إن وظيفة الشاعر في الإبانة عن الصلات التي تربط أعضاء الوجود ومظاهره. والشعر يرجع إلى طبيعة التأليف بين الحقائق. ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون الشاعر بعيد النظرة، غير أخذ رواء المظاهر، مأخذه نور الحق. فيميز بين معاني الحياة التي تعرفها العامة وأهل الغفلة، وبين معاني الحياة التي يوحي إليه بها الأبد. وكل شاعر عبقري، خليق بأن يدعى متنبئا. أليس هو الذي يرمى مجاهل الأبد بعين الصقر، فيكشف عنها غطاء الظلام، ويرينا من الأسرار الجليلة ما يهابها الناس، فتغرى به أهل القسوة والجهل؟ كل شيء في الوجود قصيدة من قصائد الله. والشاعر أبلغ قصائده.
الشاعر هو الذي لا يعيش مثل أكثر الناس، مقبورا في الأحوال التي تحوطه، هو الذي إذا عاش، كان له من شاعريته وقاء من عداء قتلى المظاهر. فإذا مات كانت الشهرة زهرة على قبره. فإذا لم تسعده الشهرة، هبطت روح الطبيعة على قبره، تظلله بجناحها، وتفرخ فوقه أبناءها الشعراء. تلك الأرواح التي تستمد الوحي من عظامه، وتسقيه من دموع الرحمة والحب والحنان. وليس الشاعر الكبير من يعني بصغيرات الأمور. ولكنه الذي يحلق. فوق ذلك اليوم الذي يعيش فيه. ثم ينظر في أعماق الزمن آخذا بأطراف ما مضى وما يستقبل. فيجئ شعره أبديا مثل نظرته. وهو الذي يلج إلى صميم النفس فينزع عنها غطاءها. وهو الذي إذا قذف بأشعاره في خلق الأبد ساغها. فعيب شعرائنا جهلهم جلالة وظيفة الشاعر. لقد كان بالأمس نديم الملوك، وحلية في بيوت الأمراء.
ولكنه اليوم رسول الطبيعة ترسله مزوداً بالنغمات العذاب، كي يصقل بها النفوس ويحركها، ويزيدها نورا ونارا. فعظم الشاعر في عظم إحساسه الذي يتعرف كيف يقتبس من هذه الحالات أنغامها، ويصوغها شعرا.
وهو الذي عواطفه مثل عواطف الوجود؛ مثل الأمواج أو الرياح أو الضياء أو النار أو الكهرباء. وهو الذي يحكى قلبه الأركستر الكثير الآلات، الكثير الأنغام. أليس الوجود أيضا أركستر آلاته الناس، وعواطفهم وأعمالهم، والرياح والأمواج، والطيور والحيوانات؟ كذلك قلب الشاعر أركستر آلاته العواطف. ومن أجل ذلك لا ينظم الشاعر الكبير إلا في نوبات انفعال عصبي، في أثنائها تغلي أساليب الشعر في ذهنه، وتتضارب العواطف في قلبه. ولكن تضاربا لا يزعج نبضه طيور الأنغام الشعرية التي تغرد في ذهنه. ثم تتدفق الأساليب الشعرية كالسيل، من غير تعمد منه لبعضها دون بعضها. أما في غير هذه النوبات، فالشعر الذي يصنعه يأتي فاتر العاطفة، قليل الطلاوة والتأثير. وإدمان الإطلاع أساس في الشعر. أنه هو الذي يهيئ الطبع. أما انتقاء الأساليب عند النظم، فدليل على أن الشاعر غير متهيئ الطبع ناضبه؛ ليس في أعصابه نغمة، ولا في قلبه عاطفة.
وإذا نظرت في الشعر العربي، وجدت أن شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، كانوا أصدق عاطفة ممن أتى بعدهم، والسبب في ذلك أن النفوس كانت كبيرة والعواطف قوية، لم يتلفها بعد الترف والضعف، وغير ذلك من الصفات التي تطرقت إلى الأمة في عهد الدولة العباسية، وما بعدها من العصور، التي أولع فيها الشعراء بالعبث والمغالطة، والمغالاة الكاذبة، والتلاعب بالألفاظ، والخيالات الفاسدة. وشعر الأمة مرآة حياتها. فإذا كانت نفوس أفرادها كبيرة، كان شعرها شديد التأثير، صادق العاطفة. وإذا كانت نفوس أفرادها حقيرة، كان شعرها ألفاظا مرصوفة ميتة، ليس فيها عاطفة. والعواطف هي القوة المحركة في الحياة، وهي للشعر بمكانة النور والنار.
* المصدر : نظرية الشعر 3- مرحلة الإحياء والديوان، القسم الثاني/ مقدمات/ تحرير وتقديم : محمد كامل الخطيب/ منشورات وزارة الثقافة - دمشق 1997 (عن) مقدمة الديوان : الثالث 1914
مذهب الرمزيين كما أعتقد يشمل أمورا منها إحلال المشبه به مكان المشبه وحذف المشبه في كثير من المواضع، ومنها إدخال تشبيه في تشبيه واستعارة في استعارة وخيال في خيال، وثالثها الاسترسال في وصف الهواجس النفسية من غير تمهيد أو شرح ويرمزون لهذه الهواجس بأشياء تذكرهم بها، ورابعها أنهم قد يشبهون شيئا بشيء آخر وهذا الشيء الثاني يشبهونه بثالث والثالث برابع الخ.
ثم يحذفون كل هذه الأشياء ما عدا المشبه به الرابع فإنهم يبقون لفظه كي يكون رمزا للمشبه الأول. ولا شك أن هذا المذهب يتطلب ذكاء وانتباها وثقافة من الشاعر والقارئ ولكن أصحابه قد نسوا قول بندار الشاعر الإغريقي القديم (على ما أذكر) وقد أراد أن ينصح شعراء عصره: "ابذروا البذر باليد لا بالزمبيل" يعني أن الزراع إذا رمى بذرا كثيرا في مكان واحد فإن النبات الذي ينبت قد يقتل بعضه بعضا، وكذلك الشاعر إذ أدخل الصور الشعرية بعضها في بعض في جملة واحدة أفسد بعضها بعضا. ثم إن الأسلوب قد يتهم بالضعف اللغوي مهما كان صاحب الأسلوب مضطلعا باللغة وذلك لأن أسباب التعلق بهذا المذهب كثيرة وليس السبب واحدا، فمنها :
- أن الشاعر قد يلجأ إليه عمدا متكثرا بأخيلته وصوره الفنية ناسيا قول بندار الشاعر الإغريقي بالذي سبق ذكره.
- ومنها الشاعر قد يلجأ إلى هذا المذهب إذا أعوزته الكلمة الصحيحة فيضع الكلمة التي تحضره ولا يعدم وجه شبه بين مدلول الكلمة الأولى ومدلول الكلمة الثانية فتصير الكلمة التي وضعها رمزا للتي لا يذكرها على سبيل وضع المشبه به مكان المشبه.
- ومنها أن هذا الوضع قد يكون لمرض في مزاج الشاعر يعرفه الأطباء- ففي الحالة الأولى قد يكون الشاعر مضطلعا بأساليب اللغة خبيرا بها ولكنه في أسلوبه يستوي والشاعر غير المطلع لتشابه طريقتهما والنقاد معذورا إذا سوى بينهما.
فالاستكثار من الصور الفنية في الجملة الواحدة باستعمال رموز الشبه يؤدي إلى غموض الصورة العامة كما يؤدي إلى قتل الصور الجزئية بعضها بعضا كما يقتل النبات النبات في المكان الواحد، وأسلوب الشاعر المطلع يختلط بأسلوب الشاعر غير المطلع كما فسرت وما تستدعيه هذه الطريقة يختلط بأسلوب الشاعر غير المطلع كما فسرت ذكاء ولا أفضل انتباها ولا أجل ثقافة. ألا ترى أن حل معميات الكلمات الأفقية والرأسية التي تنشر مسابقاتها في الجرائد والمجلات يستدعي أيضا ذكاء وانتباها وثقافة من القارئ؟ وهذه الطريقة الرمزية تؤدي إلى فتور العاطفة وقلة تأثر القارئ لشعور الشاعر.
إن إكثار الشاعر من قرض الشعر ليس بعيب حتى ولو أدى إلى أن يكون في شعره غير المختار، فإن إجادة الشاعر المكثر وإساءته قد تأتيان منه عفوا أثناء إكثاره وقد يفقد بعض إجادته إذا فقد بعض إكثاره فلا يكون الإكثار مستهجنا إلا إذا دفع الشاعر الصانع لعجلته إلى طريقة الرمزيين أي إلى استعمال كلمة مكان أخرى وعبارة مكان عبارة ثم الاحتجاج لهذا الاستعمال بإيجاد وجه شبه بين الكلمتين أو العبارتين التي حلت إحداهما محل الأخرى على سبيل حذف المشبه وإحلال المشبه به مكانه أو إحلال الرمز مكان الأمر المرموز له. فهذا المذهب إذا قل أتباعه كان حلية تقبل وتستملح إذا قرب وجه الشبه، أما إذا كثر استخدامه وبعد ما بين المشبه به والمشبه المحذوف وما بين الرمز والمرموز له أدى المآخذ التي شرحتها في شرح طريقة الرمزيين، ولا شك أن المكثر العجلان قد يتأثر هذه الطريقة إذا وضع كلمة مكان أخرى أو جملة مكان أخرى. ولكن هذا التأثر قد يكون مرجعه إلى اعتقاد الشاعر أن هذه الطريقة تزيد الأخيلة والصور الفنية في الجملة الواحدة ناسيا أن الصورة تمحو الصورة كما يقتل النبات النبات في المكان الواحد وناسيا أن هذا التكثر بالرموز لا يغنى عن سيل العاطفة المتدفق ولا عن المعنى الهام الأجل. على أن منزلة الشاعر لا تقدر بأن نضع حسانته في كفة ميزان وسيئاته في كفة أخرى ثم نسقط ببعض الحسنات حسنات لا يتغير عنصرها، فمنزلة الشاعر إذا هي منزلة أحسن شعره. هكذا يقيس الدهر أكثر الأمور فيشيد بالحسنات ويقبر السيئات إذا وجد للحسنات مذيعا.
وقد تنشأ السيئات إذا أكثر الشاعر من التجارب كما يصنع الكيميائي وحاول أن يمهد منهجا جديدا وكان جريئا ذاهبا مذهبا بعيدا في هذا الطريق غير المعبد فإن التجارب في الأمر الجديد غير المعروف قد يفشل بعضها كما يحدث في معمل الكيمياء ولكن الشاعر إذا أجاد بسبب جرأته وذهابه مذهبا جديدا كانت إجادته أعظم من إجادة الشاعر المحاكي الذي يتبع الطريق المعروف المملول. وليس من المحتوم أن يفشل الأول في كثير من محاولاته الأولى: ألا ترى أن الكيميائي قد يصيب في أول محاولة؟ وإنما يرجع ذلك إلى استعداد الشاعر وإطلاعه وذكائه وتأنيه حتى يأتيه الشعر بدل أن يسعى هو إلى الشعر، وإنما يسعى الشعر إلى الشاعر في حالات خاصة ليس له سلطان عليها، ولكنها إذا عرضت للشاعر قدحت خياله وذاكرته وحشدت له المعاني والأساليب من غير أن يسعى إليها فتعطيه موضوع قصيدته ومعانيها وصورها الفنية من غير أن يتكلف طريقة الرمزيين اللهم إلا إذا كان مريضا بذلك المرض الذي يغريه بوضع كلمة مكان أخرى وفي هذه الحالة يتبع الطريقة الرمزية حتى في حالات إيحاء العقل الباطني والاندفاع الشعري.
أما أن الشعر الرمزي يجد قراء وأنصارا على غموضه فلأسباب عديدة:
- أن بعض القراء يكتفي من الشعر بمدلولات بعض الكلمات وبنغمة الوزن: فبعضهم إذا قرأ قصيدة غير مفهومة لم يرعه أنه لا يفهمها ولم يقلل ذلك من لذته فإن لذته في مدلولات وصور بعض الكلمات مثل النجوم والحب والأزهار والحياة. فإذا قرأ كلمة الحياة تصور ما شاء من صور الحياة أو تأثر شعوره بها، وإذا قرأ كلمة الحب ذكر مواقفه وبؤسه ونعيمه، وإذا قرأ كلمة النجوم سامر النجوم وكان حاديا لها في السماوات فيحسن كأن النجوم تسير على توقيعه ويكاد يسمع لها غناء ونغما أثناء رقصها في دوراتها وإذا كلمة الأزهار ناجته بألوانها وشذاها وكأن الحياة لديه زهرة كبيرة كثيرة الألوان أو كأن القصيدة التي يقرؤها زهرة كبيرة من زهرات الحياة والحب ومن كان مثل هذا لا يهمه فهم القصيدة.
- إن بعض القراء لا يكتفي بمدلولات بعض الألفاظ في القصيدة بل يفهم القصيدة حقا وإن كان لا يفهمها أكثر الناس ولكنه يفهم فيها ما يشاء من المعاني لا ما يعنيه الشاعر ويحسب أن الشاعر يعني ما فهم منها أو لا يهمه ما يعني الشاعر.
- إن بعض القراء يفهم ما يستقيم فهمه من القصيدة ويحسن الظن بما لا يفهم وما يفهم منها يغريه بهذا الظن الحسن أو قد لا يغريه وإنما يحسن الظن بطبعه.
- إن بعض القراء كالعباد في معابد القدماء لا يحمدون من الشاعر إلا ما كان غير مفهوم من شعره كالعباد الذين كانوا لا يحمدون كهانة الكاهن إلا إذا كانت غير مفهومة، وهؤلاء القراء يحمدون زمن الشعر أن يكون سرا رهيبا مغلقا محجوبا عن النفوس كسر الحياة وكسر الموت ولا يلتذونه إلا إذا كان كذلك.
- إن بعض القراء له تلك الملكة وذلك الذكاء والانتباه وغيره من المواهب التي تجعله قادرا على فهم الرموز الشعرية الكثيرة المتداخلة وهؤلاء يلتذون الشعر كما يلتذ قراء المعميات الأفقية والرأسية البحث عن تلك الكلمات التي ذكرت رموزها كما يصنعون في ملء المربعات الخالية البيضاء في مسابقات المجلات. فيستجيد هؤلاء القراء مهارة الشاعر أو عجلته في وضع الكلمات مكان الكلمات كرموز لها على هذه الطريقة المقتضبة.
- إن بعض القراء لا يفهمون الشعر ولا يحاولون فهمه ولكنهم يخشون أن يتهموا بالبلادة وقلة الثقافة إذا قالوا أنهم لا يفهمون فيدعون فهم ما لا يفهمون.
- إن للتمجيد والاستحسان عدوى كعدوى البغض أو الود أو الحب أو الاستهجان أو القدح أو التثاؤب، فإذا تثاءب أحد الناس رأيت كثيرين يتئاءبون، وكذلك إذا سرت عدوى التمجيد والاستحسان رأيت كثيرين من القراء قد أصيبوا بعدوى الاستحسان وهم لا يفهمون ما يستحسنون
- إن بعض الناس يستحسن شعر الشاعر لأنه صديق يثق به في الحياة، وما دام الشاعر موضوع ثقته في معاملات الحياة فإن شعره موضع ثقته أيضا على جهل منه بالشعر. وهذا القياس خطأ منطقي ولكن النفوس مولعة أحيانا بالأخطاء المنطقية بل إن تلك الأخطاء المنطقية تكون في الحياة أحيانا كما تكون التوابل في الطعام صلاحا ولذة فلا يسيغ المرء الحياة إلا بها في تلك الأحايين.
- إن بعض القراء يزدري الشعر المفهوم إما لأنه يعد وضوحه اتهاما لعقله بالعجز عن فهم العويص الغامض وإما لأنه يضن على الشاعر بأن يحدد معنى شعره ويعد ذلك غرورا منه وكبرا. ومثل هذا القارئ يود أن يشارك الشاعر في تحديد معنى شعره فيعظم القارئ بذلك عند نفسه وهذا لا يستقيم إلا إذا كان الشعر غامضا، أو مثله كمثل الجليس الذي يقطع عليك حديثك كي يوضح لك معنى ما تقول. ولعل قارئ هذا المقال قد لقي من الجلساء من يجاهد ويجالد كي يفعل ذلك ويغضب إذا لم يهيئ له فرصة.
- إن بعض القراء قد يستولي عليه الملل إذا كان معنى ما يقرأ مفهوما فهو يباعد الملل عن نفسه بالتأمل في رموز الشعر غير المفهوم.
- إن بعض القراء يرى ضرورة له في الحياة أن يعبر عما تكنه نفسه من الأشجان والهواجس وما يرى من الآراء، فعنده شعور الفنانين وليس عنده قدرتهم على النظم أو النثر، فلا بد له من شاعر أو كاتب يفهم في شعره أو نثره تلك الآراء ويشعر فيه بتلك الأشجان ولا يستقيم له ذلك إلا إذا كان الشعر أو النثر غير مفهوم.
- إن القارئ قد يكون مصابا بالمرض نفسه الذي يجعل الشاعر أو الناثر يضع الكلمة مكان الأخرى فيستحسن المريض طريقة المريض.
- قد يكون غموض الشاعر من أجل خطأ منطقي أو انقطاع الصلة المنطقية الصحيحة اللازمة بين أجزاء شعره وهذا كثيرا ما يعرض أيضا للقراء فيفهمون منطق الشاعر على أنه صواب وهو خطأ لأنه يوافق طريقة منطقهم وتفكيرهم.
فالطريقة الرمزية من قديم الزمن يجلها كثير من القراء إذا سرت عدوى التمجيد وقد يقابلها بالعداء في أول الأمر. والشاعر قد يدرك هذه الأسباب وغيرها إما بالغريزة وإما بالتفكير المنظم فيرى في هذه الطريقة منافذ له إلى الجمهور واستحسان الناس وتمجيدهم فيتعمد تأثر هذه الطريقة. وقد يكون هو نفسه كالجمهور ممن تؤثر فيهم هذه العوامل أي قد يكون الشاعر ممن يكتفي بمعاني وصور بعض الألفاظ كالأزهار والنجوم والحب والحياة فلا يهم المعنى العام ويعد هذه الألفاظ ثروة شعرية كبيرة، أو قد يقف الشاعر أمام شعره كالعابد أمام كهانة الكهان، أو قد يكون الشاعر نفسه كالقارئ فيفهم في شعره ما ترتضيه هواجس نفسه لا ما تؤدبه الألفاظ، أو قد يكون الشاعر كبعض أولياء الله الصالحين الذين يقولون كلاما غير مفهوم فيفسره أشياعه كل تفسير يرون فيه سر الحياة وسر الموت ومفتاح مغاليق الكون. وقد يجمع الشاعر بين المكر واللذاجة في اتباع هذه الطريقة كما يجمع الفلاح بين المكر والسذاجة. أما أن الجمهور إذا سرت تحيه عدوى التمجيد يقدس الطريقة الرمزية فأمر يعرفه من درس تاريخ الأديان ورموزها من عهد قدماء المصريين والبابليين والآشوريين والإغريق واليونان والرومان وغيرهم من الأمم القديمة ولعل بعض المسيحيين في العصور المختلفة لم يتأثروا بتعاليم المسيح عليه السلام كما تأثروا برموز فصل من الإنجيل يدعى أبوكالبسApocalyse ولا تحسبن أن الطريقة الرمزية قاصرة على صغار الشعراء ف(جيته Goetae) كان مغرى في بعض مؤلفاته بالرموز، ومن أدباء العصور الحديثة أديب قد أكثر من الطريقة الرمزية حتى ليحار الإنسان فيه فلا يعرف أهو عبقري مفكر كبير أم مشعوذ أم هو الاثنان معا وأعي موريس ميترلنك.
على أنه لا يصح أن نجعل مرجع كل شعر لا يفهمه القارئ إلى الطريقة الرمزية فقد يكون العيب عيب القارئ وقد يكون عيب الناظم وقد يكون عيب كليهما وقد لا يكون هناك عيب في أحدهما.
فالشاعر المثقف والقارئ الذي لا يعرف من الثقافة غير القراءة كيف يلتقيان والشاعر والقارئ إذا اختلفا في مقدار الثقافة أو في نوعها كيف يتفاهمان كل التفاهم والشاعر المفكر الذي يبحث في خفايا النفس والقارئ الذي لا يفكر ولا يقدر أن يبحث في خفايا النفس كيف يتعارفان، أضف إلى ذلك أنه قلما تجد اثنين من الناس يتفقان في طريقة التفكير أو طريقة الشعور كل الاتفاق لاختلاف صفات نفسيهما الموروثة واختلاف اتجاه الذهن وقتا ما. ومن أجل هذه الأسباب اختلط الحابل بالنابل في عصر كثرت وتنوعت فيه الثقافة وصار الرمزيون يحيلون على الثقافة وأنواعها وطرق التفكير والشعور ومقدار العرفان إذا لم يفهم القارئ شعرهم وليس الأمر كما يزعمون في بعض شعرهم إذا صدق زعمهم في بعضه.
وقد يقتفي الشعراء الطريقة الرمزية على اختلاف ثقافتهم فبيننا أستاذ شاعر عبقري وناثر كبير يتعصب للقديم ويزدري الجديد وبعض مؤلفاته لم يؤلف مثلها عربي صميم لأن الصور الفنية والرموز الشعرية في بعضها تتقاتل تقاتلا عنيفا تقاتل النبات في المكان الواحد وهو مضطلع بالأساليب العربية الصحيحة وباللغة الفصيحة ولكن بعض مؤلفاته غير مفهوم بسبب كثرة التشبيهات والاستعارات والصور والرموز الشعرية التي يطمس بعضها بعضا في الجملة الواحدة، وبيننا شاعر آخر عبقري يتعصب للتجديد وهو مكثر يدل إكثاره في موضوعات مختلفة على اضطلاع باللغة ولكنه يكثر من الرموز الشعرية والصور الفنية أحيانا إكثارا قد يغطي على اضطلاعه ويجعل بعض قوله مبهما.
ولا شك أن طريقة الثقافة في الشعر قد تلتقي وطريقة الرمزيين أو تقترب منها وأن اختلفتا في الأصل وذلك لأن بعض الرمزيين مثقفون وإن اختلفت ثقافتهم في النوع والمقدار ولأن الشاعر المثقف لا بد أن يكون كثير الإشارات إلى ظواهر كونية وحيوية وإلى حقائق مادية وإلى حالات نفسية مختلفة، وهذه الإشارات قد تكون شبيهة بالرموز أو الطلاسم عند الجمهور إذا لم يمهد الشاعر لها ويوضحها ما استطاع ولا يصح أن ننصح بترك الثقافة وقصر الشعر على المعاني المعروفة والصور الفنية الموروثة والحالات النفسية الموصوفة المألوفة إلا إذا كان الشعر شعرا خاصا لطبقة غير مثقفة وإلا كان الشعر فقيرا معدوما ميتا لا روح فيه.
أما نصيحتنا فهي أن نصون الثقافة عن أساليب وطرق الرمزيين التي يستخدمها المثقفون وغير المثقفين منهم فلا نضع كلمة أو عبارة مكان أخرى كي تكون رمزا لها ولا أن ندمج الصور الفنية بعضها في بعض في جملة أو بيت واحد متكثرين بذلك من الأخيلة والاستعارات والتشبيهات ومتعجلين في إيجاد وجه شبه بين شيئين على طريقة الرمزيين وينبغي أن نذكر قول بندار الشاعر الإغريقي الذي سبق ذكره ومعناه أن الصور الجزئية إذا ازدحمت في جملة واحدة طمس بعضها بعضا كما يقتل النبات وغطت على العاطفة وعلى قدرة الشاعر اللغوية والفنية؛ وينبغي أن ننبذ الاستنتاج غير المنطقي وأن لا تكون الصلة المنطقية مقطوعة بين أجزاء الكلام وأن نذكر أن المعنى أوضح ما يكون في تلك الأساليب التي يتمصصها ويتذوقها القارئ كما يتمصص الشراب الحلو وقد يلحس شفته ولسانه بعد أن ينطق بها وهذه الأساليب لا تنقاد للشاعر إلا في حالة من حالتين:
الأولى: إذا تأنى الشاعر ورفض أن ينظم الشعر حتى يسعى إليه الشعر، وهذا يكون في حالات خاصة من حالات المزاج لا سلطان له عليها. وهذه الحالات تقدح خياله وذاكرته وتحشد له اطلاعه وتمده بموضوع شعره ومعانيه وعاطفته وقد يكون عقله قبلها غير متجه إلى هذا الموضوع وللعقل الباطني أثر في هذه الحالات، ولا يستقيم العقل الباطني من هذه الحالات إلا إذا كان صاحبه مثقفا خبيرا باللغة وأساليب الفن وبينه وبين العقل الظاهري صلة متينة وهذه طريقة من نالوا شيئا من العبقرية.
الثاني: إذا سعى الشاعر إلى الشعر عمدا بمذكرة وذاكرة قوية مقيدا كل الأساليب العذبة التي يمكنه أن يعبر بها عن معنى من معاني موضوعه مستجمعا تلك المعاني مستعينا بكتب اللغة والأدب والمعجم فيكون مثله مثل من يهيئ أدوات العمارة أمامه قبل أن يبني القصر الفخم، وهذه طريقة أساتذة الصنعة، وقد حدثني أديب توفي إلى رحمة الله أنه زار مرة شاعرا كبيرا توفي أيضا إلى رحمة الله ولم يكن الشاعر في غرفة مكتبه فوجد الزائر القواميس وكتب اللغة مفتوحة ووجد أوراقا قيد بها الشاعر قوافي تناسب معاني منثورة، فدهش الزائر، ثم دخل الشاعر ورأى دهشة زائره فضحك وقال: لا تظن أن هذه الأشياء تغني عن الملكة الشعرية وإنما هي أعوان لها وللذاكرة لإجادة الصنعة وإنما مثلك من رأى أتربة وأحجارا أو أدوات عمارة مبعثرة فساءها منظرها ولو عاد بعد قليل لرأي قصرا منيفا.
وقد يلجأ إلى كل أو إلى بعضه أساتذة الصنعة كما يلجأ إليه من وهب شيئا من العبقرية وكما يلجأ إليه أحيانا من جمع بين الاثنتين وقد يستغني عن ذلك العبقري بما يحشد له من اطلاعه في تلك الحالات النفسية الخاصة التي يتنبه فيها العقل الباطني والتي لا سلطان له عليها والتي تجمع له شتات ذهنه من غير عناء وسعى من قبله.
* المصدر :نظرية الشعر 4- مرحلة مجلة أبولو، القسم الثاني/ مقالات - شهادات/ تحرير وتقديم : محمد كامل الخطيب/ منشورات وزارة الثقافة - دمشق 1996 (عن) . . غير مذكور . .
يحكى أن دوناتلي الإيطالي صنع دمية فأجاد صنعها. فلما رآها أستاذه قال له مازحا: ما ينقصها غير أمر واحد. ثم كتمه عنه حتى مرض دوناتلي من الأسف عليه، والفكر فيه، وحتى أشرف على الهلاك. فدعا أستاذه وقال له: قد رأيت ما بي من الداء، وأني هامة اليوم أو غد. فأخبرني أي نقص رأيت في دميتي؟ قال: ما ينقصها غير الكلام فقام المريض محموما حتى أطل على دميته وقال: تكلمي، تكلمي، فما ينقصك غير الكلام. ثم وقع ميتا!.
وكل ذي فن في فنه مثل دوناتلي في طموحه إلى مرتبة الكمال وإنما يجيد حسب فضل الملكة المهذبة التي يسترشدها من نفسه، لا لأنه يقصد إلى ما أولع به الناس، مما يستفز إعجابهم فإن إعجاب الناس وإن كان حبيبا يتطلب بإرضاء ملكته المهذبة لا بإرضائهم، ويأمل أن يقنعهم ما أقنعه من نفسه.
وهذا سبيل أثره فيهم الذي يأمله في حياته أو بعد موته. وسواء أأكبر الناس شعره أم أصغروه، فإنه يعيش بحسرة على ما يعجز عنه، وبلهفة على ما لم يقل، وإن جل ما يقول.
ومن هنا ولج التحاسد إلى أفئدة الشعراء. فإن الشاعر يعالج حسرة على كل فوز لم يفزه، وطائر أمل لم يقنصه. فإن نفس الشاعر طماحة أبدا. وخليق بمن يعرف أن فوق كل إجادة أن لا يدع للحسد سبيلا إلى قلبه أن يعد كل قصيدة جليلة فوزا يزهي به عالم الحسن على عالم القبح، ونصرا أصابته الحياة على الموت، غير مفرق بين قائل وقائل في الإعجاب الذي لا يتقاضاه الشاعر بل يتقاضاه شعره.
ألا وان أجل شعر شكسبير هو ما كان يحلم به شكسبير، ويود لو قيده بقيود الكلام. وليس أجل شعره ما يعجب به الناس ويعجب منه، فإن كل حسن في الفنون عنوان لحسن، وكل فوز وعد بفوز. فإن الشاعر ليرى في نفسه القصائد التي يحلم بها كما يرى العاقر أبناءه الذين لم يلدهم. أو كما كان ميشيل أنجلو يرى الدمى التي لم ينحتها كأنها محبوسة في الصخر الأصم الذي لم يلمسه بعد. وقد ورد عن كثير من كبار ذوي الفنون ما يثبت هذا الظمأ الذي هو خير لشعر الشاعر شر لنفسه.
ولو كانت الحياة شجرة لكان الجمال زهرها والشعر طائرها. ولولا الشعر افتقد جمال الحياة وكل حي شاعر بمقدار ما يحس الجمال في الأشياء والأخلاق والأعمال التي ينشدها. والعالم عالمان: عالم الجمال وعالم القبح وكل منهما ممتزج بأخيه، منعدم فيه. والشاعر رسول الجمال يسعى في تحقيق عالمه. وإنما الخير ضرب من الجمال، والشر ضرب من القبح. والشاعر يعرف أن الشر محتوم، ولكنه يعرف أن من الحتم أيضا الطموح إلى ما وراء الشر المحتوم من الخير المحتوم. ومن أجل ذلك كان كل شاعر كماليا سواء أعرف أن لم يعرف. وهو إذا نبذ عقيدة اقتران الجمال والخير، إنما ينبذها شوقا إليها، كما يهجر المحب عشيقته من هجرها إياه. وإنما الحياة أو الحق كالميزان، لا يعتدل أعلاه إلا إذا استوى جانباه. ومن أجل ذلك صار الشاعر يعدل بطموحه وخياله وجمال شعره جانب الذين لا يعرفون فروض الشعر ومنزلته من الحياة، كما يعدل كل نقيض نقيضه. وهذا أساس الحياة. ألا ترى كيف عدل عيسى عليه السلام روح الأثرة في دولة الرومان؟ وكيف أن رفض شوبنهور للحياة يعدل تقديس نيتشه إياها، وتقديس كل ما تغري به؟ ومنزلة السعادة في الحياة كمنزلة الشعر من النثر والذين يسعون في نصرة الخير واستخلاص السعادة التي فيما دون المحال يأخذون نثر الحوادث فيجعلونه أوزانا وأنغاما. ومن أجل ذلك يتغنى الشاعر بالبطولة ورجالها الذين يشايعونه في مداواة قبح الحياة ولو لم يكن من المكافحة كي يستخلص من الحياة جمالها إلا التغني بما يلهي المكافحين، ويليح لهم بمثال الجمال المنشود أو تحذيرهم باليأس والسخر إذا استناموا إلى الأمل أو اتخذوا منه مرقدا لكفى.
ولا ريب أن شعر الشاعر ابن طبعه ومزاجه. وأن الشعر ضروب متغايرة. وذلك لا ينفي ما ذكرنا. هذا شكسبير ما ترك جانبا من جوانب النفس وهو من رحب النفس بحيث يسع الجرم والمجرم. ولكنك لا تجد فيه تزيينا للباطل إلا على لسان أهله وصفا لهم. كما أنك لا تجد فيه وعظ من لا يرى إلا جانبه من الحق. وإنما نريد بذكر ما ذكرنا، أن الرغبة في الشعر من أجل أنه شعر، لا من أجل مقصد خلقي حق إذا عنى الراغب أن الشاعر ينبغي أن لا يتجاوز أصول فنه التي يهيئ بها لذات الفنون، كي يبلغ من النفس مبلغه من التأثير فيها بتلك اللذات. وأما إذا قيل إن الشعر لهو ساعة فهذا قول من اللغو!.
المصدر : نظرية الشعر 3- مرحلة الإحياء والديوان، القسم الثاني/ مقدمات/ تحرير وتقديم : محمد كامل الخطيب/ منشورات وزارة الثقافة - دمشق 1997 (عن) الديوان السادس 1919