علي مدن
(البحرين)

فيلم سيلفيااستخدمت الصورة السينمائية منذ ظهور الفن السينمائي كوسيلة تعبير عن غيرها من الفنون مثل الرسم والموسيقى، والرواية بشكل أقل. فيلم »سيلفيا« الذي يتحدث عن الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث وعلاقتها المتوترة بزوجها الشاعر البريطاني تيد هيوز، يستخدم الصورة السينمائية هذه المرة للتعبير عن طبيعة هذه الشاعرة ليس بشكل توثيقي، أو عن طريق بناء درامي من وحي أشعارها، بل بشكل مجرد وعميق يوضح أن العناصر التي تصنع شعر سيلفيا هي نفسها التي أثرت على حياتها وطبعتها بلونها الداكن، مما يجعل هذا الفيلم من أكثر الأفلام التي تناولت حياة أعلام الأدب طموحا ونجاحا.

يفتتح الفيلم بتلاوة لإحدى قصائد سيلفيا حين تستقر الكاميرا على وجه الممثلة »جوينث بالترو«، التي تؤدي دور الشاعرة باقتدار، في وضع جنيني ومحتفظة بأجفانها مطبقة، وعندما يتوقف صوت الشعر تفتح عينيها وتنساب موسيقى جميلة وغامضة وتظهر صورة شجرة عملاقة في جو غائم وعاصف وتمتزج مع الموسيقى مكونة مشهدا مهيبا.

تبدأ الأحداث مع سيلفيا وهي تعتلي دراجتها الحمراء في طرقات سيئة الرص بمدينة إنكليزية، وهي تنتظر نتيجة محاولتها الأولى للنشر لتجد نقدا لاذعا يذيل قصيدتها، لكن غيوم الخيبة تتبدد عند قراءتها لقصيدة تيد هيوز.
تذهب سيلفيا للبحث عن تيد الذي يرد على إعجابها بكتابته برقصة تليها قبلة، وتجتمع في وجه سيلفيا مشاعر الإثارة والألم الذي يعود بعد حين ليعنون علاقتها بزوجها المستقبلي.
يبدأ الانجراف بين الاثنين ظنا منهما بإمكانية الاتحاد بكينونة واحدة حيث تتجاهل سيلفيا تحذيرات زميلتها بالسكن من قاتلها الأسود كما تسمي تيد، حين تقول لها هو وجماعته لا يأبهون سوى بالشعر، لا يؤمنون بالرفيقات الدائمات، حتى الأمريكيات منهن ذوات الدراجات الحمر والمنح اللامعة في جامعات بريطانية.
في مشهد تالي تلعب سيلفيا بكرة صغيرة تقذفها إلى سقف غرفتها مرددة عند كل ضربة أسماء قاتلها الأسود واسمها الوحيد حتى تصل بزلة لسان لتحديد قدرها:

تيد هيوز، إدوارد هيوز، سيلفيا بلاث، السيدة تيد هيوز..!
يفوز تيد بجائزة شعرية، ومع قيمة الجائزة المادية والمعنوية يصبح الشخصان الطامحان للاتحاد في جبل جليدي على عتبة تحقيق حلمهما، حيث تنفذ سيلفيا نبوءة الكرة الساقطة من السقف وتصبح السيدة هيوز.
يسافر الزوجان إلى أمريكا حيث ستكون أوضاعهما المالية أفضل، وقبل الشروع في حياة زوجية رتيبة تجد سيلفيا نفسها عاجزة عن الكتابة، حيث أن السعادة لا تلهمها، وبدلا عن ذلك تنغمس في إعداد الكعك كلما ذهب تيد لركوب الدراجة وعاد بقصيدة مذهلة.
بعد يوميات الكعك تباشر سيلفيا عملها بالتدريس متخلية عن بريقها كشاعرة لمردود مادي أكثر استقرارا، ويحاضر زوجها من وقت لآخر في إحدى القاعات، ولا يكسر خدر السعادة الرتيبة الذي يكسو حياتهما سوى تعب سيلفيا بين الجامعة والبيت وجماهير الزوجات اللواتي يتجمعن حول صوت زوجها، الذي يتحول إلى شك طفيف، ينتهي الشك بإدراك كل منهما أنهما يتنفسان بالكاد في هذا المكان لذلك يقرران العودة إلى بريطانيا. و هناك تنجب سيلفيا طفلتها الأولى وتسترجع رغبة جزئية بالكتابة وتقرر إطلاق ديوانها الأول.
يظهر الديوان بدون قدر كافي من الزخم، كافي فقط لإحباطها، وتبدأ الشاعرة النضرة بالتحول إلى كائن آخر. يصبح الشك بزوجها هاجسا ملحا، حيث يتضاعف صوت رنين الهاتف مع بكاء الطفلة في داخلها مكونا نشيدا رهيبا، وللمرة الأولى تفقد السيطرة على نفسها:
تمزق الأوراق، تنفي الأقلام ولا يبقى أمامها سوى مكتب فارغ ورأس لا يمل الشك.
يقرر الزوجان الارتحال مرة أخرى، هذه المرة إلى الريف، لكن كلما انطفأ ضجيج العالم من حولهما باتت صراعات سيلفيا الداخلية مسموعة أكثر في الهواء.
وفي أركان هذا البيت الريفي تصبح المشاكل أكثر عمقا، فيصبح الصدام أكثر قسوة. و تبدأ القطيعة بين الزوجين. تلتفت سيلفيا لفنها القاتل كما تسميه، تحاول الانتحار مرة أخرى وتتراجع قبل الخط الأحمر، تبحث عن مخرج، وتجد بابا ضيقا في الفجر عندما تسكب همومها في قصائدها. و تقوم في هذه الفترة بكتابة الجزء الأكبر والأكثر شهرة من نتاجها الأدبي، تعود إلى لندن وتدخل الستينات بشعر طويل مرسل وأحذية ضخمة. تحاول العودة إلى الحياة، تغوي ناشرها، تسعى للعودة لزوجها وتلفظها كل الأبواب التي تحاول ولوجها. ينتهي بها الأمر وهي تتلقى حلم يقظة أمام مصباح ممر كئيب وهو ينبئها بأنها قد تنجح هذه المرة بتأدية فنها القاتل. تدخل شقتها تعزل أطفالها النائمين عن مشروعها الأخير تشعل موقد الغاز وتنتظر على كرسي برضا في وسط مطبخها، تبدأ الصورة بالتلاشي وتتحول إلى مشاهد أخرى وتعود الموسيقى الغامضة الجميلة إلى مشاركة الصورة في الحضور، وأخيرا تظهر الشجرة نفسها من المقدمة لتختم شريط الفيلم.

يخرج المشاهد من الفيلم وهو معجب على الأقل بجودة الفيلم، وتعود هذه الجودة إلى ندرة الحوارات الطويلة في الفيلم، التمثيل الجيد من الجميع والذي يرتقي أكثر قليلا عند بطلة الفيلم »غوينيث بالترو«، جماليات التصوير وتمكن المخرج في هذا المجال في اختياراته، أخيرا إلى موسيقى المؤلف »غابرييل يارد« التي تطبع الفيلم بأكمله بصدى أعمق، مضخمة أحداث الفيلم إلى أبعاد أخرى أكثر رحابة.
في بداية المقال ذكرت أن الفيلم ينجح نجاحا استثنائيا في التعبير عن الشاعرة، والآن بعد ذكر أحداث الفيلم يمكن أن نبين أين يكمن هذا النجاح.
سيلفيا بلاث كما يعلم من يعرفها شاعرة كانت شبه مغمورة في القسم الأعظم من حياتها المهنية، باستثناء الفترة التي تسبق انتحارها، كما يمكن القول إنها شاعرة مزاجية الحالة الوحيدة التي تدفعها للكتابة، هي الألم والغضب، ولهذا السبب قد نجد أن، أغلب قصائدها تتحدث الألم أو الموت، لكن أبدا ليس عن العذاب في سيلفيا تنجح في أن ترفع نفسها في شعرها من الشخص الذي يتعرض للألم إلى مجرد مشاهد، حديث قاتل بدم بارد. يتخلل الفيلم إشارات عدة لهذه الخصلة في الشاعرة نخص بالذكر اثنتين شديدتا الدلالة، الأول عند استهلال الفيلم حين يظهر وجه سيلفيا مع نغمات خفيضة وصوت سيلفيا يقرأ قصيدة ما تقول:
الموت هو فن مثل كل شيء آخر أقوم به استثنائيا بشكل جيد أقوم به حتى يبدو مثل الجحيم أعتقد أنه بإمكانكم أن تقولوا ، لدي نداء. و عند السطر الأخيرة تفتح عينيها.
المشهد الآخر في نهاية النصف الأول من الفيلم حيث تركب سيلفيا مع زوجها قارب خشبي وهما في عطلتهما عند المحيط. و يجدفان بالقرب من الشاطئ ويناقشان عدم قدرة سيلفيا عن الكتابة، وفجأة يجرفهم التيار لعمق البحر في لقطة تبين اتساع المحيط والألوان التي يضمها المنظر بوضوح، ويبدأ القارب بالتأرجح، يقول تيد سيلفيا أن، كثيراً من الناس يغرقون بهذه الطريقة، وتبدأ غريزة الكتابة بالاستيقاظ، تذكر سيلفيا أنها حاولت إغراق نفسها مرة، لكن الأمواج دفعتها للخارج، كأنها لا تريدها، وتبدأ بنظم قصيدة في نفس الوقت الذي يعلو فيه صوت الموسيقى خالقة نفس الأثر المهيب الذي حققته في المشهد الاستهلالي.
وبشكل غير مباشر يلقي الفيلم الضوء على ما يعرف بالأدب النسائي عند تحليله لسيلفيا، فبالقليل من التركيز مع الفيلم يمكن أن نخرج بالنتيجة التالية:

يمكن تصور الأديب بحامل كاميرا رقمية بعض الأدباء يوجهون الكاميرا لما حولهم ويتحولون إلى مجرد جهاز مكتنز لا يؤثر بالصورة إلى من خلال ارتفاع الكاميرا وثباتها وهو الأدب الأكثر شيوعا وينجح أصحابه بالحصول على حياة منفصلة عن حياتهم الأدبية.
آخرون يوجهون الكاميرا الرقمية إلى الاتجاه المعاكس إلى الداخل مما يجعل أدبهم أكثر صدقا أقل إنتاجا وأشد تركيزا، كوجبة دسمة لا يلجأ المرء إليها دائما. وحتى وأن حصل أن وجهت الكاميرا إلى الخارج قليلا فإن ما تلتقطه هو انعكاس خامل للكاميرا على الأشياء،و هذا هو جوهر الأدب النسائي، وهنا تكمن فرادة سيلفيا فبالرغم أنها توجه شعرها إلى الداخل والداخل فقط، فأنها لا تعدو سوى كاميرا جامد راوي مما يجعل لشعرها صادقا بشكل مخيف لأنه قد يلمس الجميع.
سلاسة الفيلم والمتع البصرية التي يوفرها نشكر عليها المخرج لإصراره على حضور حرفي وذكي للألوان الداكنة التي تتدرج إلى ألوان باردة أقل دكانة بالإضافة إلى نص مسخر هو الآخر للصورة، وإن كانت قبضة المخرج ترتخي قبل المشاهد الأخيرة، فإن النهاية المحكمة تسمح للمشاهد أن يلتقط إعجابه إذا كان قد فقده في موضع آخر.