غسان جواد
(لبنان)

غسان جوادتصلني اسبوعياً إصدارات جديدة من الشعر والأدب والرواية. بحكم عملي تحرص معظم دور النشر على ايصال ما لديها من جديد، وذلك كجزء من عملية التسويق للاصدار الجديد، وفي حين اقوم بالواجب تجاه كتّاب وشعراء وناشرين معظمهم من الاصدقاء، أملأ مكتبتي بالكتب مبتسماً فرحاً لممارسة هوايتي الجميلة. هوايتي ليست المطالعة، على ما يسارع الفنانون الى القول، طبيعي، أن يقرأ من يعمل في الصحافة. هوايتي تجميع الكتب والنظر الى المكتبة، كيف اصبحت. وكيف أمست، واضحت وباتت... الخ.

في الفترة الاخيرة، قبل اسبوعين تقريباً، انتقلتُ الى بيت جديد. في الحقيقة لستم في حاجة الى من يخبركم عن صعوبة الانتقال من مكان الى آخر. المسألة صعبة ومعقدة. نحن لا نتحدث عن شخص يحمل كيساً وينتقل به من مكان الى مكان، او من بيت الى بيت. نتحدث عن عائلة تنتقل بالأب والأم والاولاد والخادمة، من بيت "عتيق" الى بيت جديد. هذا كله ليس مهماً على ما اعتقد. الاثاث هو المشكلة. الصعوبة تكمن هنا. عليك أن تحمل معك بيتاً كاملاً وتلقيه في بيت آخر. البراد، انتبهوا الى البراد يا شباب. الغسالة، إرفعوها عن الارض، إنها جديدة ومكلفة. تقول للعمال الذين احضرتهم ليساعدوك. الغاز، التلفزيون، الصالون، غرف النوم، العاب الاولاد. نسوا دراجة إيفا، تقول زوجتي غاضبةً، محرضةً إياي ان اعود واستردّها قبل أن يأخذها ناطور البناية ويعطيها الى حفيدته ابنة ناطور البناية المقابلة.

أتعامل مع الموضوع كمن لم يسمع. انصرف الى ترتيب الكتب وفرزها. السياسة مع السياسة. الادب مع الادب، الشعر الى جانب الرواية. وكتب العلوم الاجتماعية والنفسية والتاريخ، اضعها بحسب حجمها وطولها وعرضها. احياناً يتملكني الاحراج، وأقف حائراً في موضعة الكتاب مع أخيه الكتاب الآخر. لن ادخل الا في الاسماء. لكن اقع في اشكالية رصف الكتب بعضها الى جانب بعض بشكل منطقي خالٍ من التعسف. لن ادخل في الاسماء العربية واللبنانية حتى اتجنب المشكلات. لكني أصاب بالارباك حين أجدني مضطراً لأضع كتاباً لفلان من الاصدقاء الى جانب "الالياذة" لهوميروس، او "دون كيشوت" لثرفانتس. أنظر الى الاسماء فأخجل ان أضع كافكا مثلاً الى جانب أحدهم ممن يتعاملون مع أنفسهم على انهم افضل منه وأعمق وأكثر موهبة. وهذا حقهم.

اخبرتني صديقة أنها تقع في الاشكالية نفسها. أفرحني كوني لست الوحيد في نادي المربكين من اعادة رصف كتبهم وترتيبها. ربما هي عقدة الاجنبي، وهذا ممكن. أو عقدة الآخر وهذا منطقي. أو ربما ترجمة عملية لمقولة شعبية رائجة "الفرنجي برنجي". أي أن كل ما هو غربي، أوروبي واميركي وروسي ونمسوي وأوجي... الخ أفضل مما هو عربي. وهي معادلة خاطئة في ظني لكني لا استطيع الخروج منها في الشكل على الاقل.
الصديقة نفسها قالت لي لو ان لوح الشوكولا الاجنبي الذي تحبّه وتأكله يومياً، لو ان اسمه يُكتَب ويُقرأ بالعربية، لكانت انصرفت عن تناوله وتعاملت معه بكبرياء.

أتابع توضيب المكتبة وإعادة تزيينها بالكتب، فيخطر في بالي ما قاله احد العمال الذين ساعدوني في الانتقال وفي مغامرة حمل الاثقال من... الى. قال لي بعدما تعب ورفاقه من وضع صناديق الكتب في الشاحنة، ما حاجتك الى كل هذه الاوراق يا استاذ، هل لديك وقت لكي تقرأها كلها؟ سؤال محرج بالفعل. فأنا في الحقيقة لم اقرأ كل الكتب الموجودة عندي. لا أعرف لماذا ينصرف المرء عن بعض الكتب حتى الكره والبغض والملل. كتب معروفة لكنها بالنسبة اليّ مقززة مملّة، ورحلةُ قراءتها اقرب الى جلجلة ثقافية بالكامل. في احدى قصائدي قلت اني أكره النظارات السوداء والكتب الكبيرة، لكني أكره فقط الكتب الكبيرة، الصعبة والمملة.
لم يخطر في بالي يوما ان أقرأ "رأس المال" لكارل ماركس. اعرف سلفاً اني لن افهم كثيرا. ظللت طويلا اظن ان لينين بذاته لم يقرأ "رأس المال". وانغلز ايضاً. كنت مقتنعاً بأن معظم اليسار العربي والعالمي لم يقرأ "رأس المال"، واكتفى بما كتب عن هذا الكتاب من التوسير الى مهدي عامل وحسين مروة وغيرهم.

اعرف الآن ان في مكتبتي كتباً سأموت قبل ان اقرأها بالكامل. ربما اتصفحها. وقد استعين بها من اجل بعض المتابعات المهنية البسيطة. المفارقة ان صديقتي نفسها اخبرتني انها تسند الكتب الصغيرة بالكتب الكبيرة. تستخدمها كمسند للكتب الصغيرة. وهذا يتنافى تماما مع القول الشائع بأن بحصة تسند خابية. في المكتبة تنقلب تلك المفاهيم. البحصة في المكتبة تستند الى خابية وليس العكس.

لن اتحدث عن الموسوعات. تلك واحدة من مآسي حياتي وخيباتها المدمرة. اكلتُ الضرب في اكثر من موسوعة. ودفعت ولا أزال ادفع فواتيرها تقسيطا. غير ان مضمونها الصفر هو ما يصيبُ بخيبة الامل. كتب ضخمة يقدمها الينا السماسرة على انها موسوعات تاريخية، ادبية، شعرية، سياسية. عناوين براقة واغلفة جميلة، ومضامين تافهة، لا يتعدى كونها تجارة بتجارة. اتحدث عن الموسوعات التجارية التي تبدأ رحلة شرائها باتصال من فتاة صوتها جميل. ثم موعد في العمل تحت وطأة الاحراج. وبعد ذلك يتم عقد الصفقة لسبب لا يمت الى القراءة والكتابة بصلة مباشرة. البائعة التي تحضر اليك في العمل جميلة وغنوجة وتسألك بشفتين رقيقتين: هل تحب ان تعرف حوادث القرن العشرين استاذ؟ تنهار امام هذا السؤال. وتقول في سرّك من المعيب ان يرفض شخص هذا العرض. هل يمكن رفض هذا الاغواء؟ حوادث القرن العشرين كلها في كتاب واحد ايضا. يا للهول، نعم موافق، اعقدي الصفقة.

هنا تبدأ رحلة دفع الفواتير الشهرية. عشرون دولاراً في الشهر. لا تظنوا ان هذا المبلغ تافه. يقص الظهر، خاصة اذا تأخر الراتب الشهري.
واذا تراكمت الفواتير، تتحول حياتك الى جحيم. الفتاة الرقيقة نفسها تصبح جلادا حقيرا حين تتصل بك صباحا قبل ذهابك الى العمل، وتطالبك بدفع الحقوق للناس قبل ان تتصرف الشركة وترسل الفواتير الى المحامي. ألم تستنتجوا ان هواية تجميع الكتب يمكن ان تتحول الى مشكلة قانونية قضائية مع الغير؟ لا بأس. مللت توضيب الكتب، وارغب في ان ارتاح. انتهيت في اقناع نفسي اني لم انتقل من منزل الى آخر، بل لا أزال في المكان نفسه. وجل ما قمت به هو ترتيب المكتبة.
كل مكتبة في البيت نظنها مشروعا ثقافيا. هل من المفاجئ ان اقول لكم، ان كل مكتبة في البيت هي مشروع ربو، وسعال، ومصيدة للغبار والمشاكل والافكار والمشكلات؟

كل مكتبة في بيت هي فضيحة لصاحبها، تفضح جهله اكثر من معرفته، وكل كتاب ناقص من المكتبة نقطة ضعف كبيرة في هواية لا تنتهي طالما انك على قيد الحياة. المكتبة ناقصة اي كتاب في العالم تبدو مشوهة. اما مكتبة كاملة فمهمة مستحيلة

النهار
10–11-2007


إقرأ أيضاً:-