أمبرتو إيكو

(النسبية المطلقة للجمال)

ترجمة: كوليت مرشليان

أمبرتو إيكونشرت صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية مقالة موقعة باسم الكاتب أمبرتو ايكو عنوانها "النسبية المطلقة للجمال" وهي مأخوذة من كتاب "تاريخ الجمال" صدر مؤخراً عن "دار فلاماريون" وهو يتضمن مجموعة كتابات ومداخلات لمؤلفين وأدباء ونقّاد وفلاسفة اشتركوا في "المؤتمرات الكبرى في الفيغارو" التي تعقد في مبنى الصحيفة، وكانت مداخلة رائعة لايكو تنشرها الصحيفة منفصلة، ننقلها الى العربية كاملة:

لماذا تاريخ الجمال؟ وهل الجمال شيء ثابت وأبديّ؟

أحب تحديد الجمال الذي أطلقه ذات مرة اختصاصي التزيين الايطالي دينو فورماجيو في كتاب من سلسلة "ماذا أعرف؟" عام 1973 حول الفن، قال فيه "الفن هو كل ما يسميه الانسان فناً". وأنا أرغب في استخدام هذا المبدأ للجمال: "جميل هو كل ما سماه الانسان جميلاً". وثمة مثل فرنسي جاء فيه: "الضفدع جميل في عين الضفدعة". إذاً هذه هي النسبية (...) لم تكن فكرة الجمال مطلقة او ثابتة يوماً، لكنها أخذت وجوهاً متنوعة حسب المراحل التاريخية للبلدان. وليس الحديث فقط عن الجمال الجسدي للرجل والمرأة أو المشاهد الطبيعية بل أيضا جمال الآلهة والقديسين، كذلك الأفكار.

لننطلق حالاً من فكرة متناقضة. هذه أبيات شعرية من شاعر من القرن الثالث عشر وهو يحتفل من خلالها بجمال امرأة من عصره وأنا شخصياً أحبها كثيراً وكنت تمنيت لو استطعت ان ادعوها الى العشاء في مطعم وهي الملكة اوتادي نامبورغ:

"لا الماس ولا الزمرّد أو الياقوت أو أي حجر من الأحجار الكريمة، ولا حتى الزبرجد ولا الخلقدونية الخضراء ولا الياقوت الاحمر ولا حجر الجمز الأرجواني ولا الزمرد الريحاني، كل هذه الأشياء الخلاّبة لا تمتلك الجمال الذي لسيدتي المحبوبة".
وها شعر آخر بعد حوالي ستة قرون في احتفال في بالجمال "المريض" لبارباي دورفيللي في صورة يرسمها لمعشوقته اوديل رودون: "ولكن اجل! اجل! يا ليّا يا حبيبتي، أنت جميلة، أنت أجمل المخلوقات! لن أعطيك تلك العينين المريضتين، ولا اصفرار وجهك ولا جسدك العليل، لا أعطيك ولا استبدلك ولا حتى بجمال الملائكة في السماء".

هل هناك ثمة قاسم مشترك بين هذين المثالين في وصف الجمال؟

من جهة ثانية، سأطلب من جميع الرجال الموجودين في هذه الصالة في الاختيار ما بين النساء الموجودات هنا لاصطحاب امرأة يحبون ان يمضوا معها سهرة في مطعم أو في ديسكوتيك أو إذا أحبوا في شقة العزوبية. أية امرأة من بين كل الموجودات؟

اعتقد ان أي رجل شاب من هذا العصر قد يعتبر امرأة في غاية الجاذبية، إذا هي شبه مخدرة وقد تناولت الماريجوانا منذ قليل. أما الذين عاصروا بوتيشيللي كانوا يحبونها من اجل صفات أو مبادئ أفلاطونية أو افلاصونية محدثة. لقد استخدمت حتى الآن صوراً مأخوذة من تاريخ الفن. لكن تاريخ الجمال ليس تاريخ الفن. مع ان بعض النظريات الجمالية الحديثة قد اعترفت ان جمال الفن ـ ومن ضمنها جمال الطبيعة ـ هو في بعض الأوقات عكس هذا الكلام. لم يكن الجمال في الماضي يتلاقى مع جمالية العناصر الطبيعية، ولم يكن يطلب من الفن سوى ان يقوم بشكل جيد بالتنفيذ كي تخدم الأعمال الفنية غايتها المرجوة.

لكن بعد حين، حين صار التمييز واقعاً ما بين الرسم والنحت والهندسة التي ندعوها اليوم "فن العمارة"، أصبحت كلمة "الفنون الجميلة" واردة. هل تلاحظون معي إذاً هنا ان الفن لم يكن له علاقة بالجمال في هذه النقطة بالذات؟ (...)
في كل الأحوال، يجب ان نأخذ حذرنا من الفنانين. حين كان روبنز مثلاً يرسم لنا امرأة، كان مرجعه ربماً "المدافع الجمالية" الموجودة في عصره. وحين كان رامبرنت يقدم لنا امرأته ساسكيا، كان واضحاً انه لم يكن يقدم لنا الجمال بالمطلق بل المرأة التي يحبها. بارباي دورفيللي قد أكد لنا انه يمكننا ان نحب امرأة يجدها الآخرون بشعة.

من ناحية ثانية، كيف نفهم ان سلفادور دالي قد كرّس حياته لملهمته غالا، التي لم تكن لتشارك مع عروض الى جانب نعومي كامبل والتي، في تلك الحقبة، لم تكن ليرضى بها المسؤولون في فريق "لي فولي برجي"؟

ومع هذا، كانت غالا تحب حتى الجنون هذا الرجل الذي لو طرق بابنا في العاشرة مساء لما فتحنا له الباب. لهذا يجب دائماً ان نقارن شهادات الفنانين نسبة الى نصوص الفلاسفة والكتاب في عصورهم (...) ولكن أحيانا التقارب ما بين نص وصورة قد يحدث لقاءات مختصرة. حين حدثنا الكاتب مارسيل بروست عن رسم الستير في كتابه "البحث عن الزمن الضائع"، اعتقدنا جميعاً انه يحدثنا عن الانطباعيين. لكن اندريه موروا قد اخبرنا ذات يوم ان بروست حين كان يبلغ حوالى 13 عاماً خضع لامتحان مدرسي ولمجموعة أسئلة أجاب عليها وكان من بينها ان رسامه المفضل كان ميسونيي. وكلنا نعلم انه حتى بعد ان نضج بقي على إعجابه بهذا الرسام. من هنا، لا نستطيع ان نعلم إذا كان في كتابه يحدثنا عن رسّام يقوم بعمله مثل ميسونيي أو عن رسام غريب ذوقه مختلف عن ذوق الكاتب. من هنا، إذا كانت النصوص أحيانا ترشدنا الى فهم تصرف المعاصرين تجاه طبيعة الفنان، فإنه غالباً ما يجري العكس (...).

لنأخذ مثلاً عن التناسب. منذ أقدم العصور، تكرر الحديث حول ان أهم شروط الجمال هو الحفاظ على التناسب واحترام شروطه.

موافق. وإذا قرأتم المنظّرين في الموسيقى والفن، والفلاسفة وعلماء الدين وغيرهم تجدون ان مثال التناسب أو التناسق لم يتغير منذ القرون الوسطى الى النهضة (...) ولكن هل نحن قادرون على انتزاع نفس نظرية التناسب من "ينوس" الخاصة بالفنان بوتيتشللي أو "ينوس" كراناش أو "ينوس" الخاصة بفنان آخر؟
المشكلة عينها طُرحت في العصور القديمة مع فكرة الضوء. لنحد حديثنا في إطار الضوء في القرون الوسطى التي لم تكن قروناً مظلمة كما أرادها في أفكار كليشيهات بعض المؤرخين المحدودين. فالإنسان القروسطي قد تم تقديمه في ذلك العصر في إطار مشع بالضوء (...) في العصر الباروكي، وتحديداً في الرسم الباروكي، كانت الأشياء والأدوات في اللوحة ملسوعة لسعاً بالضوء وكان تحديد الأحجام يتم نسبة الى وقوع الظل والضوء على أي غرض في إطار اللوحة. بينما في الزخرفات والنقوش القروسطية وعلى عكس ذلك يضرب الضوء الأشياء ويغلفها فنراها مشعة بذاتها.

ولكن لنستعرض الآن فكرتين عن الضوء كما رآه الفلاسفة ولنرى الى ماذا نصل:
نظريتان في الجمالية معاصرتان لكن الأولى ترتبط بعلم الكونيات والأفلاطونية الحديثة والثانية ترتبط بميتافيزيكية ارسطوطاليسية.

(...) المشكلة الحقيقية التي واجهناها خلال تحرير كتابنا هذا بدأت حين حاولنا تلخيص فكرة ما هو المثال الجمالي في هذا العصر. كان سهلاً تحديد هذا المثال في القرون الوسطى(...) كذلك في عصر النهضة أو خلال عصر الرومنطقية، لكن المشكلة الوحيدة في هذا كانت أن قرناً واحداً كان يمكن ان يشهد مثالين متناقضين (...).

ولكن هل أن زائراً يقع من النجوم اليوم أو غداً على كوكبنا قد يقرر مثلاً ما هو مثالنا الجمالي في القرن العشرين وفي السنوات الأربع الأولى من القرن الحادي والعشرين؟ سوف تجد أن جمالية التحريض تتعارض هنا مع جمالية الاستهلاك. لم يكن الفن الطليعي يوماً يطرح بهذا الأسلوب مشكلة الجمال بمعنى انه كان يعتبر ذلك خرقاً واعتداء على كافة المدافع الجمالية المحترمة حتى ذلك الوقت. كل أعمال بيكاسو بدت لنا جميلة فقط بعد دخولها المتاحف. والفن لم يكن حينها يقترح أن يهدينا صورة عن الجمال الطبيعي. بل على العكس، كان يريد ان يعلمنا ويشرح لنا الكون بعيون مختلفة، من خلال العودة الى أمثلة قديمة وغريبة من عالم الخيال، ومن أوهام وأحلام المريضين عقلياً ومن هلوسات متعاطي المخدرات، (...) هنا تكمن لعبة الفن المعاصر. (...).

لكن زائرنا القادم من المستقبل سوف يقوم باكتشاف فضولي: ان الذين يزورون المعارض الفنية والذين يشترون منحوتات غير مفهومة (...) هم "ضحايا الموضة" الذين يرتدون الجينز وأيضاً الألبسة الجاهزة الموقعة بأسماء عالمية، وهم الذين يتزينون حسب الموديلات المقترحة في المجلات وفي السينما والتلفزيون، باختصار في وسائل الإعلام. هم يتبعون مثال الجمال الذي تقترحه شركات استهلاكية والتي دافع عنها لأكثر من خمسين عاماً الفن الطليعي (...).

ولكن حتى لو أن زائرنا اقتنع بفكرة الجمالية التي تقترحها وسائل الإعلام، سوف يكتشف بعد حين أن القرن العشرين قد مر في وقفتين مزدوجتين: الأولى تقع عند حدود السنوات العشر الأول. وهكذا، اقترحت علينا السينما صورة المرأة القدرية التي جسدتها غريتا غاربو أو ريتا هيوراث أو فتاة الباب المجاور كلوديت كوليير أو دوريس داي. وقدمت لنا السينما أيضاً مثالاً رجالياً في صورة جون واين او فريد ايتسير وبعدها داستن هوفمان أو شوارزينغز. ووسائل الإعلام الديموقراطية تقدم هذه النماذج الجمالية لفئة البروليتارية كذلك للفئة الارستقراطية.

أما الوقفة الثانية فهي تقتسم القرن إلى جزئين: فإن مثال الجمال في السنوات الستين الأولى تعود إلى ما اقترحته الفنون الكبرى وأولها السينما، وسيدات الشاشة انتقلن إلى الشارع وأصبحن القريبات المقرّبات ونساء موضة العشرينات والثلاثينات وصرن صورة طبق الأصل عن الموضة، موضة الفن الحديث وفن التجميل. أما الإعلان فكان يظهر تأثيرات المستقبلية والتكعيبية وبعدها السوريالية (...)، أما تنظيم المدن فصار رهن طوباوية المهندسين العصريين وصار يظهر تقدّماً في إظهار أشكال سوف تصل بعد حين (...) أما مستكشفنا القادم من المستقبل فلن يتمكن من فهم نظرية الجمال المطروحة في وسائل الإعلام بنسبة الي ما جاء به من أفكار معه من فوق (...).

إذاً، هل يمكن القول انه ما من خيط أحمر يجمع ما بين النماذج المختلفة للجمال التي رصدناها من اليونان القديمة إلى يومنا هذا، وأليس من قاسم مشترك في كل هذه التجربة الجمالية؟ أقول انه يمكن أن نحصل على جواب في النقاشات الألفية التي تدور دوماً حول الفارق ما بين الجميل والطيب مع أن أبرز العصور في التاريخ لم تقم إلا علاقة ضئيلة بين هاتين الفكرتين.

ونحن نحكم من خلال تجربتنا اليومية أننا نسمي بالجيد أو بالطيب ما يعجبنا ولكن أيضاً ما نريد أن نمتلكه، فالأشياء الجيدة هي لا نهائية مثل الحب المتبادل أو ثروة اكتسبناها بشرف، أو طبق طعام محضر كما يجب (...) وما نعتبره أيضاً عملاً جيّداً هو ما نرغب القيام به ـ مثل الموت المكلل بالانتصار لأحد الأبطال أو خدمة المصابين بالبرص بكل محبة وإخلاص ـ فنحن نرضى بأن العمل هذا جيّد حسب أنانيتنا أو حسب مخاوفنا، أو حسب إذا أردنا أم لا أن نعيش تجربة معيّنة. ولنشير إلى أعمال خيرية نرغب ربما بمراقبتها أكثر من القيام بها فعلياً. نتحدث عن "اللفتة الطيبة" لفلان أو العمل الجيد لفلان: إذا نحن تكلمنا عن الجمال حين نفرح بأمر لما هو عليه بعيداً عن فكرة أن نمتلكه. وبهذا، تختلف تجربة الجمال عن تجربة اللذة. أعتقد أن جميع العصور في التاريخ اعترفت أنه هناك أشياء جميلة لنشاهدها تختلف عن الرغبة التي قد نشعر بها حيالها. على الأقل، يبدو لي أنها الخاتمة التي يمكن أن أصل إليها مع نهاية هذه الرحلة في كتاب يدرس النسبية المطلقة للجمال.

المستقبل - الثلاثاء 30 تشرين الثاني 2004