري دم من خرافات اولادنا
بين هاويتين
نصير الجسد
لا أحد
لا أحد .

ويستمر الصدى مرددا :

لا أحد... لا أحد... لا أحد، وراء النبهان وزملائه اللاهثين في بحثهم المضني عن هوية في واقع لا يريد الإعتراف بهم رغم تحققهم الإنساني والشعري، فيما يبدو وكأنه تعبير عن تلك المشكلة الإنسانية ذات الطابع السياسي بتداعياته الإجتماعية والتي تسمى في الكويت "مشكلة البدون" .
وإذا كانت هذه المشكلة قد بدأت في الظهور بعد سنوات قليلة من الإستقلال وصدور قانون الجنسية في بداية الستينيات، إلا أنها كانت غائبة دائما عن ديوان الشعري الكويتي رغم وجود أحد أبرز شعراء السبعينات والثمانينات كان ينتمي لهذه الفئة وهو الشاعر سليمان الفليح، ولم تحضر إلا في قصيد ذلك الجيل التسعيني ممن يعاني من تلك تبعاتها، وقد تعددت أشكال الإستجابة الشعرية تعبيرا عن تلك المشكلة بتعدد الشعراء المعانين منها، فيقول دخيل الخليفة مدخلا لمجموعته الشعرية الأولى (عيون على بوابة المنفى) ، والتي تكاد تكون المجموعة الشعرية في ديوان الشعر الكويتي التي تناولت مشكلة البدون في إنعكاس واضح للتطور في فهم أبعادها لدى الجيل الجديد من الشعراء:

هنا
تحت هذا الرماد
سأبحث عن لحم وجهي
لأجمعني
ثم أبحث عن وطن
في الرماد !! .

وفي مجموعته الثاني (بحر يجلس القرفصاء) يفصح عن تضاريس المشكلة:

حلمت أن لي وطن
وجنة طيورها صغار
وعندما أفقت
وجدتني ممدا
يلفني كفن
مسور بالنار .

وتهيمن أجواء تلك المشكلة ذات البعد الإنساني والذي وجد هؤلاء الشعراء أنفسهم يعانون منه دون أن يكونوا سببا فيه أو قادرين على تجاوز تبعاته، على المجموعة الشعرية الوحيدة للشاعر الراحل علي الصافي (خديجة لا تحرك ساكنا)، فمن دون الوقوع في شرك المباشرة يعبر الشاعر عن تلك الهواجس الذاهبة إلى أقصى حدود القلق من المستقبل، والعجز عن محاكمة الماضي:

الماضي عجوز
والمستقبل ولد مراهق
أفتح الحوار والمسدس
لنلعب روليت الحياة
كي لا نشيخ في الموت
الحكمة قبة الكلام
وفضاء زماننا فاسد
الفقراء يذهبون إلى بيت الله
وبيت المال
سجادتي حصير
ولم يؤذن الفجر
نخلة الله لا تلم الصعاليك
نخلة الله تظلل نصفي
شجر نبوي لإمتدادي
وبلادي تخبئني عنها.

ويقول محمد النبهان:

أتدلّى شَبحاً
أقطعُ بيدي حَبلي السّرِّيَّ
وتفضحني الغُربةُ
وطناً لا يلمسُ تعبي
ودماً ينتظر السكين!

وفي قصيدة أخرى يشرح محمد النبهان معطيات هذا المشكلة التي وصمت قصيد هؤلاء الشعراء في شجن شعري يسيل ألما وحسرة.. وغيابا:

أرمق وطني الجالسَ بين يديهِ البحرُ حزيناً
يغرسُ رمحاً في الطّين
ويُسْلِمُني للسّجنِ أحبُّ
بلا ناسٍ أدفع قدمي لبلادٍ أخرى
لامرأةٍ خضراء كأوّل شعرٍ
فاجرةٍ كالخمرةِ كأساً أوّلَ
هادئةٍ كاللّيل بلا ناسْ .

ويوجز علي الصافي تفاصيل الهوية المثلومة لدى هذا الجيل بعبارة بالغة الدلالة:

أنا وحشة المظلوم
ولطمة الغائب .

التطور الأحدث

ما أنتهى العقد الأخير من الألفية الثانية حتى ظهرت بوادر شعرية رفدت المشهد الإبداعي في الكويت بشعراء بدوا منذ قصائدهم الأولى أكثر جرأة ممن سبقهم على صعيد النشر مستفيدين من معطيات التكنولوجيا الحديثة، فأستغلوا فضاء الإنترنت لنشر نتاجاتهم الشعرية، وتحاوروا بواسطة ذلك الفضاء مع مجايليهم العرب، وما هي إلا سنوات قليلة جدا حتى أنفرزت أسماء بعينها بدت أكثر جدية من غيرها في الإحتفاء بالموهبة ومحاولة تكريسها عبر نشرها في إصدارات متلاحقة، لكنها على أية حال قليلة العدد مقارنة بالأسماء التي أنحازت لمجالات أخرى، فمن بين عشرات الأسماء التي ظهرت على سطح النشر بعد العام 2000 تحت مظلة "منتدى المبدعين الجدد" ، أو بعيدا عن هذه المظلة لم ينحز للشعر سوى أسماء قليلة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، ومن بين هذه الفئة القليلة نجد من انداح إلى جانب الشعر في فضاءات نقدية وسردية وتشكيلية أيضا، لكن يبدو أن هذه الفئة القليلة تغلبت على قلة عددها بكثرة عدتها، حيث أنجز هؤلاء الشعراء الشباب من الكتب خلال ما يقل عن سبع سنوات فقط ما لم ينتجه معظم السابقن في عقود من الزمن.
فمحمد المغربي (1982 ـ ...) الذي كان أول من بادر من هذا الجيل إلى النشر أنجز حتى الآن أربع مجموعات شعرية في سبع سنوات فقط، كما صدرت له مؤخرا رواية، ولا ندري إن كان سيستمر في نهجه الشعري أم الروائي أم أنه سيراوح بين الإثنين مستقبلا، ومنذ مجموعته الشعرية الأولى أثبت المغربي أنه يملك موهبة حقيقية تكرست مع كل إصدار جديد، ورغم التلاوين الجمالية التي تصاعدت من مجموعة لأخرى يظل المغربي مخلصا للتراث الشعري العربي ليس على صعيد إهتمامه الصارم باللغة وإشتراطاتها وحسب بل أيضا على صعيد إختياره لموضوعات أليفة ومعتادة بالنسبة للشاعر العربي القديم والحديث على حد سواء.
ومثله فعل سعد الجوير( 1982 ـ ...)، فقد صدرت له حتى الآن أربع مجموعات شعرية بالإضافة إلى رواية وكتابين نقديين، ويبدو الجوير في كل ما كتب من شعر واثقا من شعريته الناهضة على قوام فكري متسلسل ومتراكم، وهدف يرنو إليه ويعرف أنه سيصله مع كل فكرة شعرية أو نقدية يحققها نصا، ويتجاوز الجوير كل قصيدة يكتبها دون مبالاة حقيقية ربما لأنه يحاول دائما أن يبدأ من جديد في إنتاج نص يمثله تمثيلا يليق بموهبته وطموحه الكبير، وهو وإن كان ينزع نزوعا تقويضيا في تكوين نصه إلا أنه تقويض من أجل بناء نص أكثر متانة في كل عناصره الموسيقية واللغوية والفكرية أيضا.
أما حمود الشايجي (1981 ـ...) فقد أصدر حتى الآن كتابين شعريين ينهضان على فكرة النص ذي المعمار المتراكم والذي يتشعب في طرق شعرية متساوقة فيما بينها، فإنه في كل نصوصه تقريبا يستدعي رموز تاريخية شخصية ومكانية ليستعين بنها في مواجهة حاضره الغامض والمشوش، حتى أنه لا يتورع عن ملاحقة تلك الرموز لفضحها أحيانا بدلا من الإتكاء على موروثاتها الكلاسيكية.
في حين فضل ماجد الخالدي (1984 ـ...) صورة الشاعر النجم فقدم إقتراحا عمليا عما يمكن أن يكون عليه بشكل مباشر وصريح في نصوصه ذات النمط الأقرب إلى الرومانسية بمعناها الشعبي في ما أنتج من نصوص فصيحة وأخرى باللهجة المحلية، عكسه محمد قاسم الحداد(1987 ـ ...) الذي أنداح في دوائر شعرية حداثية متقاطعة من دوائر فلسفية في الكتابين اللذين ألف أحدهما وشارك في تأليف الآخر، حيث بدا النص الشعري عنده مستلا من فكرة وجودية ظاهرة ومتكئة على قليل من الموسيقى.
وبعيدا عن هؤلاء فضل سامي القريني (1986 ـ...) أن يسلك سلوكا كلاسيكيا تقليديا في كتابة القصيدة، فبدأ ملتزما بعمود الخليل قبل أن يتزحزح عن حدوده قليلا في إصداره الأول، أما حوراء الحبيب (1988 ـ...) فبقيت سجينة الجسد الأنثوي الذي أنطلقت منه لتحقق شعريتها العفوية في إصدارها الأول، ولتبدأ من خلاله برسم ملامح شخصية شعرية تنحو نحو الغد بجناح نسوي مهيض.
فضلت أن يكون حديثي عن هؤلاء الشعراء الشباب موجزا، فبالإضافة إلى قصر المدة الزمنية المحتوية لتجربتهم الشعرية وعدم تعرضها لإختبار الزمن الذي تعرضت له تجارب السابقين مما لا يتيح لنا فرصة كافية لتقييم تجاربهم كل على حدة بشكل أكثر موضوعية، أرى أن تترك التجربة لتتفتح بعيدا عن لفت النظر التعسفي فهم، وحدهم، قادرون على خلق مشهدهم الشعري، والذي أتوقع أنه سيكون الأجمل في ديوان الشعر الكويت.. فالغد لهم ولمن سيقتفي أثر الشعر من بعدهم حتما.

آخرون... هنا

ولا يكتمل المشهد الشعري الكويتي المتواصل دون أن نتحدث عن تجل آخر من تجليات ذلك المشهد والمتمثل في تجارب شعرية عربية، تكونت كلها أو جزءا منها في الكويت.
فمنذ الستينات، وربما قبل ذلك بقليل، بدت الكويت حضنا دافئا لكثير من التجارب الشعرية العربية عبر أصوات وفدت اليها وأقامت فيها سنوات متفاوتة، وعلى الرغم أن كثيرا من هذه الأصوات قد وفدت وأقامت في الكويت بعد أن تشكلت تجاربها الشعرية في أساسياتها، إلا أن هذا لم يمنع إنضمامه للمشهد الشعري في الكويت رافدا فسيفسائه بتفاصيل إضافية.
واذا كان قد أشرنا، قبل قليل، إلى تأثير بدر شاكر السياب على الشاعرين محمد الفايز وعلي السبتي (في بداية الستينيات)، فلا بد أن نشير، وإن بشكل سريع إلى أسماء أخرى تفاوتت مستويات تجاربهم وتأثيراتها ومن هؤلاء: سلمى الخضراء الجيوسي، ونازك الملائكة، ومعين بسيسو، ومحمد الأسعد، وأحمد مطر، ومختار غالي، وعبده بدوي، ومنيرة مصباح، وهلال الفارع، محمد يوسف، وعباس منصور، ونادي حافظ، ومخلص ونوس، ومختار عيسى، ومحمد عليم، ونجوى سالم، وآدم يوسف، وحنان عبد القادر، وعبد الرحمن حلاق، والسعيد شوارب وغيرهم كثيرون، ولعل هذه الإشارة الموجزة جدا تكون بداية للتفكير برصد هذه الظاهرة في تاريخ الحركة الشعرية في الكويت التي كانت، وما زالت، وطنا للشعر والشعراء، وغيمة تظلل حداة القصيد دائما.

***

إبراهيم الخالدي

  • من مواليد الكويت، عام 1971.
  • حائز على بكالريوس تربية من كلية التربية في جامعة الكويت.
  • عمل في التدريس بالمدارس الثانوية.
  • يساهم بكتابات في الصحافة.
  • عضو رابطة الأدباء.
  • عضو جمعية الصحفيين.
  • عضو جمعية المعلمين.
  • ألف وحقق عددا كبيرا من المؤلفات الخاصة بالتاريخ وتراث الجزيرة العربية.

صدر له:

  • دعوة عشق للأنثى الأخيرة، شعر، 1994.
  • عاد من حيث جاء، شعر، 1997.
  • إحتمالات المعنى، شعر، 2005.

الفتى الهاشمي

عاد من حيثُ جاءْ
الفتى الهاشميُّ النقيُّ الرداءْ
كان في مصرَ والشام والنهروانِ
وكان إماماً بقصر الخليفةِ حيناً
وسجنِ الخليفةِ حيناً
وفي معصميه بلاءٌ بيوم حنين
وفي مقلتيهِ حنينٌ لكرب البلاءْ
جالَ في الأرضِ
حتى تململَ من سيفه الـمُنتَضى
وأرتضى
غيمةً لا تخون خزائنها
وطناً في السنين الخواءْ
عاد من حيثُ جاءْ
الفتي الهاشميُّ النقيُّ الرداءْ.
وأنا منهُ
ـ إن شئتَ صِدقَ الحديثِ ـ
أنا بعضُهُ
غربتي من شتات صهيل الخيولِ ضُحى الحربِ
أمسْ
أحفظ الدرسَ عن ظهر قلبٍ
أُزاوجُ ما بين عبّاد شمسٍ وشمسْ
أسلك الدربَ بين الممالكِ
أصطفي من أشاء وما أشتهي
قد ورثتُ الديارَ
ومَنْ أورثوها
ومن ضيّعوها
فلن أنتهي
لي من الأرض رملٌ غويٌّ
وفي الشاهقاتِ
نشيجٌ تطاول فيَّ
وفي الباسقاتِ
رُكامٌ تهادى
وسادَ البلادَ
ولما تمادى
هَمَى
فأرتعشتُ
وعدتُ وحيداً إلى أضلعي
باردٌ دمعُها
أنسكبتُ
ربَّ حزنٍ نما
فيه من شقوة البردِ ما لا يدثّرُ روحي
ولا يستفزُّ جروحي
كفى
أنقضى العمرُ في غربةٍ تلْوَ أخرى
ولستَ تَمَلُّ .

الأصدقاء

أجل
(مزعجون هم الأصدقاء)
يطلون منشرفة العتب المستفز
على زنبق من خطايا
يطلون رغم اتقاد زناد الفؤاد
إذا ما أشرأبت غصون العناد
عصافير شجو تموسق دفء الحكايا
أجل
(مزعجون هم الأصدقاء)
ولكن
ترى من سواهم إلينا
بصدر رحيب
تعشش بين تفاصيله
قبرات البكاء ؟.

قــل

قل
أن هذا الدرب
لا يفضي إلى باب سوى التابوت
وأتبعني
ستعرف
أن
من رحلوا
قد أكتشفوا الحقيقة
وأستراحوا
...................
إنهم يتضاحكون
ويهزأون بنا.

***

أحمد السقاف

  • من مواليد الكويت، عام 1919.
  • درس في كلية الحقوق.
  • مل في التعليم.
  • عين وكيلا لوزارة الإعلام، ثم عضوا منتدبا للهيئة العامة للجنوب والخليج العربي قبل أن يتقاعد.

صدر له:

  • شعر أحمد السقاف، شعر، 1986 .
  • نكبة الكويت، شعر، 1996.
  • الأوراق في شعراء الديارات النصرانية، دراسة، الكويت، 1982.
  • تطور الوعي القومي في الكويت، دراسة، الكويت، 1983.
  • العنصرية الصهيونية في التوراة، دراسة، الكويت، 1984.
  • نا عائد من جنوب الجزيرة العربية، دراسة، 1985.
  • في العروبة والقومية، الكويت، دراسة.
  • المقتضب في معرفة لغة العرب، دراسة، الكويت، 1990.
  • صيف الغدر، دراسة، الكويت، 1992.
  • حكايات من الوطن العربي الكبير، دراسة، الكويت، 1995.
  • قطوف دانية، دراسة، الكويت، 1995.
  • الطرف في الملح والنوادر والأخبار والأشعار، الكويت، 1996.

تونس

إن تعاتبنا فما يُجدي العتابُ
ليس بين العينِ والقلبِ حجابُ
كم تشوَّقنا ويا رُبَّ خلٍ
يتهاداه ذهابٌ وإياب
نحن نحدو الرَّكبَ بالحُبِّ وكم
من أناسٍ تركوا الرَّكبَ وغابوا
لم نَجد في البُعدِ بُعدًا فالهوى
أبدًا يُذكيهِ شوقٌ وغياب
وتنادينا وجاشتْ أنفُسٌ
للتَّلاقي بعد أن طال ارتقاب
وركبنا المُزنَ نُزجيها ولمْ
يبقَ في الأجواءِ لم يُسرَجْ سحاب
وهتفنا حين لاحتْ جَنَّةٌ
هذه تونسُ مرحى يا صِحاب
قد عرفناها فمن أَطْيَابِها
أرجٌ يفديهِ مِسكٌ ومَلاب.

يا بني تونسَ عفوًا إن بَدَتْ
كلماتٌ لم يُحالفْها الصَّواب
نحن أهلٌ لم يزلْ يجمعُنا
أملٌ حينًا وأحياناً مُصَاب

أنجبتنا أُمَّةٌ واحدةٌ
ينتمي أصلٌ إليها وانتساب
ما نَسِيناكم، ففي وِجدَانِنا
لكمو شِيدَتْ بروجٌ وقباب
إنْ شربتُمْ بعضَ وقتٍ علقَمًا
فشرابُ العُربِ في المشرق صَاب
مُنذُ نصفِ القرنِ عشنا نكبةً
ملؤها بؤسٌ وظُلمٌ واغتصاب
فوعودُ الغَربِ برقٌ خُلَّبٌ
وعهودُ الغَربِ غِشٌّ وكِذَاب
ودعاةُ السِلم في أبراجهم
مثلُ عطشانَ يُسَلِّيهِ السَّراب
أيُّ سلمٍ والمرابون غَدَوا
كالسَّكارى حين يزدادُ الشَّرَاب

حسبوا الدُّنيا لهم قد رَكعتْ
ودَنتْ منهمْ أمانيها العِذَاب
والخيامُ الشُّعثُ في مأساتِها
ما أنحنت فيها لطُغيانٍ رقاب
تُرضعُ الأطفالَ حقدًا عاصفًا
ويُطلُّ الثَّأرُ منها والحساب
جَهلَ الطغيانُ فالشعبُ الذي
يَعلِكُ الآلامَ شعبٌ لا يَهاب
والضَّحايا تقتفي آثارَها
أُسُدٌ تمشي إلى الموتِ غِضاب
تلمعُ الثاراتُ في أحداقِهمْ
مثلما تلمعُ في اللّيلِ الحِرَاب
هم فلسطينُ وهم ضَيعاتُها
والسّهولُ الخُضرُ فيها والهضاب
وهُمُ الفجرُ وللفجرِ على
رُغمِ هذا الليلِ حَسمٌ وغِلاب
يا بني العُربِ مضَتْ ستٌّ وقد
مات في الشِّعر سؤالٌ وجواب
في فمي أفراحُكم شبَّابةٌ
وأساكم في مناجاتي رباب
تهزأُ الدّنيا بكم حين ترى
كيفَ يُلهِيكم هتافٌ وخِطاب
وحِماكم نجَّستْ تُربتهُ
واستباحَتْهُ الحُثالاتُ الكلاب
وطنٌ أنبتَ أمناً وهُدىً
وأرتوى منه يراعٌ وكتاب
يتداعى المسجدُ الأقصى به
ويَعيثُ الهَدمُ فيه والخَراب
كلُّكم يبكي فلسطينَ فهل
يُرجِعُ الحقَّ بكاءٌ وانتحاب ؟!
يرقدُ الغاصبُ في أعينكُمْ
ولكمْ فيكمْ عِداءٌ واحتِراب
ما عَهِدْنا العُربَ ترضى ذلَّةً
عَجَبٌ أن تَقْبَلُوا العارَ عُجَاب !!

يَلطُمُ المجدُ عليكم غاضبًا
ويصدُّ السَّيفُ عنكمْ والقِراب
إيهِ بنزرتُ انشُرِي أسطورةً
خطَّها للخُلدِ شِيبٌ وشباب
أرْيَحيُّونَ تفانَوا في النَّدى
والعَطاءُ الحقُّ بَذلٌ واحتساب
وثبوا في عَزمةٍ شامخةٍ
وثباتٍ لم يزعزعْهُ إضطراب
فأدلَهَمَّ الأُفْقُ وأرتجَّ الضُّحى
وأستماتَ الحقدُ وأحمَرَّ التُّراب
وأنجلتْ، وأرتدَّ لم يَبسِمْ له
هدفٌ أو يَقتَربْ منه طِلاب
صمَّمَ الشعبُ على النصر فلم
تُثنِهِ عنه منايا وصِعاب
ما أرتجى من مجلسِ الأمنِ يدًا
يدُهُ فيها ثوابٌ وعِقاب
لو دَرَى الباغي لَمَا نازلهُ
كيف لا تُدميهِ آسادٌ وغَاب
هكذا العُربُ ولكنْ داؤها
أنها اليومَ شِعَابٌ وشِعاب
كُلَّما لاحَ لها في سيرها
قبسٌ لاحتْ غيومٌ وضَبَاب
والمتيهاتُ رُؤىً مجنونةٌ
زادُها في رحلةِ الوهمِ سباب

فأنتفض يا شَعَْبُ وأصفَعْ حاضرًا
حُلمُهُ المشلولُ صُلحٌ وانسحاب
فأنتفض بوركتَ وأتركْهَا لظىً
يتبارى الموتُ فيها والعَذاب
فلعلَّ الوَعيَ يصحو بعدما
ضاعَ منهمْ في حزيرانَ الصَّواب
جعلوا الفانتومَ بأسًا باغيًا
خابَ من أعطاهُمُ البأسَ وخابوا
لم تَخَف هانوي من غاراتها
وأبى أن يَقبَلَ الذَّلَّ جِياب.

يا طير ! يا عصفور ! يا أصفر!

يا طيرُ ياعصفورُ يا أصفرُ
ما لي إلى غيركَ لا أنظُرُ
يَهنيكَ ما يَسبي وما يَسحَرُ
ومنظرٌ يُزري به منظَر
يا طيرُ ياعصفورُ يا أصفرُ.
يا طيرُ أعشاشُكَ فيها العَجَبْ
لم ترَ عيني مثلَها في الحِقَبْ
كم غرضاً راعيتَ كم من سَبَب
وكم عذابٍ ذقتَ كم من تَعَب
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ.

في آخر الأغصانِ شيَّدتَها
كالمهد للأَفْرُخِ أعدَدتَها
تَهُزُّها الريحُ كما رُمتَها
أتقنتَ مبناها وأحكمتَها
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ.

السهلُ بالخضرةِ ما أروعَهْ
والأُفُقُ المُمطرُ ما أوسعَهْ
وكُلُّ وادٍ أرضُهُ مُمرِعَه
والرزقُ ميسورٌ فعِشْ في دَعَه
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ.

اللهُ للزَّقزَقةِ النَّاعمهْ
من أَفْرُخٍ عاريةٍ جاثمهْ
تُحِسُّ بالأطعمةِ القادمه
تجلبُها في نشوةٍ حالمهْ
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ.

تقضي النّهارَ الحُلوَ بين الجِنانْ
تسعى بروحٍ مُفعمٍ بالحنانْ
لم تدرِ شيئًا عن صروف الزَّمانْ
والليلَ تقضيه بعُشِّ الأمان
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ.

أنظرْ إلى الورقاءِ ذاتِ النّواحْ
تبكي على عشٍّ ذرتْه الرِّياحْ
وأفْرُخٍ ضاعتْ قُبَيلَ الصَّبَاحْ
لا أرجلٌ تحملُها لا جَناح
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ.

لو أتقنتْ مثلَكَ ذاك البِناءْ
وأحتملتْ مثلكَ بعضَ العَناءْ
لكان في ما شيّدتْهُ النَّجاء
فالعملُ المُتقَنُ سرُّ البقاء
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ.

يا طيرُ حدِّثْنِي عن الأقدمينْ
عن "حِمْيَرٍ" عن "سبأٍ" عن "مَعِينْ"
وعن حضاراتِ السنينَ السِّنينْ
فأنت قَصَّاصٌ دقيقٌ أمين
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ.

لا تحَزنَنْ يا طيرُ للذِّكرياتْ
فكلُّ ما ولَّى تولَّى وفاتْ
فالقومُ قد هبّوا فما من سُبات
والمجدُ ـ إن جدُّوا ـ قريبٌ وآت
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ.

***

أحمد العدواني

  • من مواليد الكويت، عام 1922.
  • توفي عام 1990.
  • التحق بالأزهر، عام 1949.
  • عمل مدرساً للغة العربية.
  • أنتقل للعمل في إدارة المعارف حيث شغل عدة مناصب إدارية وفنية.
  • عين وكيلاً مساعداً للتربية.
  • عمل بعدها في وزارة الإعلام، حيث عين مديراً للتلفزيون، ثم أصبح وكيل وزارة مساعداً للشؤون الفنية.
  • عين أميناً عاماً للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وهو أحد مؤسسيه.
  • شارك في تحرير أول مجلة كويتية هي مجلة: البعثة، التي كان يصدرها بيت الكويت في القاهرة.
  • شارك في إصدار مجلة: الرائد، عن نادي المعلمين، 1952.
  • ساهم في إصدار سلسلة: من المسرح العالمي، ومجلة: عالم الفكر الفصلية، وسلسلة: عالم المعرفة، مجلة: الثقافة العالمية.
  • كما ساهم في إنشاء مركز الدراسات المسرحية، والمعهد الثانوي للموسيقى، والمعهد العالي للفنون الموسيقية، والمعهد العالي للفنون المسرحية.
  • مؤلف كلمات النشيد الوطني الكويتي.

صدر له:

  • أجنحة العاصفة، شعر، 1980.
  • أوشال، شعر، جمعها وأعدها للنشر د. خليفة الوقيان ود. سالم خدادة، 1997.
  • صور وسوانح، شعر، جمعها وأعدها للنشر د.خليفة الوقيان ود. سالم خدادة، 2007.
  • أعماله الشعرية الكاملة، عن مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري.

الليل الأخير

المغاني والأماني المبهمهْ
والخبايا في الدروبِ المظلمهْ
كالبقايا من حياةٍ معتمهْ
سوفَ تُطوى في ضمير الذكرياتِ
طولَ أيام الحياةِ
هذه الكأسُ
هنا سوفَ تفيقْ
وتنادي أينَ من كانَ الصديقْ
أتراهُ ضلَّ أرجاءَ الطريقْ
أم هوى غيري وهامْ
تحتَ أستارِ الظلامْ ؟
وكأَنِّي أنظرُ الساقي غدا
حائراً يسألُ عنِّي من غدا ؟
أينَ من كانَ هوىً متّقدا
ظامئاً يشربُ كأساً بعد كأسِ
في إبتسامٍ وإئتناسِ
وصحابٌ عكفوا حولَ الشرابِ
وأباحوا الكأسَ أسرارَ الرغابِ
خلتُهُمْ قد سألوا بعدَ غيابِ
أين يا صحبُ الذي كانَ هُنا
باسماً مثلَ المُنَى
يا ليالي الشهواتِ الثائرهْ
ومجالي الصبواتِ الحائرهْ
أنتهت دنيا حياتي الساهرهْ
إنني في ساعةِ الليلِ الأخيرْ
ثُمَّ أمضي
حيثُ لا أدري المصيرْ.

في ظلال الصمت

سكتُّ
فأتركيني في ظلال الصمتِ
مختبئاًَ كالسرِّ في قلب الأصمْ
أشاهدُ الموتَ يلتفُّ بالوقتِ
يدسُّ في طيّاتهِ العَدَمْ.
سكتُّ
فأتركيني أغوصُ في الحياة المجدبهْ
أعبُّ في سكونٍ أشجانيَ المضطربهْ
وأقصدي غيري فقد يروي لكِ الأفراحَ شعرا
ويغنّيك أناشيد الهوى خمرًا وسحرا
فأتركيني قبلما تهوين في صمتيَ سرّا
أطبق الغيبُ عليهِ وأنطوى في القبر كفرا
أنت بستانُ حياةٍ أزهرتْ فيه المعاني
وتلاوينُ جمالٍ عايشتْ أحلى كيان
أنتِ من أنتِ ؟
زمانٌ كان حُلمي في زماني
قبلما أدرك في صمتيَ أسرار الأماني
فحياتي اليوم غير الأمس، صمتٌ يتكلمْ
كلّما مرَّ بذكرى شربَ الدمعةَ بالدمْ
حصد الأمس فلم يجمعْ سوى كونٍ تهدَّمْ.
سكتُّ
فأتركيني في ظلال الصمتِ
وأرتقبيني وهجًا يضيء بعد موتي
يُفجِّرُ التاريخ في غياهب الكهوف
ثورة عصرٍ ناقمٍ على سلاطين السيوف
فلا سلاسلُ الحديد تحبسُ القلمْ
ولا رفارفُ البنود تحكمها الرممْ.

لوامــع

1

صامتٌ حيثُ لا حوارْ
أمزجُ الليلَ بالنهارْ
في سلالٍ من الغبارْ
وعلى جبهتي استطارْ
شررٌ ما لهُ قرارْ
صامتٌ حيثُ لا حوارْ.

2

صامتٌ حيثُ لا حوارْ
شأنَ أحوالِ سالكٍ
أنكرتْ وجههُ الدِّيارْ
حينَ ألقى ثيابَهُ
للدياجيرِ واستنارْ
ورأى الحقَّ جهرةً
ليسَ من دونِهِ ستارْ
صامتٌ حيثُ لا حوارْ.

3

صامتٌ حيث لا حوارْ
بينَ من لي ومنْ لهم
في ظلالِ الهوى حوارْ
منعتهمْ من السُّرى
للعُلى خشيةُ العِثارْ
فإذا هم على حصارْ
صامتٌ حيثُ لا حوارْ.

4

صامتٌ حيثُ لا حوارْ
كلّما قلتُ قد دَنَا
موسمُ الخصبِ والجَنَى
وتهيَّأتُ للمُنى
قامَ ما بيننا جدارْ
صامتٌ حيثُ لا حوارْ.

5

صامتٌ حيثُ لا حوارْ
ولدى عالمِ الغيوبْ
فلكٌ يكشفُ الريوبْ
ويعرِّي من الذُّنوب
من لهُ فرَّ واستجارْ
وأنا ساعة انتظار
صامتٌ حيثُ لا حوارْ.

6

صامتٌ حيثُ لا حوارْ
غيرَ حزنٍ يبثُّهُ ليلُ أشواقيَ الحِرارْ
لمعتْ في سُدولِهِ
نجمةٌ ضلَّت المدارْ
ثم غابت وخبَّأَت
في ضميري سديمَ قارْ
صامتٌ حيثُ لا حوارْ.

رسالة إلى جمل

إياكَ
يا صديقي
يا جمل!
إياك أن تيأسَ أو تلينْ
إياك أن تكونَ مثل آخرين
قد عكفوا على الطلولْ
يندبونها
أو أطفأوا شموعهم
وخرجوا إلى الرياح
يلعنونها.
كلا
وأنت رمز الصبر يا جمل!!
لا
لن تكون مثلهم
ولا أنا
وحقِّ أرضنا.
إياك
يا صديقي
يا جمل!
إياك أن تيأس أو تلين
إياك أن تكون مثل آخرين
أدمغةً قد نزعتْ مِخاخَها
محشوةً بالرمم الملفقه
تفوح من أنفاسها رائحة
تعرفها المزابلُ المحترقه.
إياك
يا صديقي
يا جمل!
إياك أن تيأس أو تلين
إياك أن تكون مثل آخرين
قد سلخوا جلودَهم
ومسخوا
لهم جلودا من لقيط النسب
فأصبحوا
وما هُمُ بعَرب
وما انتَموا أصلاً لغير العربِ.
إياك
يا صديقي
يا جمل!
إياك أن تيأس أو تلين
إياك أن تكون مثل آخرين
إذا سرى الليل عليهم عربدوا
ورسموا بالكأس خطة الظفر
وإن دنا الصبح إليهم رقدوا
وفوضوا مصيرهم إلى القدر.
إياك
يا صديقي
يا جمل!
إياك أن تكلَّ أو تَمَل
أو تضلَّ كالهمل
فإنَّ في أعماق هذه الصحراء
نبعَ الحياةِ لم يزلْ
يَمُدُّ للظماء أسبابَ السماء.
إياك
يا صديقي
يا جمل!
أن تفقد الأمل.

كـــلام

قالت لي السفوح حينما
رحتُ أغني للقمم
ألست تدري أيها المغني:
ما القمم ؟
كانت سفوحًا مثلنا
ثم أصابها داء الورم.
يا حقد
لا برحتَ قصّة العاجزِ
في دار الهمم.

***

أحمد النبهان

  • من مواليد الكويت، عام 1969.
  • حائز على شهادة الثانوية العامة .
  • عمل في الصحافة لسنوات عديدة قبل أن يعتزلها.
  • يشتغل بالأعمال الحرة.

صدر له:

  • الأب مفتتح ـ سيرة ذاتية للولد، شعر، 1999 .

والعابرون دمي.. أنا

أغلقتُ بابي
كل أحبابي أنا
والعابرون دمي قتلتهمو بنصف الدرب
كل الدرب لي
أغلقت بابي
ورميت كل دفاتري
للنار
لإمرأة أقطّع من شجيرات الغيابِ
بخور ضحكتها وأهدابي.
أنا ولد تفاجئه الخطى
ـ في حضن أرملةٍ ـ
يفزّ
ويرتمي في الليل
كان الليل مفتوحاً لآخر آخر الدنيا
وكان الليل سربا من قطا
ولدٌ أنا
ولدٌ أنا
أغلقت بابي
والعابرون دمي أنا.
"لن تجيء
كان يعرف
ينفث دخّانه
والذي خانه
ويضيء".
مدن تهبّ
من الجهات الست أركض صوبها
قدمي المفاوز وإنشطاري
سوّريني بالنهايات البعيدة
بإنفلات البرق من وحوش السماوات الخفيضة
سوّريني بي
غياب غائر في الروح ـ قرب الماء ـ
مشتعلين يا وطني جوادينا
وكنت كما أحبّك دائماً
مستنفراً تمضي كسيفٍ
مزّقوا أوصال صاحبه به
خيل مطهمة تخبّ
لغيابها يمضي غيابي.

الأب.. مفتتح سيرة ذاتية للولد

إلى : غ

ذهب الرفاق
كلّ الرفاق
تركوا قطاهم في فخاخ القلب عالقةً
نسوا خطواتهم
فوق السلالم
والصحاري المعتمة
كسروا أباريق الفصول
تحسّسوا أسمائهم
ومضوا هناك.
فأخلع خطاك
وأخلع عيونك أيها الولد المراق
بين التفرد وإنطفاء الأوسمة
أخلع عيونك
وأخلع الأسوار والأسرار
والوطن المسيّج بالمديح الرخو
والصلوات.
صوتك عاصمة
فأهجر عواصمهم لتنجو
وأنخ ركابك في العواصف
والمدى يرتجّ
يرتج المدى
فأغسل يديك إلى التوحد
بالقناديل الجريحة والوعول الهائمة
"لا حقائب لي
كي نكون معاً أو لنفترقا
ضيعتني الأناشيد ـ سيدتي ـ
وضيّعتها الطرقا
لا حقائب لي
لأمشي على ساعديّ إليك
وكي أنتشي بالبكاء وأحترقا.
أصيح بك الآن يا برق خذني
إلى صدر أميّ خذني
إلى صلوات الهوى
وشقائق حزني
إلى أول العمر
إذ يجفل القلب.
من دمع أرملة في الوداع تغني
ذهب الرفاق
كلّ الرفاق
تركوا نكات البارحة
مرمية ـ كالعمر ـ فوق المائدة
كسروا زجاج الدمع وأنفرطوا
دمّ يتسلق الجدران والنسيان
يفترس الستائر والسديم
ويوقظ الموتى
ـ صباح الخير أيتها الحقول الخامدة
وحدي سمعت نشيجهم
وعواء طعنتهم
رأيت التيه محموماً
غبارٌ موغلٌ في الغيّ
أوردة على دمها تحوم كذئبةٍ
تستدرج التعب الطويلا
ورأيت يا أبتي خناجر
في السقيفة مغمدة
أجّل رحيلك لو قليلاً يا أبي
أجّل رحيلك لو قليلا
نصبت النهار
فخاخاً لصوتين طارا
ركضت وراء القوافل والمنشدين
لتهدأ في رئتيّ الصحارى
قالت الريح:
ـ كن ولدي
كبرت ولم تكبر الريح
ـ لا لست أمي
قالت الشمس:
صر جسدي
أغطيك كي لا يراك الحرس
أقول لهم راح يرعى قطيع الهوس
ويكسر في الطرقات الجرارا
أنخت الديارا
رميت على مشجب البرد سهدي
فأسرى بي البرد للبردِ
أيتها الشمس
لا لست أمي.

ذهب الرفاق
كلّ الرفاق
والعمر يركض خلف وهج صبيةٍ
وقفت تغني فوق تل الهجر
"بيتي أنا بيتك
ما إلي حدا
من كثر ما ناديتك
وسع المدى".
وسِع المدى
وسِع المدى
يا طعنتي أنغرسي
فك الضفائر يا ردى
فالليل أندلسي
ذهب الرفاق
كلّ الرفاق.
"حاصريني لتمتد روحي
لتركض فوق السفوح سفوحي
حاصريني
لأصعد صوتك
أصعد موتك
أكسر جدران ريحي
وأصرخ بالبحر والسفن الغارقة
أنا ولد من أكاذيب
من نسوة عارياتٍ
من القرمز الغض
من ولهٍ لزجٍ
من رماد خريفين
من وطن ضائع في الحناجر
والشهوة النافقة".

ذهب الرفاق
كلّ الرفاق
وذهبت وحدي
حط عصفور على جذع الطفولة وانتبه
فركضت نحوك يا أبي
كان الفراق
وجه الشبه
بيني وبينك أيها الولد المراق.

***

جنة القريني

  • من مواليد العراق، عام 1956.
  • حائزة على ليسانس في الفلسفة من كلية الآداب جامعة الكويت.
  • عملت لسنوات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ثم كصحفية في مجلة: العربي ومجلة: الكويت، قبل أن تتقاعد.
  • عضو رابطة الأدباء في الكويت.

صدر لها:

  • من حدائق اللهب، شعر، 1988.
  • الفجيعة، شعر، 1991.

ضجيج الصمت

كلامٌ يجرّ ذيول كلام
برأسي
وبركانُ شكّ
ينامْ
وأشجارُ صيفٍ
تشيحُ بأوراقها الشّاحبات
وتلوي غصون إعتلال الملامْ.

وجوهٌ تطلُّ
وجوهٌ تغيب بجيب الظّلام
ووجهٌ بعيدٌ بعيدٌ بعيدْ
مداهُ يزيحُ غيوم الظلام
ويبقى بعيداً بعيداً بعيدْ
فتأتي صحاري سموم تظنّ
وأسياف وقتٍ سقيمٍ يئنّ
ومصباحُ صبرٍعريقٍ تصيحْ
به جذوةٌ من شعاعٍ جريح
يضيق عليّ قميص إغترابي
وأزرارُ صمتي
وجلدُ إكتئابي
وحولي تدانت زوايا وأضلاعُ
جدران نفسي
وشيئاً فشيئاً
تضيقُ مساحاتُ صدرِ المدى بي
يقلّ هواءُ التأسّي
ولا شيء
لا شيء
لا وجه
لا صوتَ
لا هاتفاً في إصطخاب السّكون
يرنّ فتخبو طيوف الظنون
وحيداً بوكر ظلام الألم
يلوذ هزارُ الأسى والقلق
يُحدّقُ في داليات الهموم
يُهدهد نبضاً كجمر الحميم
يدقّ بأعراق جسم الرهق
فتهمي نجومُ الدموع عليه
وتصحو حقول الشجون لديه
فتذوي ثمارُ انتظار طويل
وفوق بقايا رياش الغناءْ
تهبّ أعاصير فصل الشقاء
ضجيجٌ يشدّ لجام الكلام
وعصفٌ يزخّ لهيب القتام
صراخٌ
صراخٌ
دويٌّ
حطامْ.

وفي البعد برجٌ بروض الصقيع
ونبضٌ تجمّد بين الضّلوع
وأزهارُ حلمٍ تلاشى شذاها
فصارت ترابا
وأقمارٌ سُهْدٍ
تناءتْ رؤاها
فصارت سرابا
ولا شيءَ
لا شيءَ
لا عصفَ
لا قصفَ
لا غيمَ
لا عتمَ
لا جمر يُذكي هشيم الربيع
ولكنْ
شبابيكُ شمعٍ تلوح
تحطّ عليها طيورُ البردْ
ووجهٌ تحنّط في ناظريه
ضبابُ الأبدْ.

***

حمود الشايجي

  • من مواليد الكويت، عام 1981.
  • حائز على البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة الكويت .
  • يعمل حاليا محرر صحفي في وكالة الأنباء الكويتية: كونا.
  • عضو رابطة الأدباء.

صدر له:

  • هيولى، شعر، 2002.
  • العزف الثامن، شعر، 2004.

العزف

أ

دخلت من أبواب عدة
لم أرَ غاية تتحقق.
صوت يأتي وله رجل عرجاء
يقرأ بها كلام الأولين من شباك السلحفاة
يبشر بخُرافة النمر
ولا يفقد من وقاره أي نجاة أو تهلكة.
تغزوه من بُعده يترجل يقيم الحد
يناقشك يفك عن نفسه الفلسفة.

ب

تُرَتل التقاويم دون حرص عليه
ولا يرى منك غير الذل
المرصع بآيات من ملك
كن يا من تكون على بحر
كن سيدا ً
تكالبت عنده كل الذئاب.

ت

لست الأول الأخير
فالقوم لم يموتوا مثلك
تراجعوا
ولا أظنك كمن سبق.
صوبك كلام وعليك كرامة الثعلب
ما تلعب سوى النرد
ويقهرك السيف.

ث

يا أيها المغضوب عليه
لم يكن الخَبث كثيراً عندنا
أتبيع ؟!
ها هو الغزالي يرى حكمة
تراها خيط وهَمٍ أمتد للصوم.
ولا تنبؤكَ خيالات عن الذاهب بأنه
أكثر القادمين.

ج

"ترجل كل أمر بترجل"
يصاب مصاب القميص
المرقع بالنرجس الذي أقمت عنده قيام بخور أصيب باللهب.
ترتكب عافية
ويصمت الطير.
تهبك الأبواب وتهب بك.
أحرص عند كل خوف على القميص المثقوب
بالظهر من شدة الطعن
أكبرهم يقرأ عليك الفاتحة وآية الكرسي.

ح

لا يكن نيتشه آخر مبتغاك
ولا نفسٌ تريك المرآة
وتقل هذا وجهك المتعب بالتحديات
لن تقدم لك الأبواب آية واحدة
فأرحل
وكفك ذاتك أن تواسي ذواتك الأخرى
زندك اليوم أكثر ترهلاً
مما كان عليه قبل ألف عام.

خ

الفارابي فيك لا يسعى لمدينة فاضلة
وقطته ترتكب على فخذك رحمة
وتجهز على جلدك بكل مخالبها رمانا.
الطعن تذكر لن يكن من الظهر
من كل حين أو فيه.

د

هل بات فن الشعر عندك
أم كانت زوجة أرسطو
تقدم لك عصير الليمون ؟
كل وسوساتك قرأتها
دون أن تمنحني أي غاية من كلام زرادشت.

ذ

لا يمت قيصر وكسرى إلا وحط على الدود
قيصر وكسرى
البحر هناك
وفرعون بين كفيك.

ر

عَلِموا أن موتاً أتاك على شاكلة الحياة
هم من صوبوه ناحيتك
الهيكل لا زال قائما ً
والقربان نزيف شعرٍ لا ينقطع
الشالات
والعمائم جهزوها
وغضبان قصرك تلمعت لحبسك.

ز

المغول بين رِجلين يحيكون الخيوط
الفعل والقول لا ينفع الآن
التهلكة قادمة بشكل الغواية
والغواية هي كفك المبتورة عن الناس
كوكبك تناثرت بين مجرات لم تقرأ عنها.

س

موسى
أخلع نعليك وسبح عدد حبات الرمل
التي تراها على أنها ذاتك
البحر لن ينشق لأخذك ثانية
ما من أحد فتح الباب خرج
كم أتسع للجميع ؟
تذكر
"وما ظلمناهم"
لعبوها عندك
قرأوا كتبك كلها إلا "اسم الوردة"
كان يفضحهم
يفضحنا.

ش

رهنوا كل أولادهم في سبيلك
باعوك
وما أستردوا أولادهم.
"جزاء الفعل نصف الفعل
ولكل أمر باب يؤتى منه"
أتذكر
العزف الثامن عابوك فيه أكثر مني
العزف يستمر أكثر من اللازم
والأفعى تتشكل على شاكلة النهر.

ص

أتراني قربك؟!
والماء فيك
وبين قدميك.
ليس بين الوسائد ما تعطي الجميع راحة الشجرة
جواريك نصفهم من المغول
ونصفهم روميات
كيف لمن كان على نفسه / العراق
أن يرى خونته إلا بدم ؟

ض

خذ وردة ً وأرحل
ولا تنسى نفسك عند أحدٍ
لا أنت هارون الرشيد
ولا أنت أنت
خذ من زرياب ولا تيأس
فهو صديقك إلى الأندلس
زد على القانون وترا لا إلى العود.

ا تزد على نفسك
روح مخيفة روح أخويك المبللة بالود لأوراقك
لا لسواها
المحو نصف الأشياء.

ط

ألديك قارورة عسلٍ أغسل بها وجهي
وألطف بها ما جاء من رمش لا فائدة منه
فأنا لا أفتحه كثيراً.
أصاح الديك أم لم يكن للديك صوت ؟
الأشجار تأفل كلها وتقول:
هيت لك.
أكان الباب مغلقاً
وأنا أداعب سُرة الأشجار مجتمعة.
أكان سريري مرتباً قبل أن أدخل عليها ؟
كل ما أذكره تعطري كان مبالغاً فيه.

ظ

إبليس يأتي عليَّ كنملة فقدت قوت ويلاتها
يبتكر ألعابه عبر جسدي
هل جاءك يفتقد راحلته ونايه ؟
خلتك مرتين البارحة وعدتني بالتين
......................
ولن تأتِ.

ع

البارحة فقط تذكرت
السياب
فالمطر كان يغني
وقنديلي أخذ زيت الليل
"مطر.. مطر.. مطر"
أي أنشودة تلك تبعثك
إلى السماء لكي تعاد
محملاً بالناس
والورد
وزن النحل ؟
أي فنديلٍ بات عندي تلك الليلة ؟.

غ

أكانت البارحة بعيدة
أم كنت أنت ؟!
ترتكب كيمياءك على ما لا تراه
إذا صببت أبا العتاهية
بلغه سلامي.

ف

أقتل هتلر الحلاج
أم أستجار بجارته التي زينت سريره قبل محاكمته ؟
هل لون السماء أزرق
لا يزال كما قلت لي؟
وهل تحت كل حجرٍ يولد
جيل من ملوك
وعبد واحد؟.

ق

عشق يذيب رئتي
فلا هو مرتكب
ولا هو نخلة يابسة
تقرأ عليها سورة مريم.

ك

السمك يلعن والديك
عندما أمرته أن يسكن شظايا عيني
لا تأمره بعد ذلك
ولا تخسره لأجلي
فلا عيني صائبة
ولا السمك إلا وكأنه العتب
ما كان منك قسوة
ما كان مني قسوة
ألديك قارورة عسلٍ أغسل بها وجهي ؟.
ل
سمعت أن الروم زاروا المعرة
قل لهم أن جسدي ضيق
لا يكفيهم جميعا
لكنهم إلى حربٍ
فليتركوا جواريهم.

م

ما أتسع ركبي إلى نفسي منذ ألف عام
ولم أسمع شهرزاد
تحيك جلدها لترتكب خطأ حكاياها
وشرارٌ لا تجيد الحديث فيه
إلا بطلب الكلام من الديك.

ن

أحل بالكواكبي جنون لا فكاك منه
أباع عمامته بالسوق
وصاح على الطير
"كلمات حق أو صيحة في واد أن ذهبت اليوم
مع الريح فستذهب بالأوتاد"
ألم يأت عليه الشعر
ماء.
........
........أنظر بالخير وأمكر.

هـ

البارحة فقط نثرت جسدي على مسمار
لباب الناتئ
رأيت ما كنت أراه منذ عامين
منذ ولادتي على سنفونيات الأخذ
أكنت هناك ترى
ولا تتكلم
ترتكب كمياءك التي لا تنتهي
هل وصلت لأبي العتاهية ؟.

و

الجاحظ مات بعدما أخرج تدوينه
تلطف بنا
وعاتب كل وردة فقدها دون الكتابة
جرح كفه بشفرة الفراش
وأنتحر
لم يمت
أستنشق هواء الدم
ولم تكن منه أو عليه أي حبر يأخذ
منه ترياقا ليكمل ما بدأ.

ي

هل نزل السّماك
وحل مهد وردتك الخضراء
وبيوم قدومك وجبت النذور
"لا تظلموا الموتى
وإن طال المدى
إني أخاف عليكم أن تلتقوا".
هل نزل السّماك على قهوتك وتجلى على تجليك
ما كنت تقول لم يأتِ علينا
القتلى لا تتنفس
القتلى تقف عند الباب
لترى وجوه القادمين
ليذهبوا عنهم إلى صخرة موسى
يطفؤوا نارها
ويقرؤون أنفاسهم
عبر الغزالي الذي لا يزال يفكك
نفسه ليلتقي عند نهر الثعبان
نهر هيراقليطس.
هذا ما رآه المعري
في اليوم
18 من ذي الحجة 36 هجريا.

***

حوراء الحبيب

  • من مواليد الكويت، عام 1988.
  • طالبة تتابع دراستها في جامعة الكويت.
  • عضو رابطة الأدباء.
  • مؤسسة فريق: أنطلق، لصقل هوايات الشباب.

صدر لها:

  • سجينة الجسد، شعر، 2005.

مختلفة أنا

ثقيلة يا صحراء
تهزين الخصر
إن داعبتك الأرض
تغنين للشمس
إن أغواك الأصفر
قبلتك ترصع الندى برمل أعوض
لن يكون للندى وجود.

تسكبين الماء
تختفي التجاعيد
سوداء في الليل
تتوجين بقمر وزمرد
مختلفة أنا.

أنثى

أنثى الروح
تلون الفراغ
تغسل العسل برحيق عبيرها
للأنثى حق الوجود.
...
تختنق أنفاسها برجولة الشر
لهيب الغضب يكسر المرايا
لا ترى سوى خيبات حزن
يكنفها الخوف
للأنثى حق السعادة.
....
في زوايا دموع
تغرق
في ليل أبيض
تتساقط النجوم
كضحايا تمرد
للأنثى حق التمرد.
...
رائحة الظلم تكفي
لأرى كيف قيدها
ثم أبتلع المفاتيح
كيف قطع جذورها
حتى سقطت الأزهار ذليلة
للأنثى حق الحرية.
.........
برروا للكلمات خطيئتهم
ليس للمرأة مشاعر إنها من عدم.
إذا
كيف تضجر الروايات كلما أفتقدتها
ولماذا تغتصب الأشعار إذا تزينت بها
للأنثى حق المشاعر .

سوسن

يمتص دماءك
رجفة أخيرة في يقظة عاسرت روحك
لا تموتي.

في جسدك رائحة أمي
ناشدتك بتلك الكلمات كما علمتني
لكن الحياة خائنة
أرأيت كيف تيتلع الأرض
أجساد أبنائها ؟

كم قاسية أنت يا أرض ؟.

لا تحزني
يا ورجة أحن إليها
ذبلت في ذنب السرحان
عطرها نزف لحنا
ينكب على شفتي.

من يقدس الموت حينها ؟
من يكتب شعرا يحييها ؟

من يحمل ريشة بيضاء
تعيد الروح لجسدها ؟.
سوسن
كيف البرزخ هناك ؟
أترين الحزن المرير يتوج النفوس
ولباس الوحدة تفعم اليقظة بنيران الشوق.

أشعلي الشموع كلما عاتبك حنين الديار.
هنا
الأرواح تعذب
العالم يبتهج
يكفننا الحزن
ماعدنا أحياء.

هنا
يعتصر الشوق أفئدتنا
كيف نلقاكم ؟
وقيود الطّلَقِ تحاصر الروح .

***

خالد سعود الزيد

  • من مواليد الكويت، عام 1937.
  • توفي عام 2001.
  • ترك الدراسة للعمل، وظل يعمل حتى أحيل على التقاعد.
  • تولى منصب الأمين العام لرابطة الأدباء، ورأس تحرير مجلة: البيان، الصادرة عنها.

صدر له:

  • صلوات في معبد مهجور، شعر، 1970 .
  • كلمات من الألواح، شعر، 1985.
  • بين واديك والقرى، شعر، 1993.
  • صدرت أعماله الشعرية الكاملة من إعداد د.عباس الحداد ود.علي عاشور، 2005.
  • من الأمثال العامية، توثيق، الكويت،1961 .
  • أدباء الكويت في قرنين، الجزء الأول 1967، الجزء الثاني 1981، الجزء الثالث 1982.
  • خالد الفرج حياته وآثاره، دراسة، الكويت، 1969.
  • عبد الله سنان، دراسة ومختارات بالإشتراك مع الدكتور عبدالله العتيبي، الكويت،1981.
  • الكويت في دليل الخليج ـ السفر التاريخي، الكويت 1981.
  • الكويت في دليل الخليج ـ السفر الجغرافي، الكويت 1981.
  • قصص يتيمة في المجلات الكويتية، الكويت، 1982.
  • مسرحيات يتيمة في المجلات الكويتية، الكويت، 1982.
  • مقالات ووثائق عن المسرح في الكويت، الكويت، 1983.
  • سير وتراجم خليجية في المجلات الكويتية، الكويت، 1983.
  • شيخ القصاصين الكويتيين فهد الدويري حياته وآثاره، الكويت، 1984.
  • الشاعر محمد ملا حسين، حياته وشعره، الكويت، 1987.
  • ديوان خالد الفرج، الجزء الأول والثاني، تقديم وتحقيق، الكويت، 1989.
  • فهرس المخطوطات العربية الأصلية في مكتبة خالد سعود الزيد، بالإشتراك مع الأستاذ عباس يوسف الحداد، الكويت، 1990.
  • الشجرة المحمدية تأليف محمد بن أسعد الجوّابي، تقديم وتعليق، الكويت، 1996
  • أدب الرحلات في المجلات الكويتية، الكويت، 1998.
  • عمانيات، الكويت، 2001.
  • إطلالة على سيف كاظمة، تجميع لمذكرات ولمحاضرات ومقالات منشورة وغير منشورة بعد وفاته، جمع وتقديم د.عباس الحداد، الكويت، 2002.

حـبـب

حبب قد ساقه حبب
ما به أين ولا تعـــب
واثب والكأس تحضنه
وبه من قاعـــها لهب
يتعالى وهو منحدر
ما درى أن الذرى عطـب
شاقني والله منظره
وهو منساب ومنســكب
فكأن الأرض ثائرة
فهي من أعماقها تــثب
وكأن الكأس مترعة
قد غزت أجواءها الشهب
يتنزى مثل ذي ألم
جرحت أعماقه الــنوب
ويوالي دفع أوله
آخر في القاع يلتــهب
وهو روح الخمر إن سكبت
فله في صنعها عجـب
ما أرى الصهباء مغريتي
لو يجافي كأسها الحبب.

صورة

مَثَلٌ قد تجسّدا
وقديمٌ تجــــدَّدا
وجديدٌ جذورُهُ
ضاربتتتتتاتٌ بلا مدى
أرضُهُ أو سماؤهُ
مثلما الصوتُ والصدى
ما ترى من تفاوتٍ
مــــُطلقاً أو مُقيَّدا
ليس شيءٌ كمثلِهِ
جمع الحُســنَ مُفرَدا

حُشِدَ الكونُ كلُّهُ
فيه حــشداً مـُجدَّدا
وأستدارَ الزمانُ في
ذاتـــِهِ، مثلما بدا
مُستمِدّاً ومُعطياً
واحـــد، إن تعدَّدا
غايةٌ ما سما لها
قَــــبلَهُ مَن تمجّدا
صورةٌ لن ترى لها
مثلاً قـــــد تردّدا
كان من قبلُ أحمدا
وأتاها مــــحمدا.

بين واديك والقرى

قل له ما الذي جرى
بيننا سيِّدَ الورى ؟
إن تَشُبني خطيئةٌ
طالما أخطأ الثرى
ناقتي أَجهَدَ السُّرى
خطوَهَا والهوى السُّرى
وسؤالي: متى المدى
ينتهي؟ والمدى الذُّرا
ما الذُّرا وجهُ ناقتي
وجهُها فوق ما يُرى
إنَّ نارًا بعيدةً
شَبَّها الوجدُ لِلقِرَى
يَمّمتْها فلم تجد
عندها غير من سرى
يا حديثًا مُعَنعَنًا
واضِحًا غير مفتَرى
لو تلطّفتَ لحظةً
قد برى ناقتي البرى
شفَّها منك نازحٌ
وقريبٌ تعذّرا
حيث يمَّمتُ، قبلة
منكَ، تأبى تستُّرا
وبعيدٌ منالُها
دونها ليلةُ السُّرى
فيميني زمامُها
ويميني لها قِرى

وأمامي وميضُها
وورائي أخو الذُّرا
باطنٌ مثلُ ظاهرٍ
وجهُها حيثما أرى
لستُ أدري فحالتي
باعها المحوُ واشترى
كلَّما قلتُ هذه
غطَّني الوجدُ واعترى
فجميعي تلفُّتٌ
نحو وَادِيكِ والقُرى
عَجَبٌ أمرُ ناقتي
قل لها ما الذي جرى.

***

خزنة بورسلي

  • من مواليد الكويت، عام 1946.
  • توفيت عام 2004.
  • حائزة على ليسانس لغة العربية، ودراسات إسلامية وتربوية من جامعة الكويت، وعلى دبلوم تربية من جامعة الكويت.
  • عملت مدرّسة.
  • شغلت رئاسة وحدة النشاط المدرسي في مركز بحوث المناهج في وزارة التربية.
  • كانت عضوا برابطة الأدباء.

صدر لها:

  • أزهار أيار، شعر، 1976.

معبد المحبين

دعانـا الوصـل فـي ليـل الأمانــي
وأغـرانـا الحنينُ إلـى الأغانـــِي
فلـم ألبــث أنــادي يــا حبيبــي
أجبنــي لإختلاجــات الثوانـــي
أنــار الحـب يــا قلبـي طريقــي
وألهبنــي الحنيـن إلـى التدانــي
فليلــي عـالــم داجٍ وحلــــم
وإن ثملــت رقيقــات المعانــي
فـلا الأوتـــار ساجعـة بقلبـــي
ولا الآمــال ساحــرة بنانـــي
ولكـني أحــب بكـــل نبـــض
وأهـوى المستحيـل مـن الجنــان
أعــرنْي مـن عبيــر الـورد نفحـاً
وألهمْنــي رقيقــات المعانـــي
وعــرِّج بـي علـى الآمــال علـي
يهيـــم بكـل شـاردة لسـانـــي
عشقنــا الـروض مخضــلاً جميـلاً
وأغرانــا الحنيـنُ إلـى المكـــان.

***

خليفة الوقيان

  • من مواليد الكويت، عام 1941.
  • حائز على درجة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة عين شمس في القاهرة.
  • عمل أمينا عاما لرابطة الأدباء في الكويت.
  • عمل سكرتيرا لتحرير مجلة: البيان، الصادرة عن رابطة الأدباء.
  • عمل لسنوات أمينا عاما مساعدا للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب .
  • يعمل حالياً مستشاراً في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
  • عضو جمعية الصحفيين.

صدر له:

  • المبحرون مع الرياح، شعر، ط1 ـ 1974، ط 2 ـ 1980.
  • تحولات الأزمنة، شعر، 1983.
  • الخروج من الدائرة، شعر، 1989.
  • حصاد الريح، شعر، 1995.
  • ديوان خليفة الوقيان / مختارات شعرية، 1995.
  • القضية العربية في الشعر الكويتي، دراسة، الكويت، 1977.
  • شعر البحتري، دراسة فنية، بيروت، 1983.
  • الثقافة في الكويت بواكير واتجاهات، الكويت، 2006.
  • جمع وحقق بالإشتراك مع د. سالم خدادة مجموعتين شعريتين لأحمد العدواني:
  • أوشال، وصور وسوانح.

تحولات الأزمنة

1

في الزّمان التّرابي
تبتلع الأرضُ أحزانها
فتقئُ بصحفِ الصباح
وجوه البغايا
ذيول الطّواويس
ثرثرة العار
كل الطّقوس القبيحه
تُبدّلُ كلّ الأفاعي
جلود الشّتاء
وتخرجُ تختالُ
في ثوبها اللولبي المفضفض
تحضُن جلاّدها في المساء الذّبيحه.

2

في الزمان الرّصاصيّ
يلبس قورشُ جبّته
يرتدي العمّة
الخوذة الأزليّة
يهدي جحافلنا
نحو بوّابة القدس
يقتادُ أسرى اليهود
إلى بابل العربيّة
يبقى نبوخذُ يرقبُ
كيف يدور الزّمان
تُغيّرُ أشكالها الكائنات
ويكتسب الماءُ لوناً جديداً.

3

في الزمان النحاسيّ
تصدُقُ كلّ النّبوءات
والحُلمُ يحصُد نبت البحار
يُقلّب سيفُ بن ذي يزن سيفه
حائراً
باحثاً عن معين
يُعيدُ إلى القدس أحلامها العسجديّة
يُبدلُ كسرى بـ: مسروق
إنّ جحافل وهرز تقتطف النصر
والجزية السّرمديّة:
من مثل كسرى شهنشاه الملوك له
أو مثل بهرز يوم الجيش إذ صال
فأشرب هنيئاً عليك التاجُ مُتكئاً
في رأس غمدان دار منك محلالا.

4

في الزمان الخلاسي
تغتالُ أسماءها الأحرفُ اليعربيّةُ
تُستبدل الضّاد
تجتثّ أعراقها الأبجديّةُ
يشكو الإيّاديّ عدل الإمام ابن شروان
بالإيادي الشّقيّه:
إني أراكم وأرضاً تُعجبون بها
مثل السّفينة تغشى الوعث والطّبعا
في كلّ يوم يسنّون الحرابَ لكم
لا يهجعون إذا ماغافلٌ هجعا
وقد أظلّكُمُ من شطر ثغركُمُ
هولٌ له ظلمٌ تغشاكمُ قطعا .

5

هنيئاً لثوارنا
في ثغور العواصم
يُقيمون صرحاً
من الخزف الفارسيّ المُنمّقْ
يبوسون كلّ اللحى والعمائم
يسلّون سيف الكرامات
والمعجزات
يعيدون مجد الرّقى والتّمائم
يُصلّون في معبد النار
يمشون في ركبِ ماني
ليوم الخلاص
يديرون في حفل قورش
نخب الهوى البابليّ المُعتّق.

الحصاد

أيهذا المسافرُ
في رحلة الحلم والهمِّ
قد أرهقتْهُ الليالي
وأدمتْ خطاهُ
شفارُ الصخورْ.

أيها السائرُ المستفزُّ
سكونَ البراري
وصمتَ البحارِ
وهدأةَ ليلٍ
ينامُ بأسمالِهِ المتعبونَ
ويشربُ أنخابَهُ العابثونْ.

قدرٌ أن تكونْ
حيث تُمسي الطواويسُ
تسحب أذيالَها باختيالٍ
تلوذ النسورُ بحضن الجبالْ
تنامُ القنابرُ في عشّها
فوق بيضِ المنونْ .

قَدَرٌ أن يكونَ
الذي لا يكونْ
حيث تبقى العناكبُ
تنسج أكفانَ طفلٍ قتيلْ
حيث لا يعتلي صهوةَ الدربِ
غيرُ الظلام الثقيلْ .

وحدَكَ الآنَ
تحرث في البحرِ
تغرسُ في الريحِ
كلَّ البذورْ
رفّةَ الحلمِ
نفحَ الأزاهيرِ
شدوَ العصافيرِ
قمحَ العصورْ .
وحدَكَ الآنَ
تحصد في مهرجان الغنائمِ
شوكَ القبورْ .

تعويذة في زمن الإحتضار

تَفَجَّرْ
أيها الغضبُ المُهجّرُ
أيها الألقُ المغيبُ
في المدى المخنوقِ
في الأفقِ المُعفَّرْ.

تَفجّرْ
إن دودَ الأرضِ يزحفُ
والدَّبا المسعور يحصد حقلَكَ الأخضرْ
جداولُكَ التي تنسابُ
موسيقى وأغنيّهْ
تهدّم جرفُها
أغفتْ
على أشلاء أُمنيّهْ
نأى عن ليلها المِزْهَرُ
ووجهُ الشمسِ يُعْتِمُ
تنسج الغربانُ في قسماتِهِ
رؤيا ظَلاميّهْ
يُعشِّشُ للعناكبِ
في أخاديد السَّنا المقتولِ
ليلٌ شائِهٌ أغبرْ
نأت عن دوحِكَ المُخضَلِّ
بالجوريِّ والفُلِّ
حمائِمُ تستحمُّ
برشَّةِ الطلِّ
بلابلُ بالشّذا تَسْكَرْ
وفي الأعشاشِ زُغْبٌ
تَرقبُ العقُبانَ
تَخشى المخلبَ المجنونَ
يعجنُ لحمَها بالريشِ
يَسفِكُ دمعَها الأحمرْ.

تَفجَّرْ
قد ذُبحتَ الآنَ
مَرّاتٍ ومرّاتٍ
تُراودكَ الذئابُ السودُ
تسرقُ منك نبضَ الرّوحْ
تَناوشُ لحمَكَ المهدورَ
أشتاتُ السباعِ
النملِ
تشرب نزفَكَ المسفوحْ
وللجزّارِ شوقٌ عارمٌ للنَّحرِ
للسكّينِ نَصْلٌ جائع يَزأرْ.

تَفجَّرْ
إن أفعى الدارِ تَخرجُ
من شقوقِ
صخورِ جدرانِكْ
ثقوبِ عريشكَ القَشِّ
نسيجِ لحافِكَ الهشِّ
تَلوبُ تَسنُّ حدَّ النابِ
تنفثُ سُمَّها الأصفرْ
تَمجُّ النارَ في أزهارِ بستانِكْ
تُصوِّحُ غرسَكَ الأخضرْ.

تَفجَّرْ
إن ليلاً قاتلاً
يَطوي المَدى
يَحتزُّ أعناقَ النجومِ البدرَ
يسقي شَفرةَ الخِنجرْ
يَجيءُ
يُطِلُّ
محمولاً على اسم اللهِ
ـ جَلَّ اللهُ ـ
يَرقى سدَّةَ المِنْبَرْ

***

دخيل الخليفة

  • من مواليد الكويت، عام 1964.
  • حائزة على شهادة الثانوية العامة.
  • عمل في العديد من الصحف والمجلات الصادرة في الكويت، وما زال يعمل في الصحافة.
  • عضو مؤسس في ملتقى الثلاثاء الثقافي

صدر له:

  • عيون على بوابة المنفى، شعر، 1993.
  • بحر يجلس القرفصاء، شعر، 1999.
  • صحراء تخرج من فضاء القميص، شعر، 2007.

خصر قصيدة ٍ جفلت من الأشباه

كَرز ٌ تبعثرَ في ارتباكِ الصبحِ
وأندثرت فصولُ البوح ِ
عن عنبِ اليقين ِ
الآه ِ
فـأرتجفَ الكلامُ.
الوقت يغزلُ ليلنا المحفوفَ بالنارنْج ِ
يأخذُنا لقافيتين ِ
تلتهمان ِ قلبينا من الولَهِ المراوغ ِ
من لغاتِ الموج ِ
يسرقنا الوئامُ.
وطنٌ تكدّس تحت أهدابي
وغط دلالَهُ بسماء روحي
ثم هيأني لرفرفةِ التوحّدِ بين ذاكرةِ السواحل ِ
والصحاري
كي أزاوجَ ضحكَ مفردتينِ تقتسمان ِ سرّ الليل
أعبرُ ما تواطأ والغياب
أطيرُ
يسكنني الغمام.
هذا حصادُ الضوءِ
خصُر قصيدةٍ جفلَت من الأشباه
غصنٌ مثقلٌ بالطيش ِ
نهرٌ صاهلٌ بالدفء
رمانُ البراءةِ / صرخة ُ الطفل ِالمباغتِ
آخرُ النبضات يهدلُها الحمامُ.
هذا مساءٌ تملئين به سلالـَكِ من فضاءِ الروحِ
تعتمرينَ قبعة َ النبوءةِ
تولدين من الحروف الخضر ِ
من وتر يمارسُ نضجهُ في سْربِ كركرة ٍ تضج ّ
مهيئا للحب طلتهُ البهية.
مدنفاً لملمتُ عمري من أصابعهِ المضيئةِ
ثم شاكَسَني على ساقين من صخب ٍ
ولاحقني على نهر يطرزه الإوز.
ـ الحب بنتٌ من كرز !
لا تهربي منّي إليّ
بل أدخلي في وحشةِ السمّـاق ِ
في شفتين ترتشفانني من هذه الصحراءِ
من وجَع ِالشموع ِ
وعلميني غبْطة َالعصفور ِ
كي أرثَ الغصونَ جميعها.
لا تتركيني باحثا ًعني بفضفضةِ القميص الأزرق ِاللاهي بوردتهِ
مللتُ من التبعثر بين أقنعةِ الملوك ِ
وعلقيني بين رمشكِ والحنين ِ
ورتّبي فوضايَ
في همس الأصابع كي أقاسمَكِ الضلوعَ
نعيدُ أعشاشَ الشموس ِلغصنها الميّاد ِ
خليّني بصوتكِ لثغة ً أحلى من الناي
الغياب ِ شجيرة ًعاثت بضحكتِها الفصولُ
حلمٌ تأبط عمرَهُ ومشَى إليكِ
ومنك ِ
تنسكبُ الشوارعُ فوقَ أوراقي
خذيني للندى ظلاً يبوح ُبكاءه ُ
يتَموسَقُ التفاحُ بين أصابعي
لهباً فـألعقُ جمرَهُ المسحورَ بالهذيان ِ
ضمّيني لشهدِك ِإنني وَعلٌ خجول.
جَمَحتْ هضابُك ِ
أينع َ البلّورُ في صَخبِ الهدوءِ
فألهميني دفقة النهر ِالحزين ِ
قراءة َالهذيان ِ
وأنسَي ما أقول.
شغَبٌ أوانك ِ
فأحْرثي دون إكتراثٍ في مساءاتي
فضاءاتي
إنتماءاتي
وأنى أدركُ المعنَى بصوتٍ جارح ٍ َولهٍ
يحرّضهُ الفضولُ.
وطنٌ من الحبّ المعتّق ِليلُكِ المهووسُ
في جغرافيا هذا الرخام ِ الآدمي
أنا أمرؤ
لا أمّ تفرشُ جفنَها ظلاً لقافيتي
فضمّيني لشعركِ إنه المنفى البديلُ.
هذا مساءٌ فاضحُ الفوضَى
خيولُ الروحِ تصهلُ
تلبط ُ الأسماكُ في وهج ِالطراوة ِ
بيننا يتدفقُ الجمرُ الحنونُ.
أُمسْرحُ الكلماتِ مرتدياً سماءَكِ
أعبرُ السفح َالمموسق َ
أقتفي قمراً تورّط بي
وذوّبني على غبَش ٍ
توشوشني مرايا خصركِ المنحوتِ دون يدٍ
بلادٌ شرّعَت ْأبوابَها لي كي أمرّ على الحصاد ِ
كما يمرّ الذئبُ في المرعَى
أباغتُ في دبيب الروح ِأية َومضة ٍ تنقادُ لي
أدنو لأقطفَ وحيَها
أنسى صحارى الحنظل ِالأبديّ كيف تناكفُ الفقراءَ
اقرأ ليلَها فتنز بي نارٌ ويملأني صهيل.
لا تقلبي الفنجانَ فوق دمي
أبوحُكِ ما قرأتُ من الدجَى:
لم يطلع أحدٌ على فخذين ِمن عاج ٍ سواي
خدمتُ من سكِرَتْ على موتي وعذبني هواي
ضعي زنابقكِ الرقيقة َ
فوق ذاكرتي ولمّي النزفَ
ضمّيني لقلبكِ فالمدينة أنكَرتْ لغتي
وهذا الأزرقُ المزروع ُباللغة ِ الغريبةِ لم يعد وتَري القديمَ
كشفتُ سرّ البئر ِ فأندفع السعارُ عليّ من بيت ِ القصيدة ِ
كنتُ أحملُ في الظلام ِ طفولتي
في عزّ غفوتِها
وضلعي في ذهول ٍظلّ يتبعني
كأني قاتلٌ
وأنا قتيلُ
مَن يطرقُ البابَ ؟
إحتمالٌ
أن أكونَ أنا
وأنتِ المستحيلُ.

للبرتقالة التي تقشرني

عندما
المرأةُ التي لعبتْ بأعصابي
ليلةَ البارحة
كانت
مثلَ موجةٍ مراهقة
أندفعتْ عندما أبتلّ خصرُها
بشهوة الرقص.
جنة
البنتُ التي
ترك الضحى حنطتَه على وجهها
كانت
جنةً تمشي على وترين.
هذا المساء
دقّتْ بابَ روحي
ثمَ:
أغلقتْ فمي بوردة! .
شيء ما
كنتُ أطفو
على بحيرةٍ من المرمر
حينما كان طولُ عنقك
خمسَ قبلات
وشهقةَ هذيانٍ على الأرجح
أتذكّر:
كنا نفعل شيئاً أشبهَ بولادة المطر
في غرفةٍ تتنفَّسُ تماثيلها
وتتمايل
بلا وعي.
غيمة
الديكُ يَمْسح جفنَيْه
بالخيط الأبيض
ونحن
للتوّ أحتَضَنّا الوسادةَ
لننام مفترقين.
وحدة
في مكانٍ يتّسع لواحدٍ فقط
أنغمسنا سوياً
نرتّب شكلاً لغدٍ مضمَّخٍ بالحكايات
فجأةً
لم أجد في مقعدك
سواي.

تأخذين يدي من مودتها

تعبرينَ دمي بإتّجاهي / تنقرين التباريحَ بين عيوني / تلبسين حنيني / تأخذين يدي من مودتها / تكسرينَ المسافةَ نصفَين / نصف يحنّي بطاعتهِ قدَميكِ / ونصف يحوّلُ انفاسهُ خيمةً.. تستظلُّ بجفنينِ لا يقرآن النعاس.
خذي من يدي دفئَها / وأتركي الروحَ تستدرجُ العشبَ / كي يستمرَّ المواءُ على مرمرٍ لا يعاتبُ غير السراب / خذي من شـ ظـ ا يـ ا يَـ وعدَك / ولْتُطْلِقي الأرضَ وعلاً يدورُ على جسَدي ويَحُكّ بقرنيه صفصافةَ الغارقينَ بأنفاسهم.
دافقاً جئتُ كي أستريحَ على وترٍ لا يودعُ طيشَ الهواءِ بإيماءةٍ من يَِباس / وعانقتُ نفسي ليحرثني الجمْرُ.. يطعنُني الوجْدُ / ينفضني البردُ عن قرصاتِ الصيفِ / فكم قدَمٍ دعَكَتْ وجهَهُ ليمتصَّ جُرحي.
يعلِّقني الوقتُ من ياقتي بين نهَريكِ / تسقطُني ضحكةٌ كالصَّّهيلِ بدوّامةِ الهذَيان / أنا الباحثُ الآن عن جثّتي في الهشيمِ / إلامَ تنامينَ بيني وبينَ الوميضِ كأنَّكِ ما كنتِ فاكهةَ الإشتهاءَ.
خذي من يدي دفئَها / ألبسيني سماءَك حتى أذوبَ بعشبكِ يا رئةً من نبيذِ التضادِّ تشكِّلُ ديدَنها / أَخنقُ الليل كي تخرجي من صدَى الحائطِ المرِّ مغسولةً بالتناهيدِ مأهولةً بي / أحبُّك رغم لحافَ الهواجسِ / نامي على وتَرِ النارِ في سَفري لسرابكِ / يُرْبِكُني الوقتُ إذ يتوقَّفُ ما بينَ صوتكِ والقلبِ / لو تكتبينَ على بُحَّةِ الليلِ عمري / ولْدنا معاً لنعودَ منَ الأفْقِ طفلينِ للتوِّ يستدرجانِ بعيضَهُما نحو قلبيهِما / تنامين ينسكبُ الصبحُ من صمتِ غربتنا لينقِّطَ اسماءَنا مطَرُ الياسمين.
إلى أين تمضينَ بي..؟ / تحمليني إلى زمنٍ قد نسيتُ ملامِحَهُ / من حفيفِ المساءات جئتِ لكي تقرئي جمْرِ هذي المرايا / يعلِّمني خصرُكِ السحْرَ اعطيهِ عمري / يحيلُ الفضاءاتِ نايا.
تعالي ولو بضْعَ أغنيةٍ لنعدَّ المراجيحَ للشمسِ / لا تشربي من دمي في الظلاَمِ / أحبُّكِ / من يوقدُ الشِّعرَ تحتَ لحافكِ..؟ يحْتَضِنُ الآهَ بين جناحَيكِ..؟ / ثم يبعثرُ ليلَكِ ما بين صومَعتين. ؟، أعيدي اليَّ الندَى / فأنا الجافُّ من عسَلِ الحبْرِ / هيا أكتبيني مساءً يعادل إغفاءَتين من الحبِ / ينثرُ أنجمهُ بين شهدِكِ والقلبِ / يا ضحكة الحُلْمِ فوق سرير مراهقةٍ تَسْتَدلُّ على ذاتِها من خيالِ الحَبيب الخرافيّ / أنا العاشقُ الغضُّ / أبحَثُ عن همسةٍ في صلاةِ العصَافير / عن بَجَعٍ في خريرِ الكلام / وعن زبَدٍ في الرُّخام المطرَّزِ بالآهِ / عن جمْرةٍ في مراح القوافلِ / عن شهوةِ الملْح فيكِ / وعن قريةٍ تَتَجامحُ فيها الغيومُ أيا امرأةً من ندَى.
أتركيني ألمُّ الشموعَ التي شربَتْ دمعَها من فحيحكِ، وأنسَيْ وصايا الجذورِ بمعطفِكِ الفَرْوِ / ولْتَهدُمي دميةَ الثلجِ هذا المساء / فلا بابَ للقَمرِ الخارجي سوَى سفَري بينَ عينيكِ / نحو النهاية.. نَحْوَ النهايةِ / نحو النها....

***

رجا القحطاني

  • من مواليد الكويت، عام 1965.
  • عضو رابطة الأدباء.

صدر له:

  • من وحي المتنبي، شعر، 2006.

وداع معلمة

ماذا أقول؟
وفي فمي
يقف الكلام
عثرات صمت
في مسارب حيرة
أم رهبة التعبير
في عظم المقام.
ماذا أقول؟
وفي طوايا البوح
بارقة الوداع
ومضاتها لا تنطفي
وعلى سفين البعد
يندفع الشراع
مترامياً نحو المدى
الممتد حتى يختفي.
الآن سيدتي
دعي الأعباء
تمكث جانباً
أَوَ لَمْ تكوني؟
شعلةً تُهدى الضياء
أَوَ لم تكوني؟
منهلاً يسقي الظِماء
وافيت نشأً لم يعِ
إلا القليل من الحياه
ووهبته علماً
تجذر في النُهى
ورمى ثمار الوعي
في كل إتجاه.
الآن سيدتي
لك التكريم
ذكرى لا تغيب
مصباحها المجدول
من نور المحبة
لم يزل
من كل عاطفةٍٍِ قريب
أيام عمرك
في رحى التعليم
لم تذهب سدى
طُحنت عطاءً
في عيون المنصفين
مجداً تألق
في مسافات السنين
وأبقي معلمةً
تسامى قدرها
فوق المدى.

قومية الكلام

قومية الأدبار
في الليل والنهـار
تواجه الخطوب
منزوعة الأظفار
هل تـدرك المـراد؟
نصراً لأهل الضاد
نريد أن نفيق
من رقدة العصور
ويقبل الأنصار
من شـرفـة التاريخ
وإن أتى التوبيخ
كلسعة السياط
في الواقع المنـهـار
الكذبة الكبرى
مصيبةٌ أخرى
تطابق الدماء
هو سيفنا البتار!
نتوه في الدنيا
نحيا ولا نحيا
وحلمنا يبيت
في مدفن الأعذار
ما الأمر يا هارون
بغدادك الفتون
بالأمس كالثكلى
في قبضة الأشرار
يا صانع الفتوح
تجئ أو تروح
زماننا الواهي
زرعٌ بلا أثمار
القدس يا صلاح
محمومة الجراح
تدعوك
هل تأتي
تستأنف المشوار؟
آلامها شتى
أحياؤنا موتى
والموت في القلوب
لو طالت الأعمار
الأمة البريق
في الزمن العتيق
تحولت ريشاً
في ثورة الإعصار
إلهنا
سجده
النجدة النجده
إن لم تهب عوناً
فا الذل في استمرار
قومية الكلام
لن تدرك المرام
خلاصنا في الدين
وسنة المختار
خلاصنا في الدين
وسنة المختار.

***

سالم خدادة

  • من مواليد الكويت، عام 1952.
  • حائز على درجة الدكتوراه، من جامعة القاهرة.
  • يعمل حاليا مدرسا لمادة اللغة العربية في كلية التربية الأساسية في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي.

صدر له:

  • وردة وغيمة ولكن، شعر، 1995.
  • التيار التجديدي في الشعر الكويتي، دراسة ترصد حركة الشعر في الكويت حتى سنة 1967، الكويت 1989.
  • غموض الشعر في النقد العربي، دراسة، القاهرة، 1994.
  • العروض التعليمي، بالإشتراك مع د.عبد العزيز نبوي، دراسة، بيروت، 2000.
  • عبد المحسن الرشيد الشاعر والشعرية، دراسة، الكويت، 2001.
  • جمع وحقق بالإشتراك مع د. سالم خدادة مجموعتين شعريتين لأحمد العدواني:
  • أوشال، وصور وسوانح.

غيبوبة

ألملم كونيَ الغافي
وأجمع بعض أطيافي
فلا شوقٌ يعانقني
ولا برقٌ بأسيافي
ولا نجمٌ يقول أنا
فيدفع خوفيَ الخافي
أُسائلُ كونيَ السكرا
ن عن زهدي وإسرافي
وعن صمتي الذي يُهدي
لسيف البغي أطرافي
أُحاورُ كونيَ السكرانَ
منْ خمرٍ وسيّاف
لعلّي ألتقي سببًا
يكون المنْهَل الصافي
لحزنٍ نارُهُ تطغى
بأحشائي وأعطافي.
ولكنْ لا أرى سببا
سوى النور الذي صُلبا
أو الشوق الذي سُلبا
أو الخوف الذي كَتَبَا
أو الزيف الذي خَطَبا.
ولا أدري
عن الآمال
والأحلام
والفجرِ
وكيف ـ فديتكم ـ أدري
إذا غيبوبة السكْرِ
تحيل بلحظة صوتًا
من الشر إلى الخير
أو الخير إلى الشر؟
فهذي البيدُ
من نهرٍ إلى بحرِ
ومن بحرٍ إلى نهرِ
بها الحاناتُ تستشري
فمن حانات أحلامٍ
إلى حانات أوهامٍ
ومن حانات تنويرٍ
إلى حانات تزويرِ
ومن حانات إيمانٍ
إلى حانات إذعانٍ لألوان من العُهرِ
فكيف ـ فديتكم ـ أدري ؟
وما في هذه الصحرا
من النهرِ إلى البحرِ
سوى خمّارةٍ كُبرى
إذا ما فتَّح المخمورُ عينيه
سقوه شربةً أُخرى.

السر

قال لي صاحبي مرّةً
كلمةً مُرّة
لم تزل فوق أفقي تلوح:
أنت سرُّ الجروح.
قال لي مرةً ثانيه
كلمة قاسية:
أنت سرُّ الخواء
في الربا الخاويه.
قلتُ:
يا صاحبي من أنا ؟
قال:
أنت المنى
وأنت الضنى
ولا شيء أنت بهذا السواد
ولا شيء في خافقات السّنا
عليك تشيدُ الدّنا قبحها
وأنت الجميل بهذي الدنا
وإن شئت كنت بها عوسجاً
وإن شئت كنت بها سوسنا
ويبدأ منك النار إذا ما بدأت
وإن هُنت
كان الدّجى مزمنا
وتخضرّ بيدٌ إذا ما ضربت
بفأس الوداد على المنحنى
ويقفزُ روضٌ إذا ما ذبلت
بزيفٍ هناك وخوفٍ هنا
أأدركت سرّكَ يا صاحبي
فقلتُ:
نعم
فأنت أنا
فهيّا بنا.

***

سامي القريني

  • من مواليد الكويت، عام 1986.
  • يعمل موظفا في القطاع الخاص.

صدر له:

  • كأني أرى شيئاً، شعر، 2007.

الشِعْرُ مَنْفَى نَفْسِهِ

لَفَّ الضَّبَابُ الأَرْضَ
فَائْتَزَرَتْ كُرُوْمُ الشَمْسِ بالزُوْفَى
وَنَامَ عَلَى سَرِيْرِ الغَيْمِ شَيْخُ الرِيْحِ
صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
لِكَيْ يُقبِّلَ زَرْعَه هَمْسُ الْمَطَـرْ
لَمَّ الْحَقَائِبَ كِيْ يُسَافِرَ قَالَ :
"إنَّ الحزنَ يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ لِكَيْ يُعَكِّرَ لِيْ مِزَاجِي"
وَانْكَسَرْ.
وَإِذَا بِأَوْرَاقِ الشَجَرْ
تَغْدُو دَفَاتِرَ أَدْمُعٍ
مَغْسُوْلَةً بِرَحِيْقِ صَمْتِ الصَيْفِ
تَغْرُزُ فِيْ صَدَى آَذَانِ قَلْبِ الْجَمْرِ إِصْبَعَها
لِتَشْكُوَ مِنْ كَمَنْجَاتِ الصَمَمْ
بَدَأَ الأَلَمْ
الأَرْضُ تَحْمِلُنَا إِلَى ذِكْرَى زَمَانٍ
قِيْلَ قَدْ أَسْمَى خُطَاهُ حُكُوْمَةً
وَمَدَاهُ أَحْدَاقاً لِيُبْصِرَنَا
وَدَقَّةَ قَلْبِهِ وَطَناً لِيَحْضُنَنَا
وَإِنْ مَسَّ القَلَمْ
أَوْرَاقَنَا فَسَيَسْتَقِيْلُ مِنَ الوَظَيْفَةِ
كَيْ يَصِيْرَ ضَيَاعَ مَنْفَانَا الطَوِيلْ
الأَرْضُ لَمْ تَقْرَأْ سِوَى أَسْمَائِنَا
فَلِذَا عَلَيْنَا أَنْ نُحَرِّرَها
بِهَذَا الوَجْدِ
هَذَا السُهْدِ
هَذي الفِضَّةِ التَنْدَى بِأَعْيُنِنَا
بِهَذَا اللَّيْلِ بِالْحُزْنِ الْجَمِيلْ
لِيْ أَنْ أَقُولْ
مَا سَوْفَ يَعْبُرُ فِيْ فَضَاءَاتِ التَّشَرُّدِ كَيْ أَضُمَّ الكَوْنَ
يَسْكُنُنِي العَدَمْ
لِيْ أَنْ أَقُوْلَ كَمَا سَأَكْتُبُ
هَل أَخُوْنُ الحِبْرَ كي أغدو القتيلْ ؟
الشِعْرُ شُبَّاكُ الزَنَابقِ فِي بِلادِ العِشْقِِِ
يَخْتَصِرُ الْمَسَافةَ بَيْنَنَا بِكَلامِهِ الْمَعْسُولِ
يَدْخُلُ فِي أَصَابِعِ وَقْتِنَا
يَغْدُو حَنِيْناً حِيْنَ نُشْعِلُهُ بِثَرْثَرةِ الغِيَابْ
وَيَنَامُ كَالعُصْفُوْرِ تَحْتَ قَمِيْصِ دَمْعَتِنَا
يُعَرْبِشُ فِي مَدَى الفَوْضَى فَيَشْتَبِكُ السَّحَابْ
الشِعْرُ أَوَّلُ جَمْرةٍ فِي الرُّوْحِ
يَأْكُلُهَا السُّؤَالُ فَلا يَرَى أَثَرَ الْجَوَابْ
حَتَّى يَضِيْعَ
لِيَخْلَعَ الكَلِمَاتِ عَنْ جِلْدِ الغَرَابَةِ
يَنْبُتُ السُمَّاقُ فِيْ شَفَتَيْهِ
لا يَدْرِي أَيَبْكِي صَمْتَهُ
أَمْ غُرْبَةَ الأَيَّامِ وَالأَحْلامِ فِيْ زَمَنِ الْخَرَابْ
ضَاقَتْ عِظَامُ خَيَالِهِ
وَالقَلْبُ قَد طَفَحَتْ رُؤَىً دَقَّاتُهُ
لا شَكَّ يَدْخُلُ حَالَةً شِعْرِيَّةً
تُدْعَى إِذَا أكْتَمَلَتْ مُرَاهَقَةَ الشَّبَابْ
جِئْنَا مَعَاً ظِلَّيْنِ لِلأَرَقِ النَّبِيلْ
لَمْ نَرْتَكِبْ خَطأً
سِوَى أَنَّا حَمَلْنَا جُرْحَنَا حَمْلَ الرَّضِيْعِ فِطَامَهُ
نِمْنَا بِأجْفَانِ الكَلامِ
فَإِنْ شَكَى حُزْنٌ وَوَشَّحَنَا نُوَاحْ
سَقَطَتْ عَنَاوِيْنُ الْمَنَافِي فَوْقَ خَدِّ القَلْبِ زَيْتُوْناً
وَشَاخَتْ فِي مَفَاصِلِنَا الْحِكَايَاتُ القَدِيْمَةُ
حِيْنَمَا خَرَجَتْ مِنَ الأَنْفَاسِ أسرابُ الجراحْ
قُلْنَا سَنَكْبُرُ فِي عُيُوْنِ البَحْرِ
آهاتٍ مُكَبَّلَةً بِأَصْدَافِ العُبَابْ
حَتَّى يُلامِسَنَا الرَّحِيلْ
فِإِذَا غَدَا نَمَشُ الصَّبَاحْ
كَأْساً
وَصَارَ الغَيْمُ صَدْراً
وَالْمَدَى قَلْباً سَنَرْتَجِلُ الوَدَاعْ
الشِّعْرُ خُطْوَتُنا إِلِى مَا لا نَرَى فِيْ وَجْهِنَا
الشِّعْرُ تَفْسِيْرُ اخْتِلاجَاتِ الْحَنِيْنِ إِلَى الضَّيَاعْ
الشِّعْرُ خَوْفُ الأَبْجَدِيَّةِ مِنْ نِهَايَتِهَا القَرِيْبَةْ
الشِّعْرُ قَافِيَةُ التَّشَتُّتِ وَالشُّرُودْ
الشِّعْرُ مَنْفَى نَفْسِهِ
فَإِذَا أغْتَرَبْ
يَوْماً
سَيُبْصِرُ فِيْ مَرَايَا جُرْحِهِ
أَلَمَ العَرَبْ.

يَا جَنَّتِي لا تُوْقِدِي نَارِي

وُلِدَتْ يَتِيْمَةْ
لا أَهْلَ
لا جِيْرَانَ
لا أَحْبَابْ
عَاشَتْ كَبَيْتٍ لا نَوَافِذَ فِيْهِ أَوْ أَبْوَابْ
كَبُرَتْ كَنَهْرٍ لا ضِفَافَ لَهُ وَكَانَ الْهَمُّ صَاحِبَهَا النَبِيلْ
كَانَتْ أَنَامِلُهَا الرَقِيْقَةُ تَرْضَعُ الإِحْسَاسَ مِنْ وَجَعِ النَخِيلْ
فَتَعَلَّمَتْ لُغَةَ الْحَمَامِ وَأَبْجَدِيَّةَ كُلِّ عُصْفُوْرٍ عَلَى سُوْرِ الْحَدِيْقَةْ
كَانَتْ لِكُلِّ خَمِيْلَةٍ أَوْفَى صَدِيْقَةْ
فِيْ ذَلِكَ الْبَيْتِ الْحَزِينْ
خَرَجَتْ إِلَى الدُنْيَا وَكَانَ بُكَاؤُهَا تَرْتِيْلَ جُوْرِيٍّ وَشَهْقَةَ يَاسَمِينْ
شَفَّافَةً نَزَلَتْ كَدَمْعَةِ أُمِّهَا
مَحْفُوْفَةً بِهَلاهِلٍ أَنْدَى مِنَ الأَزْهَارْ
مَقْرُوْنَةً بِعَرَائِسِ الأَقْمَارْ
قَرَأُوا عَلَيْهَا آيَةَ الكُرْسِيِّ وَالسُوَرَ القِصَارْ
نَذَرُوا بِأَسْمَاءِ الأَئِمَّةِ أَنْ يَصُوْنُوا طُهْرَهَا
لِتَعِيْشَ نُوْراً فِيْ شَرَايِيِنِ النََهَارْ
وَالرَّبُّ أَبْدَعَ فِيْ الوَرَى فَنَّهْ
مُذْ أَشْرَقَتْ "جَنَّةْ"
لَوْ لَمْ تَكُنْ أُمِّي
لَذَبَحْتُ نَفْسِي كَيْ أَمُوْتَ عَلَى شَذَا أَقْدَامِهَا
وَشَرِبْتُ مِنْ دَمِّي
أُمِّي أُحِسُّكِ تَوْأَمِي
وَأُحِسُّ بَعْضَ حَلِيْبِكِ الأَزَلِيِّ يَسْكُنُ فِيْ فَمِي
أُمِّيْ أَخَافُ عَلَيْكِ حَتَّى مِنْ أَعَاصِيْرِ الدَقَائِقِ وَهْيَ تَقْتَلِعُ السِنِينْ
وَأَخَافُ أَنْ يَمْضِي الزَمَانْ
وَتَجِفَّ أَوْرِدَةُ الْمَكَانْ
وَيَمُوْتَ مَقْتُوْلا عَلَى صَدْرِي الْحَنِينْ
مَنْ لِيْ سِوَاكِ ؟!
أَنْتِ التِي قَدَّسْتُهَا وَحَفِظْتُ عَنْهَا كُلَّ أَشْعَاري
يَا وَرْدَتِي وَحَبِيْبَتِي وَمَلِيْكَتِي وَعَظِيْمَتِي
يَا جَنَّتِيْ لا تُوْقِِدِي نَارِي
كَانَ الشَقَاءُ مُعَتَّقاً
فِيْ بِئْرِعَيْنَيْهَا اللَّتَيْنِ يَذُوْبُ فِيْ حَوْرَيْهِمَا عَسَلُ الأَسَى
وَرُمُوْشُهَا بَقِيَتْ رُمُوْزاً فِيْ قَوَامِيْسِ الْمَسَا
وَلِوَجْهِهَا الصَدَفِيِّ كَانَتْ تَنْحَنِيْ شَمْسٌ
وَيُوْغِلُ فِيْ تَوَحُّدِهِ قَمَرْ
وَالغَيْمُ يَلْهَجُ حَيْنَ تَضْحَكُ بِابْتِهَالاتِ الْمَطَرْ
أَلأَنَّهَا خُلِقَتْ مَلاكاً بَيْنَ آلافِ البَشَرْ ؟!
وُلِدَتْ يَتِيْمَةْ
وَاليَوْمَ تَنْظُرُ مِنْ خِلالِ ثَلاثَةٍ
نَوَّار ..
أَوْ سامي ..
أَوِ الْمَحْرِوْسَةِ العَصْمَاءِ دِيْمَةْ
وُلِدَتْ يَتِيْمَةْ .

***

سعاد الصباح

  • من مواليد الكويت، عام 1942.
  • حائزة على درجة الدكتوراة في الإقتصاد والعلوم السياسية من جامعة ساري جلفورد في المملكة المتحدة.
  • أسست دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع في الكويت والقاهرة، لتشجيع الإبداع بين الموهوبين العرب.
  • أنشأت عدة جوائز أدبية وعلمية للشباب العرب.

صدر لها:

  • من عمري، شعر، 1964.
  • أمنية، شعر،1971، ط 2 ـ 1989، ط 3 ـ 1992.
  • إليك يا ولدي، شعر، 1982، وصدرت بأربع طبعات أخرى.
  • فتافيت امرأة، شعر، 1986، ط 2 ـ 1989، ط 3 ـ 1992.
  • في البدء كانت الأنثى، شعر، 1988، ط 2 ـ 1992.
  • حوار الورد والبنادق، شعر، 1989.
  • برقيات عاجلة إلى وطني، شعر، 1990، ط 2 ـ 1992.
  • آخر السيوف، شعر،1991.
  • قصائد حب، شعر، 1992.
  • امرأة بلا سواحل، شعر، 1994.
  • خذني إلى حدود الشمس، شعر، 1997.
  • والورود.. تعرف الغضب، شعر، ط 1 ـ 2005، ط 2 ـ 2006.
  • رسائل من الزمن الجميل، شعر، 2006.
  • هل تسمحون لي أن أحب وطني، مجموعة مقالات، القاهرة، 1990، ط 2 القاهرة 1992.
  • التخطيط والتنمية في الإقتصاد الكويتي ودورالمرأة ـ صدر بالإنجليزية، 1983، والطبعة الثانية، 1989.
  • الكويت / أضواء على الإقتصاد الكويتي، ـ ط 1، 1985، و ط 2، 1989.
  • أوبك بين تجارب الماضي وملامح المستقبل، ط 1، 1986، والطبعة الثانية، 1989.
  • السوق النفطي الجديد، 1986، والطبعة الثانية 1989.
  • أزمة الموارد في الوطن العربي، 1989.
  • المرأة الخليجية ومشاركتها في القوى العاملة، 1990.
  • صقر الخليج عبد الله المبارك الصباح ـ كتاب توثيقي تاريخي، الكويت، 1995.

أنثى 2000

قد كان بُوسعي
مثل جميع نساء الأرضِ
مغازلةُ المرآة.
. . .
قد كان بوسعي
أن أحتسي القهوة في دفء فراشي
وأُمارس ثرثرتي في الهاتف
دون شعورٍ بالأيّام
وبالساعاتْ.
. . .
قد كان بوسعي
أن أتجمّل
أن أتكحّل
أن أتدلّل
أن أتحمّص تحت الشمس
وأرقُص فوق الموج ككلّ الحوريّاتْ.
. . .
قد كان بوسعي
أن أتشكّل بالفيروز
وبالياقوت
وأن أتثنّى كالملكات.
. . .
قد كان بوسعي
أن لا أفعل شيئاً
أن لا أقرأ شيئاً
أن لا أكتب شيئاً
أن أتفرّغ للأضواء
وللأزياء
وللرّحلاتْ.
. . .
قد كان بوسعي
أن لا أرفض
أن لا أغضب
أن لا أصرخ في وجه المأساة.
. . .

قد كان بوسعي
أن أبتلع الدّمع
وأن أبتلع القمع
وأن أتأقلم مثل جميع المسجونات.
. . .
قد كان بوسعي
أن أتجنّب أسئلة التّاريخ
وأهرب من تعذيب الذّات.
. . .
قد كان بوسعي
أن أتجنّب آهة كلّ المحزونين
وصرخة كلّ المسحوقين
وثورة آلاف الأمواتْ .
. . .
لكنّي خنتُ قوانين الأنثى
وأخترتُ مواجهةَ الكلماتْ.

سمفونية الأرض

1

تلك سمفونيّةُ الأرضِ العظيمه
تتوالى
تتوالى
مثلَ ضرباتِ القدرْ
مرّةً في بيت لحمٍ
مرّةً في غزّةٍ
مرّةً في الناصره
قلبتْ طاولةَ الروليتِ علينا
سحبتْنا فجأةً من قدمينا
كنَّستْ في لحظةٍ أسماءَ كل الزعماءْ
أغلقتْ بالشمع أوكارَ السياسه
ودكاكينَ الخدرْ
ذبحتْ كلَّ البقرْ
فأستقيلوا يا كبارَ الشعراءْ
ليس للشعر لدينا سادةٌ أو أمراءْ
إن للشعر أميراً واحداً يُدعى الحَجَرْ.

2

تلك سمفونيّةُ الأرضِ المجيده
تتوالى
تتوالى
مثلَ إيقاعِ النواقيسِ
وموسيقى القصيده
تحمل البرقَ إلينا
والمطرْ
أحرقتْ أوراقَ كلّ الأدباءْ
خلعتْ أضراسَ كل الخطباءْ
ورمتْهم في سَقَرْ
فافرشوا السجّادَ
والوردَ
لأطفال الحجاره
وأغمروهم بالزَّهَرْ
إن إسرائيلَ بيتٌ من زجاجٍ
وأنكسرْ.

3

ها هي الأخبارُ تأتي كالفراشات إلينا
خبراً
بعد خبرْ
حجراً
بعد حجرْ
فعلى أجفاننا قمحٌ
ودفلى
وورودْ
ها هُمُ أولادنا
يضعون الشمسَ في أكياسهم
يبدعون الزمنَ الآتي
يصيدون الرعودْ
ويثورون على ميراث عادٍ
وثمودْ
ها هُمُ أكبادنا
يقتلون الزمنَ العبريَّ
يرمون الوصايا العشرَ للنارِ
ويلغون أساطيرَ اليهودْ.

4

رائعٌ هذا المطرْ
رائع هذا المطرْ
رائع أن تنطقَ الأرضُ
وأن يمشي الشجرْ
ها همُ ينمون كالأعشابِ
في قلب الشوارعْ
ففتاةٌ مثلُ نعناعِ البراري
وفتًى مثل القمرْ
ها هُمُ يمشون للموت صفوفاً
كعصافير المزارعْ
ويعودون إلى خيمتهم دونَ أصابعْ
فأتركوا أبوابَكم مفتوحةً
طولَ ساعاتِ السمرْ
فلقد يأتي المسيحُ المنتظرْ
ولقد يظهر فيما بينهم
وجهُ "عليٍّ"
أو "عُمرْ".

5

قاومي
أيتها الأيدي الجميله
قاومي
أيتها الأيدي التي بلّلها
ماءُ الطفوله
لا تبالي أبداً
بأكاذيب القبيله
لم نحرّر نحن شبراً من فلسطينَ
ولكنْ
حرّرتنا هذه الأيدي الرسوله.

فيتو على نون النسوة

يقولون:
إن الكتابة إثم عظيم
فلا تكتبي
وإن الصلاة أمام الحروف حرام
فلا تقربي
وإن مداد القصائد سم
فإياك أن تشربي.
وها أنذا
قد شربت كثيرا
فلم أتسمم بحبر الدواة على مكتبي
وها أنذا
قد كتبت كثيرا
وأضرمت في كل نجم حريقا كبيرا
فما غضب الله يوما علي
ولا أستاء مني النبي.

يقولون:
إنَّ الكلامَ امتيازُ الرجالِ
فلا تنطقي
وإنَّ التغزّلَ فنُ الرجالِ
فلا تعشقي
وإنَّ الكتابةَ بحرٌ عميقُ المياهِ
فلا تغرقي
وها أنذا قد عشقتُ كثيراً
وها أنذا قد سبحتُ كثيراً
وقاومتُ كلَّ البحارِ ولم أغرقِ.

يقولون:
إني كسرت بشعري جدار الفضيلة
وإن الرجال هم الشعراء
فكيف ستولد شاعرة في القبيلة ؟
وأضحك من كل هذا الهراء
وأسخر ممن يريدون في عصر حرب الكواكب
وأد النساء
وأسأل نفسي:
لماذا يكون غناء الذكور حلالا
ويصبح صوت النساء رذيلة ؟
لماذا يقيمون
هذا الجدار الخرافي
بين الحقول
وبين الشجر
وبين الغيوم
وبين المطر
وما بين أنثى الغزال
وبين الذكر؟.
ومن قال:
للشعر جنس
وللنثر جنس
وللفكر جنس ؟
ومن قال:
إن الطبيعة
ترفض صوت الطيور الجميلة ؟ .

يقولون:
إني كسرت رخامة قبري
وهذا صحيح
وإني ذبحت خفافيش عصري
وهذا صحيح
وإني أقتلعت جذور النفاق بشعري
وحطمت عصر الصفيح
فإن جرّحوني
فأجمل ما في الوجود
غزال جريح
وإن صلبوني
فشكرا لهم
لقد جعلوني بصف المسيح.

يقولون:
إن الأنوثة ضعف
وخير النساء هي المرأة الراضيه
وإن التحرر رأس الخطايا
وأحلى النساء هي المرأة الجاريه.

يقولون:
إن الأديبات نوع غريب
من العشب
ترفضه الباديه
وإن التي تكتب الشعر خ
ليست سوى غانيه.

وأضحك من كل ما قيل عني
وأرفض أفكار عصر التنك
ومنطق عصر التنك
وأبقى أغني على قمتى العالية
وأعرف أن الرعود ستمضي
وأن الزوابع تمضي
وأن الخفافيش تمضي
وأعرف أنهم زائلون
وإني أنا الباقيه.

***

سعد الجوير

  • من مواليد الكويت، عام 1982.
  • حائز على ليسانس أدب عربي من كلية الاداب في جامعة الكويت.
  • يعمل مدرسا للغة العربية في المدارس المتوسطة في الكويت.
  • كما يسهم أيضا في الصحافة الثقافية .
  • عضو رابطة الأدباء .
  • عضو ملتقى الثلاثاء الثقافي.

صدر له:

  • ظل لا ترسمه نخلة، شعر، 2002.
  • طقوس صاخبة، شعر، 2002.
  • خطيئة الكائن، شعر، 2004.
  • تم الكتاب، شعر، 2004.
  • باربار، رواية، الكويت، 2006.
  • بوصلة الجهات العشر، نقد، الكويت، 2006.
  • غريب على ضفة نائية ـ جان دمو، دراسة، القاهرة 2006.

خارطةُ المعنى

1

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن انشدْ جراحَك في سديمٍ وغامضٍ"
كأنَّ الحجرَ يحركُ لسانَه
كأنَّ غفلةً في الناسِ
أو ناساً في الغفلةِ
كأنني أعبثُ.
هذه الجرائرُ تمتدُ
وتصيرُ آيةَ الطغيانِ والغرابةَ
تصيرُ العالمَ // الأسماءَ الجديدةَ والنوايا.
الغريبُ
ملائكُ
وقوافلُ عطشاً تتناوبُ الخطيئةَ.
// ودّعتُ الورقَ //
لدى صحراءَ قاحلةٍ
ونفختُ النارَ في الأجسادِ
هل جاءَ ليلٌ
أم المخاضُ قريبٌ ؟!
لِنمدَّ المائدة .!
صار بوسعِ الحقيقةِ
أن تغفرَ الخطواتِ
وتجعلُ النارَ للآدميِّ
وصار بوسعِ المكانِ
بركنةُ الزمنِ الذي يطلُّ مثلَ جبانٍ، ويقولُ الحقيقةَ
"تأتي على قدمين".

2

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن أرحِ المسافةَ بالمكائدِ، ورفقاً بالنساء"
النساءُ اللواتي وضعنَ لنا مواقدَ البيتِ
ووضعنا لهنَ مناجلَ الخفاءِ
كنَّ يترصدنَ و يفتضحنَ ويغفرنَ
وكنا نعالجُ السكوتَ عن الآثام
بخيانةٍ وفخٍ
النساءُ رفعنَ المكائدَ
ومددنَ قريحةَ الهوى
وأسنةَ السلوى
أنزلنا عليهنَ براءةَ النبيِّ وجمرةَ الشغافِ
فقلنَ سلاماً
// تركنَ الريحَ في الفضاءِ //
أدخلننا الفساتينَ
أشعلنَ لنا المجيءَ
وأرجحنَ لنا ذواتِهنَّ لهامشِ الوحدةِ
في ذلكَ سكنٌ
ورحمةٌ .
في البدءِ
كانت المتاهةُ الأولى:
الدخولُ
ينابيعُ المقولةِ وأحاجي الخليقةِ
قيلَ تركنا المواطنَ في الشركِ
ووصفنا لهنَ الأعذارَ
كتبَ التاريخِ
وجثمان البلاد .

3

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن افتح الساعةَ و انشدْ ولا تخفْ"
أقٌولُ وهذا المخاضُ غبارٌ
وهذا الفراغُ عظيمٌ
أجمعُ الكلماتِ في قارورةٍ (مجنونٌ يسنُّ جنوناً)
كانت المسافةُ مثلَ نجمةٍ ترقصُ في البعيدِ
كنا تلاميذَ الغيابات
والنهاياتِ
جهَّزنا الدمَ
حممَ اللحظةِ
وسكبنا الفرارَ مثلَ زيتٍ
وأعتمرت القناديلُ زوادةَ الظلامِ .
أقولُ
//أعبثُ بالمجراتِ
أخلخلُ الموازينَ
وأُزلقُ الكواكبَ //
هي البدايةُ
ضوءُ النهايةِ
ماذا سيُدركُ الشخوصَ
ومن سينتعلُ العالمَ في الغفوةِ
هذا المجازُ يعربدُ
ثم يستقيمُ
ثم يعطلُ الرؤوسَ
ويجعلُ القواربَ في منتهى الريحِ
سأرسلُ المخطوطاتِ للأقاصي
وننتظرُ الهلاكَ .

5

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن دعِ النجمةَ تلهو في البعيد"
تمتدُّ المسافةُ مثلَ أبديةٍ تُساقُ إلى حتفِها
أفتحُ الجرارَ
وأعبئُ الشواطئَ بالأسواقِ والنهاراتِ
أهبُ الطواحينَ خلاصةَ التجاربِ
وفلكَ النازلينَ على فوّهات الخديعةِ.
"أغلقتُ الشبابيكَ ولن أنتظرَ الفاتحَ هذا المساء"
جمهرةُ الفقراءِ
تعبثُ بأسمالها وتنتهزُ المواسمَ
لكي تُسمي المطرَ وتغفلُ الغيمَ
كأنني أرى عجائبَ الزمنِ مصفوفةً
وقلائدَ المحكومينَ بالعدلِ
مسيَّرةً على جحيم .
كأنَّ المدافنَ // تقربنا زُلفى
والجبالَ والغربانَ تُنبئ بالغبار
هو النبتُ
خرائبُ الوقتِ //
كأن المسافةَ
جنةُ المسافرِ
وجحيمُ المقيمِ .

6

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن أضف للمتاهةِ بوابةَ العبيد"
الأصدقاءُ يلبسونَ جلودَهم
ويضعونَ التركةَ كأنها شاهدةُ المجهولِ
كأنني للذئبِ وهبتُ الغنيمةَ
وكأنهم لزمنِ الترابِ
تركوا التماثيلَ والعقائدَ
فلا التاريخُ الذي هو محضُ كتابةٍ
يأتلفني
ولا المخطوطاتُ التي هي دمٌ حسب
تبتلعني
كل الذي يبقى في أواني البيتِ
لا يجاوزُ الحكمةَ أو الهذيانَ
كانت تقولُ الجِنانُ التي جمَّعتها في القمقمِ
ويتحركُ هذا الغامض مثل ابن آوى
يخترقُ المكائدَ
ويُخرجُ لسانه للفخاخِ.
الأصدقاءُ
ليلٌ جحيميٌّ يصبغُ الأحاديثَ
ويضربُ النذورَ
قلتُ
أتركُ الفضيحةَ بين قوسين
ونقطةٍ زائدةٍ
وأفتحُ وجهي على وسعهِ
قبالةَ عالمٍ ضيق .

7

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن ضعِ القافلةَ في الريح "
كنتُ أُدْخِلُ ملامحي في الكهوفِ
وأسمي الأشياءَ كلَها
علّقتُ في البيتِ البعيدِ مخاوفي
ورسمت في جدارِ اللحظةِ أمنيةً تهترئُ
في السفرِ الطويلِ
أسمتني المتاهاتُ الطريدَ
جمرةَ القريبِ
صرتُ
وطمأنينةُ المسافرِ
كانت تُقرفصُ أحلامها مثلَ شتوةٍ في الخراب
"حتى لا أفقدُ النورَ تراجعتُ عن المسرى"
العلاماتُ
مصفوفةٌ في مجالِ الكواكبِ
أرى المجراتِ تعبثُ مثلَ عيدٍ
تكتبُ أعمارها في الريحِ
ماذا لو أنَّ الزمنَ الذي بوسعنا أن نراه
لا يمرّ ثانيةً على طيفِ الغريبِ ؟
وماذا لو أنَّ النارَ التي علَّقتها تميمةً في فضيحةِ الوردِ تبردُ ؟
قيلَ ليَ الكآبةُ
قلت لكم المكانُ
والمخفيُّ
والظاهرُ
والمجهولُ
والذي أعلمه
والذي لا تملكونه
وما تملكون
لكم النارُ والحطبُ
لكم حلاوةُ السرِ والمجهور .

8

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن زلزلْ دلائلَ الحفيدِ"
أتعلقُ مثلَ أمنيةٍ في زاويةِ البيتِ
أُمضي المتاهاتِ نحوي وأنفخُ في المجاهيلِ
أرى الكهفَ
والأمهاتِ اللاتي أنتظرن السَّيارةَ
أرى الذي أبتاعني
فأهيمُ في السوقِ
وأكتبُ النبوءةَ
كنتُ في سجنٍ
وكان لي صاحبان
كانا في رؤى
وكنتُ رأيت
طويتُ في ظلماتٍ وحذر
فنبهتهما الغفلةُ
وأنبأتهما
لا القصور أنفتحت أبوابها
ولا المسرّاتُ جُرَّتْ إليّ
مثل خيولِ المنامِ
مضيتُ في درس وقدمتُ الكتابَ
لكنَّ اللحظةَ ابتلعتني
فرحتُ أبحثني
في دماءٍ
وفي جب.

9

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن اخفض جناحيْ مستحيلٍ وزِدْ"
فتحتُ الهاويةَ
وأنتظرتُ الوجوهَ
كلّمتُ مدينةَ الفوضى
وكانت في النفس غايةٌ
تعامدتُ والفتنةَ
وأستويتُ على دخيلتي .
في الكلامِ قرأتُ
قناديلَ الغرابِ
حفرَ النازلِ بعدَ سفرٍ بهيم
آيةَ النبيذ.
قرأتُ
كانت تلوذُ بي
كنت أهمّ بها
فلمّا ظهرت القوافلُ محملةً بالقصصِ والحكمةِ
مشحونةً بالرجال والحربِ
وضعتُ على ظهري الفوانيسَ
ومضيتُ.
ربما كان في الحكايةِ أكثرُ من سببٍ
لكي أظلّ في الضياعِ
ما ضللتُ
ورأيتُ الله
كنت فراشةً تسعى إلى كائنٍ يعالجُ الأحجارَ
بنوبتهِ
ويهرِّبُ النجومَ
والمفازات.

10

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن خضخضِ العروشَ وأقمِ كلامَك"
أصابُ بالمرايا
أصاب بشجرةِ الغيابِ
وألهثُ
وأنهشُ
وتقربني دهشةُ العصافير
أفتحُ للكونِ
وأدفعني.
كنت في شغلٍ
قربتُ برودةَ المكان
وعلى الزوايا وضعتُ يدي
عرفتُ أنها الجراح
وأنها مدائنُ المغدورينَ في الحب
وفاصلةِ السكن .
تركتُ المزيجَ
لمّا بلغتُ الكتابَ مررت بذي نارين
نارٌ تعششُ في قديمٍ
وعظيمٍ
ونارٌ تؤثث نازلةَ المأتمِ
كانت المواكبُ تعبرُ
والركبُ في هلعٍ
كأنه النهايةُ
تشاغلتُ
وأشتغلتُ
وشغّلت
فأنتهيتُ إلى الرؤى
وما كنت سوى المتبقي من كلماتٍ مملوءةٍ بالملحِ والأسماك
"تركتُ السناجبَ مطروقةً للبشر".

11

تدفعني خارطةُ المعنى
"أن باركْ خطيئتك في تذكرةٍ وفي سلوى"
صارَ الغيابُ
وصارَ المكانُ الذي نخشاهُ
وصرنا
لمّا كان للنجومِ قرارَ الفجيعةِ
وللأبراجِ خيانتَها الرتيبةِ
كنتُ تجمعتُ
وأصبحتُ على خطوتينِ
من الهوى
فلم أمدَّ السكاكينَ
ولم تمدُّ لي الأيدي
كان المكانُ
وكنتُ التسمية
فليستوي العقابُ الثوابَ
في الحكايةِ.
رميتُ الحبالَ
ورتّبتُ الأجراسَ
والمراثي
ورحتُ أسمي الأجسادَ
وأصفُ المواليدَ الذين في المكان الخطأ
لحظةٌ هسهسةُ القادمِ من الجهةِ الأجهلها
كان الميزانُ في لهوٍ
والسلاطينُ تُركتْ فوضاهم
على فوهةِ العابثِ.
قلتُ:
هو المكانُ إذاً، والموجودات
وجمعتُ الحقبَ
نفختُ التلاميذَ في غفلةِ الأمرِ.

***

سعدية مفرح

  • من مواليد الكويت، عام 1964.
  • حائزة على ليسانس في اللغة العربية والتربية من جامعة الكويت.
  • تعمل صحفية في الصحافة المحلية.

صدر لها:

  • آخر الحالمين كان، شعر، 1990، ط 2 ـ 1992.
  • تغيب فأسرج خيل ظنوني، شعر، 1994.
  • كتاب الآثام، شعر، 1997.
  • مجرد مرآة مستلقية، شعر، 1999.
  • تواضعت أحلامي كثيرا، شعر، 2006.
  • النخل والبيوت، شعر للأطفال.

تغيبُ فأُسْرجُ خيلَ ظنوني

تغيبُ
فَتَمضي التّفاصيلُ، هذي الّتي نَجْهَلُ كيفَ تَجيءُ نَثيثاً وكيفَ تَروحُ حَثيثاً، تُغنّي كَسرْبِ قَطاً عالِقٍ في شِراك النَّوى، فتَجْتاحُ صَمْتي، هذا الغريبَ المريبَ، تُغالِبُ وَجْدي هذا السَّليبَ تَنوحُ ولا تَنْثَني إذْ مُغْرِيات القَطا المُصْطفى عَبْرَ فَيافي الضَّنى قد تلوحُ بجَبْهةِ مُهْرٍ جَموحٍ صَبوحْ.

يَدُقُّ غيابُكَ جرْسَ حَضوري
فيُلغيهِ.

وحينَ تَغيبُ يُلمْلِمُ حُزني أطرافَهُ نافِذاً
ويَغْرقُ فيَّ
ويَنْداحُ حينَ تَجيءُ
فأغْرَقُ فيهْ
أَلا بَرْزَخٌ بينَ هذا وذاك
نُمارِسُ لا حُزْنَنا في جانبَيْه ؟.

تغيبُ
فأُسْرِجُ خيلَ ظُنوني
........
..........

..........

غيابُكُ نَهرُ غَضوبٌ
وحينَ يكونْ
أُخضِّبُ كلَّ عرائِسِ شَوْقي ملائِكَ حُبِّ، وأَفْرُشُ كلَّ عرائِشِ قَلْبي أرائِكَ لَعِبٍ لهُنَّ، فأجلوهُنَّ وأُلبسُهُنَّ، خَلا خيلَهُنَّ وأُبْرِزُهُنَّ نَهاراً جَهاراً يَصرْنَ شُموساً يُراقِصْنَ موجَكَ مُنْتَشِياتٍ بهذا العَليَّ الأبِيَّ الفَتيَّ، وينثُرْنَ حِنّاءَهُنَّ الجَميلَ طُيورًا على الماءِ تنقُرُ سبعَ نوافِذَ خُضْرٍ وتُشْعِلُ سبعَ شُموعٍ، ويَنْداحُ فيضُ الهَديلِ العليلِ صَلاةً
لطَقسِ النَّخيلِ المخضَّب بالعُودِ والوَرْدِ والنِّدِّ والطَّلَلِ الموسميّ البليل، والخَلاخيلُ هذي الّتي فضَّضَتْ ليلَ وجْهِكَ تَدْعوكَ سَبْعًا
فهلْ سَتَفيضُ، وقدْ غِيضَ مائي ؟.

وحين تغيب
يكونُ حُضورُ غِيابكَ أشْهى وحينَ يَغيبُ
الغِيابُ يكونُ حُضورُك أَبهى
فكيفَ يكونُ الحُضورُ غِياباً
وكيفَ يكونُ الغِيابُ حُضوراً
والغِيابُ سَرابْ ؟ 2

الذِّكْرَياتُ
جُرحُ الغِيابِ
وليسً لذاكِرَتي أنْ تَغيبْ .
ـــــــ

1 أيكون الغياب، إذن، شهوة للعذاب ؟

2 حالة من غياب تمر بنا
ترى أينا غائب
أنت أم أنا ؟.
تواضعت أحلامي كثيرا

1

أريد مجرد جناحين
أو يكفّ روحي عن توقه للطيران.

2

أريد أن أصرخ كل صرختي
دون أن أنتظر سؤالا ما.

3

أريد أن أتخلص من كل ما يعيق دمعتي
عن هدفها المؤجل
أو نقطتها الأخيرة على السطر .

4

أريد أن أغني
دون أن أضطر لتأليف كلام
أو أرتجل لحنا
أو أرفع صوتي.

5

أريد كرة أرضية
أرسم خريطتها
وفقا لتضاريس وجهي
وأشق أنهارها وبحارها
على طريق دمعتي.

6

أريد كرة أرضية أخرى
أخبئها في صدري
كلما أردت الخروج من البيت
دون عباءة.

7

أريد شجرة تغني
وعصفورة تهادن الريح
وبحرا يكتب مذكراته كل فجر
وجواز سفر صالح في كل المطارات .

8

أريد مظلة مزينة بقرنفلة
وكتابا مفتوحا على الفهرس
وأصابع تجيد نقر لوحة المفاتيح.

9

أريد مجرد مخدة مريحة
وأحلاما تَسيـْرُ أحداثها
وفقا لسيناريوهاتي المرسومة سلفا.

10

أريد حكاية قديمة بنهاية سعيدة
أحكيها للصغار
وأشير لصور أبطالها في ألبوم العائلة .

11

أريد مجرد إطار بسيط وجميل
للوحة بدائية رسمتها بالقلم الرصاص
ولونتها بالألوان الخشبية
كي أهديها لصديقتي البعيدة .

12

أريد أن تتسع غرفتي
لتحتوي كل كتبي الكثيرة
أو تصيبني نوبة جنون
فأحرق هذه الكتب .

13

أريد ذكرى حلوة
ويقينا شعريا
ونهارا جديدا.

14

أريد كسرة "عود"
أضعها على جمرة متوقدة
فيفوح العبق المعطر
بينما أشرب قهوتي الصباحية
دون أفكار مسبقة
لبقية النهار.

15

أريد غواية جديدة
لأيام فقط.

16

أريد فيلما بالأسود والأبيض
أغني مع بطلته
أتخيلني بكنزتها الضيقة
وتنورتها الفضفاضة
أمسح دمعتها
وأضحك على سذاجتها
حتى أبرر سذاجات تاريخي كله.

17

أريد أغنية هادئة
لليل ساهرةٌ عيونُه.

18

أريد نهارا طويلا ومزدحما
برائحة البحر والرمل
وعوادم السيارات
وبقليل من المكالمات المفقودة
في هاتفي النقال.

19

أريد نهارا قصيرا جدا
يكفي لكتابة قصيدة
أكتبها كما أشتهي
على مهل
دون رتوش
ولا مسودة.

20

أريد ليلا قصيرا
مؤطرا بالهدوء
ينتهي بموت
لا يعني أحدا.

21

أريد ليلا طويلا
أعني طويلا جدا.

22

أريد أن أحيا
دون أن يكون ذلك قدري الأزلي
حين تعز الخيارات.

23

أريد أن أموت
دون أن أضطر لذلك
أحيانا.

24

أريده فقط
ما هو ؟
من هو؟
لا أريد الإجابة على أية حال.

25

"لنا الصدر دون العالمين
أو القبر"
نعم
لهذا المتواضع كل الصدور حتما
وليترك لي قبرا
بنافذة واحدة على الأقل!.

***

سليمان الخليفي

  • من مواليد الكويت، عام 1946 .
  • حائز على بكالوريوس في النقد من المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، وعلى دبلوم في الهندسة الإلكترونية من الكلية الصناعية في الكويت.
  • عمل موظفا في المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب.
  • عضو مسرح الخليج العربي .
  • عضو رابطة الأدباء.

صدر له:

  • ذرى الأعماق، شعر، 1986.
  • هدامة، قصص، الكويت، 1974.
  • المجموعة الثانية، الكويت، 1976.
  • صقر الرشود والمسرح في الكويت، دراسة، الكويت، 1981.
  • أحمد العدواني، دراسة بالإشتراك مع د. سليمان الشطي، الكويت، 1993.
  • متاعب صيف، مسرحية.

قراءة في الكويت

أقرأ!
فبسم ربك الذي خلق
وحرفِك الذي اتسقْ
وأرضِك الساجية الشفقْ
تاريخُ ما ركبتهُ
عن طبقٍ
من سيدٍ إلى ابن خالةٍ وعمْ
علّم بالقلم:
فكلّ نخوةٍ تفيضُ بالعدمْ
والعفو والكرمْ.

أقرأ!
فما الكويت محض دمْ!
تُشاكهُ القممْ
يسحّ عن سفوحها النّدى
يطوف حول بيتها المدى
أجاءها القصيدُ بُكرةً
إلى الحرمْ.!

أضربْ!
فليس بعد كلمةٍ صنمْ
يكلّلُ السوادُ أصغريه
والرمق
لا الليل ما وسقْ
كحقدِهِ عرِم!.

كُن عادلاً
أبيتَ
ذمْ
إذ ليس عدلاً يحكُم العدمْ
مذ رُجّت الجبالُ فيه رجاً
فكان مثلما الهبا منبثاً
يرتجزُ القعقاعْ
نحن قتلنا معشراً وزائداً
أربعةً وخمسةً وواحداً
نحن أفضنا من تلال الماءْ
وبقعة الزّيت
أربعةً كاملةً وواحداً
لا محض
يا ليت
نُحسبُ فوق اللّبد الأسودا
يواصلُ القعقاعْ
منارةٌ موقوتةُ الصّدى
في قبة الصوتِ.

أقرأ
فما الكويتُ محضُ
لكنّما وشائجٌ
تشاطئُ
الخليج والمحيط
دمْ!
عرفتُها فيما وراء الماء
لؤلؤه
وخِلتُها والبحرَ دُرّتين
في الكفّ
أودعَ السماءُ
سورها العميق عُمقَ رحلتين
إن أَلَفتْ قريشْ
رحلة الشتا والصيف
ألف الكويتُ رحلة الخطرْ:
الغوص والسّفر في العام مرّتين!.

أقرأ
إذا نسيتَ
أن نجمها أرق
وطيفها فرق
وإن نسيت أنّ بعض
أهلي
عيونها الغرق
وبعض شاخصٍ إلى الأواهل الومقْ!.

أقرأ
فليس حقْ إبصارك الأدق
وهملُك الأشقْ
من سورة الفلق!.

لعينيك وعودا

سادتِ الشمسُ
الجليدا
فتردّى كِسَفاً سيلاً
شديدا
لا يُلام الثلجُ إن أعيا
صمودا
صارتِ البذرةُ ساقاً
ونما البُرْعُمُ أوراقاً
وُرودا
لا يُلام البذرُ إن عافَ
الجمودا
غاض في نافورة الليلاءِ
ليلٌ
فاعترتْها زرقةُ البحرِ
بضوء اللؤلؤِ الغافي
فأخلتْها
القيودا
من يلوم الليلةَ الليلاءَ
إن غيّبها الصبحُ
وجودا
فأتيتِ وتخطّيتِ
حدودا
وتساميتِ إلى الغيمِ
صعودا
وأبتسمتِ لعبةُ الدنيا
على ثغركِ
ما أبقتْ على عوديَ
عودا
فأنثنيتُ
أيُلام القلبُ إنْ أصغى
لعينيكِ
وُعودا ؟
واءةٌ تلمع في الأحداق
تنشقّ إلى العطرِ
جديدا
تغزل السَّمعَ
على ترنيمة الصوتِ
نشيدا
و«هياوينُ» إذا أحرمَنا الدهرُ
تُوَفّينا
العهودا
من يلوم اليأسَ
إن صيّره الشوقُ
مَدى الأحلامِ
إرهاصاً
أكيدا.

***

سليمان الفليح

  • من مواليد صحراء الحماد شمال الجزيرة العربية في الفترة الممتدة ما بين عامي 1951 و1952.
  • ألتحق بالجيش الكويتي منذ عام 1970 حتى 1997 حيث تقاعد عن العمل.
  • عمل مراسلا حربيا لفترات وجيزة على الجبهتين السورية والمصرية خلال حرب الإستنزاف بين عامي 1971 ـ 1973.
  • يكتب بإنتظام في الصحف الكويتية والسعودية.

صدر له:

  • الغناء في صحراء الألم، شعر، 1979.
  • أحزان البدو الرحل، شعر، 1981.
  • ذئاب الليالي، شعر، 1993.
  • الرعاة على مشارف الفجر، شعر، 1996.
  • رسوم متحركة، شعر، 1996.

تحولات الخبل الزين

إلى جيلي خريجي المضارب السوداء

الخمسينات
أذكر في أعوام البدو الرحل نحو الشجر النامي عبر الآل
وسياط الشمس تقرحنا ببقايا تلك الأسمال
يشوينا الرمل فلا نخشى
أشباح الموت البرية
يحدونا شوق التجوال
للمدن المعدن
لحقول تنبت في الحال
لزهور الليل الحجرية
تخرج من طين الصلصال
أذكر إذ أوغل في ذهني
وتدق الذكرى في البال
وجها بدويا محروقا
صلبا
كجمود التمثال
يركض خلف الإبل العطشى
يحفر آبارا وهمية
تبتعد آلاف الأميال
نقطعها بعيون الموتى
نمشي أياما وليال.

إذ كنا نبكي من ظمأ
يعصر أكباد الافيال
لكن (الخبل) يخدرنا بحداء يجتاح الليل
يشبه إيقاع الموال:
"وضحا وسنامه عال
وردت على أم وعال"
وتبعد عنا (موعال)
كشراع يبحر في الليل
قمتها تبحر في الآل.

الستينات
وتجيء سنين المحل المرعب
ويجيء الفقر القتال
يحصد إبل البدو الرحل
يحشرهم للمدن الكبرى
فأمتهنوا كل الأعمال
فنسينا آلام الدنيا
وطوينا كتب الأجيال
وقرأنا في الكتب الأخرى
وشغلنا "تجميع" المال.

السبعينات
جئت لأكتب عن إحدى شركات النفط مقالا
وعلى سلمها أوقفني
عانقني رجل الأعمال
فذهبت أقلب ذاكرتي.. من هذا ؟
إني أذكره
فأستيقظ فيها الموال
"وضحا وسنامه عال... وردت على أم وعال"
كان (الخبل الزين) سعيدا
مسرورا
مرتاح البال
حدثني عن سر الدنيا
ومضى تشغله الأعمال.
ـــــــــــ
إشارات:
أم أو عال: جبل أسود على أطراف الجزيرة العربية كان يرده البدو الرحل.
الخبل: الأحمق.

أغنية الولد البدوي

أيها الولد البدوي
إئتنا بالربابة
وغن لنا يا طويل البقا ما ينحي الكآبة
(راكب فوق حر يذعره ظله
مثل طير كفخ من كف قضابه).

وتأن قليلاً بلحنك
إن السماء ملبدة بالعقارب
والليل يرخي حجابه
ونحن سنسهر حتى الصباح
نعيد حديث الصعاليك
نأرق
أن نام كل خلي
وأوصد بابه
نحتسي (تمرتنا)
ونقاسم كل خلي بهذا الزمان عذابه
ونردد دوما معاً :
من خط درباً واضحاً للمعالي
لازم على الشدات تضرب ركابه).
نعاني التشرد والفقر لابأس
فالدهر إن كان صلباً
فليس علاج الصلابة إلا الصلابة
وسيف يطيل الإقامة في الغمد
لا شك يؤتى الصدأ في جرابه
وموت الحياة حياة الجبان
وجبن الحياة ممات الشجاع
فأي ممات نشابه ؟.
غن لي أيها الولد البدوي
فثلج تراكم في الروح منذ سنين
يريد الإذابة
وحادي القوافي تغرب عني طويلاً
إلى أن مللت فطال إغترابه
أضئني فإني لمحت بنارك
عروة
والشنفرى
والسليك
وإبن الغرابة
تبارك شجوك
إني ثملت بهذا الأنين الأليف
رحلت لكل العصور
أنتبهت لضوء الصباح الجديد
فتحت ذراعي للفجر
قلت:
هلا به .

الناقة الإلكترونية

الناقة الآلية
تعرضت لموجة من اليورانيوم المشع
فأصبحت وحيدة الخلية
دخلت مجال الليزر النفاذ
فأخترقت عظامها الأشعة السينية
تحولت لهيكل عظمي من فولاذ
وكتلة من الأسلاك
والأضواء
يدور في فضائها
دم ملون أخاذ
وذرات آيونية
تضيء الشيح
والقيصوم
والجثجات
والثنداء
وأحماض أمينية.
الناقة الآلية
رغت رغاء مدهشا
يقطع الفؤاد
وجلجلت في دمها المعادن الغنية
نفثت لهيبا أزرق يكلس الهواء
وأنطلقت من جوفها
أدخنة بنية
صار الحليب أسود
يسير في ضروعها الشفافة الزرقاء
وتخرج الغازات من مسامها
وفجأة طار أعلى سنامها
وأنطلقت سحابة كونية
وكانت الناقة / في خدر الإعاقة
وصحة الإفاقة
باركة تجتر
نفاية ذرية.

***

صلاح دبشة

  • من مواليد الكويت، عام 1968.
  • ليسانس لغة عربية من كلية التربية في جامعة الكويت .
  • عضو رابطة الأدباء.
  • عمل لسنوات في تدريس اللغة العربية بالمدراس الثانوية.
  • يعمل الآن موجها فنيا لمادة اللغة العربية في وزراة التربية.

صدر له:

  • نحوك الأن كأني، شعر، 1997.
  • مظاهرة شخصية1، شعر، 2000.
  • مظاهرة شخصية2، شعر، 2002.
  • سيد الاجنحة، شعر، 2007.
  • أحاديث المذكرات / محمد الفايز... الرؤية والممكن، دراسة، الكويت، 2001.

جذاذات ولد مهذب

1

لن أطير الآن
حتى لا يلتفتوا إليَّ
ويقيدوني
لم أكن كاذباً
عندما أبتسمت لحائط .

2

أخفف موتي دائماً
بالأصدقاء
وأعذّب الذين لا أحبهم
بيني وبين نفْسي .

3

كلما حاولت أن ألمس الوهم
تضحك يدي .

4

مللت من نفسي
هذه
التي تفتح لي وحدها
كلما طرقت باباً .

5

أحياناً
أحس أني فارغٌ
حتى آخر الشارع
وأحياناً
أحس أني مزدحم
في الشارع الثاني .

6

ركضتُ في خيالي
فصدمت نفْسي .
7
أطل كشمس
النوافذ تفتح أذرعها
لأدخل في غرف
أبوابها موصدة .
8
ألتفت مراراً
إلى الشاطئ
أخاف أن ينهض البحر
ويسألني
عن السمك الذي أكلناه .
9
تجمهرت حولي الأحلام
تظنني منشفةً
أمسح عنها الناس .
10
أهرب من الناس
أجر صدري ورائي
بخيط
أنقطع عدة مرات .
11
جعلوا جسدي حائطاً
عليّ أن أقفزه
كلما أردت أن أبتسم .
12
هذه الريح
تتجول في الطرقات والأسواق
بحثاً عن ثوب فضفاض
تلبسه امرأة .
13
أنتبه
عند الأشياء التي أحبها
بعد أن رأيت هؤلاء
الذين يحبون الكرة كثيراً
ويتعاملون معها
بأقدامهم .
14
أود أن أستبدل أصدقائي
دفعة واحدة
بآخرين جدد
لن أخطئ معهم
وأعتذر
ثم أعيش بقية أيامي
أشك في نسيانهم .
15
رأسي مسدس
لا أريد أن أفكر
وأفزع الجيران .
16
أرجو
أن نبتعد عن بعضنا
يومين أو ثلاثة
حتى ننظف .
17
أخجلتني
ثلاثة أمتارٍ إلى الوراء
ونسيتُ جسدي عندها
لم تقل لي:
خذه .
18
مرت أمامي
لم أشعر بشيء
حتى بنفْسي .
19
عندما ولدتُ
نسيت أن أصرخ .
20
دعني
أيها الحلم
لقد فقدت قدميّ .

ريـش(قبل الطَّيران)

  1. في منزلنا الكبير أحلم أن تكون لي.. غرفة.
  2. حين فقدت لعبتي جناحين على خشبة قالت أمي طارت.
  3. كلما قلت لأبي في طعامنا أشياء مقتولة كان يصفعني كي نعيش.
  4. أمشط شعري إلى الوراء قبل إنطلاقي في الشوارع لأصير أسرع من أولاد الجيران.
  5. حين أبتسمتِ لي في غفلة من أصحابي خفتُ أن أبتسم، فأبتلعهم. هذا قول أبي حين تكون ابتسامتي كبيرة.
  6. في مرةٍ كنتُ أرسم أسلاكا شائكة على الرمل أمام حيطان تمد ظلالها نحو بابكم.
  7. لو كان لك أن تمري لا تصحبي أختك تلك التي أبتسمت لها من أجلك قبل يومين، فنثرت أصابعها الخمس في وجهي، وقالت: كش . >
  8. أاااششش.. ها هي قادمة إلينا، يا قلبي فلنهرب كل واحد في جهة.

الأطياف

  1. كنت في جسد وحيد فلمن ألوّح ؟.
  2. أتلفت أبحث عن نهار قبل أن تغيب الشمس.
  3. أخشى من ألمي أن يصرخ فيَّ أريده أن يهدأ لأصارعه، وأبطحه على الأرض، أغرس سكينا في الرمل بجانب رقبته، وأقول له: سامحتك.
  4. أشبه الطين لكني لست هو رغم أني كلما بكيت صرت وحلا.
  5. أجلس الآن في شرفة القلب أتفرج على طيوره ترفرف مع النسمات الآتية من البحر وتطير، تصعد بهدوء رائع تصعد عاليا بين غيوم متناثرة تختفي .

***

عالية شعيب

من مواليد الكويت، عام 1964.
حائزة على درجة الدكتوراة من جامعة برمنغهام في بريطانيا.
عضو في جمعية الفنون التشكيلية.
عضو في رابطة الأدباء.
تعمل مدرسة لمادة فلسفة الأخلاق في كلية الآداب في جامعة الكويت.
أسست منتدى: عالية شعيب الثقافي، 2002 .
أسست دار: عالية للطباعة والنشر، 2002.

صدر لها:

  • عناكب ترثي جرحاً، شعر، 1993.
    الذخيرة فيّ أصرخي في فمي، شعر، ط1، 1995، ط2، 2002 .
    نهج الوردة، شعر، ط1، 1997، ط2، 2002 .
    بورتريه غربة، شعر،2001 .
    أحبك لا أحبك، شعر، 2003 .
    سأغلق هذا الباب خلفي، شعر، 2006.
    امرأة لا تتزوج البحر، قصص، ط1 الكويت، 1989، ط2 الكويت، 2002.
    بلا وجه، قصص، ط1 لندن،1991، ط2 الكويت، 2002.
    طيبة، رواية، الكويت، 2005.
    كلام الجسد، في السحاق والبغاء، دراسة، الكويت، 2001.

احتواء

1

أمنحني
سورا
تفصح عن ريش أمانها
يلامسني بوحها
يتصل بي وأصيره.

2

أصعد فيك
شش
أنصت
الجدار يتلونا
تصير زئبق روحي
أصير مجرة عقلك.

3

الجدار
هذا البهي
نحن ورد بوحه
دعنا نتفتح أرجا
في عطش حجارته.
نضيء رماده بأقواس قزح
تنفلت
ونحن
نميل
نذوب
نمتزج
نتوحد.

4

أستيقظ على همس جلدك
يمد نعناعه الوارف
هسهسات
تطهرني منك مني
إلي إليك.
غربتي دونك

1

صورة لمساء لزج
تجادل فضة صمتي
هل أكون دونك
دونهم
دونها.

2

معي وحدي
أحتضنني
وأفرق على الجميع
نعي غيابي
نافقت كذبهم بسذاجتي
قلت سأودع قصدير أصواتهم
رذاذ نفاقهم
كبريت عناقهم.

3

سأغيب خلف سور من شعر
سأبني لأحلامي صورا ورؤى
جنائن وارفة بالألق
سأتقمص حكايتك عن كويت اللؤلؤ والبحر
وأخفي هلعي
قلقي
شغفي
طمعي
بالأصحاب.

4

أشهد أني سأقطع المسافة المشتاقة
بين قدم وأخرى
وأجمع لهاث أحذيتي
ضد نهاية أرفض الوصول اليها
معهم.

5

سأبني لأحلامي صورا ورؤى
جنائن وارفة بالألق
سأتقمص حكايتك عن كويت اللؤلؤ والبحر
وأخفي هلعي
قلقي
شغفي
طمعي
بالأصحاب.

يتبع

أقرأ أيضاً: