عبد الخالق كيطان
(العراق/ أديلايد)

عدسة حسين المحروس - البحرين
(حسين المحروس- البحرين)

بعد سنوات على مسيرة قصيدة الشعر الجديد، وبضمنها القصيدة الحرة وقصيدة النثر، يخرج اليوم عدد من الشعراء ببيانات جديدة حول ضرورة الشعر العمودي.. ولقد ارتبطت بيانات من هذا النوع ظهرت قبل سقوط الصنم العراقي في التاسع من نيسان 2003 بظاهرة عراقية لها فروعها العربية، هي ظاهرة المديح المستمدة ولا شك من تاريخ الشعر العربي في عصوره الأولى، عندما كان ذلك الشعر يعول كثيراً على الأغراض التي هي في حقيقة الأمر أغراض غير شعرية البتة ! ، وإذ ركز العديد من القادة العرب وعلى رأسهم العراقي المخلوع على ظاهرة شعر المديح فإن نماذج هذا النوع قد وجدت حقاً فرصتها المواتية في الظهور وبقوة من خلال شعر العمود..
في عراق ما قبل التاسع من نيسان كان شعر العمود هو شعر الدولة، أو لنقل المرحب به رسمياً، وكان شعراء الدولة يتسابقون لإظهار ولائهم للسلطة من خلال شعر العمود ذاته، على أن اللافت في الأمر هو ما حصل من انزياحات غرضية في شعر العمود العراقي حتى صارت قصيدة الغرض العمودي، غير غرض المديح، تسير بخطى حثيثة لإثبات وجودها المعاق أصلاً في المشهد الثقافي العراقي.. وقد أسهم في الأمر الصبغة التي صبغتها المؤسسة العراقية الرسمية على القصيدة الجديدة باعتبارها قصيدة غامضة وبالتالي فهي قصيدة مشكوك كثيراً في ولاءها ما أدى إلى محاولات جادة ومستمرة لإقصائها من المشهد..وفي ظل هذه الظروف غير الشعرية ظهر بعض الشعراء الذين دعوا صراحة إلى نهضة حقيقية في قصيدة العمود العراقي باعتبارها هي القصيدة المعول عليها !!!
وبعيداً عن مطبات التنظير التي ترافق عادة نموذج القصيدة العمودية، خاصة وأنها اليوم تمثل منتهى السلفية والانتهازية، نجد لزاماً علينا معاينة ما يكتب من نموذج شعري يعتقد صانعوه أنهم يخوضون فيه من باب حداثة الشعر، أو بعبارة أخرى أقل حساسية من عبارة ترد فيها مفردة الحداثة، نقول أنهم يعتقدون أن ما يكتبونه يمت بصلة لشعر جديد حقاً !.
لقد ارتبطت الكثير من الأفكار العراقية، والعربية، حول القصيدة الجديدة بالتنظيرات الوافدة من الغرب، وهذه حقيقة لا شك فيها، على أن أمر تطبيق تلك التنظيرات على النصوص العربية ظل باهتاً، أو بالأحرى انقاد إلى خيبات الواقع العربي المرة. لقد شاخت القصيدة العراقية الجديدة مبكراً بسبب من رطانة الواقع، وبسبب من قسوة الوقائع التي أرادت هذه القصيدة محاكاتها والوقوف عندها طويلاً ظناً من شعراء هذه القصيدة بأنهم يتحدثون عن هموم شعبهم، أو أنهم يخوضون في اليومي على اعتبار أنه ملمح القصيدة الجديدة … ولكن: ما اليومي ؟
أن تنظيرات القصيدة العراقية الجديدة قد وجدت في مقولة اليومي فرصة سانحة لتمرير الكثير من خيبات المجتمع، حتى صار لدى أعداد كبيرة من الشعراء لبس حقاً في مقولة اليومي، ولا نستثني بالطبع صاحب السطور من هذا الالتباس العميق..
ويبدو الآن أن القصيدة اليومية تقع على النقيض مما تصورناه طويلاً، عندما أقصينا وللأسف الشديد أي نوع من البهجة من الممكن أن تثيره القصيدة في نفوس متلقيها ! ، وصار شغلنا الشاغل البحث في منولوجات تراجيدية كان الواقع يحفل بها ولا شك.
لنتفق اليوم على أن الشعر الذي يهمل الإنسان لن يعنينا أبداً، والإنسان هنا ليست لفظة خالية من مبررات وجود هذا الإنسان، قد تشكل التراجيديا جزءاً حيوياً من نشاط ووجود الكائن الإنساني، ولكن لحظات البهجة تشكل هي الأخرى جانباً من ذلك النشاط والوجود..
إن مقولة اليومي تلك أسيء فهمها كثيراً، وحتى نقترب منها باعتبارها ملمحاً من ملامح القصيدة الجديدة علينا أن نغوص حقاً فيما نسميه يومياً، ومن ذلك علاقاتنا الغرامية بالأشياء والموجودات والبشر أيضاً.. لقد ظلت الكثير من تلك الموجودات مهملة في قصيدتنا بشكل أو بآخر، وأتذكر على المستوى الشخصي ذلك الهجوم الكاسح الذي شنه عليّ ناقد وشاعر فلسطيني لأنني أتيت على ذكر حيوان ما في أحد نصوصي، معتبراً ذلك حطاً من قيمة الشعر ! .
إن اعترافي اليوم بقصور فهمي للشعر لا يمنعني من محاولة تلمس الطريق الصحيح فيه، ولقد أتاحت لي فرصة الاختلاط بجنسيات مختلفة من البشر التفكير ملياً في ماهية الشعر، والبحث عن إجابة لسؤال خطير مثل سؤال: ما الشعر ؟ ولا أدري حقاً هل فكر من سبقني بهذه التجربة بالطريقة ذاتها التي أفكر فيها اليوم ؟؟
يلح عليّ في هذا الاتجاه سؤال آخر مفاده: عن ماذا يكتب الشاعر الغربي ؟ دعك من نصوصه المترجمة للعربية، فهي لا تعطي أي صورة يبحث عنها الجاد في بحثه عن ماهية الشعر. خذ حياة الفرد الغربي وقس من خلالها على ما ينتجه من شعر.. تكاد المسرات تكون قاسماً مشتركاً لحياة الناس هنا، بالطبع يسهم ابتعادهم بمسافة معقولة عن مشكلات السياسة في تبنيهم لنمط حياة يحفل كثيراً بالبهجة، وبالطبع أيضاً عليّ أن أنسى هنا أي مقولات دينية ضيقة قد تفسر إقبال الناس هنا على الحياة وإدبارنا عنها، لآن ذلك غير معقول بالنسبة لي على الأقل، فالمرجح عندي هو صلة الإنسان بحياته، والمجتمع بالسياسة تلك التي تفسد أي بهجة نتلهف لها.. عليّ أن أستذكر مثالاً صارخاً في هذا الاتجاه عشته شخصياً، فلقد اعتدت اللقاء المنفرد بعشيقة عراقية في بغداد، وكنا كلما نمضي في اللذة أكثر أتوجس خيفة منها لأنني كنت أتحدث معها في الممنوع السياسي ! هل يؤثر ذلك في ما أكتبه من شعر فيما بعد ؟ أدع الإجابة لك !
يبدو الشعر بالنسبة لي اليوم نوع من الوثنية الشخصية ، وأقول وثنية لأنها لا تحتفل بشيء خارجها ، أو خارج النص بمعنى أكثر دقة .
ولكن كيف من الممكن أن أصل إلى هذه النتيجة لو لم أكن قد تغيرت في الأمكنة ؟ أن سؤالاً من هذا النوع ظل يلازمني فترة ليست بالقصيرة، ووجدت إجابته تتعلق بالإصغاء إلى اليومي بحواسك الشخصية، لا من خلال حواس التنظيرات المستوردة أو الجاهزة أو التي يلقننا إياها كبار السن والتجربة. والحواس هي لب الشعر كما أفهمه اليوم، نحن نتحسس الشعر باعتباره ضرورة روحية مثله مثل ضرورات أخرى بعضها مكبوت وبعضها من الممكن تفريغه، والشعر بالنتيجة هو قلق الحواس من محيطها مهما كان نوعه، وهذا لا يتوفر إلا لأشخاص استطاعوا فعلاً أن يتجاوزا النظرة الدونية للشعر حتى وإن لم يكشفوا عنها صراحة فهي تتلبس شخصياتهم وأشعارهم بما لا يقبل الشك.
هل من الممكن في ختام هذه الورقة أن أرثي لعدد ليس باالشعر،ن الشعراء الذي أوقفوا تجاربهم على غرض المديح، وأخص بالذكر منهم من دخل معترك القصيدة الجديدة ولكن إغراءات السلطة دفعته دفعاً ليكتب ما يناسب مقاساتها الضيقة ؟ أرثي لهم وهم يبتعدون في كل يوم مسافات مضافة عن فهم الشعر، حقيقته، وحقيقة وجوده.