بول شاوول
(القاهرة)

تناولنا في الحلقتين السابقتين عدداً من المسرحيات العربية والأجنبية. هنا الحلقة الثالثة.

"حديقة بلاستيكية"

حديقة بلاستيكيـ "حديقة بلاستيكية" (إخراج سلادوري تراماسيري ايطاليا). كأن هذا العرض يريد أن يقول أشياء كثيرة، لكي لا يقول شيئاً في النهاية، خلطة عجيبة من "الرؤى البصرية" والجماليات البلاستيكية، وبقايا من البرشتية، وملامح من السيرك، وشيء من الكوميديا دي لارتي، ووفرة من التهريج وكثير من الادعاء.

تأتي بعض الفرق الأجنبية وفي وهمها أنها تريد، وبأي شيء، أن تبهر المتفرج العربي لاعتقادها، بأنه لا يعرف من هذه الأمور شيئاً، ومن السهل صدمه أو إبهاره. والواقع أن هذه الذهنية "الفوقية" (الجاهلة) والمصابة بلوثة "التفوق" الحضاري، سريعاً ما تكتشف أن ما تعتبره جديداً علينا، استنفد عندنا منذ عقود. وهكذا كان، بدأ الممثلون الثلاثة بمخاطبة الجمهور، في بداية العرض، وإقامة علاقة بهم، تيمناً بكسر الجدار الرابع الذي انكسر منذ زمان (عند برشت) وانكسرت معه الجدران الخامسة والسادسة... لعبة عتيقة بائخة. انفتحت على اسكتشات "كوميدية" قائمة على التهريج الحركي، والمفارقات الكلامية، والمبالغة الغروتسكية، مزج البرشتية بالتهريج وبأدوات السيرك... ثم ، ولكي تضاعف من إبهارنا يبدأ الممثلون، على خشبة مكتظة بالأنابيب البلاستيكية (النرابيش، أو الخراطيم) بتركيب مشاهد جمالية مجانية، مشهد المظلة التي يطفر منها ويتناثر وريقات لماعة أو صياغة تشاكيل بواسطة الأنابيب، هي في الواقع جميلة، وذات إمتاع بصري، ومؤانسة، لكن من دون أن تقول لنا شيئاً. جماليتها لا تخرج من ذاتها. ونظن، أنها مهارات الممثلين الصوتية والجسدية، والجماليات السينوغرافية المتناوبة (لا المتبادلة) تذكرنا كثيراً إما بمسارح الأطفال، أو بمسارح الكباريه سوى أن هذه الأخيرة لا تحمل ادعاء. بعضهم قال إن التقنيات في هذا العمل هو المضمون. هو الدلالة (البلا دلالة) هو المتعة العابرة الهشة، السريعة، لأنها من ملامح "ما بعد الحداثة" أو من "تجلياتها" لكن الواقع، لا يمكن أن نصنف أي عمل مسطح بجماليته، ومهاراته المتقنة، وكأنه ينتمي الى زمن ما بعد الحداثة، فهذه اليافطة العجيبة الغريبة، لم يخل منها المسرح "الحداثي" سواء بالأعمال الاستهلاكية التي قدمت على معارض على امتداد القرن الماضي، أم بالأعمال التجارية، أم بالجماليات الخلابة الزاحفة التي جسدتها مسرحيات كثيرة (ورائعة) في تونس أو المغرب أو بيروت أو مصر.

العمل الايطالي قد يكون مكتفياً بنجاحه في كباريه وفي سيرك، أو في قرية، لكن بدا وكأنه وبرغم ادعائه، نافر في مهرجان مسرحي تجريبي.

حقاً أنها حدائق... ولكن بلاستيكية.

"ناس وحبال"

حديقة بلاستيكيـ "ناس وحبال" (تأليف فهد الحارثي، إخراج شادي عاشور السعودية). كنا ننتظر "الصدمة" من بعض الفرق والبلدان ذات الصيت، ولكنها جاءت هذه المرة من المسرحية السعودية، ومن خلال معرفتي بالمسرح السعودي منذ أكثر من ثلاثة عقود، فان هذا العمل، بدا الأكثر جرأة، والأكثر تجسيداً للعنف، والأكثر انخراطاً في المسألة السياسية في الشرق الأوسط، ولا سيما في فلسطين.

فعلى امتداد 45 دقيقة، كنا أمام مشهديات متوالية، بوسائل سينوغرافية (بصرية، وموسيقية) محدودة: شاشة من القماش تقسم الخشبة الى قسمين. ومن القماش ذاته ملاءات تستخدم لوظائف عدة: الموج، أو الكفن، أو ذريعة لحركة خلفية. العنصر الآخر في السنوغرافية: كشافات ضوئية يدوية، وبعض البروجكتورات، لتكون الموسيقى ومعظمها من الخزانة الكلاسيكية (السمفونية التاسعة لبيتهوفن) جزءاً من شحن الإيقاع، وتكوين المناخات.

لا نص سوى جمل قليلة. ولا ممثلون بالمعنى المعهود ولا شغل عليهم. السينوغرافيا هي البطل. فخلف الستارة وبالكشافات الضوئية كونت مشهديات العنف في فلسطين، والقتل، والإعدام (وربما في غير فلسطين) ومقاومة التنين، والقوة والطغيان في مشاهد اوحت لنا بالضوء والقماش والإيقاعات الموسيقية ما كان يمكن أن يقدمه ذو حوار وسياق وممثلين... أي على الطريقة التقليدية.

إن ابرز في ما العمل السعودي تكافل الصورة المقتصدة، والإضاءة والموسيقى والمساحات على تكوين إيقاعات مهلوسة، عنيفة، متوترة تعبر، عما يجري في الواقع. الصورة، (الصوتية والمشهدية) هي وحدها ترسم الأجواء، إما الممثلون هنا، فيأتون كرديفين أو كأجزاء ثانوية. والمهم أن هذه السينوغرافيا التي طغت بلا حوار ولا كلام، وبرغم محدودية عناصرها، لم تقع في المجانية الجمالية، ولا في الثرثرة البصرية، ولا في الفجوات الإيقاعية، على العكس من كثير من الأعمال العربية والأجنبية، كانت الصورة بمكنوناتها، درامية الى آخر الحدود.

يبقى أن نقول: إن لعبة الشاشة، والملاءات، والكشافات استخدمت كثيراً في المسارح العالمية وكذلك في العربية. لكنها هنا لم تفقد جدتها وجديتها وفاعليتها.

"أحلك الأوقات"

حديقة بلاستيكي"أحلك الأوقات" مسرحية موسيقية لقصائد من برشت، إعداد وإخراج نورا مراد، سوريا "بعيداً عن ملحمية برشت، وتغريبته وحذره من الاندماج بالجمهور أو بالحالة أو بالأداء، شاهدنا مستمتعين ومستمعين الى عمل يمكن إدراجه ضمن ما يسمى "مسرح الغرفة" (على غرار موسيقى الغرفة...) عمل لا يدعي، يتعامل مع القصيدة باعتبارها متناً مفتوحاً على مختلف الأشكال والأجناس. إن تحول برشت ذي الصخب والمعالجات العمومية الى ما برشت حميم ، قريب، من خلال أدوات مقتصدة، ومكثفة، فهذا أمر محبب، يعني المقاربة الذاتية (لا الجماعية أو المعممة) التي لامست بها نورا مراد النص البرشتي. كيميائية بين القصائد والأصوات والنبرات والملابس والموسيقى والحركة والفضاء السينوغرافي (المربع في بيت الهراوي)، والألوان، أعطت العرض تآلفاً، وانسجاماً، من الداخل، انعكس على بنيته. فكأنك لا تميّز أحياناً بين نص يطلع من الموسيقى، أو موسيقى تطلع من النص، وبين أصوات من نبر المعاني والحالات، وبين معانٍ وحالات من نبر أصوات تموج بين المستويات الأوبرالية المخفقة، وبين الأغنية القريبة، فالأداء كأنه من هذه الموسيقى والنص كأنه طالع من الأداء. توليفة حساسة جداً عرفت نورا مراد كيف تذيب عناصرها وتحوّلها مقطوعة موسيقية ـ نصية ـ جسدية شفافة، كنسمة مرت هذه المسرحية ـ المنمنمة، كنسمة طرية، لكن لافحة أحياناً، وجارحة أحياناً أخرى، وتراجيدية في أمكنة (برغم أخينا برشت الذي لا يحب التراجيديات). فالمؤدون نورا مراد وشادي مفرش ونسيمة ضاهر، والمغنيان ديما أورشو وشادي علي، والعازفون كنان العظمة (كلارينت)، وخالد عمران (كونترباص) ومحمد نامق (تشيللو)، شكلوا جميعاً فريقاً حساساً، وقدموا عملاً متميّزاً، بعيداً من الجعجعة والشعارات والنظريات والادعاءات.

"روميو وجوليتان"

ـ "روميو وجوليتان" (إعداد وسينوغرافيا وإخراج راني أبو حدبة، لبنان). إذا كانت سهام ناصر "استوحت" بيكيت من مناخات البيئة أكثر مما اقتبسته من كلماته، ونصوصه، وقدّمت أكثر من عمل مميّز، فإن راني أبو حدبة ركز على شكسبير. والتركيز على شكسبير بات شائعاً عندنا وعند سوانا: تحويل مكبت مسرحية عبثية مع يونسكو، وهملت رمزاً لأزمة المثقفين مع هاينر مولر (في هملت ـ آلة". وكذلك مع فرق عديدة في أوروبا تعاملت مع "روميو وجولييت" معاملة كوميدية، أو مع "سيدان من يرونا" بالكوميديا دي لارتي...

إذاً، الاستناد إلى شكسبير صار شائعاً إلى درجة من الحرية والخوشبوشية تجعل البعض يستعير العنوان أو أسماء بعض الشخصيات ويمعن في تأويل لا علاقة به بالشاعر الانكليزي الكبير. تأويل يصيب ما يصيب من النص. ويعطب ما يعطب من المناخات. عال! لِمَ لا، إذا كان ما يقدّم من تشويهات يمكن أن يقدم عملاً مهماً.

"روميو وجوليتان" لراني أبو حدبة، حوّلت المتن الشكسبيري إلىًتف، ومن نتف إلى نبرات، ومن نبرات إلى صياغة مناخ أقرب إلى مناخات مسرح الكباريه السخرية من كل شيء؛ عال! السخرية من السخرية؟ عال! من المذهبيات. من الأغاني. من الجد. من الصراعات. من المدينة. عال! لكن ليس المهم أن تسخر، وإنما كيف. وبأي الوسائل؟ وأين أبو حدبة أدخل كثيراً من الأدوات السائدة في متنه المسرحي: الحركات، التمثيل الصامت، الأغاني، الإضاءة، الفضاء المسرحي، الجمل المبتورة، الأغاني، الموسيقى الصاخبة... كل هذه العناصر حاول أن يصوغ بها عملاً ساخراً، يتمتع بمواصفات جمالية ـ بصرية (الإضاءة، البخار الملابس...)؛ لكن وبرغم هذه الاستخدامات، فقد جاء العمل غير ناضج في كليته: البداية (الاجتماع) كان فاتحة تعد بالكثير من حيث إيقاعها وإتقانها، لكن يبدو أن المخرج والمعد، أراد أن يفتح كل شيء على كل شيء، مما أدى إلى تفلت الإيقاعات، سواء عبر تكراراتها غير المجدية، أم عبر إدخال مكيشيات المسرح التجاري ضمنها، أم عبر خليط من أغاني عربية وغربية. كان يحتاج إلى ضبط، ومزيد من الانصهار. ونظن أنه كان على المعد والمخرج أن يرتب جيّداً مواده ويداخلها، لكي لا تكون المسرحية مجموعة اسكتشات غير مجموعة بجملها عنوان نظري لمسرحية شكسبيرية. وكان عليه أن يشتغل أكثر على الطاقات التمثيلية المتفجرة والنضرة والتي أعطت بحيوية وحماس ما عندها. هذا جيّد. لكن كل أن يمكن الشغل أكثر على "أدوارهم" ومن ثم على إمكاناتهم الصوتية (الصراخ شيء والزعيق شيء آخر)، والجسدية بكثير من "المسرحة".

"روميو وجوليتان" عمل شبابي طموح، وواعد لكن نظن أن السخرية هي أقصى الجدية في العمل. أي الإتقان.

الإتقان هو الأساس في كل عمل. ولا عوز لمن يُهمل الإتقان سواء كان محترفاً أم فتياً، أم هاوياً أم نافراً، أم متيماً، أم عابراً، أم ساخراً أم غير ساخر... عبثياً أم غير عبثي. كلاسيكياً محافظاً، أم طليعياً وتجريبياً.
"أعتذر أستاذي.."

ـ "أعتذر أستاذي لم أقصد ذلك" (تأليف عواطف نعيم، إخراج هيثم عبد الرزاق، العراق).

على الرغم من الظروف المأسوية، وأجواء الحروب، والاحتلال (الأميركي)، والمجازر اليومية، والخوف، والمصائر المفتوحة، يحاول المسرح العراقي استعادة أنفاسه في هذه المنقلبات الجديدة، وسط حقول من الألغام، ووسط الخطر... والمجهول. كأن المسرح العراقي يأبى أن يكون جزءاً من الخراب "الكوني" الذي أحدثه الاحتلال، وجزءاً من الموت اليومي... بل كأنه الوجه الآخر من المقاومة المدنية. المقاومة التي تعني رفض الموت، ورفض الأمر الواقع، ورفض اليأس. هكذا شاهدت وقرأت المسرحية العراقية. وبهذه المقاربة لامست العمل. وبهذا المعنى استشففت أدواته وعناصره. ونظن أن هذا العمل، بنصه أولاً وإخراجه ثانياً، ومؤديه وأدواته، كأنما كان يجافي التحريبيات الشكلية، أو الشكلانية، والطروحات الاختيارية الفردية المترفة. عمل طالع من الواقع المباشر. بنص فيه كثير من المباشرة. وبإخراج مباشر، وبأداءات، على براعتها وجديتها مباشرة، وسينوغرافيا طبيعية (مباشرة). فالمهم بالنسبة إلى العمل هو التعبير عن الواقع. إطلاق الصرخة العارية. إطلاق الكلمة التي لا تحتاج إلى ترميز أو غموض أو صعوبة دلالات. فأقرب الطرق للوصول هو الخط المستقيم. ويعني ذلك أن تأريخ اللحظات "الاستثنائية" يمكن أن يتم بمقاربة معممة. مقاربة تصل إلى الجميع. بلا حواجز، ولا مجازات، ولا التواءات، بهذا المعنى وصلت المسرحية. وكان لها بين الجمهور وقعها "التأريخي" والتاريخي، والظرفي. ووصلت أيضاً، كمحطة أولى، أو كإحدى المحطات الأولى، التي تحدد وجهة المسرح العراقي، بعد المرحلة الجديدة التي يعيشها، والمحفوفة بالمصاعب والعوائق من كل لون، ومن كل حدب وصوب.

المستقبل
الخميس 30 أيلول 2004