عبدالواحد العلمي
(بلجيكا)

كينث وايثمفهوم جميل و جذاب حقا ذلك الذي يؤسس له الشاعر الفرنسي الاسكتلندي كينث وايث منذ عشرين سنة. "الجيو-شاعرية" مفهوم يروم وصف ذلك النزوع الذي يقبع في أساس كل الثقافات.فبالنسبة لوايت هناك شعرية متأصلة في الثقافات القديمة أما في ثقافتنا المعاصرة فالشعرية أصبحت فرعا من فروع المعرفة متواريا في الجامعات و لا يهم في أحسن الأحوال إلا المهتمين باللغة أو العروض.يقول وايث " إنني على اعتقاد أن كل ثقافة عميقة دائمة لا بد أن تسكن قلبها شاعرية ، فللإغريق هومير و للصين كتاب الشعر الذي يأتي ب"رياح الأقاليم /الأراضي الأخرى" و للقبيلة البدائية غناء الشامان و هكذا دواليك".

ولد كينث وايت في مدينة كلاسكو في اسكتلندا.درس الأدب الفرنسي و الأدب الألماني و اللاتينية و الفلسفة في ثلاث جامعات أوربية وهي كلاسكو وميونيخ و باريس. يتميز بثقافة موسوعية متينة إضافة إلى رصيد من اللغات و الرحلات حول العالم.قام بتدريس الأدب الفرنسي في الجامعات البريطانية و الأدب الإنجليزي في الجامعات الفرنسية و يشغل منذ 1983 كرسي الأستاذية ل "شعرية القرن العشرين" في جامعة السوربون و هو الذي قام بوضع هذه المادة الفريدة من نوعها في الجامعات الغربية و التي اعتبر تدريسها امتدادا شفهيا لنشاطه كشاعر و ككاتب.كتب وايت ما يزيد عن خمس و عشرين مؤلفا معظمها باللغة الإنجليزية و بعضها الآخر بالفرنسية.يعرف وايث نفسه قائلا " إنني اسكتلندي غريب الأطوار، أوربي تائه، غربي يبحث عن الشرق، جائل بعقله يحاول أن يسكن الأرض مليا".

ينتقد وايت بشدة معظم ما يسمى شعرا في أيامنا هذه " إنه ليس معبرا و ليس ذا حمولة" و فوق هذا و ذاك "ليس من شأنه أن يفضي بنا إلى العالم"و الإفضاء إلى العالم أحد رهانات الجيوشاعرية، فإذا كانت الشاعرية في القديم ارتبطت ب"الآلهة"و بالأساطير و بالسماء و بالنار يرى وايت أنه من اللازم أن ترتبط في عصرنا بالأرض نفسها و بمفهوم العالم، فالعالم يولد انطلاقا من احتكاك العقل البشري بالأرض فقد نصل إلى "عالم" حقيقي بمعنى الكلمة إذا كانت طبيعة هذه العلاقة حذقة و حسية و ذكية و قد نحصل على العكس أي على تراكم من النفايات إذا كانت علاقتنا بالأرض فظة تفتقر إلى الحس و الذكاء و هذا ما يحصل الآن."

إن الجيوشاعرية مسار عقلي و شعري في الآن نفسه، إنها تحاول كما يقول وايت في البيان الذي صدر به تأسيس "المعهد الدولي للجيوشاعرية" أن توفر ملتقى بين الشعر و الفكر و العلم أي بين مختلف المجالات لكن بشرط أن تكون مستعدة للخروج من قوقعتها التخصصية الضيقة و تنخرط في فضاء أرحب ألا و هو فضاء الكونية و الشعرية الكونية طارحة السؤال الأساسي : ماذا بشان الحياة على الأرض و الحياة في العالم أجمع؟ و بذلك "ستنسج شبكة من الطاقات و الرغبات و الكفاءات و الذكاء"

مبكرا نعت بعض النقاد أعمال وايث بالخارجة عن المألوف و المخالفة لل"المتوافق عليه" أما هو فقليل الاهتمام بمؤسسة النقد التي لا تعمل إلا على مأسسة الكتابة المبتعدة عن العالم.يمارس وايت ثلاث أنواع من الكتابة: فهناك النثر السردي الذي يسميه السفر/الرؤيا و هو سرد لتجربة و ليس خيالا ، و هناك الشعر ثم الكتابات النقدية.فالشعر هو رأس الرمح الذي يذهب مباشرة الى الهدف لكن قبل ذلك و لأجل اكتساب طاقة و مادة كافيين يجب استكشاف طرقات العالم و الفكر معا من هنا تأتي ضرورة السفر و الرحلة (الحقيقية و ليس الخيالية).يصرح وايت في البيان المذكور أعلاه "إن الذي يطبع نهايات هذا القرن العشرين بغض النظر عن كل الثرثرة و كل الخطابات الثانوية هو عودة ما هو جوهري و أصلي أني الشعرية.إن كل إبداعات الروح جوهرية. و علينا الآن معرفة أين توجد الشعرية الأكثر ضرورة و الأكثر خصوبة ثم علينا أن نروم تطبيقها" و واضح أن مفهوم الشعرية هنا أوسع بكثير مما اصطلح عليه إن الشعرية هنا رؤية و موقف من الوجود و ليس مجرد "قول" متميز.

أسس وايت لحد الآن مراكز عديدة لما يسميه بالجيوشاعرية، فهناك مراكز في فرنسا و بلجيكا و كندا و اليابان ويوغوسلافيا..و الجيوشاعرية فكر و شعر و ترحال بمعناه الفيزيقي و الفكري في نفس الآن.و الترحال الجغرافي ضروري" للبحث في الشرق و الغرب على السواء عن فجر جديد ، عن إشراق، عن ضوء و عن فضاء مضاء" و "للدخول في علاقة مع الجغرافيا و تحسس العالم من حولنا ".

و يرتبط بمفهوم الجيوشاعرية مفهوم لآخر لا يقل جاذبية هو مفهوم" الجولان الفكري "يقول وايت في هذا الصدد: "كل الثقافات متحيزة لعنصر أو عنصرين من ممكنات الإنسانية..و لكي نصل إلى مفهوم "أكمل" للثقافة من الأفضل لنا أن "نجول" و نرتحل بين ثقافة و أخرى عبر العالم".

لقد كان لهذا "الجولان الفكري" الذي مارسه كينث وايث طيلة حياته الفضل في ظهور نوع من الكتابات يسميها وايت ب "كتاب الطريق"(واي-بوك بالإنجليزية) مثل كتبه"مشاهد من عالم عائم" و "وجه الريح الشرقية" و "التم المتوحش" و غيرها.يشدد وايت على أن هذا النوع من الكتابة لا يدخل في فن الرحلة التقليدي لكن الأمر يتعلق بكتابة تحاول ما أمكن الإصغاء إلى المكان و ما يختزنه من معنى و حكمة إنسانية، إنه سفر نحو الداخل الذاتي الباحث عن الآخر في العالم-ها هناك ، و بحث عن أرخبيل من الفكر يتجاوز المقابلة بين الشرق و الغرب .
إن هذا النوع من الفكر الشعري أو الشعر المفكر الذي يقترحه كينث وايت صوت أدبي نشاز و سط أدغال ما يمكن أن نسميه بأدب السوق الحرة الذي أصبحت فيه الكتابة تتبرأ من وظيفتها نحو الحياة و العالم و هاجسها الأول هو إرضاء مقاييس "آلهة النشر" و الإعلام .إن فكر وايت يعيدا لاعتبار للشعر و للشعرية كطريقة تفكير و إصغاء للحياة و ذلك كاف ليجعله جذابا و جميلا.

*عربيا هناك حوار شيق أجراه الدكتور خالد حاجي مع الشاعر في مجلة المنعطف 11/1995 استفدنا منه في بعض اقتباساتنا إضافة إلى كتب وايث و بعض الحوارات معه في مجلات فرنسية خاصة.