ليس ما أكتبه الآن مقدمة، إنما هي خواطر تتجاوب في نفسي، وأنا مقدم على وضع هذه القصائد، التي يحويها هذا الديوان، بين أيدي القراء. والقراء يختلفون في أذواقهم الفنية،وفي نظراتهم إلى الشعر وإحساسهم به؛ اختلاف شاعر عن شاعر، وأديب عن أديب، أو أكثر من هذا. ولهذا كان إلزاما على أن أسجل بعضا من هذه الخواطر، علها تعين على فهم هذه القصائد والانفعال فيها من صور وأحاسيس.
وأول ما يلتقي به قارئ هذا الديوان، نوع من الموسيقى، لا عهد به لأغلب قراء الشعر في العراق. لقد ثار أكثر من شاعر في كل بلد عربي، على تلك الموسيقى الرتيبة، التي تأثر الشعر العربي بها، وتناولت الثورة، في أول عهدها، وحدة القافية، ثم تعدتها إلى الأوزان فهجر كثير من الشعراء المجددين البحور الطويلة، واستعاضوا عنها بالبحور القصيرة، إلا في القصائد التي تستلزم الفخامة. وقامت دعوة إلى "الشعر المهموس" كان أول من قادها الأستاذ الكبير محمد مندور. وهناك فريق آخر من الشعراء، ثار على وحدة الوزن، منهم الشاعر الكبير المرحوم؛ إلياس أبو شبكة في "غلواء" و "إلى الأبد" وبعض القصائد من "أفاعي الفردوس" والأستاذ خليل شيبوب في قصيدته (القصر القديم والحديقة المهجورة)؛ وشعراء آخرون.ولكن الانتقال من وزن إلى وزن سواه، كثيرا ما يسبب "نشازا" في الموسيقى لا تقبله الأذن الحساسة. وللأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرتي، بحث ممتع عن الموسيقى في الشعر الحديث، في كتابة القيم "الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث" نود للقارئ أن يرجع إليه.
وقد لاحظت من مطالعاتي في الشعر الإنكليزي، أن هناك "الضربة" وهي تقابل "التفعيلة" عندنا، "مع مراعاة في خصائص الشعرين من اختلاف" و "السطر" أو "البيت" الذي يتألف من ضربات مماثلة في النوع للضربات الأخرى في بقية الأبيات، ولكنها تختلف عنها في العدد "في بعض القصائد" وقد رأيت أن من الإمكان أن نحافظ على انسجام الموسيقى في القصيدة، رغم اختلاف موسيقى الأبيات، وذلك باستعمال "الأبحر" ذات التفاعيل الكاملة، على أن يختلف عدد التفاعيل من بيت إلى آخر. وأول تجربة لي من هذا القبيل، كانت في قصيدة "هل كان حبا" من ديواني الأول "أزهار ذابلة" وقد صادف هذا النوع من الموسيقى قبولا عند كثير من شعرائنا الشباب، أذكر منهم الشاعرة المبدعة الآنسة "نازك الملائكة".
وهناك شيء من الغموض في بعض القصائد؛ ولكنني لست شاعرا رمزيا وقد كنت مدفوعا إلى أن أغشي بعض قصائدي بضباب خفيف، وذلك لأنني كنت متكتما، لا أريد أن يعرف الناس كل شيء عن حبي الذي كانت كل قصائد هذا الديوان صدى له؛ فقد كانت "موحية" هذا الديوان، تغضب أشد الغضب، إذا أنا ذكرت شيئا عن قبلاتنا ومواعيدنا، وكثيرا ما مزقت بعض القصائد التي كانت تشير إلى شيء تأبى هي أن يعرفه الناس. وقصيدة "أساطير" في هذا الحب، ولكنها توشحت ببعض الغموض الذي تزيله المقدمة النثرية لهذه القصيدة، وكذلك الحال في قصيدة "اللقاء الأخير" ولولا بأنها خانت هذا الذي كانت تسميه "النبي الوديع" لظلت هاتان القصيدتان غامضتين، دون مقدمة يفهم منها القارئ ما أقصده.
***
وهناك ظاهرة أخرى في هذه القصائد، هي تنادي المعاني وتداعيها، ومزج الوعي باللاوعي، وتلوين الأمل بالذكرى، وهذا يظهر في القصائد: (في القرية الظلماء)، (في السوق القديم) و (نهاية)، (لقاء ولقاء)، و (اتبعيني) وغيرها.
ولا بد من أن ألقي ضوءا على موقفي من المرأة وإحساسي تجاهها، ليتم الفهم على وجهه الأكمل:
فقدت أمي وما زلت طفلا صغيرا، فنشأت محروما من عطف المرأة وحنانها. وكانت حياتي، وما تزال كلها، بحثا عمن تسد هذا الفراغ، وكان عمري انتظارا للمرأة المنشودة، وكان حلمي في الحياة أن يكون لي بيت أجد فيه الراحة والطمأنينة. وكنت أشعر أنني لن أعيش طويلا؛ لهذا وجب على القارئ أن يربط بين (رئة تتمزق) وكثير من قصائد الديوان.
وهناك ظاهرة لعلها أهم الظواهر في هذا الديوان، تلك هي أن البيت ليس وحدة للقصيدة. فالمعنى يتسلسل من بين بيت إلى آخر، سالكا عددا من الأبيات. لهذا وجبت مراعاة "علامات الترقيم" وإلا تعذر فهم القصائد، ومن بعد تذوقها.
وقبل أن أختم هذه المقدمة، لا بد من التعرض لمشكلة كثيرا ما ثار حولها الجدل، تلك هي رسالة الفنان في المجتمع. أنا من المؤمنين بأن على الفنان دينا يجب أن يؤديه لهذا المجتمع البائس الذي يعيش فيه.
ولكنني لا ارتضي أن نجعل الفنان وبخاصة الشاعر- عبدا لهذه النظرية، والشاعر إذا كان صادقا في التعبير عن الحياة في كل نواحيها، فلا بد من أن يعبر عن آلام المجتمع وآماله دون أن يدفعه أحد إلى هذا.
كما أنه من الناحية الأخرى يعبر عن آلامه هو، وأحاسيسه الخاصة التي هي في أعمق أغوارها، أحاسيس الأكثرية من أفراد هذا المجتمع. وبالإضافة إلى ديوانين من الغزل أصدرتهما "أزهار ذابلة" وهذا الديوان؛ لا تزال لدي مجموعة ضخمة من الشعر الاجتماعي والإنساني ستطبع في المستقبل القريب.
وبعد فهذا قليل من كثير، مما أردت أن أقوله، وأرجو أن تسمح الظروف فأقول في فرصة أخرى، ما فاتني قوله لآن.
* المصدر: نظرية الشعر/ 5- مرحلة مجلة شعر - القسم الثاني: مقالات/شهادات/ مقدمات - تحرير وتقديم : محمد كامل الخطيب. منشورات وزارة الثقافة - دمشق،1996 (عن) مقدمة ديوان (أساطير) : منشورات دار البيان - مطبعة الغري الحديثة في النجف - سنة 1950.
***
دعا "خميس مجلة شعر" الشاعر بدر شاكر السياب من بغداد لإحياء أمسية شعرية في بيروت، فلبى الدعوة. وقد عملت زيارته التي استغرقت عشرة أيام على إذكاء النشاط الشعري في لبنان وإثارة بعض القضايا الشعرية وتعميقها. وكان الترحيب بالشاعر السياب بالغا. فقد اجتمع إلى عديد من الأدباء والشعراء اللبنانيين، وأذيعت له مقابلة مع الآنسة فايزة طه على محطة الإذاعة اللبنانية، ونشرت له كل من جريدتي "النهار" و "الجريدة" حديثا وافيا عن حاضر الشعر ومستقبله في العراق وسائر العالم العربي. ثم جاءت الأمسية الشعرية التي دعا إليها "خميس مجلة شعر" في المنتدى الكبير بجامعة بيروت الأميركية خاتمة توجت هذه الزيارة التي تأمل مجلة شعر وندوتها الأسبوعية أن تتكرر مثيلاتها، فتعمل بذلك على تأدية ناحية من رسالتها في تعريف شعراء العالم العربي، بعضهم إلى بعض، وشد أواصر الألفة بينهم من أجل تحقيق نهضة الشعر العربية نحو مستقبل لائق.
في الأمسية التي أحياها بدر شاكر السياب في بيروت، قدم للمختارات الشعرية التي ألقاها بهذه الكلمة:
"لو أردت أن أتمثل الشاعر الحديث، لما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا، وقد افترست عينيه رؤياه، وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل.
"والحق أن أغلب الشعراء العظام كانوا طوال القرون، أنماطا من القديس يوحنا. من دانتي، إلى شكسبير، إلى غوته، إلى ت.س.إيليوت وايديث ستويل.
"وإذا تذكرنا أن الدين والشعر نشأا توأمين، وأن الدين كان، وما يزال، وسيلة يستعين بها الإنسان لتفسير ظواهر الطبيعة وقواها الغامضة ولاسترضاء هذه القوى المجهولة من جهة، ثم لتنظيم العلاقات بين البشر من جهة أخرى، أدركنا أن تفسير الحياة وتنظيمها، أو تحسينها بالأحرى، ظلا، طوال أجيال عديدة، من أهم أغراض الشعر وأهدافه.
"وكما تلاشت الحدود بين الغاية والوسيلة في الدين، تلاشت هذه الحدود في الشعر أيضا. فنحن نؤمن ونتدين لا سعيا وراء فائدة دنيوية، ونحن نقرأ الشعر لا بحثا عن متعة مادية. ولكننا نعلم أن الدين غاية نبيلة وكذلك الشعر.
"وقد حاول الشاعر، المرة تلو المرة، أن يتملص من الواجب الضخم الملقى على كتفيه: تفسير العالم وتغييره. ولكنها محاولات لم يكتب لها ولن يكتب لها أن تنجح أو أن تستمر. فتهاوت مدارس وحركات شعرية بكاملها، غير مخلفة سوى شاعر هنا وشاعر هناك، لعل لهما من القيمة التاريخية أكثر مما لهما من القيمة الفنية.
"من رأي الشاعر الناقد الإنكليزي الكبير ت. إس. إيليوت أن الشاعر العظيم يزعج قارئه، أكثر مما يبهجه. إن قراءة قصيدة عظيمة نوع من أنواع المخاض، من أنواع الميلاد. ولن نولد إلا من خلال الألم. أنه ميلاد الروح.
"إننا نعيش في عالم قائم، كأنه الكابوس المرعب. وإذا كان الشعر انعكاسا من الحياة، فلا بد له من أن يكون قائما مرعبا. لأنه يكشف للروح أذرع الأخطبوط الهائل، من الخطايا السبع، الذي يطبق عليها ويوشك أن يخنقها. ولكن ما دامت الحياة مستمرة، فإن الأمل في الخلاص، باق مع الحياة. إنه الأمل في أن تستيقظ الروح. وهذا ما يحاوله الشعر الحديث.
"وهناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث: هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة، إلى الرموز. ولم تكن الحاجة إلى الرمز، إلى الأسطورة أمس مما هي اليوم. فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح. وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها، أن يحولها إلى جزء من نفسه، تتحطم واحدا فواحدا، أو تنسحب إلى هامش الحياة. إذن فالتعبير المباشر، عن اللاشعر، لن يكون شعرا فماذا يفعل الشاعر إذن. عاد إلى الأساطير، إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءا من هذا العالم: عاد إليها ليستعملها رموزا، وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد. كما أنه راح، من جهة أخرى، يخلق له أساطير جديدة، وإن كانت محاولاته في خلق هذا النوع من الأساطير قليلة حتى الآن.
"غير أن هناك فئة من النقاد والشعراء، ما تزال ترى أن في الإمكان التعبير عن هذا العصر، تعبيرا مباشرا. وهناك الكثير من القصائد التي عبرت عنه بصورة مباشرة، دون أن تفقد ماهيتها كشعر.
"وقد تأثر الشاعر العربي الحديث بكل هذه التيارات، لأنه فتح نوافذ بيته جميعا، لكل الرياح. وفي الوقت الذي فقد فيه التافهون من الشعراء شخصياتهم، وأصبحوا مجرد مقلدين لهذا الاتجاه أو ذاك، نجد نخبة طيبة من الشعراء المحدثين، تدرك أن الاقتباس غير التقليد، وأن العالم كله، لا قيمة له، إذا ربحناه، وخسرنا نفوسنا.
"وعلى كل حال، فما زلنا في بداية الطريق، ما زلنا نحاول ونجرب، وقد ننجح في هذه المحاولة وقد لا ننجح. ولكننا واثقون من شيء واحد: أننا سنمهد الطريق لجيل جديد من الشعراء، سيجعل الشعر العربي، مقروءا في العالم كله".
المصدر : نظرية الشعر 5- مرحلة مجلة شعر، القسم الأول/ المقالات/ تحرير وتقديم : محمد كامل الخطيب/ منشورات وزارة الثقافة - دمشق 1996 (عن) مجلة شعر س1 - ع3 - 1957.