أحمد زكي أبو شادي

قبل تناولي القلم لأخط هذه السطور ساءلت نفسي: "هل من جدوى؟ ونظرت من شرفة حجرتي إلى الأمواج الضاحكة في هذا اليوم الجميل وسمعت عتابها الدائم وحديثها الملهم والناس عن نجواها وعن حديثها وعن إلهامها وبثها غافلون… فقلت في نفسي: " كلنا أبناء هذه "الطبيعة" الكريمة التي تحن بأبوتها وأمومتها المشتركة إلينا كما نحن غالبا إليها، وتحاول أن تتفاهم معنا فيصغي إليها بعضنا وينجح بعض النجاح أو كله في مواقف، بينما يبقى سرها بل وجهرها لغزا مكتوما عنا كما كان عن الأجيال السالفة وكما سيبقى لأجيال طويلة… فمن بر البنوة أن أحاول التخاطب معها والترجمة لبعض حديثها إقرارا بتقديري لها وعرفانا لجميلها عليَّ وإرشادا لأخوتي في الجنسية والإنسانية. أجل، هذا فرض على كل من يشعر بالقدرة على أدائه، ولكني لا أشعر بهذه القدرة وإنما أشعر بحنان لا يرد نحو هذه الطبيعة الجميلة الرائعة، وبحاجة إلى التعبير عن هذا الحنان، وعن أسبابه ومبعث إلهامه. وقد أخفق في محاولة التعبير، ولكن علي بأي حال واجب أدائه. وقبلا حاول بعض المجتهدين ترجمة "القرآن" الكريم حبا في نشر فضيلته وتعليمه السامية فأخفقوا إجمالا ومع ذلك أفادوا، فليكن لي في أمثلة شجاعتهم وجهدهم عزاء ومشجع..".
بمثل هذه الخواطر شجعت نفسي على تناول القلم الذي يجري مداده بهذه الكلمات … إني أوقن أن الكون في تحول مستمر، وأنّ الفكر الإنساني في تبدل وتطور، وأن ما نراه حسنا الآن قد لا يرضى عنه جيل مقبل كما أننا لم نرض عن كثير مما استحسنه أسلافنا، ولكن كل هذا لا يعني أن جهدنا عديم الجدوى، ولن يطالبنا العقل بأكثر من الوفاء لعصرنا الحاضر خاصة ولجوهر الفكر الإنساني عامة. فلأقل إذن كلمتي هذه تلبية لدعوة صديقي الناشر حتى أتحمل وحدي عيوب العجز الذي لم يتجرد عنه نظيمي.

ما هو الشعر؟
الشعر في رأيي هو تعبير الحنان بين الحواس والطبيعة. هو لغة الجاذبية وإن تنوع بيانها. هو أوجدي الأصل في المنشأ والغاية وصفا وغزلا ومداعبة ورثاء ووعظا وقصصا وتمثيلا وفلسفة وتصويرا، فإن مبعثه التفاعل بين الحواس ومؤثرات الطبيعة، وغايته العزاء والاحتماء بهذه الطبيعة، وأن تضمن أحيانا الغضب والسخط، وما هو إلا غضب الأطفال الصغار.
وقد يجوز أن نعرّفه ماديا بأنه الجرافيك لنبض الحياة وسكونها كنظير المسجّل لدقات القلب، أو كدليل البيانو الأوتوماتيكي تتحول سطوره المثقوبة إلى نغمات، وكذلك الشعر يتحول في النفس إلى صورة منشئة من عواطف وفلسفة.
الحياة بأسرها مجموعة تفاعيل كيماوية حيوية متشبّعة بالتموجات الكهربائية المنتظمة، والشعر منظوما كان أو منثورا يحوي جرثومة هذه الحياة لأن فيه ذخر الكثير من أسرارها، وأكثر طربنا للشعر المنظوم لأنه جامع بين فلسفة الحياة وطرف من تموجاتها بأوزانه، فنحن بالغريزة إليه كما نحن إلى الموسيقى الفنية، وكأن كليهما صورة من حياة تجذبنا برونقها وإلهامها، ونحن إلى غناء الطيور المغردة حنين الشعر إلى الشعر.

الغرض من الشعر وتدوينه:
الأصل في الشعر كما قدمت أن يكون تعبيرا غريزيا للتفاعل ما بين حواس الإنسان والطبيعة ولا يزال لهذا الشعر أمثلة جميلة تأتي عفوا في أحاديثنا وكتابتنا، وفي الشعر المرتجل الذي ينطق به اللسان على الفور أمام مشهد مؤثر أو بدافع وجداني قوي. ويسمى هذا الشعر خطأ بشعر الإلهام، وما هو إلا شعر الفطرة الصادقة، فما الإلهام سوى أثر الخبرة والعرفان والمواهب في الذهن، ولا شأن له بأعجوبة ملكية أو شيطانية، ولا بالوحي المزعوم.
ولما أخذ الإنسان بأسباب الحضارة أدرك تدريجيا قيمة الشعر كعامل من عوامل القوة لما تبينه من أثره الفعال في النفوس، فاستخدمه في مآرب شتى لخدمة الحياة اختلفت سموا وانحطاطا حسب الأجيال والأوساط والبيئات.
فأسمى ما بلغه الشعر أخيرا من غرض إنما هو درس الحياة وتحليلها وبحثها وإذاعة خيرها ومكافحة شرها، وهو غرض نبيل جامع وإن تكيف بصور شتى، فقد يظهر في لباس الإنسانية العامة، أو في لباس الجامعة القومية، أو الجامعة الدينية أو غير ذلك. ومن المعقول أن يجمع بين لباسين فأكثر، وأن يوفق ما بين تناقضها الموهوم، وأن يكون رسول السلام ونصير الإصلاح والنهوض. هذا هو الغرض الأسمى الذي بلغه الشعر عامة في جيلنا الحاضر في أرقى مواطنه، ولن تجده قرين اللهو المحض فإن وجدته فحاسب ظنك تر أنه مبجل الفن الذي تحسبه لهوا، أو معبر عن إحدى العواطف الإنسانية الدقيقة المحيرة أو فيلسوف باحث يتلمس الحكمة ويفتش عنها في جميع مخابئها.
ولقد أصبح الشعر يعد أهم أركان الأدب اللباب، ومنزلته من التبجيل مقترنة بغرضه الجليل، فمن الأمانة أن لا نغفل هذا التعريف حينما نبث روح الشعر في نفوس المتأدبين، حتى نحفظ للشعر مرتبته الممتازة، وحتى نوجهه دائما إلى أشرف الغايات.
وقد عني الإنسان بتدوين الشعر منذ استطاع التدوين وبحفظه وروايته قبل ذلك كما يحدثنا التاريخ، ولو تأملّنا لما أدهشتنا هذه العناية إذا سلمنا بأن الشعر مثل من الحياة وأنواع من مقاييسها فهو قطع جذابة من الإنسانية الفكرية تغار عليها وتود لها البقاء بحكم الغريزة المقرونة بحب البقاء. ولذلك أعتقد أنه ما من شعر يخلو من حسن، وإنّ جحود حسنات الشعر بحكم التحاسد والمناظرة عاطفة غير شريفة وغير طبيعية، وذلك إذا اعتبرنا أنّ من خير أحكام الطبيعة تشجيع الصالح ونصرته والاعتراف برتبته.

صفات الشاعر:
غير مستكثر في نظري إذا عد كل شاعر (بالمعنى الأكمل) رسولا في قومه.

فالشاعر بفطرته - ولا مجال لفخر بما هو من صنع الطبيعة - يجب أن يكون حساسا، سريع التلبية، يقدر مسئوليته العامة ويقوم بأعبائها. وبدهي أن الطبع كثيرا ما يأتي من التطبع كما يأتي عادة من الفطرة.
فخليق بالشاعر أن يكون أول ناقد لنفسه وأن يزن بنفسه حسناته وعيوبه، وأن يكون المهذب الأول لمواهبه ووجدانه، ثم يقوم بأداء رسالته.

وفي الحياة من شتى المقاصد المجدية ومن الأساليب للدعوة والأداء ما يسع جهود الكثيرين، وإنه لفقير ومسكين ذلك المجتمع الذي يغنى بشعراء معدودين وتكسد فيه سوق الأدب عامة!!

معقول أن ينشد الشاعر العامل البصير بمسؤولياته منزلة الشهرة حتى يصغي الجمهور إليه، فلا تذهب صيحته وجهده سدى ولكنه غير مشرف وغير معقول أن يتصدى لغيره ويحرمه من نظيره هذه الشهرة، وليس من الأمانة في شيء أن يستغل هذه الشهرة - متى بلغها - في سبيل مجده الشخصي الزائل، بدل المجد الفني الخالد، كأنما يتوهم أن الموت سيخطئه، أو أنه أسمى من ترجمان إذا ضاعت أمانته وزالت الثقة به تزعزعت منزلته ثم تهدمت.. فتتبع ذلك - للأسف الوافر - الإساءة للأدب نفسه، بإصغار الناس لمن كانوا يتصدرون مجالسه من طلاب المجد الشخصي.

بيان الشاعر:
غير مستكثر في نظري إذا عد كل شاعر (بالمعنى الأكمل) رسولا في قومه.
فالشاعر بفطرته - ولا مجال لفخر بما هو من صنع الطبيعة - يجب أن يكون حساسا، سريع التلبية، يقدر مسئوليته العامة ويقوم بأعبائها. وبدهي أن الطبع كثيرا ما يأتي من التطبع كما يأتي عادة من الفطرة.
فخليق بالشاعر أن يكون أول ناقد لنفسه وأن يزن بنفسه حسناته وعيوبه، وأن يكون المهذب الأول لمواهبه ووجدانه، ثم يقوم بأداء رسالته.
وفي الحياة من شتى المقاصد المجدية ومن الأساليب للدعوة والأداء ما يسع جهود الكثيرين، وإنه لفقير ومسكين ذلك المجتمع الذي يغنى بشعراء معدودين وتكسد فيه سوق الأدب عامة!!

معقول أن ينشد الشاعر العامل البصير بمسؤولياته منزلة الشهرة حتى يصغي الجمهور إليه، فلا تذهب صيحته وجهده سدى ولكنه غير مشرف وغير معقول أن يتصدى لغيره ويحرمه من نظيره هذه الشهرة، وليس من الأمانة في شيء أن يستغل هذه الشهرة - متى بلغها - في سبيل مجده الشخصي الزائل، بدل المجد الفني الخالد، كأنما يتوهم أن الموت سيخطئه، أو أنه أسمى من ترجمان إذا ضاعت أمانته وزالت الثقة به تزعزعت منزلته ثم تهدمت.. فتتبع ذلك - للأسف الوافر - الإساءة للأدب نفسه، بإصغار الناس لمن كانوا يتصدرون مجالسه من طلاب المجد الشخصي.

بيان الشاعر: إذا كان الشاعر رسول قومه حقا فيجب عليه حتما أن يكون بيانه من بيانهم، ومهما تأنق في تعبيره فيجب أن لا يرتفع صوته فوق مستوى آذانهم ومداركهم، وإلا كان غريبا عنهم، ولم يرض عنه لا خاصتهم ولا عامتهم، فتضيع مكانته ويخسر الأدب والمجتمع بخسارته. على أن هذا لا يعني تحبيذ العامية وإن كانت لها حسنات كثيرة لا تنكر- وإنما يعني اجتناب التقعر وغريب التعابير التي لا توافق ثقافتنا العصرية، ولا تناسب أمزجتنا المصرية واستعمال الفصحى السلسة وتطعيمها بالمختار المصقول من مفرداتنا وتعابيرنا القومية.

ولست أشك في أنه كلما نشر العلم كانت العربية السليمة أقرب إلى متناول الجمهور، فنحافظ بذلك على ذخيرتنا الأدبية العظيمة العربية الأصل.

(……………)

والعادة أن يكون بيان الشاعر صورة لمزاجه وفكره، وأن يكون أكثر الأدباء رغبة في الحرية، فمن الحكمة إطلاق العنان له في حدود واسعة ولو خالف السماع والقياس أحيانا، فإنّ الشاعر الأمين الكبير النفس لن يسيء استعمال هذه الحرية في مرماه، وكثيرا ما يكافئ ناصريه بكنز ثمين من تعبيره وتفكيره وخياله أكبر من أن يعد جزاء وفاقا، ومن لا يعرف من الأدباء حسن التصرف فإنما يجني على أدبه الخاص قبل أن يجني على الأدب العام.

وقد يلام الشاعر المبدع على خياله الشرود، وما الخيال إلا دليل من أدلة التهافت من النفس الشاعرة على الطبيعة الموجدة، فلا تزال تتلمس الصلة بها في كل شيء، وتحاول التقريب بين عواملها ونتائجها المتباينة في ظواهرها. بل قد يعد الخيال رابطة الوحدة بين عواطف الشاعر والطبيعة، ولذلك يصح أن يعرف الخيال بأنه من روح الشعر.

بهذا اليقين والشعور جرى قلمي أو تحرك لساني أو غمغمت نفسي ثم باحت بما في هذا الديوان من منظوم السطور، وما هي بالأولى من بنات وجداني الذي عرف النظم منذ الطفولة، ولا هي بالبالغة بعض ما أصبو إليه من خدمة فنية، ولكني أرجو كذلك أن أكون موفقا لإتباعها بغيرها وأصلح منها، فلا تكون الأخيرة في بابها.

وقبل أن أختم هذه الكلمة الوجيزة أود أن أصرح في غير تحفظ أن الزمن الذي كان يفصل فيه ما بين العلم والحكمة والأدب قد مضى وانقضى، وأصبح الشعر في أجل مظاهره الديوان الرحيب الجامع لها، والعتيدة التي تتوحد فيها.

هذا هو مذهبي الذي أأتم به، وفي سبيله أحاول- بين شواغلي الكثيرة- أن أخطو إلى الأمام خطوات الإيمان.

بور سعيد في 14 يوليو سنة 1926

* المصدر :الديوان النثري لديوان الشعر العربي الحديث (مقدمات، مقالات، بيانات) - جمع وتقديم : د. منيف موسى/ منشورات المكتبة العصرية - صيدا - بيروت - ط أ 1981 (عن) ديوان (الشفق الباكي) 1926 - 1927 .