نظرة راقية للشعر والشعراء

أحمد فضل شبلول
(الإسكندرية- مصر)

نظرة راقية للشعر والشعراءمحمود أحمد العشيري، صوت نقدي جديد، يمتاز بإخلاصه لحركة الشعر الجديدة، والمعيار الشعري عنده هو الشعرية العربية سواء تجلت هذه الشعرية في النص العمودي أو التفعيلي أو قصيدة النثر التي يقول عنها إنها لكي تقدم شعرية أخرى عليها أن تختار لغة لا تنسب إلا إليها. كما أنه لا ينحاز للشعر الفصيح على حساب الشعر العامي أو الزجل، أو العكس، ولكنه يدرس كل الأشكال الشعرية، ويقدم رؤاه النقدية لها من خلال تحليلاته لأبرز الأصوات الشعرية الجديدة في الفصحى والعامية. وهو بالإضافة إلى هذا متابع جيد للحركة الشعرية في أقاليم مصر المختلفة. وقد كلف في غير مؤتمر أدبي إقليمي بتقديم أبحاث عن شعراء هذا الإقليم أو ذاك، ولاقت أبحاثه ودراساته قبولا حسنا، لأنها تتمتع بحس نقدي عال، وثقافة جيدة، ونظرة راقية للشعر والشعراء الذين يقوم بدراسات دواوينهم.

***

وقد صدر للعشيري مؤخرا ـ عن فرع ثقافة الفيوم التابع لإقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد ـ كتاب نقدي اختار له عنوان "ممارسات نصية ـ تجارب مع الشعر الحديث". وميزة هذا الكتاب النقدي أنه يتابع ما ينتج الآن، أي في اللحظة الراهنة، من شعر. وهو شيء نادر الحدوث حاليا، فقد تعودنا أن يأتي النص النقدي في مرحلة زمنية تالية للنص الإبداعي، وقد تطول هذه الفترة الزمنية، عندما يكون النص النقدي بين دفتي كتاب مطبوع، ذلك أنه من الصعب دائما مواكبة الإنتاج الإبداعي لحظة خروجه من يد المبدع أو الشاعر. ولكن اجتهادات العشيري، وأيضا فرع ثقافة الفيوم جعلت هذا الصعب ممكنا، فقدم الكتاب نموذجا لشريحة من جيل شعري يشق الآن طريقه ويرسم ملامحه في عزم وإصرار، مثلما يقدم ـ في الوقت نفسه ـ صورة لناقد من نفس الجيل يحاول أن يقرأ ملامح الحركة الشعرية في جيله. وعلى ذلك يقدم العشيري أحد عشر شاعرا، يكتبون الشعر الفصيح والعامي، ويقدمون تجاربهم العمودية والتفعيلية والنثرية.

***

تحت عنوان "أقدام ثلاثة تسير نحو نقطة واحدة مفترضة" يقرأ الناقد قصائد لكل من محمد البسيوني ومحمود الجرداوي وصلاح علي جاد. فالبسيوني لا تتخلى قصيدته عن عروض الخليل ـ وزنا وقافية ـ وبالتالي تدور نصوصه في إطار جماليات هذا الشكل وحدوده وقدرته على التعامل معه وابتكار خصوصية إيقاعية للنصوص. أما الجرداوي فيراوح نصه بين ما هو عروضي وما هو غير عروضي في أكثرية شعره، ليظل التساؤل حول العروض قائما في أغلب النصوص، فكأنه يطرح ضمنا نظاما، ويظل على الدوام مصرا على تحطيمه والخروج عليه، ليظل النص دائما محاولة للمروق من نظام الوزن. أما صلاح جاد فدرجة إيقاعية نصوصه تصل إلى أدنى حد، ليكون تحييد الوزن أول مبادئ عمل النصوص. ومن ثم فقد تميزت نصوص الجرداوي وجاد بالتشتت، والوعي بالمفارقة، وإحلال التضاد، وأن النص عندهما بنية غير قابلة للحسم، والبناء بناء دائري يعود دائما إلى نقطة البدء، فضلا عن كثرة الحذف والتساؤل. ويقرر الناقد أن الخلاف بين كل من البسيوني والجرداوي وجاد إنما هو خلاف في النظرة إلى العالم، والموقف من الأشياء.

وتحت عنوان "اللغة الأدبية بين الاحتفال بالكثافة والاحتفاء بالشفافية" يقدم العشيري قراءاته في دواوين عامية للشعراء: أشرف عتريس ومختار عبد الفتاح ومحمد عبد القوى وأحمد أبو بكر. وبعد مقدمة نظرية ضافية، يحدثنا عن عتريس فيقول إن خطابه الشعري منشغل بمحاولة توطيد معالم الشعرية، وأنه يكتب من مساحة مضادة بغية الوصول لشعرية أخرى مضادة أيضا. وهو متوفز تماما تجاه مشكل العلاقة التي يواجهها وأقرانه مع جمهور مغيب عنهم وعن فعلهم الشعري، ساقط لأذنيه في شعرية الآخرين. وينهي الناقد رأيه في قصائد عتريس النثرية بقوله: "لقد انشغلت نصوص أشرف عتريس بخطابها النقدي التثويري والتسويغ له أكثر من توفرها على جمالياتها، وتبقى جدة المذاق غير كافية لإكساب النصوص شعريتها".
أما مختار عبد الفتاح فيترصد طريق الكثافة والمجاز، وإن كان في أحايين كثيرة يعتمد على خطاب سابق طريقا لتشعير النص. وهو في تعامله مع الرمز التراثي يعتمد على توسيع إطار الدلالة بالحفر حول الرمز وإعادة صياغة تاريخه أو التجادل معه.
وتعتمد شاعرية نصوص محمد عبد القوى على البناء الدرامي لمشاهد الحياة التي يقدمها في إطار غنائي شفيف يتصدره توتر وجهة النظر والانفعال الفني المنحاز المتدفق بالأحلام والانكسارات. وعلى نحو شديد التدفق وشديد الاختزال يأتي عدد من قصائد أحمد أبو بكر، فيبدو المدخل الذي يدلف منه إلى تشعير النص هو اعتماده على البساطة المفاجئة سواء أكانت من خلال المجاز وكثافة اللغة أو من خلال شفافيتها.
ويعود الناقد إلى أجواء الفصحى من خلال مطالعة في ديوان "كمن يتأمل" للشاعر سيد عبد الرحيم، ويتوقف عند أكثر من نص، بل يتوقف عند العنوان والإهداء الذي يحمل في بدايته علامة استفهام. ثم يقدم الناقد دراسة في ديوان العامية "بنت ما ولدتهاش ولادة" للشاعر محمد عبد المعطي الذي يرسم بهذا الديوان الثاني له إحداثيات وجوده الشعري باتزان في قلب قصيدة العامية المطروحة الآن في تطوير محسوب يلبي المتغيرات الإبداعية الجمالية، ولا ينقطع عن الرصيد الذي أفرزه، مجددا الثقة في قدرة قصيدة التفعيلة العامية على إنجاز حداثتها.
وينهي الناقد العشيري كتابه النقدي "ممارسات نصية ـ تجارب مع الشعر الحديث" بقراءة في قصيدتين من شعر الفصحى هما: "القطط الباكية" للشاعر كريم عبد السلام، و"منذور لرمل" للشاعر نادي حافظ.
ولعلنا من خلال مطالعتنا للكتاب نستطيع أن نؤكد أن الحركة النقدية كسبت ناقدا شابا يتحمس للجديد، ويتابعه ويقدم رؤاه المنهجية حوله، ونحن ننتظر منه الكثير في مستقبل أيامه القادمة.

ميدل ايست ازن لاين


إقرأ أيضاً: