مّر عليّ أكثر من ثلاثين سنة و أنا أجوب
الطرقات و العواصم التي ربما أثارت أشياء
كثيرة و رائعة في حياتي لأن جزءاً من جماليات
المنفى هو أن يفتح أمامك باب العالم لكن الفداحة
الأكبر أن يبقى باب وطنك مسدوداً بوجهك...
جواد الأسدي
جحيم الأمكنة
الفن المسرحي الجاد حالة من التجاوز للخطاب التقليدي و نوع من الهدم للبنى الفكرية و الجمالية التي اكتسبت مألوفيتها عن طريق النسخ المتواتر، و الفن المسرحي الحقيقي حصراً يسعى دوماً لإيجاد حالة جديدة من التوالد المستمر المتواصل للقيم الجمالية و الفنية المتفردة التي تحاول ان تقترب بالفن من حالة الإبداع في جميع خصائصه المتنامية و اتجاهاته التجديدية لتؤسس و تنظر لهذا الخطاب الإبداعي الخلاق، و الخطاب المسرحي مثله مثل الخطاب الشعري أو القصصي،الروائي و التشكيلي يحاول ان يفتح نافذة إبداعية في تاريخ الفنون
ليس ثمة أحد بوسعه أن يغير هذه الحقائق، و ليس ثمة أحد بوسعه أن يزيفها أو يطليها بالوهم أو يعيد صياغة الأمل على مزاجه الخاص، فأنت في الواقع لا تخدع أحداً سوى نفسك و سوف تفضحك الحقائق المتناثرة هنا و هناك و بهذا الأسلوب يدعونا المسرحي المبدع جواد الأسدي في مسرحيته المعنونة ( سنوات مرّت بدونك ) و المنشورة في الملحق الثقافي لجريدة النهار البيروتية يوم 10/10/2004 إلى تجنب لهجة الحكماء المضحكة و يدعوننا ضمناً للتحدث عن أنفسنا... نحن أمة مريضة و الدليل القاطع على ذلك أننا نحس بهذا المرض و لكن كيف يمكن لنا علاجه، يبدو إن أحداً لايستطيع أن يعرف موطن المرض إلا إذا أخبره المريض نفسه و وضع يديه على المكان المطلوب بالضبط و هذا ما يفاجئنا به ( طريف) في حواره مع (شهاب) و هما من شخصيات المسرحية فيتحدث طريف قائلا:
طريف:
هذه البلاد التي جئت إليها مفعماً بالأمل انظر يا شهاب في عمى نخوض أتيت واضعاً في رأسك الكثير من الأحلام، أتيت و أنت تتطلع الى حياة آمنة، الى بشر أسوياء، عن أي موسيقى تتحدث مع هذا العزف العدميّ.
و لعله مما يبعث على خيبة الأمل أن يلتفت (طريف) إلى الوراء فجأة و يكتشف بعينيه حقيقة ما جرى فلا يستطيع هنا أن ينطلق من نقطة واضحة حقاً عندما تجره عواطفه للتساؤل من منطلق واضح فطبيعة شخصيته لا تستطيع بالطبع أن تجد حاجتها من الأعذار الواهية التي تدفع الآخر للعودة و البحث عن غربة جديدة و لكن هل بوسع أحد تجنب الوقوع فريسة الإحساس مما يراه من دمار و هما تأكيد لما آلت الحالة بطريف الى الصراخ قائلاً:
طريف:
عن أي متفرجين تبحث و اللصوصية و الأغتصابات تصير هي العناوين الرئيسية لهذه البلاد عن أي بلاد تبحث شهاب أرجوك عد احمل آلتك الموسيقية و نوتاتك وأحلامك، عد بها الى غربة جديدة.
إن ذلك الإحساس لابد أن يظل الى آخر مداه مجرد نوع من الإحباط و الأسف المدمر الذي لا يصدر بشكل عشوائي مما يجعل البعض منا يفكر للهرب من جديد و البحث عن مكان آخر غربة جديدة لندفن وجوهنا فيه.
يحاول الفنان جواد الأسدي أن يجمع كلماته بإعياء و عسر مطلقين على لسان شخوصه في أتون هذه الأجواء المحرقة هارعاً كالمجنون و باحثاً في ذات الوقت عن ذلك التاريخ الملطخ تاريخنا و لكنه يكتشف برعب قاتل الأنقاض التي تركتها الحرائق و قد وقف على هذه الأنقاض عارياً و متوحداً في فراغ حاد و بهذا لا بد أن يحدث انكسار داخلي فلم تعّد لديه القدرة على التكيف من جديد، لقد حدث ذلك الانكسار فعلاً و لكن عيناه بقيتا مفتوحتان ممتلئتان بالحياة تجوبان الوطن على مدى البصر لنقرأ هذه المقتطفات من المسرحية التي تتماوج فيها الكلمات على نحو متواصل من أجل إيضاح الالتباسات التي يجدها القارئ على جانبي الحديث الفائر المتوهج مما يجعلنا ننظر إلى الأحداث من زوايا مختلفة لأن كل من القارئ و الكاتب يعيشان ظروفاً مغايرة تماماً و يعانيان الحياة على نحو مختلف و مع هذا فثمة إطاراً مشتركاً يربطهما معاً هو الشعور بحجم الكارثة التي حلت على الوطن، لنقرأ هذه المقتطفات من المسرحية:
البلاد تحولت الى بركة من الدماء..
أي تاريخ ملطخ هو تاريخنا..
انهار كل شئ في رأسي و في ضميري
كل شئ يجف في هذه البلاد:
الأنهار،البساتين،الرؤوس،الأحلام..
الحياة تتحول هنا الى أوكار للوحوش و المرابين و القتلة
يا الهي.. هبني القوة لكي استطيع احتمال هذا الهول
كل الطرق مغطاة بالدم مما جعل ( طريف ) يطلق صرخته بصورة مدوية.....
طريف: يا الهي، أي بلاء هذا الذي ابتلينا به؟
فهناك جانب آخر من صورة البلاء هذا الذي ابتلينا به يكاد يكون أكثر إثارة من هذه الصرخة التي أطلقها المسرحي على لسان شخصية ( طريف) متعددة الهوامش ينبغي علينا أن لا نهملها و أعني بذلك الحقيقة المشحونة عبر قوالب تاريخية يتقطر من أردانها الذكاء اللماح للكاتب و هو يستوعب تاريخنا الخاص المثقل بالرموز و الذي أراد من خلاله أبراز فكرة البلاء إلى حيز الوضوح و تسليط الضوء على كافة جوانبه بطريقة مبسطة و خالية من التعقيد في ظل هذه الرموز المشحونة بالقتل و الدمار و فضلاً عن ذلك فقد اكتسبت هذه الرموز على الدوام الطابع الدموي الذي جعل من الكاتب استيعاب كافة مضامينها دفعة واحدة دون أن تفقد هذه الصرخة عفويتها و دون أن يؤثر ذلك في المضمون أو يحدث ما من شأنه أن يربك ذاكرة القارئ . هذه الصرخة جعلتني أموت من الضحك حتى طفحت عيناي بالدموع كما أنها أثارت في النفس مشاعر لها وقع الكابوس و بياض الحليب معاً، فيا لها من صرخة صارمة و دقيقة هذه التي يطلقها الكاتب على لسان ( طريف).
أصبح الموت في بغداد مجرد كلمة تسقط عبثاً من كل الجهات مما جعل من شخصية المرأة الأجنبية ( صوفيا) في هذه المسرحية الى القول بأن ذلك الموت ليس من شأنها على أي حال و تقول بازدراء أكثر:
صوفيا :
سأعود الى لندن،إن بقيت هنا أكثر ستحملني الى المصح تحت رعاية السيد طريف ،او ستجدني اصرخ في الشوارع، ليتني لم أتعرف الى اهلك، ليتني لم اذهب الى المسرح و لم أر الأصدقاء و لا الشوارع و لا الناس، لا اطلب منك ان تعود معي، و لا أريد منك ان تحس بالذنب لأجلي، أرجو ان تكون مرناً في قبول مقترحي
ليس ثمة ما يدعو( صوفيا ) للتفكير في البقاء و مشاركته نخب الموت المجاني اليومي الذي تجاوز مألوفية الحياة التي لا طائل وراءها سوى إقلاق راحة البال الذي كانا ينشدانه معاً و قد طرحت هذا الأمر بشكل يليق بطبيعة علاقتهما:
صوفيا :أرجو ان تكون مرناً في قبول مقترحي....
إنها لا تملك شيئاً تقدمه إذ لم يكن بوسعها أن ترى في هكذا حياة سوى الموت الهمجي المعجون بالدم و الخراب الهائل لذلك فقد بدى الأمر بالنسبة لها في غاية العسر، فليس ثمة فسحة أمل تستطيع من خلاله العدول عن ترك هذا المكان:
صوفيا :
لم اعد استطيع ان أنام لا في الليل و لا في النهار، و الطعام صارفي حلقي مثل العلقم، أصبحت مريضة، لم استطع ان أتأقلم مع عقليات اهلك و لا مع عنفهم و لا مع نزعاتهم
فهي لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تتجنب هذه التراجيديا المزدحمة بالمفارقات و المتناقضات و لأنها لا تمتلك فرصة الاختيار و لأن أحداً لا يستطيع أن يجلس في انتظار الموت دون أدنى حركة، فتقول:
صوفيا :إذن دعني أنقذ نفسي و أنقذك من امرأة يمكن ان تقع فجأة و تموت
إن لفي قراءة هذه السطور التالية من المسرحية و على لسان شخصية(صوفيا) نرى أفتتاناً مؤلماً و شغفاً بانتهاك تلك الأسرار الدفينة و الخفايا التي هي طيّ الذاكرة و حكراً على صاحبها و أعني هنا (الكاتب) ذاك الذي قضى نصيباً من عمره و هو يجوب الطرقات و العواصم على حد تعبيره فقد بقي طوال هذه السنوات العجاف يعمل،يكتب،يسطر وجوده و لمحاته الخاطفة و إنجازاته المبدعة التي تفوقت على قسوة المنفى ،فالقارئ لاشك ستخلب عقله،تسحره و تدمي قلبه هذه الحقائق التي يطلقها على لسان (صوفيا) فقد كان سباقاً الى هتك وتعرية هذه الحجب التي تغطي الحقائق و هذا يعود الى منتهى الصدق القائم على تجاوز هذه المحرمات و الدخول الى تلك الفسحة الغامضة العصية في هذه الحياة التي تتصف بالموت و الجفاف في هذه الفترة الزمنية الحالكة من تاريخ العراق التي ترافقت مع انهيار أعتى ديكاتورية لنقرأ هذا الحوار:
بغداد التي غادرتها منذ سنوات طويلة لم تعد صبية و لا في صحة جيدة، كما تركناها، أنها الآن في غرفة إنعاش دموي! و أنوارها التي كانت تبهج ليالينا و احتفالاتنا، صارت مطفأة،ماتت كلها، حلت محلها شوارع و أرصفة مترمدة! أبواب ملطخة و وجوه محنطة.......
هذه هي بغداد الطرية الروح، الحلوة المحيا،النادرة الجمال، ام اللعب و الحرية والأنهار و العشق و الحدائق و الأراجيح! صارت الآن ملعباً دولياً للجثث.
هذه الصرخات التي خالطها كثير من الوجع قد تضمنت الكثير من ذكريات الفنان جواد الأسدي في أدق التفاصيل التي عاشها في وطنه مع ما رافق تلك الفترة من حالات الفرح و الحزن التي تشبه اللمحات الخاطفة التي يومئ من خلالها الى طفولته و نشأته كاشفاً في ذات الوقت في أجزاء من هذا الحوار عن الهواجس التي تقضُّ مضجع الأحلام و تقبض على اسلئة الكاتب التي تحمل في طياتها قلقه الذي رافقه طويلاً بحيث أتاح له أن يوظف رؤيته و أمكاناته الفكرية الفنية للوصول الى هذه الاستنتاجات التي أنطلق منها إحساسه بما آلت اليه الحال في وطنه و ما كان لهذا الأثر البالغ و المؤثر في تحديد أقصى حالة من حالات الصدق اللامتناهية و هذا ما ذهب اليه في هذا المقطع الحواري من المسرحية:
أهذه هي مدينتي!
بغدادي الغنوجة المدللة، كيف تحولت هذه البغداد الى متجر قذر و بيت كبير للأسلحة و الموت! أغلب العراقيين يقرأون سورة الفاتحة على أنفسهم قبل خروجهم من البيت لأنهم بلا ضمانات للعودة
هناك حالة نستطيع من خلالها أن نعطي فرص الاختيار للكاتب بالنسبة لطريقته في التعبير عن طبيعة معايشته للظروف العامة الخاصة في وطنه في الوقت الحالي حتى ندعه أن يصل لإيجاد وسيلة للتعبير أكثر اكتمالاً من وجهة النظر الفنية و العقلية فكلمة الموت مثلاً تعني دائماً حالة من الجمود لا يمكن أن يقف الكاتب إزاءها في حالة قبول و أعني بذلك أن قبول حالة الموت تُوقف الكلمات التي ما تزال قادرة على مواصلة الحياة و لايعني هذا بالطبع أنه هروب من الواقع إلا أنه في نهاية المطاف محاولة لتمزيق الجذور القديمة و نبشها أيضاً لمواجهة حالة الموت في الوطن من نقطة ما يكون فيها الكاتب في تماس مباشر مع الحدث و خارجة عن حدود التصورات التي يرسمها الآخر بطريقة قد تبدو مشوشة في أغلب الأحيان و هذا الأمر يأخذني للقول بأن الحب وحدة إنسانية متكاملة فلا أعتقد أن أحداً يتخلى عن الآخر بدون مبرر، فلا بد من وجود سبب ما و مع هذا أجد أن الكاتب يدرك تماماً أن فقدانه لأحد أحبته سوف لن يكون في نهاية المطاف كارثة حقيقية بحجم كارثة الوطن و هنا يبدأ البحث داخل اللحظة الحرجة عن شكل الحياة الجديدة التي سوف لن يكون فيها الفرق ضيئلاً جداً ما بين الحياة و الموت، لنصغي الى هذا الحوار بين صوفيا و شهاب..:
صوفيا: إبق أنت هنا و أنا سأذهب إلى هناك! يرسم كل واحد منا طريقه !
أعدك بأني سأظل وفية لصوتك و روحك و كل شئ فيك.
شهاب : لوعتي اليك و لهفتي، أين سأذهب بهما، من سيحتويهما.
صوفيا: اذن عد معي !
شهاب : لا أستطيع، أنتظرت سنوات طويلة لكي أشم رائحة أمي ! و أتنفس هواء بلدي، لا بأس حتى لو كان الآن ملوثاً و مسموماً.
الوقوف في منتصف الطريق محنة ما بعدها محنة أما التعلق باللامكان فهو بمثابة تجربة جديدة لاختبار مدى إصرارنا على البقاء و كأننا بهدنة نعقدها مع الموت الذي يهدد كياننا ذاك لأننا أيضاً نملك الكثير مما نستطيع أن نبذله لمنهجنا الأنساني الذي يقودنا الى تبني محنة الوطن من جديد كما تبنيناها سابقاً ، لكن أين ؟ هذا هو السؤال الذي يضعنا المبدع جواد الأسدي في أشكاليته على لسان شخصية شهاب حين يختم مسرحيته بالعبارة التالية حيث يقول:
لا بأس أنا اقبل بذلك،
لأن لا حياة لي في.
تبقى النتيجة بالنسبة لي كقارئ على ما يبدو هي رد فعل لتفاصيل سابقة و أخرى آتية حاول من خلالها الفنان و الكاتب أن لا يفقد زمام المبادرة لتلك الصبغة التي غلفت تساؤلاته بطريقة تأملية أعتمد فيها الذات فضاءاً و مركزاً للأحداث المحيطة به و خارجاً في نفس الوقت من حالة الألتباس الشديد الذي تتشظى به كلماته و تأملاته فتستحيل الى هذا الشكل الفني الذي يمدنا بخزين ثري من الألتقاطات الدقيقة التي تلامس اسئلة الكاتب التي تحملها مسرحيته الى القارئ و في ختام هذه القراءة أود أن أقول بأنني كنت على الدوام أحس بشعور غامض يشدني إلى كلمات السياب المثقلة بلحظات العزاء و هو يردد في قصيدته :
و لكن أيوب أن صاح،
صاح:
لك الحمد، إن الرزايا ندى
و إن الجراح هدايا الحبيب
أضم إلى الصدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة،
هاتها.
أشارة: مسرحية ( سنوات مرت بدونكِ ) للكاتب و المخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي.
شخصيات المسرحية: شهاب،صوفيا،طريف،فخرية،شاكر،فيصل،ساجدة.
المكان و الزمان: بغداد الآن
عن الملحق الثقافي لصيحفة النهار اللبنانية/ 11/10/2004
عبدالكريم كاظم
16/10/2004
المانيا