عبدالله حبيب
(عمان/ أمريكا)

1

(أ)

أشكال ومضامين التقدم في العمر خسران مَحبّات، وصداقات، وزمالات، وأفكار، وأحلام، ومشاريع، وسذاجات، وأوهام، واكتساب لخبرة لا تفيد ومعرفة لا تؤدي إلى أي نفع.
بعد الثلاثين، تتعاقب الأشياء في ضربٍ سالبٍ من "عود أبدي". يروق لي أن أفكر أحياناً أنه لو تم عكس اللقطة الطويلة التي استهل بها تاركوفسكي فيلمه الوداعي الخالد "القربان" (سبع دقائق كاملة)، والتي يدور فيها حوار مَشَّاءٌ - حرفياً وبالمعنى الفلسفي للكلمة - بين أستاذ فلسفة ومسرح وعلم وجمال متقاعد (اليكساندر) وساعي بريد (أوتو) حول نيتشه في يوم كان يفترض أنه اليوم الأخير في حياة العالم، وذلك في لقطة تتبع (tracking shot) معقّدة (بالمعنى التقني للكلمة) تجتهد فيها الكاميرا لتقديم تأويل بصري حول المقولة النيتشوية تلك. يروق لي أن أرى تلك اللقطة من نهايتها حتى بدايتها، مجدداً ومن جديد.
بعد الثلاثين، لا شيء يحدث للمرة الأولى، وإن حصل فهو لا يحدث إلا ليذكّرك، عامداً، بفقد ما، أو ليغرز، متعمداً، في خافقك المهيض جناحاً مستحيلاً .
التجربة، بالمعنى الوجودي للكلمة، لا تزال مفتوحة - مفتوحة على كل شيء، حتى اللحظة التي تغمض فيهما العينين للمرة الأخيرة (والعينان هما أول ما تبدأ الديدان أكله في الجثة بعد الدفن لأسباب بيولوجية هي أوضح من أن تذكر، واعتبارات ميتافيزيقية هي أكثر صعوبة من أن أعرفها).
لكن الأشياء انغلقت، أو أُغلقت. ثمة عطب كبير أصاب جهاز استقبال العالم في الروح، أو أن ذلك العطب الرهيب أصاب العالم نفسه الذي ما انفكّ ينأى، وينأى، عن الروح.
مبكراً بعض الشيء: "أنا ما تعبت، ولكن الشمس غربت" (نيكوس كازانتزاكيس. "تقرير إلى غريكو").

(ب)

في إجابة عن سؤال صحفي الطابع والطبيعة من أحد الحضور في النقاش المفتوح الذي أعقب محاضرة لنعوم تشومسكي عما إذا كان الأخير "متفائلاً" أم "متشائماً"، أجاب تشومسكي إجابة غير صحفية على الإطلاق، فقد قال ان التفاؤل أو التشاؤم هو ما يشعر به المرء حين يكون وحيداً في غرفته، وهذا من حقه. لكن التفاؤل، في المقابل، هو الاقتناع العميق بأنه إن كان لأي شيء أن يحدث في هذا العالم فإنه لن يحدث من دون روح وفعالية نشطة، لن يحدث من دون إرادة، لن يحدث من دون فعل، لن يحدث من دون مقاومة، ولذلك فإنه يعتبر نفسه متفائلاً.

2

ما دام الحال هو أن:
"ولم نحلل بدنيانا اختياراً
ولكن جاء ذاك على اضطرار"
وما دام أمر الناس هو أن:
"لقد فعلوا الخير القليل تكلّفاً
وجاءوا الذي جاءوه من شرّهم طبعا"
حيث:
"قد فاضت الدنيا بأدناسها
على براياها وأجناسها
وكل حي بها ظالم
وما بها أظلم من ناسها"
لذلك:
"جسدي خِرقة تخاط إلى الأرض
فيا خائط العوالم خِطني" ( أبو العلاء المعرّي).
فلنصمت، إذاً، أثناء الحياكة القديمة، والحكاية الجديدة.
ولنتذكر، أيضاً، ان رهين المحبسين في معرّة النعمان كان قد تنبأ بحال العراق كثيراً حين قال قليلاً:
"رُبَّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً
ضاحكاً من تزاحم الأضداد".

3

أيضاً عن الحالة العراقية في تجليات كثيرة، هذا الإقتباس من هادي العلوي عن رجل معنيٍّ بالشكل والمضمون معاً، أسوقه بلا تعليق أو تعقيب:
"في الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917 كانت قبيلة الدليم موالية للإنجليز ثم انقلبت عليهم بسبب امرأة، فقد تحرش الجنرال البريطاني ليتشمان بِكُنَّة شيخهم ضاري المحمود فشكته إلى عمها فامتشق سيفه وخرج يبحث عن الجنرال. وكان يملك بندقية لكنه آثر استعمال السيف. ووجد الجنرال قد توجه إلى بغداد وهو في الفلوجه فلحقه إلى هناك ودخل عليه مكتبه فأهوى على رأسه بالسيف فقطعه بضربة واحدة. وجرت أحداث كبرى على إثر ذلك وخسر الإنجليز ولاء القبيلة التي لم تشارك أول الأمر في مقاومة الاحتلال...." ("فصول عن المرأة"، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1996، ص 20).

4

كل هذه الساعات المعذبة التي قضيتها وأنا أحاول عبثاً تذكر اسم الشاعر الذي كتب:
"اضربوا
اضربوا أيها الفاشيست
فليس لديكم سوى البنادق"
وكأنني أمر بأصعب تحدٍّ مصيري في حياتي.
كل هذه الساعات، والفاشيون يطلقون النار بلا هوادة، والدماء، والأشلاء، والصرخات، وصور امتهان الكرامة والإذلال والتعذيب، تتناسخ.
يا للهول يا ذاك الشاعر الذي أخفقت في تذكر اسمه أثناء المجزرة.

5

ليس وراء كل تلك المقاومة العنيدة سوى ذلك الضعف العتيد.

6

يفهم نفر غير قليل من شعراء قصيدة النثر العرب شرط تحقق "المجانية" في قصيدة النثر الذي نظّرت له سوزان برنار في كتابها المرجعي "قصيدة النثر من بودلير إلى اليوم" فهماً حَرفياً للغاية.
والنتيجة، طبعاً، هي ما نقرأ من... نثر، وثرثرة!

7

الليلة، حضور أوبرا "عطيل" لفيردي (ما دام المرحوم جبرا ابراهيم جبرا يصر على هذا التعريب الشيق لـ Othello). يا له من عرض باهت لمخرج بائس يسعدني نسيان اسمه بهذه السرعة. لا تساوق بين الكلمات والموسيقى والجسد. لا شعر ولا شاعرية ولا شعور ولا استشعار. لا شيء في كل تلك الساعات الباهضة الأجر-- فيما يخص الميزانية الضامرة كثيراً للطالب الأجنبي الذي حضر الحفل بأفضل ثيابه المتواضعة -- سوى الخضوع العبودي لجبروت الأصل. لا ابتكار، لا عصرنة، لا رغبة في كشف أفق الحاضر أو المستقبل، ولا استنطاق الماضي، بل خرس وتصلب. لا وجه ولا مرآة. لا شكل ولا مضمون. وعنصرية فيردي المفتوحة تذهب إلى ما وراء بعض الالتباسات العالقة التي كان يمكن أن يفاوَض بها النص الشكسبيري بصورة نقدية.
الأهم من هذا هو إني، رغم بحث ممسوس، لم أتمكن من رؤية أكثر من ثلاثة حضور سود (كلهم ذكور، لا "دزديمونه" سوداء منهم) في جمهور بلغ حوالي ألف شخص جاء معظمهم الساحق وكأنه مشارك في مسابقة للأزياء الأرستقراطية.
ترى، هل كان عطيل (المغربي) يعرف؟
وترى، ألهذا فإن العرض ناجح على الرغم من سخطي؟!.
تبّاً لهذه الليلة أكان الحال هذا أو ذاك.

8

أيعتاد المرء على ما لا يعرف غيره، شكلاً ومضموناً؟.

9

تعلو الشجرة وتكبر، تتغصن، تورق، تُظِلُّ، تحط عليها العصافير، والغربان، والأقمار، والحمائم، والذكريات، والأرواح، وتثمر.
لكنها تتذكر فجأة أن جذورها ضاربة في الدم والبكاء.

10

ظهراً في مبنى البنك الفاره، أمام نُضد الصرّافين المبتسمين على عجل وبرود احترافيين فظيعين، وقف بجانبي عامل مكسيكي بثيابه الرّثة المدهونة بما شاء الله من بقع وأصباغ ولطخات اسمنت. كان يبدو مثل عائلة كبيرة تقيم في غرفة صغيرة على وشك التهدم. مد يده المضمدة بالشاش المتسخ كثيراً ليبصم بإبهامه على الشيك (يا إلهي، لماذا لا ترحم شخصاً مثلي، ولد في قرية فيها رجل واحد فقط يقرأ ويكتب، من مشهد الأميّة،هذا المتأصل في الذاكرة؟)، وفي نظرته الكسيرة - ذلك العامل المكسيكي -- وهو يبصم، في عصر ما بعد الحداثة هذا، خجل يكفي لخزي سبع أراض وسبع سموات.
حقاً يا بول تسيلان:
"فلتتحطم أقوى البوارج
على جبهة إنسان غريق".

11

"الموت جميل لأن لا شكل له ولا مضمون" (إسماعيل ناشف، حديث شخصي).
لكن الأمر ليس كذلك دوماً، خاصة لمن لديهم التباس في العلاقة بين الشكل والمضمون، ولهذا قد تكون الحياة نفسها، ناهيك عن الموت، غير ممكنة في الأساس.
لا شكل، ولا مضمون.

12

بتردد كبير، ألقى عليها الخبر السيء لموت مخرجها السينمائي المفضّل. قال: " أرجوك سامحيني، أريد أن أقول لك أن ستانلي كوبريك قد مات البارحة. أنا آسف جداً".
لا يزال يراها، ويراها، ويراها، وكم سيراها، عبر غشاوة السماوات والسنوات وهي ترفع يدها من الكتابة ببطء ورزانة، ترفع رأسها وتحدق في وجهه بأسى قبل أن تقول في خشوع نادر تنبئ عنه دمعتين على وشك الانفلات، وبجدية ووجد ما رأى مثلهما من قبل: "أتعني حقاً أننا لن نشاهد أفلاماً جديدة له؟".

13

الليل ليس رفيقاً لأحد، وليس، مع ذلك، متفرجاً محايداً حين تبدأ الضراوة بمجرد غروب الشمس. والليل ليس نصيراً لأحد، مع ذلك أيضاً.
"الليل يخص الرب في الأعالي، ويخص الباحثين عن النور." (ويليامز ساسين، "مذبحة ويريامو").

14

يا له من عاق، فقد أهلك الجليد البحيرة. أنسي أنه جاء من الماء؟

15

مطر شديد عند الظهيرة. لو كان لكل قطرة من رسالة السماء مصير تعرفه عوضاً عن أن يجتهد في ذلك الأنبياء والشعراء.

16

عِشْ حياتك كأنك تعيش أبداً، واكتب كأنك ميت صار في حِلٍّ من كل الالتزامات.

17

ريح تعصف. في الريح التي تحملها ذاكرته، قلبه الصغير ورقةٌ خضراء، في الغبار الهائل.
عندما يلتقط قلبه، بعد الريح، سيتعرف إلى أسماء الأشكال من جديد.
وسيكتشف أنه لا ألوان جديدة. وسينتظر ريحاً أخرى.
لا تنتظروه، إذاً، بل توقعوا الريح، واعرفوا الألوان.

18

سادر في أكثر التفكرات شناعة، وحين يرفع رأسه بعد ما يشبه الغيبوبة، لا يرى سوى الجدار الباهت.
أليس هذا شنيعاً؟.

19

بلى، يعيش المبدع زمنه، لكنه يقيم في زمان آخر - إما ماضٍ، وإما قادم، وإما مستحيل. في الحالات القليلة الأصيلة لهذه الحالة غير المثالية (وغير النموذجية بالضرورة)، ليس هذا خياره.
وليس من الخطأ، في المقابل، أن يعيش المبدع زمنه وزمانه إذا كان هذا اختياره، موهبته واقتداره وأقداره.
لا فضل ولا تفضيل ولا مفاضلة - مجرد بحث عن الإبداع أينما وجد.

20

الضفادع أكثر جمالاً من الورود.
لا شك أنني أوضحت الأمر بأكثر مما ينبغي. اعذروني، أرجوكم، لهذا الإسهاب.

21

ويلي مما أرادت نفسي. لكن ذلك، ويحي، كان ما أرادت نفسي.
الويل، كل الويل، لما نريد ("يداي أعانت يد الحادثات"، الجواهري).

22

هذا الوجه لن يصافح العالم، ولا هذا العالم سيعثر على يده.

23

ليس المعنى في "بطن الشاعر" (ترى، أقالت العرب هذا في اشمئزاز تلميحي من المصير الذي يؤول إليه كل ما يذهب إلى البطن، ليخرج منه؟).
بل المعنى في روح الشاعر، وفي روح القارئ أيضاً بقدر مواز.

24

كان "المسخ" - التي يرى كثير من النقاد أنها أفضل أعماله - واحداً من الأعمال القليلة التي نشرها كافكا في أثناء حياته. وفي كتابه الممتع "محادثات مع كافكا" يروي غوستاف غانوش انه التقى بالكاتب الكبير بعيد نشر العمل، وأبدى له إعجابه الشديد به. غير أن كافكا ضحك وقال بهدوء: "وما رأيك بتلك الأشياء العجيبة التي تحدث في بيتنا؟!".
وبالطبع، لم تفت على كتاب السّير والنقاد ملاحظة العلاقة الوثيقة بين اسم كاتب "المسخ"، فرانز كافكا، واسم شخصيته، جريجر سامسا من حيث المسمع، والتصادي، بل حتى عدد حروف الإسمين وترتيبها - مثلاً، التمرئي السمعي والرقمي الواضح لـ "Kafka" في "Samsa".
في نهاية "المسخ"، الرواية القصيرة، -- وكذلك في اقتباسها السينمائي الوحيد، والمرتبك بعض الشيء، للسويدي آيفو دفوراك -- تخلصت الأسرة الطاهرة والكريمة أخيراً من ولدها غير الطاهر، وغير الكريم، بل النذل الملعون، وغير المرغوب فيه أصلاً، ذلك أن جريجر سامسا كان قد تحول في فِراشه إلى حشرة ضخمة بعد ليلة طويلة من الأحلام المزعجة. وشاء الأب "الكافكوي" أن يكون احتضار ولده أكثر ألماً وقسوة، فقذف تفاحة استقرت في ظهر الحشرة العملاقة لتزيد من عذابات نزعه - لقد أنجز أُبوَّته بمهارة فائقة. ولما مات جريجر سامسا، بعد واحدة من أصعب معاناة الموت في تاريخ الأدب العالمي، جاءت الخادمة بمكنستها ونظفت الغرفة من بقايا "الحشرة" التي سببت حرجاً كبيراً للجميع في بيت الأسرة المعروفة في المجتمع. والأسرة تيقنت من انتهاء عارها، وأصبح في وسعها الآن أن تقابل المجتمع وتختلط به، ولذلك فقد تنفست الصعداء، وخرجت للتنزه بعد أن زال إلى الأبد مصدر خزيها وعارها.
يا للشكل، ويا للمضمون!.

25

يا قانون الأضداد. أيها المتماثل فيَّ.

26

ليس لأنه يبحث عن الحنان (على الرغم من أنه لن يكف عن فعل ذلك)، ولكن لأنه لم يجد أي حنان (ويحيا - قليلاً -- على الرغم من ذلك).