عالية شعيب
(الكويت)

ايمان مرسالبعد ديوانين أوليين، "اتصافات" و "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص"، يأتي ديوان الشاعرة ايمان مرسال الثالث "المشي أطول وقت ممكن"، مرسخا بصمتها المميزة ومؤكدا بصدق وانهمار تلقائي عفوي ذكي أن هذا هو عالمها ومفرداتها والأهم منهجها في كتابة الشعر. ديوانها الأول كان مطرا انفعاليا عنيفا ساخنا أحمر أرجوانيا عاصفا، قصة حب براقة راعدة بالعشق وتكشف جسد المرأة لها من خلال عشق الآخر له. ديوان حارق وجدانيا - وربما لذلك - جاء الديوان الثاني بعده باردا شعريا، بلا ملامح تميزه أو تجعل القارئ يتشبث به ليل نهار حتى ينهيه، فشلت شخصيا في التواصل معه اذ لم يدخلني كنص شعري لأنه لم يمنحني مفتاح الدخول إليه. ولكن لم يخل الديوان الثاني من إشارات ذكية تنبهت لها ايمان بذكاء واستغلتها بمهارة في ديوانها الثالث جاعلة منها منهجا كاملا سيميزها عن زملائها الشعراء لسنوات طويلة قادمة. صدر ديوان "المشي أطول مدة ممكنة" عام 1997 عن دار شرقيات في 58 من القطع الصغير، ويتضمن القصائد التالية: من أجل العبور بين غرفتين، ليس هذا برتقالا يا حبيبي، زيارة، مساء في المسرح يحدد النقطة الضعيفة، أحيانا تتلبسني الحكمة، النعيم، العتبة، السعادة.
التقيت بإيمان في دار شرقيات بالصدفة، وفرحت لكني خجلت من أن أشرح لها كم أحببت ديوانها الأول اتصافات وكيف أثر في ونام طويلا على وسادتي. كانت نحيلة بشكل واضح تدخن بشراهة كما يدخن الرجال في مجتمعاتنا أو النساء التافهات المدعيات للمدنية والتحرر أو المبدعات غريبات الأطوار وهي تنتمي بقوة وجدارة للفئة الأخيرة. كانت ترتدي تنورة كاروه واسعة مستديرة بحيوية وخيل الى أن فراشات عديدة ملونة تختبئ أسفلها. شعرها القصير فوضوي بجمال هويته الخاصة. كانت بسيطة نقية تلقائية وغير هادئة فلا يمكن تجاهلها، لها حضور ساطع دون أنوثة تقليدية ملونة. مطلعة وذكية بمعنى الذكاء وليس استعراض العضلات الفكرية الرخوة كمن يقوم بإلقاء
مصطلحات ثقيلة صعبة التحديد لسرقة انتباه الآخرين عنوة وشديدة الثقة والاعتزاز بالنفس. من هنا يأتي عنوان تميزها إذ حين اضطرت لوضع صورة شخصية لها على غلاف ديوانها الأخير لأنها ببساطة طريقة وأوامر دار النشر، لم تختر صورة عادية تظهر فيها أنوثتها المألوفة المكررة لدى كل امرأة، بل على العكس اختارت صورة غريبة وخاصة، صورة جانبية بذقنها الحاد وأنفها الشامخ وكأنها تقول: هذه أنا موجز النساء وجوهر الشعر.
لكن ما معنى أن نقول إن ايمان تقيس شعرها رياضيا، وما علاقة القياس الرياضي هنا بالشعر؟ وجدت في ديوانها الأخير أنها تمارس فن القياس على النص فتمزج بين فنية اللغة والحنكة الرياضية، بمعنى أن الكلام يبدو عادي مألوف المعنى خارجيا أو ظاهريا ولكن صفه بطريقة معينة وترتيب مقصود هما اللذين يحدثان الرنين الشعري الباهر الذي يجعل القارئ يتوقف ليقول: ياااه ! لنتأمل المقطع التالي: (كلما مر نور عربة /بدا على الحائط / وكأن الكرسي الهزاز يتحرك ثانية) ص 12. المعلومة هنا بديهية والجميع يعرف تلقائيا أن نور العربة المدرة سيحدث شيئا على الحائط، ولكن مجيء العبارة الأخيرة (وكأن الكرسي الهزاز يتحرك ثانية) في هذا الموقع بالتحديد هو الذي أحدث الدهشة والحبكة الشعرية المذهلة. فمن ناحية يبدو لنا النور جامدا في سقوطه على الجدار في الواقع لكنها منحته القوة والفاعلية في قدرته على تزويد الكرسي الهزاز بالحياة والحركة. أما في مقاطع أخرى فالذكاء الخالص والحنكة الخيالية واللغوية وحدها هي التي تهندس النص، تقول: (يدق جرس الباب ثم يتوقف /يبدو أن أحدا ما أخطأ في رقم ما / هل تعتقد بوجود علاقة بين الصفاء الداخلي / وازدياد القدمين بياضا) ص 13. لا علاقة عقلية بين جرس الباب وتوقفه والتساؤل اللاحق سوى شعرية الذائقة المتيقظة والمتنبهة لدقائق وشرائح النفس. هل كان مثلا تأمل بياض القدمين وما يضفيه على الروح من شعور طاغ بالنعومة والرقة أو براءة الطفولة في أنثى ناضجة والنشوة الحميمة المصاحبة لها. أو كان تساؤل الشاعرة عن معنى أو حقيقة الصفاء الداخلي واستغراقها في كل هذا أثناء ارتفاع صهيل الجرس وعدم استجابتها ثم توقفه عنادا أو احتجاجا. لعل أجمل ما في الديوان إنه يقين هذه التساؤلات لدى القارئ المتنبه المخلص ويجعله يتخيل - لمجرد التخيل - كيف توصلت الشاعرة لهذا التعبير أو كيف التقطت تلك الصورة.
أما التعابير الجنسية فلها نصيب ضئيل في هذا الديوان بحسب ضرورة موضعها في اللقطة دون افتعال أو حشر قسري كما تفعل بعض الكاتبات المدعيات للتحرر والجرأة، الأمر الذي غالبا ما يفيد العكس تماما. نعود هنا لفكرة القياس الرياضي لنية الشاعرة الواضحة بعدم طغيان صفة الجنسية وأولوية الإبداع الشمولي بدلا منها، مما ألفى الشعور بالتقزز. تقول: (حوض امرأة نحيلة / يصطك بالقفص الصدري لرجل جاوز الأربعين / ركبة تتدحرج كي يلونها الرماد..) ص 23. لا مفر من إدراك أن المشهد عنيف جنسيا، ولكن الباهر رياضيا هنا هو موازنة المقطع بوضع العبارة التالية (ركبة تتدحرج..) في هذا المكان بالذات، لأنها خففت تلقائيا من حدة التعبير الوصفي السابق لها وجاءت مثل جرعة الماء الوفيرة بعد اللقمة الكبيرة. أما اللقطة الأخرى الباهرة على مستوى التواصل مع النفس فهي (أجلس أمام المرآة في تدريب شاق / لإزالة الرائحة التي تركتها شفتان على عنقي/..) ص 27 لعل أول تساؤل بديهي خطر لي عند قراءة هذا المقطع هو لم لا تغسل عنقها بالماء والصابون، أسهل وأنظف، لكن الإيحاء النفسي - الأنثوي أقوى في تخيل جلوس المرأة أمام المرآة وممارسة عملية إزالة الرائحة. إن المواجهة بين المرأتين لذيذة فلسفيا، المرأة التي تركت الرائحة على عنقها والمرأة التي تقوم الآن بالإزالة، الاثنتان متشابهتان ولكن مختلفتان. أما الأمر الآخر المثير رياضيا هنا هو اختيار تعبير رائحة لكلمة شفتان بدل طبعة أو أثر أو قبلة الشفتين. هل لإعطاء إيحاء قوي بالقرف مثلا، أو لصعوبة المهمة إذ أنه من السهل غسل القبلة أو الأثر الواضح وليس الخفي المعنوي المجرد كالرائحة.
أصل الى تعبير آخر مؤثر فلسفيا ومثاليا تقول فيه: (أزداد نحولا/كأنني أجهز نفسي /لطيران ذاتي) ص 29 أول ما يلفت الانتباه هو العلاقة بين النحول والطيران، وليس النحول المجرد بل المتزايد، ولعل العلاقة المألوفة في الذهن غالبا ما تكون بين النحول والضعف أو الوهن والمرض..الخ. أما ربط النحول بالطيران، فتفيد بتوجه عفوي لدى الشاعرة بالانفلات والتحليق والتحرر والتحليق عاليا. لكن كيف يحقق لها النحول ذلك ؟ هنا نجد إشارة غير مقصودة للفلسفة المثالية التي تقول بتجرد الروح من قيود الجسد (اللحم الشهوات الرغبات العاطفة)، والنحول هنا يخدم الغرض تماما في أنه يقلل من ثقل الجسد ويساعدنا على تخيل تحليقه بعد أن صار خفيفا. معادلة رياضية باهرة أجمل ما فيها قراءة ما لا نتوقعه أبدا، ولكن مع استعدادنا تلقائيا لتقبله لنجاح هندسة صف الكلمات قرب بعضها البعض، الأمر الذي يهيئ استعدادنا السيكو - عقلي للقبول. أما النص التالي المؤثر فلسفيا فهو بعنوان العتبة، تصف فيه الشاعرة امتزاجها التفصيلي الدقيق أحيانا بالأصحاب الذين يشاركونها التفاعل والحلم، تقول (فجرينا ساعة / وأصبحنا أكثر هدوءا في شارع المعز/ حيث قابلنا شهيدا منزعجا/ وطمأناه أنه حي../ ويمكن أن يسترزق إذا أراد/ ثم أنه لم تكن هناك معركة أصلا) ص 77. البديع في هذا النص ليس هذه الشرائح الشعرية الذكية فحسب بل المفرقعات التي اعتادت الشاعرة إفلاتها في آخر النص، (.. وعندما قررت أن أتركهم جميعا/ أن أمشي وحدي/ كنت قد بلغت الثلاثين) ص 78. أن انفرادها واستقلالها عن الجماعة تأكيد صريح لفرديتها وإصرارها على التفرد في آن واحد، مع فارق صغير في نظرية هيدجر عن الوجود الأصيل والوجود المزيف، هو أن وجودها مع الجماعة (الأصحاب) لم يكن مزيفا أو مستلبا لأنه كان فعالا وشديد الحيوية. (قال الفيلسوف الوجودي هيدجر أن الوجود المزيف هو فقدان الفرد لمميزاته الفردية حين تبتلعه الجماعة، أما وجوده الأصيل فهو مقاومته لابتلاع الجماعة له) في مواضع أخرى تفاجئ القارئ ألفاظ وأوصاف شديدة الروتينية والاعتيادية سرعان ما تبدد الشاعرة بلادتها بمفرقعات ذكية تشعل بهجة المقطع تقول: (الزوجة / تلم الآن الملابس النظيفة من حبل الغسيل / وتدوس على زهور السجادة / ربما ما زالت الزهور مبللة / برائحة جسدين لم يكن لديهما الوقت الكافي / فحصلا المتعة من تصاعد الرعب) ص 48. الزوجة تكمل مسار يوم اعتيادي وتتابع مهامها الزوجية، لكن سرعان ما يشع المقطع حين تضفي الشاعرة النبض في زهور السجادة التي تدوسها عشرات الخطوات يوميا دون حساب لرقة ورقها أو ألمها. ثم تكمل إشعال المقطع بتزويد الزهور بمزيد من الحياة في قولها باحتمال استمرارية نشوة الزهور من معانقتها للعاشقين العجلين. لابد أن نلاحظ هنا انتباه الشاعر اليقظ بكل ما حولها، فمن من يرى زخرفة السجادة أو يمعن في زهورها ليتخيل إمكانية أن تكون.. حية ! ثم الموازنة الرياضية من جديد في شبك العبارات الوصفية في الزمن والمكان المناسبين بالتدريج المنطقي المخطط بذكاء وحنكة عقلية باهرة، البدء بالمشهد الروتيني ثم عبوره نحو تخيل حياة الزهور المطبوعة على السجادة، والانتقال معها نحو قفزة أكبر في إحساس الزهور بالعاشقين وتفاعلها معهما
أما السعادة فهي ببساطة: ( في آلات التجريف الجديرة بالحب / يسبقها لسانها عادة / وتقلب بحياد ذاكرة الأرض). ص 83.

نزوى - عمان