أعد الملف: عزت القمحاوي

محكومون بالكسلطرحنا فكرة هذا العدد بكسل علي عدد كبير من مبدعينا وللأسف كسلنا عن الاتصال بعدد آخر كان من المحتمل أن يشاركونا. من اتصلنا بهم تباينت ردود أفعالهم بشدة. البعض أبدي دهشته وكسله، البعض تحمس وكان لديه من النشاط ما يكفي للكتابة، والبعض وعد بالمشاركة ولكنه تكاسل عن التنفيذ!

كلنا نعرف أن العمل صعب، لكننا لم نتأمل صعوبة الكسل الذي تتعدد أنواعه:
فألا تعمل شيئا وتستمتع بوقت إجازة طيب فن لا يجيده كثير من البشر.
والكسل ضرورة لدي المبدعين، وربما كانت أوقاته هي الأهم في نشاط الفنان. ليس المبدعون فقط، بل إن كل الباحثين عن الحقيقة ومبتدعي المذاهب الكبرى أنجزوا ما أنجزوه في خلوات وأماكن للتأمل بعيدا عن الآخرين. لكن الأديان تذم الكسل المقعد عن العبادة، أما جزاء من يسارعون إلى العمل الصالح فجزاؤهم الراحة التامة في الفردوس.

والكسل علامة، كانت (نؤوم الضحى) في الشعر الكلاسيكي العربي صفة كافية للدلالة علي جمال المرأة ولين جسمها وارتفاع طبقتها، فالجمال ابن شرعي للكسل. وحتى اليوم فإن مصحات الجمال تعتمد بشكل أساسي علي عطايا الكسل، للسبب ذاته تتخذ فنون التأمل الهندية أهميتها لدي الحريصين علي إطالة أعمار شبابهم.

الأرستقراطية في كل الشعوب والأمم استأثرت لنفسها بفضائل الكسل، فكانت الثورات الكبرى التي لم تكن في جوهرها سوي رغبة في إعادة توزيع الكسل بالعدل. هل يمكن أن نقول أن الإفراط في الكسل كان سبب انهيار الشيوعية؟

عموما، الكسل في أوقات العمل هو نوع من المقاومة السلبية والتعبير عن الإحباط السياسي. لا أحد يسأل لماذا تزدحم شوارعنا في الثانية عشرة ظهرا، وهو ليس وقت بدء أو انتهاء العمل في أي قطاع!
الكسل المنظم أو وقت الإجازة سواء في أيام الآحاد أو في العطلات الصيفية صار اليوم دينا وهوسا غريبا خالصا في عصر عبادة العمل، إنه الوجه الآخر الذي يؤطر وقت العمل ويبرزه. وقد يكون عدم احترام وقت الأجازة الوجه الآخر لاستهانتنا بالعمل.

ولا ننسي أخيرا الكسل بوصفه ظلما ونوعا من الحتمية الجغرافية تمارسه الطبيعة ضد سكان المناطق الحارة، وحتمية تاريخية، يمارسه الفساد ضد المتعطلين عن العمل رغما عنهم.

هذا العدد يتأمل ببطء أنواع الكسل، أو فن ألا تفعل شيئا!

***

العالة في المساء


'إلى شوقي أبي شقرا وفؤاد رفقه وعصام محفوظ'

عبد المنعم رمضان
(مصر)

ياكأسّ نبيذي
ياروحي المنهوبة
يا أوٌلّ خطواتِ الربٌّ إلى أجسادِ رعٌيّتِه
اللغة هوايّ
وماءّ اللغةِ سماءّ هوايّ
وما يبقى من أغنياتي
يجفني ذاتي
أنتم مأجورون علي الطاعةِ والعشقِ
ومستورون عن الكلماتِ
الكلماتِ
الكلماتِ
وأسراي أحرار في مأموريتكم
يستندون إلى أعمدةِ البهوِ
وأّسراكم عميان
وأنا أملك ما أملكه الآنّ
وأفقده للتوٌِ
وآكل ما لا أحسب أني أرغب فيهِ
وأضع ذبالة قلبي
وذبالة أعضائي
في الطرقاتِ
لعلٌّ الآخٌّاذين المأخودين الأطهارّ الأخيارّ البررةّ
يعتادون علي معرفتي
حين أراهم يسترقون السمعّ إلى خطواتي
أمي لا تحرسني
وأبي يخرج من نافذتي
قّبل هبوبِ الفجرِ
ويظْلعّ في مشيتهِ
والبنت الكسلانة تهبط كاللبلابِ
إلى غرفة جارتها
والأشياء تفارقني وتضيع
الشمس تسير بعيدا عن بيتي
تنسل خيوطي من بٌلورتها
وتفيء إلى ما لا يعرفه الناس
عن الأشواقِ
فنائي لا يشبهني
يشبهني في الحلم
وظلي يشبه ظلٌِي
كسلي يشبه كسلي
مخلوقاتي تشبه مخلوقاتي
وأنا العاشق
روحي تسهر قرب النارِ
وتسهر قربّّ النورِ
وفي خاتمةِ الليلِ
ستهرب روحي من قبري المفتوح
ستهرب من أعماقي
وأبادلها الخوف من الأروقةِ
هي المرتّجفة بعض الوقتِ
أنا المرتجف طوالّ الوقتِ
وأوثر رغمّ هشاشةِ ما أكتمه
أنْ اختلس الأغنيات
وأوثر أن اختلّس خضوعي
واستغراقي
أشرب من إبريقي
مائي الباردّ
أشرب خمري
عسلي
نعناعي
وعصيّر كلامي
وبقايا ترياقي
وإذا نمت
أفكٌِر كيف تكون حياتي بعد مماتي
كيف يكون المشي من الأعرافِ إلى الجنةِ
هل حقا سوف أمرٌج
وسوف أكون وحيدا مثل الملك
ومثل العبدِ
أفكٌّر
كيف يكون البستان الشرقيٌ
وكيف تكون شجيرة كّسِّلي
كيف أري في الجنٌةِ أمي
أدعوها للشاي
وللإفطارِ
وبعض عصيرِ المانجو
وعصير التفاح
وكيف أرافق محبوباتي
واذا نمت
أفكر كيف أرتب في مكتبةِ الجنةِ
ما يتبقى من أوراقي
كسلي يحيي كّسّليِ
وظلام الأحلام جهاتي الأربع، معراجي ودواتي
مطلع حريٌّاتي
واسترقاقي
اللغة هوايّ
وماء اللغةّ سماء هوايّ
وما لا يفنى أغنٌياتي
يفنى ذاتي

***

إدمانه يدمر معنويات الإنسان ويحول جسده

إلى ديناصور يعيش على حساب غيره : ولا عزاء للكسالى

خيري شلبي

يأمرني الطبيب أن أمشي لمدة ساعة علي الأقل كل يوم ولما كنت ممن يمتثلون لأوامر الطبيب دون تردد فقد كرست العزم علي التنفيذ. ولقد بدا لي الأمر سهلا، لا سيما وأنني من كبار المشائين الأعلام، وكنت على وشك أن أنضم إلى النخبة من أهل الخطوة القادرين على التواجد في أكثر من مكان في زمن واحد، بل هكذا كان يصفني بعض الأصدقاء، أقصد الذين كانوا يصيرون كالأصدقاء من فرط ما نتلاقى في أمكنة عديدة حيث يألف بعضنا بعضا ويأنس بعضنا إلى بعض دون معرفة حقيقية بل دون أن يعرف بعضنا اسم الآخر بالكامل، ناهيك عن وظيفته في الحياة.. كان الواحد منهم يراني في جريدة الجمهورية وبعد دقائق معدودة يلتقيني جالسا علي مقهى ريش، وقد يتركني على نفس المقهى ليلتقيني في مطعم الكبدة والمخ في باب اللوق، وقد يصادفني في مواجهته في شارع عماد الدين فيقسم لمن معه أنه تركني منذ برهة وجيزة أمام لوكاندة العلم المصري في شارع كلوت بك وكم من صداقات عميقة نشأت وتوطدت بيني وكثيرين من أهل الخطوة من أمثال الذين لا بيت لهم ولا أهل ولا مرتب شهري في هذه المدينة المتفولة الحنونة في آن معا. أخص بالذكر صداقتي للشاعر الراحل الحبيب أمل دنقل، وللقاص البديع يحيي الطاهر عبدالله ومؤلف الأغاني بخيت بيومي، أولئك هم رفاق الليل الشريد المليء بالمفاجآت والصدامات وفي قليل من الأحيان بعض المسرات. وقد تفوقت عليهم جميعا في القدرة علي المشي لمسافات طويلة، ومن قرأ روايتي (موالي البيات والنوم) يعرف كيف كنت أبيت الليل كله سائرا علي قدمي أطحن أسفلت شوارع القاهرة من أقصاها إلى أقصاها بحثا عن مأوي آمن فلا أجده إلا في المشي بجدية وحماسة كأن ورائي موعد غاية في الأهمية يجب أن ألحق به فورا. فإذا ما طلع النهار دبت في أوصالي الحيوية من جديد لاستأنف السير إلى أماكن معلومة محددة: إنها بالطبع حيوية النهار، حيوية الضوء ووضوح الأشياء والوجوه والسمات والأغراض. في واحد من هذه الأمكنة العديدة التي اعتدت زيارتها والتردد عليها دون أن يكون لي عمل فيها وإن كان لي في كل منها صديق وأمل بأن ألتحق بها ذات يوم قادم قد يلتقيني الشاعر بدر توفيق أو سيد خميس أو الدسوقي فهمي أو جودة خليفة أو جمال الغيطاني أو ابراهيم أصلان أو غالب هلسا أو البساطي أو سامي السلاموني أو ضياء الشرقاوي فيشتبك بيننا الحديث الحميم في شئون الأدب والكتابة والنشر وما قرأناه وما سوف نكتبه، والحديث نحلة دوارة، يدحرجنا في الشوارع والحواري، يتوقف بنا علي النواصي وفوق الأرصفة عند الانفصال ثم سرعان ما ينفضٌ الاشتباك ويسترد الحديث سيولته زاحفا بنا إلى مقهى ريش أو باب اللوق أو ميدان التحرير أو سور الأزبكية. معظم هؤلاء لديهم بيوت وأهل يؤوبون إليهم إن عاجلا أم آجلا: الدور والباقي عليٌ أنا: فجأة أصير وحيدا شريدا لا يأبه به أحد بعد أن كنت منذ برهة وجيزة ذاتا متحققة في حوار ومشتركة مع أنداد أعزاء في أمل واحد. العائد إلى بيت وأهل سيخلد إلى راحة فيها نوم قيلولة وفيها استحمام وتغيير ملابس وتجديد نفوس أما الشريد السائب فطوبي له: إنه كثيرا ما يكون أسعد حظا وإن كان وضعه المرهق الشقيان ليس مؤهلا لاستيعاب الشعور بأي سعادة، إنما يشعر بها فيما بعد حينما يقتاده هاجس الكتابة إلى الورق فيجد أن دواته بحر لجيٌ من التجربة الغنية يغمس فيها قلمه ويكتب: إن كان البحر البحر مدادا فقد ينضب أما بحر التجارب فليس ينضب علي الإطلاق. يقول بدر توفيق أنه مدين لي بمعرفة مدينة القاهرة شقا شقا. وزميلنا الصحفي مصطفي مجاهد يشهد بأنني تفوقت عليه في إدمان الصعلكة وحب التسلل إلى الشقوق التي لا تتسع بالكاد إلا لفأر أو عرسة، هكذا يعارضني وأنا أدعوه للدخول معي: لكنه ما أن يتأهب للانكماش قدر الطاقة ليمرق بسلام من الشق حتي يفاجأ بأن الشق يفوٌِت الجمل، وأنه يفضي إلى باحة واحدة تطل عليها عدة مقاه ذات مذاق معماري حميم صبغته رطوبة الزحام وعرق الأزمنة بعراقة التاريخ ذات اللون الرمادي الكابي. لم أجد في حميمية هذه البقاع وهاتيك الأمكنة بين البشر إلا حميمية مصطفي مجاهد وجودة خليفة وبدر توفيق أولئك الذين كانوا يسلموني قيادتهم في ابتهاج مستثار بروائع المفاجآت من صور الحياة في البنية تحت التحتية بأميال كثيرة، حيث لا تعرف إن كان الجالس بجوارك متسولا أم لصا أم مجرد هيكل أماته الجوع منذ قرون طويلة. حتي هؤلاء الذين هم من تفاصيل عالمي الخاص لهم بيوت ووظائف وربما زوجات وأولاد لابد أن يعودوا إليهم في لحظة اعتدت أن ارتجف كلما اقتربت موعدها: وكان الحزن ينسف من دماغي كل ما عبأته فيه من بهجة الرفقة إذ تتبادل أنفاس المحبة والمجاملة والإيثار بأريحية. ننصرف: هم إلى أحوال سبلهم حيث لكل منهم شأن يؤويه، وأنا إلى شوارع القاهرة حيث تؤويه مشاريع فنية مستقبلية وأفكار وأحلام مترامية الأطراف. لم يكن الأمر يخلو من موارد اقتصادية وإن كانت عشوائية، أن تسجل قصة قصيرة لإذاعة البرنامج الثاني بأربعة جنيهات ونصف، أن ينشر لك عبدالفتاح الجمل قصة علي صفحة كاملة في ملحق المساء تتقاضي عنها مائة وأربعين قرشا أول الشهر، أن تزور صلاح جاهين في مكتبه بجريدة الأهرام في شارع الساحة فيمنحك جنيها كاملا تتشبرق به: في مثل هذه الحالات التاريخية النادرة يكون أول شيء تفعله أن تذهب إلى شارع كلوت بك وتستنظف لوكاندة تحجز فيها عشرة أو عشرين أو ثلاثين يوما تضمن خلالها النجاة من القهر بأمر المبيت بعد ضياع النقود، سيما وأن مثل هذه النقود التي تأتي بعد طول جفاف تكون أشبه بقطرات من الرذاذ علي أرض شرقانة، ستجد نفسك تتأهب لشراء الدنيا بأكملها ولسوف تفاجأ بأن الفلوس قد تساقطت وتسربت من يديك وأنت بعد في الطريق إلى ما تريد أن تشتريه من أشياء مهمة، ولن تصل إلى مكان الأشياء المهمة إلا وأنت كعادتك دائما يغير نقود لا يحق لك مجرد التطلع إلى الأشياء. وهكذا لم أتمكن مطلقا من تغيير البدلة التي أرتديها منذ سنوات، فهدومي موزعة علي أماكن بعيدة علي أمل أن أعود لأخذها ذات يوم، عدد من الحقائب تركتها أمانة لدي أصدقاء وعند المكوجية بذريعة غسل الملابس وكيها، ولا تجيء الفلوس فأتركها لأشرع في تكوين غيرها، ولكن بين التغيير والتغيير تمضي أيام طويلة، حتي تتيبس هدومي من امتصاص العرق وغبار الشوارع الذي تردمنا به السيارات الصفيقة عديمة التربية: فحين أذهب سعيدا للمبيت في لوكاندة العلم المصري أفاجأ دائما أن البدلة غير قابلة للطوي، لقد تصلبت، فأجلعها بصعوبة ثم أوقفها في ركن بجوار السرير، البنطلون واقف كأنه ملبوس وكذلك السترة واقفة فوقه فكأن لابس البدلة قد قصفت رقبته. وكان الهم يعتريني طوال الليل كيف سأدخل في البدلة في الصباح؟ هل أطلب سلما أصعد عليه ثم أسقط بساقي داخل البنطلون؟ إلا أن الأمر كان ينحل بسهولة، فالبنطلون قد اكتسب صفاتي النفسية، فبقدر ما هو صلب عنيد فإنه علي شيء من المرونة وحب التعاون، كأن ينضوي تحت يدي حينما أسحبه نحوي إلى حافة السرير، فأميله ممسكا بدائرة الحزام ثم أضع ساقا فساق ثم أهب واقفا وأكمل تزريره وتخريمه، ثم أسرب رأسي وذراعي داخل السترة ثم أنزل إلى الشارع بحماسة الذاهب إلى الكلية في الجامعة، وحقيقة الأمر أنه كان أكبر من جميع الجامعات بلا استثناء.
العجيب أننا بعد أن تحققنا جميعا أصبحت لقاءاتنا تتباعد ثم تتباعد. ثم أصبح الواحد منا لا يري الآخر إلا صدفة. وفي كل مرة نلتقي نتفق بحرارة علي أن نستأنف التلاقي من جديد ولو لمرة في الأسبوع أو حتي في الشهر ولكن لا شيء يحدث. إنه ليس الانشغال كما ندعي، وليس الجفاء كما نتهم بعضنا البعض: إنما هو الكسل، وهو في الواقع شيء حقير جدا ومنحط، وإدمانه أخطر من إدمان الخمر والمخدرات البيضاء: وإذا كانت الخمر والمخدرات تدمران الجسد فإن إدمان الكسل يدمر معنويات الإنسان ويصيب عقله بالتيبس ووجدانه بالتكلس بجولة إلى جسد ديناصوري يعيش علي حساب غيره. ولهذا كنت أحمد الله لأنني درب علي طرد الكسل، أصبحت محقونا بترياقه محصنا ضده لا يجد طريقا إلى عزيمتي القوية، أتحدي طلائع الكسل ومسبباته من صعوبات وعراقيل فاقرأ وأكتب في أي مكان تحت أي ظروف في أية لحظة من ليل أو نهار. الكتابة بالنسبة لي¬ وكذلك القراءة¬ صارت سلوكا يوميا كالتنفس فطالما وجد الكتاب والقلم والقرطاس فأي مقعد في أي مكان يكفي. ولكنني في أوائل تسعينيات القرن العشرين أفقت فجأة علي حقيقة أنني يجب أن أستكن في البيت الذي كنت افتتحته منذ ربع قرن مضي، حيث قد آن الآوان الحضوري الفعلي الدائم في حياة أولادي الأربعة بعد إذ دخلوا في المراحل الحرجة من السن ومن مراحل التعليم، صحيح ان أمهم فيها الخير والبركة وقد أفلحت في تربيتنا جميعا إلا أن وجودي الاعتباري أصبح ضروريا لمساندتها ¬بمجرد الوجود¬ في المهمة التي باتت كبيرة ومقلقة. بفضل زوجي وما أسبغته عليٌ من عطف وحنان استمرأت القصود في البيت ليل نهار، اكتشفت مزايا البيت وحلاوة الدخول تماما في رحمة، استشعر جسدي راحة كانت منفية عنه طوال سني الشباب، واستكمل الذهن صفاءه، وانهمرت الأفكار والمشاريع بنضج غير مسبوق، ولكن المسائل رحرحت، فقعدة البيت حين تجيء في وقت متأخر يفقد إيقاع الحركة توازنه بالإمعان في الاستقرار، في استشعار الراحة بأثر رجعي يعوض مافات من دوران النحلة في صعلكة بغير حدود.. وتلك هي معابر الكسل يقفز منها إلى العزيمة ليفتٌّ في عضدها.

لم أكن أتصور مطلقا أن الكسل يمكن أن يتسرب إلى إرادتي الصعبة. وبالفعل كان ذهني دائم الإشتعال والقريحة في نشاط مبهج، حيث أنجزت رواية صالح هيصة ورواية صهاريج اللؤلؤ ورواية بفعلة العرش وسيناريو مسلسل الوتد وسيناريو مسلسل الكومي وقطعت مشوارا كبيرا مضنيا في محاولة الإنجاز ملحمة صحراء المماليك، إلا أن الكسل الجسماني كان قد أقعدني تماما عن الحركة فأصبحت استثقل النزول والذهاب الى أي مشوار حتي وإن كنت سأقبض نقودا، أصبحت استجمع عددا من المهام لأنجزها كلها في نزول واحد أعود بعده سريعا إلى البيت، ولأن هذا كان مستحيلا فعليا بسبب الزحام الخانق الذي لا يمكنك من قضاء مهمة واحدة فإنني كرهت النزول إلى المدينة إلا للضرورة القصوى، حتي مهمة الذهاب الى الجهة التي أصرف منها معاشي الشهري أصبحت استثقل طلبها وأؤجلها حتي لا يبقى في جيبي سوى أجرة الذهاب. ثم إن امتلاء الساحة بالأدعياء المستشرين في كل مكان قد أضفي علي مهاد الذكريات كأبة تستحضر في ناظريك الموت الذي ركب الأحباب قطاره الى غير عودة فيبكي المقلب بعينين عين علي فراق الأحبة وعين علي ما حاق بالساحة وبنا من هوان واتضاع. كما وان تقنيات الاتصال المتقدمة وفرت علي الإنسان جهودا كان لابد من بذلها لتفريغ الطاقة حتي لا يتكلس ويتحول إلى جبل من الملح، أصبح متاحا لإنسان العصر ان يؤدي مهامه ويطلب ما يشاء ومن يريد وهو جالس في فراشه.

فجأة وقعت من طولي. كنت قد صرت زكيبة من اللحم المدكوك لدرجة أنني سئمت من شراء ثياب جديدة، لأن ما أشتريه اليوم ¬وان طلبته علي نمر زائدة¬ سوف يضيق علي جسدي غدا، حتي احتشدت دواليب البيت بأشكال وألوان وأحجام من غرائب الثياب وكلها مع الأسف لم تعد تناسبني إما لشدة ضيقها وإما لشدة اتساعها. الثياب صارت جحيما، ارتداء الجورب يزهق روحي فلابد أن أمد قدمي لمن يلبسني إياه، ولمن يربط لي رباط الحذاء أو يشبك أبزين الصندل، يزداد لهاثي مع صعود أي درج، أبذل جهدا أتصبب عرقا لكي أميل وأنحشر في باب التاكسي فما بالك وأنا أناضل للاعتدال فوق الكرسي المجاور للسائق؟ ولكن هذا لم يعد هو الآخر ممكنا، ثم فقدت قدرتي علي التنفس، وامتنع الأوكسجين عن دماغي وقلبي، فجاءت عربة الإسعاف بكمامة الأوكسجين ونقلتني إلى مستشفي السلام الدولي مصابا بتضخم في الرئة واختناق في مجموعة الشرايين التاجية. مكثت في الإنعاش عشرة أيام تحت وابل من الرعاية المكثفة حتي عاد إلى تنفس واستأنف الدم جريانه في الشرايين وبات من الضروري ان افقد من وزني عشرين كيلو جراما علي الأقل كمرحلة أولي.

وكان للطبيب النطاسي الدكتور مختار جمعة ان يأمرني بالمشي لمدة ساعة علي الأقل كل يوم.. ولولا أنه رجل مهذب ودمث لأمرني بأن استأنف الصعلكة القديمة التي اخذ يلوح لي بأنه استشنقها من قصصي ورواياتي التي قرأها قلت فلأعد إلى طبيعتي غير البيتية التي لم تمنعني من انجاز ما أردت انجازه. وكنت لسذاجتي أتصور ان الأمر سهلا. أولي يوم مشيته توقفت بعد عدة أمتار وشعرت ان عمودي الفقري لا يكاد يقوي علي حملي، وساقاي كأنهما غاصتا في كثبان رملية ملتهبة، رميت بنفسي فوق سيارة راكنة ثم اتخذت وضعا يساعدني على تهدأة لهاثي وتنظيم تنفسي شعرت بالخطر، رحت أتطلع حوالي باحثا عن احد يعاونني علي العودة إلى البيت القريب جدا ثم يساندني في صعود الدرج، من شدة الرجفة فطنت إلى وجود المحمول في جيب البنطلون، أخرجته، هاتفت واحدا من أطباء القلب كان من بيني المجموعة المعالجة في مستشفي السلام ومن حسن الحظ ان له عيادة في المعادي علي مقربة مني، جاءني صوته فبدأت في الحال أتماثل للشفاء، وصفت له ما حدث بالضبط.

وحدثته عن رغبتي في العودة الى البيت فنصحني أن أقوم قدر استطاعتي حتي وإن تعبت، وأن أمشي ببطء واحدة.. واحدة، وأن أتوقف كلما تعبت لأسترد لياقتي ثم استأنف المشي.

يومها تعبت فعلا الى حد الهوان والشعور بمذلة العجز الصحي مع ان المشوار كله عبارة عن لفة دائرية حول العمارة التي أسكن في شقة منها. وكنت كلما أذلني العجز تتيقظ عزيمتي القوية لتتحدي الإحباط واليأس، لعنت الكسل وكل ما يمت إلى الراحة الجسدية بسبب، لعنت الفراش والمقاعد والمراوح والتكييفات والفاكسات والتلفاز والهاتف، لعنت السيارة وشورتها السوداء.

في اليوم التالي قاومت الكسل ببسالة، وكان تعب اليوم السابق قد هدني فعلا. رفضت العقاقير المنشطة، رأيت من الأفضل أن أموت واقفا أو ماشيا.
العجيب ان مررت توقفي للاستجمام قل عددها في ذلك اليوم التالي، ثم قل أكثر في الأيام التالية.

بعد بضعة شهور امتنع التوقف وصرت أقطع الدائرة في نفس واحد. بعد بضعة شهور أخرى ازداد طموحي فصرت ألف حول الحي بأكمله علي طول مسافة تبلغ أربعة أو خمسة كيلومترات.

أصبحت قادرا علي ارتداء الجورب بنفسي دون معاونة من أحد..
أصبحت قادرا علي ان أتقرفص علي الأرض لأقلب في الرفوف الأرضية من مكتبتي، وأن اصعد سلم المكتبة الى الرفوف العليا دونما لهاث وبلا عرق يتصبب.

أصبحت أجد كثيرا من الثياب القابلة للانضباط علي جسدي دون ان يبدو كأنني استعرتها من أحد أو كأنني لم أسمع عن الموديلات الجديدة للثياب.
صديقي الكاريكا توريست الكبير احمد طوغان يسكن علي مقربة مني ومن جمال الغيطاني، يحمل همي كأنه أمي، إن لم يعجبه صوتي في الهاتف بادر بإبلاغ الطبيب أو حضر في الحال،. لطالما حملني بسيارته إلى معهد ناصر، وإلى عيادة صديقه الدكتور مختار جمعة، والى عيادة الدكتور طارق صفوت أستاذ الأمراض الصدرية، وإلى طبيب الأسنان.

وجود أحمد طوغان بجواري في حد ذاته كان طبا وحده، كان مثالا مسجدا للرجل الذي يهزم الكسل، باسم الله ما شاء الله، اللهم أعطه الصحة وطول العمر، يقترب من حقبة الثمانين من عمره ¬المديد بإذن الله¬ وكله نشاط وحيوية وشباب نابع من صفاء القلب ودفء الإنسانية.

فعلا فعلا! الانسان حيوان كسول بطبعه. فها أنذا بعد ان لعنت الكسل والراحة ونبذتهما بحرارة وقوة، ما ان تماثلت للشفاء حتي بدأت ألاحظ عودتي إلى النفور من وسط المدينة، من دور المسرح والسينما والتليفزيون، بدأت أحجم عن المشاركة في أية ندوات أو أمسيات حتي لا أعاني من سائقي التاكسي ومن إرهاق السهر الطويل خارج المنزل.. لكنني سرعان ما فطنت إلى أنها أعراض الكسل بدأت تجتاحني متنكرة في حجج وذرائع. وكنت علي وشك ان أستنيم للكسل مرة أخرى لولا ان وهبني الله احمد طوغان كأنه نموذج متكامل برجل غير الكسول، إذا اقتنع بشيء فعله في الحال، إذا أراد النزول ينزل حتي وان كان الليل في هزيعه الأخير. لقد راح يستدرجني الى النزول بإغراءات كثيرة. وشيئا فشيئا أصبحت اسبقه الى المهاتفة في طلب النزول والذهاب الى أي مكان حتي وان كان مجرد رصيف لمقهى في مكان بعيد في صحبة الليل المبرقش بألوان من الأضواء.

خطوة للخلف خطوة للأمام

يوسف أبو ريه

(العسل في طاعة الكسل) مسرحيتي الوحيدة، كتبتها في السنة الأولي من الدراسة الثانوية، هجائية لحضرة الناظر الذي علقني في الفلقة عقابا علي يوم الغياب.

كان مديح الكسل تحديا له، وللدراسة، وللعلم الذي يفرض علي القيام مبكرا للالتحاق بطابور الصباح، وكراهة ليوم دراسي طويل وممثل، ينتهي بوخم حصة الدين التي تأتي بعد استنفاد الطاقة، في يوم صيفي حار.

آه.. الصيف أقسى مواسم العام..
وقعه علي قلبي كوقع إبريل علي قلب ت. س. اليوت..
الكسل هو الجوهر والنشاط عرض.

بين فيضان وتحاريق، من الهبة الثورية إلى الخمود حتي الموت، بين نشاط الصنايعي وركونه حين يحظي بقرشين كتماهي حالة المبدع المصري، ركود طويل حتي يظن في نفسه النهاية، وأنه لم يعد يمتلك جديدا بضيفه، وأن الفن غدر به، وانسحب إلى مكمن بعيد، ثم فجأة تواتيه لحظة الاحتشاد التي يلهث وراءها، و يفقد السيطرة علي نفسه، وتتملكه الرغبة في البوح، ويستجيب للهاتف الغامض ، ويستحيل إلى أداة طيعة في يد إله قادر، يملي عليه، ويفتح له أغوارا لم يتطرق إليها في لحظة صحوه، ويكشف عن أسرار مدهشة، لا يعرف كيف استخرجها من عمق أعماقه، والمبدع كائن مسكين معذب يقف بين حافتين، وتتنازعه قوتان، يعيش دوما بين مد وجزر، يقضي عمره بين خطوتين، خطوة إلى الخلف وخطوة إلى الأمام.
في الجزر يظن أنه صار خواء وقفرا. بعد الإنتهاء من عمل إبداعي تتلبسه الوساوس بأنه استنفد تماما، وصار كبرميل فارغ، أوزير جاف لا ينضح بقطرة ماء، أو بندقية خلصت من ذخيرتها ، أو جسد أنتهي للتو من فعل جسيم.

يركن إلى همود، قد يطول، أو يقصر، يرعبه السقوط النهائي الذي لا يعد بعودة أخري، لكنها الراحة المرغوبة بل الضرورية للعقل النشط، إنها هدنة مطلوبة، ووقت فراغ ينبغي السعي إليه ليجدد حيوية الذهن، ويدع للتجارب فرصة التراكم، طبقة فوق طبقة، إذا أكتمل الخزين، ويطلب بدافع خفي الانطلاق فتصير زلزلة تفتح طريقا لبركان يخصب الأرض، ويوزع عبر لهيبه ثروات مكمورة.

الفنان هو الكائن الوحيد الذي لا يغلق دكانه عائدا إلى بيته حيث يقضي قيلولة هانئة بين أسرته بعد تناول غداء دسم يفجر غرائز البدن المتطلبة للفعل الحلال.

الفنان هو الكائن الوحيد الذي يعمل علي مدي الأربعة والعشرين ساعة.
وعلى مدار العام كله، هو الذي ينام بعيون محدقة في الكلمة، وفي عمق الغفوة، يندفع (العسل في طاعة الكسل) مسرحيتي الوحيدة، كتبتها في السنة الأولي من الدراسة الثانوية، هجائية لحضرة الناظر الذي علقني في الفلقة عقابا علي يوم الغياب.

كان مديح الكسل تحديا له، وللدراسة، وللعلم الذي يفرض علي القيام مبكرا للالتحاق بطابور الصباح، وكراهة ليوم دراسي طويل وممثل، ينتهي بوخم حصة الدين التي تأتي بعد استنفاد الطاقة، في يوم صيفي حار.

آه.. الصيف أقسى مواسم العام..
وقعه علي قلبي كوقع إبريل علي قلب ت. س. اليوت..
الكسل هو الجوهر والنشاط عرض.

بين فيضان وتحاريق، من الهبة الثورية إلى الخمود حتي الموت، بين نشاط الصنايعي وركونه حين يحظي بقرشين كتماهي حالة المبدع المصري، ركود طويل حتي يظن في نفسه النهاية، وأنه لم يعد يمتلك جديدا بضيفه، وأن الفن غدر به، وانسحب إلى مكمن بعيد، ثم فجأة تواتيه لحظة الاحتشاد التي يلهث وراءها، و يفقد السيطرة علي نفسه، وتتملكه الرغبة في البوح، ويستجيب للهاتف الغامض ، ويستحيل إلى أداة طيعة في يد إله قادر، يملي عليه، ويفتح له أغوارا لم يتطرق إليها في لحظة صحوه، ويكشف عن أسرار مدهشة، لا يعرف كيف استخرجها من عمق أعماقه، والمبدع كائن مسكين معذب يقف بين حافتين، وتتنازعه قوتان، يعيش دوما بين مد وجزر، يقضي عمره بين خطوتين، خطوة إلى الخلف وخطوة إلى الأمام.

في الجزر يظن أنه صار خواء وقفرا. بعد الإنتهاء من عمل إبداعي تتلبسه الوساوس بأنه استنفد تماما، وصار كبرميل فارغ، أوزير جاف لا ينضح بقطرة ماء، أو بندقية خلصت من ذخيرتها ، أو جسد أنتهي للتو من فعل جسيم.

يركن إلى همود، قد يطول، أو يقصر، يرعبه السقوط النهائي الذي لا يعد بعودة أخري، لكنها الراحة المرغوبة بل الضرورية للعقل النشط، إنها هدنة مطلوبة، ووقت فراغ ينبغي السعي إليه ليجدد حيوية الذهن، ويدع للتجارب فرصة التراكم، طبقة فوق طبقة، إذا أكتمل الخزين، ويطلب بدافع خفي الانطلاق فتصير زلزلة تفتح طريقا لبركان يخصب الأرض، ويوزع عبر لهيبه ثروات مكمورة.

الفنان هو الكائن الوحيد الذي لا يغلق دكانه عائدا إلى بيته حيث يقضي قيلولة هانئة بين أسرته بعد تناول غداء دسم يفجر غرائز البدن المتطلبة للفعل الحلال.

الفنان هو الكائن الوحيد الذي يعمل علي مدي الأربعة والعشرين ساعة.
وعلي مدار العام كله، هو الذي ينام بعيون محدقة في الكلمة، وفي عمق الغفوة، يندفع صارخا بجملة أرشميدس العريقة، ليكتب بها نظم العقل الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.

إنه القاتل الأبدي الذي يظل يدور في موضع جريمته، ويمكث العمر في الحومات حول الحلقة، بخطوات ماكرة وخفيفة لا يشعر بها الآخرون من أجل الاقتحام المفاجئ علي فريسته.

انه الابن الخالد للقناص البدائي.

هل كنت في ذلك اليوم البعيد قد افتعلت الغياب لتنال العلقة السخنة من ناظر تدرك شراسته الانضباطية التي لا ترعي حرمة تفوقك وامتيازك من أجل الوصول إلى حس الإهانة ليكون ردك عنيفا علي المستوي الشورى ولا تستوعب غضبتك تلك غير لغة الفن الهجائية فكانت بداية الطريق من الكسل إلى المهانة والخوف من السقوط إلى.. الكتابة.

هل هذه هي حلقتك الأزلية؟

***

أبلوموفو خادمه زاخار

إيفان ألكساندروفيتش جونتشاروف

ترجمة: يوسف سليمان

ذات صباح، كان إيليا إبليتيش أبلوموف راقدا علي السرير في شقته الكائنة في شارع غوروخف، في أحد المنازل الكبيرة، الذي يمكن أن يشكل ساكنوه بلدة بمستوي قضاء.

كان رجلا في الثلاثين أو الثانية والثلاثين من العمر، متوسط القامة، ذا مظهر لطيف، العينان شهلاوان، تغيب أية فكرة محددة فيهما، وينتفي أي تركيز في ملامح الوجه. كانت الفكرة تهيم في وجهه كما يهيم طائر طليق، فتلتمع في عينيه وتحط علي شفتيه نصف المفتوحتين، وتختفي في ثنايا جبينه، حيث كانت تضيع بعد ذلك تماما، وعندها كان يضيء بخفوت نور رتيب من عدم الاهتمام والتواكل، ثم ما يلبث التواكل أن ينتقل من وجهه إلى أوضاع جسده، وحتى إلى طيات ردائه.

كانت نظرته تتعكر، أحيانا، بتعبير من التعب أو الضجر، بيد أن التعب والضجر لم يقدرا لحظة واحدة علي أن يطردا من وجهه الوداعة: التي كانت التعبير الأساسي والمسيطر، ليس علي وجهه فحسب، بل. وعلي روحه كلها: أما روحه فكانت تتلألأ بشكل سافر وواضح، في عينيه، وابتسامته، وفي كل حركة من رأسه ويديه. إن أية نظرة عابرة يلقيها شخص، بارد قوي الملاحظة، ولو بشكل سطحي، علي أبلوموف تدفعه إلى القول: 'لابد أنه إنسان طيب النفس، بسيط!'. وإذا ما نظر المرء إلى وجهه طويلا، بشكل أعمق وأكثر تعاطفا، لابتعد عنه مبتسما، وهو في غمرة تفكير عذب.

لم يكن لون وجه إيليا إبلبيتش ورديا ولا أسمر ولا شاحبا بشدة، بل كان يبدو عليه عدم الاكتراث، أو لربما بدا كذلك، ليس لأن أبلوموف قد ترهل بسبب السنين: بل بسبب من قلة الحركة أو الهواء، ولربما بسبب عدم كفاية الاثنين معا. بوجه عام فإن جسده بمقتضي لون رقبته الباهت، شديد البياض، ويديه الصغيرتين المنتفختين وكتفيه اللينين، كان يبدو مخنثا جدا، بالنسبة لرجل.

أما حركاته، التي لا تخلو من الكياسة، فإنها تكبح أيضا من خلال اللينة والكسل، حتي عندما يكون قلقا. وإذا ما انبعثت من روحه سحابة من الغم وانتشرت علي وجهه، فإن نظرته تكفهر، وتظهر التجاعيد علي جبينه وتبتدئ لعبة الشكوك، والأسى، والخوف، لكن القلق هذا نادرا ما ينعقد في فكرة محددة، والأكثر ندرة أيضا هو أن يتحول إلى عزيمة. فقلقه كله يعالج بآهة، وينقطع بخمول ونعاس.

كم كان ثوب أبلوموف يلائم وجهه الساكن، وجسده المخنث! فرداؤه من قماش فارسي، حيث كان رداء شرقيا حقيقيا، لا وجود لأية علامة فيه تدل علي أوروبا، بدون أزرار ومخمل وخصر، وكان واسعا جدا لدرجة أن أبلوموف كان يستطيع أن يلتف به مرتين. أما أكمامه فكانت حسب الطراز الآسيوي الثابت، فهي تزداد اتساعا كلما ابتعدت عن الأصابع باتجاه الكتف. ومع أن هذا الرداء قد فقد بريقه الأولي، وتغير لمعانه الأصلي الطبيعي في بعض الأماكن، بلمعان آخر مكتسب، فإنه ما يزال يحتفظ بزهو اللون الشرقي ومتانة نسيجه.
يملك هذا الرداء في عيني أبلوموف عددا لا يحصى من المزايا، التي لا تقدر بثمن: فهو ناعم، مرن، لا يشعر به الجسم، ويمتثل لأبسط حركة له، فهو كالعبد المطيع. وفي البيت كان أبلوموف دائما، بدون ربطة عنق، وبدون صدرية، لأنه كان يحب الرحابة والبحبوحة. فخفه كان كبيرا، طريا وواسعا، لدرجة أنه عندما ينزل ساقيه من السرير إلى الأرض، كانتا تدخلان فيه بالضرورة فورا، دون أن يكلف نفسه مشقة النظر.

لم يكن الاستلقاء بالنسبة لإيليا إبليتيش ضرورة، كما هو الحال بالنسبة لمريض، أو لإنسان يريد النوم، ولا حالة طارئة، كما هو الحال بالنسبة لمن أنهكه التعب، ولا تلذذا كما هو عليه الأمر بالنسبة لكسول: لقد كان هذا وضعه الطبيعي. وعندما يكون في البيت، وهو تقريبا بشكل دائم فيه، فإنه يستلقي طوال الوقت في غرفة واحدة باستمرار، في الغرفة التي وجدناه فيها. فهي بالنسبة له غرفة نوم، ومكتب وغرفة استقبال. كان يمتلك ثلاث غرف أخري أيضا، لكنه نادرا ما كان يتردد إليها، ولربما كان يفعل ذلك عندما كانت غرفته تنظف، الأمر الذي لم يكن يحدث يوميا بالطبع. ففي تلك الغرف كان الأثاث مستورا بأغطية، والستائر مسدلة.

أما الغرفة، التي كان إيليا إبلبيتش مستلقيا فيها، فكانت تبدو للوهلة الأولي، بأنها مرتبة بشكل رائع. ففيها مكتب من الخشب الأحمر، وأريكتان منجدتان بقماش من الحرير موشي بطيور وثمار لا مثيل لها في الطبيعة. كما توجد فيها أيضا، ستائر حريرية وبضع لوحات، وسجاجيد، وأدوات برونزية، وخزف صيني ووفرة من الأشياء الصغيرة الجميلة.

لكن عينا مجربة لرجل ذي ذوق سليم، كان يمكنها أن تقرأ من خلال نظرة سريعة علي كل ما هو موجود هنا، مجرد الرغبة فقط في مراعاة المظهر الخارجي للياقة الضرورية، كيفما اتفق، والتخلص من هذا العبء ليس إلا. فقد كان أبلوموف يهتم بذلك فقط، عندما يتم ترتيب غرفته. إن ذوقا مرهقا لا يمكن ان يرتاح لهذه الكراسي الثقيلة، غير الظريفة، المصنوعة من الخشب الأحمر، ولا لتلك الطاولات القابلة للسقوط. فقد سقط ظهر إحدى الأرائك إلى الأسفل، بينما انسلخ الخشب الملصوق، في بعض الأماكن.

أما اللوحات والآنية والأشياء الصغيرة، فتملك نفس الطابع تماما.

ومع ذلك، كان المالك نفسه ينظر الى ترتيب غرفته بكثير من البرود والشرود وكأن عينيه تقولان: 'من جلب هذا كله ووضعه هنا؟'. ومن خلال نظرة أبلوموف الباردة هذه لكل ما يملكه، ولربما من خلال نظرة خادمه زاخار، المتسمة ببرود أكثر، فإن منظر الحجرة،إذا ما تفحصه المرء باهتمام أكبر، كان يبعث علي الدهشة، لشدة الإهمال وقلة الاكتراث السائد فيها.

وعلي الجدران، بالقرب من اللوحات كان يلتصق نسيج العنكبوت علي شكل حبل تزييني من الأزهار والأشرطة، مشبع بالغبار، أما المرايا فبدلا من أن تعكس الأشياء، أصبحت تصلح أكثر ما يكون لاستخدامها بمثابة ألواح، يكتب علي الغبار الذي يكسوها أية ملاحظات علي سبيل الذكري. أما السجاجيد فكانت مكسوة بالبقع. وعلى الأريكة منشفة منسية، بينما يوجد علي الطاولة، بشكل دائم، صحن لم يرفع منذ عشاء البارحة، مع مملحة وعظم مجرد من اللحم وفتات خبز مبعثر.

فلولا الصحن، والسيجارة الملتصقة بشكل دائم بالفراش الذي ينام عليه صاحب البيت نفسه، لاعتقد المرء، ان ما من أحد يعيش هنا،¬ لأن كل شيء قد علاه الغبار وبهت لونه، أي أنه قد انعدم، بوجه عام أي أثر حي للوجود البشري.

وعلي الرفوف، كان يوجد في الحقيقة كتابان أو ثلاثة كتب مفتوحة، وجريدة مرمية وعلي المكتب محبرة وريش، أما الصفحات التي كانت الكتب مفتوحة عليها، فقد كساها الغبار واصفرت، لأن الكتب، علي ما يبدو، قد رميت منذ زمن بعيد، فعدد الجريدة كان يعود إلى السنة الماضية، أما المحبرة، فإذا ما غمس المرء الريشة فيها، فإن ذبابة خائفة، ستنطلق منها بالتأكيد، وهي تطلق طنينا قويا.

استيقظ إيليا إبليتيش علي غير العادة، باكرا جدا، في الثامنة صباحا. كان مشغولا جدا بأمر ما. وكانت علامات الخوف والضجر والأسى تبرز بالتناوب علي وجهه. كان واضحا. أن ثمة صراعا داخليا يستحوذ عليه، وأن ذهنه لم يسعفه بشيء بعد.

حقيقة الأمر، هي أن أبلوموف كان قد تلقي في الليلة السابقة من وكيله في القرية رسالة ذات مضمون مزعج. أما المكروهات، التي يمكن أن يكتب عنها وكيل القرية فمعروفة: سوء المحصول، الضرائب المتأخرة المستحقة، نقصان الدخل.... الخ.

ومع أن وكيله في القرية قد كتب إليه في السنة الفائتة والتي قبلها، نفس هذا النوع من الرسائل تماما، فإن الأثر الذي تركته الرسالة الأخيرة، كان قويا جدا، لدرجة أنها بدت كما لو أنها مفاجأة كريهة.

هل من السهل مواجهة أمور كهذه؟ إذ أن ضرورة برزت بالتفكير في الطرق الكفيلة باتخاذ إجراءات ما. بالمناسبة، يجب ان نقول الحق فيما يتعلق باهتمام إيليا إبليتيش بشئونه الخاصة. فمنذ رسالة وكيل القرية الأولي المزعجة، التي استلمها منذ بضع سنوات مضت، بدأت تتبلور في ذهنه خطة لتغييرات وتحسينات مختلفة، تتعلق بطريقة إدارة أملاكه.

بمقتضي هذه الخطة، كان يتعين إدخال إجراءات اقتصادية وبوليسية جديدة متنوعة. إضافة لإجراءات أخري. بيد أن الخطة لم تكن قد تبلورت تماما بعد، لكن رسائل وكيل القرية المقيتة كانت تتكرر سنويا، وتحثه علي النشاط وبالتالي فقد كانت تعكر هدوءه وصفوه. أما أبلوموف فقد كان مقتنعا بضرورة اتخاذ أمر ما حاسم قبل إتمام خطته.

ومنذ أن استيقظ، اعتزم أبلوموف علي أن ينهض حالا، ويغسل وجهه، ويفكر جيدا بعد تناول الشاي، ليتدبر أمرا ما، ويدون، ويقبل علي العمل كما ينبغي.
انقضت نصف ساعة وأبلوموف ما يزال مستلقيا، تعذبه هذه النية، لكنه ارتأى فيما بعد، انه سيفلح في انجاز ذلك كله، بعد الشاي، الذي يتناوله كالعادة في الفراش، لاسيما انه ما من شيء يمنع الإنسان من التفكير، وهو في وضعية الاستلقاء.

ذلك ما فعله. فقد رفع نفسه قليلا في الفراش بعد أن تناول الشاي، وكاد أن ينهض، وأخذ يتطلع إلى حذائه، حتي أنه بدأ ينزل إحدى ساقيه من الفراش، لكنه رفعها علي الفور.

دقت الساعة التاسعة والنصف، عندها اختلج إيليا إبليتيش.

¬ماذا جري لي¬ قال أبلوموف بصوت مسموع مشوب بالأسى.

¬يجب أن يستيقظ ضميري: لقد آن وقت العمل، فلتتملكني الإرادة، و.... ¬زاخار¬ صرخ أبلوموف.

انطلق في البداية من الغرفة، التي يفصلها عن حجرة إيليا إبليتيش ممشى صغير فقط، صوت يشبه هرير كلب حراسة، تلاه وقع أقدام واثبة من مكان ما.
كان ذلك زاخار، الذي قفز من مضجعه، حيث يمضي فيه عادة وقته وهو جالس يغط في نومه.

دخل الغرفة رجل كهل يرتدي سترة رمادية، ذات شق تحت الإبط، يتدلي منه جزء من القميص، وتحت السترة صدرية رمادية أيضا ذات أزرار نحاسية، له جمجمة جرداء كالكعب، يملك فودين ضخمين كبيرين كثيفين أصهبين، يكون كل منهما ثلاث لحي.

لم يحاول زاخار أن يغير الهيئة، التي منحها الله له، ولا الثوب الذي كان يرتديه أثناء وجوده في القرية. فثوبه خيط وفق طراز جلبه من القرية. كانت سترته وصدريته الرماديتان تعجبانه، لأنه كان يري في هذا الزي شبه الرسمي، ذكري بعيدة للزي الخاص بالخدم، الذي كان يرتديه في وقت ما أثناء تردده إلى الكنيسة، بصحبة أسياده الذين قضوا: أما زي الخدم هذا، فقد كان الصورة الوحيدة، التي بقيت في ذاكرته عن فضائل آل أبلوموف.

لم يكن هناك شيء آخر غير هذا، يذكر العجوز بنمط الحياة الأرستقراطية في الريف النائي. فأسياده السابقون ماتوا، بينما بقيت صورهم في البيت، فهي علي الأرجح، مرمية في مكان ما في العلية: أما الحكايات عن نمط الحياة القديم وأهمية الأسرة، فقد اختفت تماما، أو أنها ما تزال تعيش في ذاكرة القليل من الناس الشيوخ فقط، الذين بقوا في القرية. بسبب ذلك كله، كانت السترة الرمادية غالية علي قلب زاخار: زد علي ذلك، أنه كان يجد فيها وفي بعض الأمارات الباقية في وجه وتصرفات سيده، ما يذكره بأسياده القدامى، كما كان يجد أيضا في نزوات أبلوموف، رغم تذمره منها في السر والعلن، ما يدفعه لأن يحترمها في قرارة نفسه، ذلك أنه وجد فيها تعبيرا عن الإرادة الأرستقراطية وحق السيد، كما رأي فيها تلميحات شاحبة إلى العظمة، التي فات زمانها.

فلولا هذه النزوات لما استطاع أن يشعر مطلقا بسلطة السيد عليه، ولظل كل شيء عاجزا عن أن يعيد اليه ذكريات شبابه، وذكريات القرية، التي غادرها منذ زمن بعيد بصحبة سيده، ولما استطاع أن يستعيد الحكايات عن ذلك البيت العريق القديم، عن ذلك السفر الوحيد، الحكايات التي كان ينسجها الخدم والجدات والأمهات، والتي كانت تنتقل من جيل إلى جيل.

كان بيت آل أبلوموف، في وقت من الأوقات، غنيا، ذائع الصيت في منطقته، لكنه أصبح بعد ذلك، والله وحده يعرف السبب، فقيرا، عديم القيمة، ثم ضاع أخيرا وتلاشت أهميته وسط بيوت النبلاء غير القديمة. كان خدم البيت فقط، الذين كساهم الشيب، يحفظون ذكري طيبة صادقة عما مضي، ينقلها كل منهم للآخر، ويحرصون عليها حرصهم علي المقدسات.

ذلكم هو السبب، الذي أحب زاخار من أجله سترته الرمادية لهذه الدرجة
. ولربما حرص على فوديه ايضا، لأنه شاهد في طفولته كثيرا من الخدم الشيوخ، الذين كانوا يحرصون علي هذه الزينة الارستقراطية القديمة.
لم يلاحظ إيليا إبليتيش، المستغرق في التفكير، زاخار، رغم مضي كثير من الوقت. كان زاخار يقف أمامه صامتا، ثم سعل أخيرا.

¬مابك؟¬ سأل إيليا إبليتيش.

¬ألم تنادوني؟
¬ناديتك؟ لا أذكر لماذا ناديتك! أجاب أبلوموف وهو يتمطى.
أذهب إلى مضجعكم ريثما أتذكر.

انصرف زاخار، بينما استمر إيليا إبليتيش في استلقائه وهو يفكر بالرسالة اللعينة.

انقضي ربع ساعة من الزمن.

كفي استلقاء! قل أبلوموف،¬ يجب أن أنهض... علي أية حال، سأقرأ رسالة وكيل القرية باهتمام مرة أخري، ثم انهض بعدها. زاخار!
تكررت الوثبة ذاتها، من جديد، أما الزمجرة فكانت أكثر شدة. دخل زاخار، أما أبلوموف فقد استغرق في التفكير من جديد. وقف زاخار دقيقتين وهو ينظر خلسة وبغير عطف إلى سيده، ثم مضي أخيرا باتجاه الباب.

إلى أين ذاهب أنت؟¬ سأل أبلوموف فجأة.

¬انك لاتقول شيئا ياسيدي، فلماذا الوقوف هنا عبثا؟¬ قال زاخار بصوت مبحوح، لأنه فقد صوته الطبيعي كما يقول، عندما كان يذهب مع سيده العجوز في رحلات الصيد، حيث كان الهواء القوي ينفخ في حنجرته وهو يرافق كلاب الصيد.

كان يقف وسط الغرفة في نصف التفاتة، وهو ينظر طوال الوقت خلسة إلى أبلوموف.
¬هل تيبست ساقاك بحيث لا تستطيع الوقوف؟ إنني مشغول كما تري، فعليك أن تنتظر! أما اكتفي من النوم هناك؟ ابحث عن الرسالة،التي أرسلها البارحة وكيل القرية. أين وضعتها؟
¬أية رسالة؟ فأنا لم أر أي رسالة. ¬قال زاخار.

¬أنت الذي استلمتها ياسيدي، فمن أين لي أن أعرف مكانها؟،¬ قال زاخار وهو يدس يديه في الأوراق والأشياء المختلفة الأخرى الموجودة علي الطاولة.

¬إنك لا تعرف شيئا أبدا. انظر هناك في السلة! أو ربما تكون قد سقطت وراء الأريكة. هاهو ظهر الأريكة لم يصلح حتي الآن، لماذا لم تستدع النجار لإصلاحه؟ فأنت الذي كسرته. إنك لا تفكر بشيء!
¬أنا لم أكسره. أجاب زاخار،¬ فقد انكسر من تلقاء ذاته، فالأريكة عندنا منذ قرن: فلابد أن تنكسر في وقت ما.

لم ير إيليا إبليتيش ضروريا أن يبرهن العكس.
¬هل وجدتها؟

¬ها قد وجدت رسائل هنا.

¬ليست تلك.

¬لا يوجد هناك غيرها. قل زاخار.
¬حسن!، اذهب! قال إيليا إبليتيش بنفاد صبر،¬ سأنهض وسأبحث عنها بنفسي.

انصرف زاخار إلى مضجعه. لكنه ما ان استند بكلتا يديه علي حافة مضجعه، كي يقفز إليه، حتي سمع صراخا مستعجلا: 'زاخارا زاخار!'
¬آه يا إلهي¬ همهم زاخار، وهو يتجه من جديد إلى حجرة أيلوموف. ما هذا العذاب؟ ليت الموت يأتي سريعا لينقذني!

¬ماذا تريد ياسيدي؟¬ قال زاخار وهو يمسك بإحدى يديه باب الحجرة، ملقيا علي أبلوموف نظرة جانبية، كعلامة عدم استحسان ورضي، فقد كان يري سيدة بعين نصف مغمضة، بينما كان أبلوموف يري فقط، أحد فوديه، الذي يخيل للمرء أنه سينطلق منه طائران أو ثلاثة طيور.

¬اعطني منديلا، هيا بسرعة! كان عليك أن تنصرف من تلقاء نفسك: ألا تري! قال إيليا إبليتيش منبها بصرامة.

لم يبد زاخار أي نوع من الامتعاض أو الاستغراب أثناء تلقيه أمر وتأنيب سيده، إذ أنه كان يجد، علي الأرجح، في هذا وذاك أمرا طبيعيا.

من يعرف أين المنديل؟ دمدم زاخار وهو يطوف الغرفة متلمسا كل كرسي، مع أنه كان يمكن للمرء أن يري بسهولة عدم وجود أي شيء علي الكراسي.
إنك تضيع كل شيء ياسيدي! لاحظ زاخار وهو يفتح الباب المفضي إلى صالة الاستقبال ليري إن كان المنديل هناك.

إلى أين ؟ أبحث هنا! فلم أكن هناك منذ ثلاثة أيام. أبحث بسرعة! قال إيليا إبليتيش

أين المنديل؟ لا يوجد منديل! قال زاخار وهو يطلق يديه في الهواء متطلعا إلى كل الزوايا هاهو ذا المنديل قال زاخار بصوت غاضب مبحوح أنه تحتك ياسيدي ! هاهو طرفه يتدلي.

إنك تسأل عنه، بينما أنت متسلق عليه: ثم إبتعد زاخار دون أن ينتظر جوابا.

ارتبك أبلوموف قليلا بسبب من عدم حسن تصرفه. لكنه سرعان ما أكتشف مبررا يجعل زاخار مذنبا.

ياإلهي، ألا تري الغبار والوسخ في كل مكان! اذهب، اذهب وانظر في زوايا الغرفة

إنك لا تفعل شيئا!

إذا كنت لا أفعل شيئا.. قال زاخار بصوت مهان مجروح، فسأحاول، ألا أكون متأسفا علي حياتي! إنني أمسح الغبار، وأنظف كل يوم تقريبا..
أشار زاخار إلى وسط أرض الغرفة، و إلى الطاولة ، التي كان أبلوموف يتناول عليها طعام الغداء.

هاهو ذا كل شيء منظف ومرتبكما في يوم العرس قال زاخار .... ماذا تريد أكثر؟

ماهذا؟ قال إيليا إيليتيش مقاطعا وهو يشير إلى الجدران والسقف وهذا؟
وهذا؟ مشيرا إلى منشفة مرمية من الليل الفائت، و إلى صحن منسي علي الطاولة منذ البارحة مع كسرات من الخبز.

أما هذا سأرفعه قال زاخار بتسامح وهو يأخذ الصحن

لكن التقصير ليس في هذا فقط ! ألا تري الغبار الذي يكسو الجدران، وخيوط العنكبوت؟..

قال أبلوموف وهو يشير إلى الجدران.

سأنظف ذلك كله في الأسبوع المقدس: سأنظف الأيقونة وأزيل خيوط العنكبوت.

والكتب واللوحات لماذا لا تنظفها؟..

سأنظفها قبيل الميلاد، وسأرتب عندئذ من أنيسيا الخزانات كلها. كيف لي أن أرتبها الآن؟ فأنت ياسيدي لا تبرح المنزل.

أنني أذهب، أحيانا، إلى المسرح، وأقوم ببعض الزيارات: فلو أنك..
الترتيب في الليل ياسيدي أمر مستحيل!

نظر أبلوموف إليه نظرة عتاب ثم هز رأسه وتنهد، أما زاخار فقد نظر إلى النافذة بلا اكتراث ثم تنهد أيضا. لقد بدا وكأن السيد النبيل أبلوموف يقول في قرارة نفسه: 'أنك أكثر أبلوموفية مني بالذات'، بينما كان زاخار علي وشك أن يسر لنفسه قائلا: 'إنك تكذب ياسيدي! فأنت بارع فقط بالتفوه بكلمات مبهمة يرثي لها، أما الغبار والعنكبوت فلا تقيم لهما وزنا'.

ألا تدري، بأن العثة تنتج من الغبار؟ قال إيليا إيليتيش، حتي أنني أري البق أحيانا، علي الجدار!

يوجد عندي براغيث أيضا! أجاب زاخار بلا اكتراث.
وهل هذا أمر حسن؟ هذا شيء شنيع!

انتشرت علي وجه زاخار كله ضحكة ساخرة، حتي أن الضحك استولي علي حاجبيه وفوديه، اللذين كانا يتحركان في كل الاتجاهات، كما غطت بقعة حمراء وجهه كله، وصلت حتي جبينه.

ماذنبي إذا كان البق موجودا في هذا العالم؟ هل أنا المسؤول عن وجوده؟ قال زاخار بدهشة ساذجة هل أنا الذي خلقته؟

كل هذا سببه عدم النظافة، قال أبلوموف مقاطعا إنك تكذب باستمرار!

وعدم النظافة لم أبتكره أيضا!

الفئران تلعب عندك هناك في الليل إني أسمعها وهي تركض.
والفئران لم أخلقها. فهذه المخلوقات كالفئران والقطط والبق موجودة بكثرة في كل مكان.

لماذا لا يوجد العثة والبق عند الآخرين؟

ارتسم علي وجه زاخار تعبير من عدم الثقة، أو الأصح أن نقول، يقين راسخ بأن هذا لا يمكن أن يحدث.

هذه المخلوقات متوافرة عندي بكثرة قال زاخار بعناد، إذا رأيت بقة لا تقترب منها.

لكنه بدا وكأنه يقول في قرارة نفسه: 'كيف يمكن للمرء أن ينام بدون بق؟'

كنٌس، أزل الأوساخ من زوايا الغرفة فلن يبقي شيء عندها قال أبلوموف واعظا.

إذا نظفت اليوم، فسيتجمع غدا من جديد قال زاخار.
لن يتجمع قال السيد مقاطعا لا ينبغي أن يحدث ذلك.
سيتجمع إنني أعرف ذلك قال الخادم مؤكدا.
عندما يتجمع ، أزله ثانية.
كيف ذلك؟ كيف يمكن تنظيف زوايا الغرفة كل يوم؟

سأل زاخار. هل يمكن احتمال حياة كهذه؟ أفضل الموت علي هذا!

لماذا كل شيء نظيف عند الآخرين؟ قال أبلوموف معترضا انظر إلى الجهة المقابلة لمنزلنا، إلى مدوزن الآلات الموسيقية، يحلو للمرء النظر من شدة النظافة، علما أنه لا يوجد هناك إلا فتاة واحدة.

من أين للنفايات أن تتجمع عند الألمان؟ اعترض زاخار فجأة الق نظرة علي أسلوب حياتهم ياسيدي! فالأسرة بكاملها تأكل عظما واحدا طوال الأسبوع.
السترة تنتقل من كتف الأب إلى كتف الابن، ثم تعود ثانية إلى الأب. الزوجة والبنات يرتدين ثيابا قصيرة: تضغط علي الساقين كما علي أنثي الأوز.. فكيف يمكن للنفايات أن تتجمع ؟ إن ما يحدث عندنا، لا وجود له علي الإطلاق بالنسبة إليهم، فلا تقي الثياب البالية عندهم سنوات في الخزانات، ولا يتجمع ركن بكامله من كسرات الخبز طيلة فصل الشتاء.. فكسرات الخبز لا ترمي عندهم، ولا تذهب هدرا: يخففونها ويحمصونها، ثم يأكلونها مع البيرة!
حتي أن زاخار بصق وهو يحاكم حياة شحيحة كهذه.
لا داعي إلى الكلام! اعترض إيليا إيليتيش من الأفضل أن تنظف.
أنت الذي تمنعني ياسيدي عن التنظيف، فلا تفسح لي في المجال بوجودك الدائم هنا.
انصرف! هكذا إذن، أنت تري بأنني أعوقك عن العمل.

طبعا، فأنت ياسيدي تجلس دائما في البيت: كيف يمكنني أن أنظف وأنت موجود؟ أترك البيت ليوم كامل، وستري كيف سأنظف.

وجدت ما تبتكره أن أخرج من البيت! من الأفضل أن تنصرف إلى مضجعك.
صحيح ما أقوله ياسيدي! أصر زاخار ليتك تغادر البيت ليوم واحد فقط، كي أنظف مع أنيسيا كل شيء. لكننا لن نستطيع إنجاز عمل كل شيء بمفردنا:
يجب أن نأتي ببعض النسوة أيضا لمساعدتنا، كي نتمكن من غسل كل شيء.

هه! يالها من تدابير نساء! انصرف ، قال إيليا إيليتيش. لم يكن سعيدا، لأنه نادي زاخار لإجراء مثل هذا الحوار . فقد نسي أبلوموف، أنه كلما تناول هذا الموضوع الحساس، برزت لديه الهموم والمشاغل.

انتابت أبلوموف رغبة قوية بأن يكون كل شيء نظيفا، لكنه كان يتمني أن يحصل ذلك، بطريقة غير ملحوظة، سهلة، دونما عناء، بيد أن زاخار كان يدخل في مشاجرة بمجرد أن يطلب منه إزالة الغبار وغسل أرض المنزل.. الخ. فما أن يفتح الموضوع حتي يبدأ زاخار بالتأكيد علي أن الأمر يتطلب جلبة كبيرة في البيت، وهو يدرك جيدا، أن مجرد التفكير بذلك يجعل سيده في حالة من الرعب الشديد.

انصرف زاخار، بينما استغرق أبلوموف في تأمله. وما هي إلا بضع دقائق، حتي دقت الساعة معلنة انقضاء نصف ساعة،

ما هذا؟ قالها أبلوموف برعب تقريبا قريبا ستصبح الساعة الحادية عشرة، وأنا لم أنهض بعد، ولم أغسل وجهي حتي الآن! زاخار، زاخار!
آه ياإلهي! انطلقت هذه العبارة من غرفة الانتظار، ثم تلتها الوثبة المعتادة.

هل أعددت كل شيء لغسل وجهي؟ سأل أبلوموف.

كل شيء جاهز منذ مدة طويلة! أجاب زاخار، لماذا لا تنهض ياسيدي؟

لماذا لم تقل بأن كل شيء جاهز؟ لو قلت؟ لكنت قد نهضت منذ مدة اذهب، فسأتبعك الآن. علي أن أعمل، سأجلس للكتابة. انصرف زاخار، ثم عاد بعد دقيقة وهو يحمل دفترا مكتوبا ملطخا، وإضمامة من الورق.

مادمت قد عزمت علي الكتابة ياسيدي، فلتتفضل بالمناسبة بتدقيق الحسابات: فعلينا نقود مستحقة.

أية حسابات؟ أية نقود؟ سأل إيليا إيليتيش بعدم ارتياح.
للحام، لبائع الخضار، للغسالة: فجميعهم يطلبون نقودا.
عندما تذكر النقود، يأتي الهم! همهم إيليا إيليتيش لماذا لا تسدد الحسابات
علي دفعات بدلا من دفعة واحدة؟
كنت تطردني دائما ياسيدي وأنت تقول: إلى الغد، إلى الغد.....
والآن، هل أصبح التأجيل إلى الغد ممنوعا؟
كلا! لكنهم أصبحوا يلحون بالطلب كثيرا: لن يقبلوا أن يسلفونا أكثر. الآن أول الشهر.
آه قالها أبلوموف بأسي هم جديد! لماذا تقف؟ ضعها علي الطاولة. سأنهض الآن، فأغسل وجهي ثم أفكر بالأمر هل أعددت كل شئ لغسل وجهي؟

كل شيء جاهز!

الآن...
بدأ أبلوموف يرفع نفسه من الفراش وهو يتأوه.

لقد نسيت أن أقول لك ياسيدي، بأن صاحب الشقة أرسل يقول، عندما كنت لا تزال نائما، بأننا يجب أن ننتقل إلى شقة أخرى من كل بد.. فهو بحاجة إليها.

ماذا؟ إذا كان بحاجة، فأننا سنرحل بالطبع، لماذا تلح علي؟ فأنت تقول هذا للمرة الثالثة لي.
إنه يلح علي أيضا.
قل له بأننا سنرحل.

يقول أنك وعدته بالرحيل منذ شهر، وهو عازم علي إخبار البوليس.
فليخبر البوليس قال أبلوموف بحسم سننتقل حالما يحل الدفء، بعد ثلاثة أسابيع.

بعد ثلاثة أسابيع! وكيل أعماله يقول بأن العمال سيأتون بعد أسبوعين وسيهدمون كل شيء.. 'فهو يقول: ارحلوا غدا، أو بعد غد......'

ايه، ايه، ايه! إنه في غاية الاستعجال! هكذا إذن ! إياك أن تتجرأ علي فتح هذا الموضوع ثانية. لقد حذرتك مرة، وها أنت تكرر الأمر من جديد . حذار!

ماذا أفعل؟ أجاب زاخار.

ماذا تفعل؟ تصرف! هاهو ذا يتحاشى فتح الموضوع معي!

أجاب إيليا إيليتيش إنه يسألني وأنا أتجاهل الأمر. لا تزعجني بعد الآن، تصرف معه كما تريد، شريطة ألا ننتقل.

لكن كيف سأتدبر الأمر ياسيدي؟ بدأ زاخار حديثه ببحة لينة فالبيت ليس بيتي: لماذا لا ننتقل من بيت الغير إذا كانوا يطردوننا؟ لو كان بيتي، لفعلت ذلك بسرور كبير....

لابد أن هناك طريقة لإقناعهم.. 'فنحن نعيش هنا، منذ زمن طويل، وندفع إيجارا جيدا'.

نطق أخيرا.

ماذا يريدون؟

ماذا ! لقد حزموا أمرهم: 'يقولون: انتقلوا' فهم يريدون أن يجعلوا من العيادة ومن شقتنا هذه ، شقة كبيرة، استعدادا لحفلة زفاف ابن صاحب المنزل.

آه ياإلهي! ما زال ثمة حمير يتزوجون!

ثم انقلب علي ظهره.

لو تكتب ياسيدي إلى صاحب البيت، فلربما يوافق علي إبقائك، قد يأمر بهدم العيادة أولا.

كان زاخار يشير بيده، وهو يتكلم، إلى مكان ما باتجاه اليمين.

حسن، سأكتب حالما أنهض.. اذهب إلى مضجعك، أما أنا فسأفكر بالأمر، أنك لا تحسن فعل شيء، أضاف أبلوموف فها أنت تحوجني لأن أهتم بنفسي بهذه التفاهات.

انصرف زاخار، بينما بدأ أبلوموف يفكر.

كان وضع أبلوموف صعبا، فهو لا يعرف بماذا سيفكر: أيفكر برسالة وكيل القرية، أم بالانتقال إلى شقة جديدة، أو بإجراء الحسابات؟ لقد ضاع في لجة المشاغل الحياتية تماما، وهو مستلق يتقلب من جنب لآخر. وبين الآونة والأخرى، كانت تسمع صيحات متقطعة: 'آه، ياإلهي، الحياة، تهد الإنسان، فهي تصيب في كل مكان'.

لا نعرف، إن كان قد بقي طويلا في حيرته هذه، لكن صوت جرس رن في غرفة الاستقبال.

هاهو زائر قد أتي! قال أبلوموف، وهو يتدثر بردائه وأنا لم أنهض بعد. إنه لأمر مخز حقا! من ذا الذي جاء باكرا هكذا؟

ثم أخذ يتطلع إلى الباب بفضول، وهو ما يزال مستلقيا.

2

دخل شاب في الخامسة والعشرين من العمر، يتألق عافية، وجنتاه وعيناه وشفتاه تضحك كلها. حتي أن الحسد كان ينظر إليه.

كان مصفوف الشعر، مهندما بطريقة لا عيب فيها، كان يبهر بنضارة وجهه وبياض ملابسه وبقفازاته وبزته. علي صدريته سلسلة أنيقة، يتدلي منها العديد من الدوائر المعدنية الصغيرة. أخرج من جيبه منديلا من قماش الباتيستا، مضمخا بروائح الشرق العطرية، ثم مسح به بلا اكتراث، وجهه وقبعته اللماعة، وحذاءه اللماع.

مرحبا يافوفولكوف قال إيليا إيليتيش
مرحبا ياأبلوموف قال السيد المتألق، وهو يقترب منه.،
لا تقترب، لا تقترب: فأنت قادم من البرد!

يالك من شخص منعم مدلل! قال فولكوف، وهو ينظر إلى مكان ما يضع عليه قبعته. لكنه ما أن رأي الغبار يكسو كل مكان حتي صرف النظر عن ذلك، ثم فتح طرفي بزته ليجلس، لكنه ما أن نظر إلى الأريكة بإمعان، حتي ظل واقفا.

***

أن تكون 'بيكيت'!

حسن عبدالموجود

معظم أصدقاء الطفولة كانوا يحلمون بأن يصبحوا ضباطا وحلمي كان دائما مهنة يتحقق فيها شرط الكسل. حينما كان أحد يسألني 'نفسك تبقي إيه؟'
كنت أرد بما يناسب السائل. إجابة أنا غير مقتنع بها. كنت أتخيل نفسي في جميع المهن وأتأكد من أنها جميعا لا تناسبني. ما يناسبني ألا أعمل إطلاقا، أريد فقط أن أستمر طوال حياتي أقرأ تان تان وميكي جيب ثم المغامرين الخمسة والشياطين ال(13) وأجاثا كريستي وروايات عبير واستيقظ بعد الساعة الثالثة ظهرا ولا أخرج من المنزل إلا بعد أذان المغرب حينما ينكسر 'جو' نجع حمادي الخانق!

المسئول بشكل أساسي عن حلمي هذا كان أبي، المحافظ، المنضبط، الذي يريدني أن أسير في الحياة وفق جدول مكتوب أحدد فيه موعد استيقاظي وواجباتي وصلواتي ومتى أخرج من المنزل ومتى أعود، والواجبات في أثناء فترة المدرسة هي واجبات المدرسة، أما في فترة الإجازة فحفظ القرآن. كان يتعامل مع نجع حمادي بعد قدومنا إليها باعتبارها 'نيويورك' مثلا المدينة العملاقة التي يمكنها ابتلاعنا، تغيير أخلاقنا، وكان همه الأساسي أن يحافظ علي أخلاق القرية بداخلنا. دائما عند السابعة صباحا في أحد أيام يناير القارس يقترب من سريري وبكل ما أوتي من قوة يسحب الغطاء من فوقي وهو يزعق 'قوم.. قوم' والتباطؤ في التعامل معه، إبداء أي كسل معناه مصيبة بالنسبة إليٌ. أحيانا كنت أدخل 'الحمٌام' وأغلقه خلفي وأخرج بعض الملابس المركونة في الغسالة وأنام علي الأرض واستخدم هذه الملابس كأغطية.
ولكنه لم يكن يتواني معي، 'يرزع' الباب وهو يتساءل عن سبب تأخري.
يراقبني بعد ذلك وأنا أسحب سجادة الصلاة وأصلي. ثم يحضر المصحف وجلدة إطار ولعدة ساعات يبدأ في تسميعي ما حفظت. في معظم المرات كنت أتحمل الضرب ممنيا نفسي بمشاهدة فيلم لإسماعيل يس أو مباراة للأهلي أو المنتخب ولكن كل هذه الأمنيات كانت تضيع أمام إصراره علي الاستمرار وكنت أسأل نفسي: ألا توجد لديه متع في الحياة؟ كيف يتحمل الجلوس كل هذه الساعات؟!

كنت أحلم إذن بمستقبل أصبح فيه (أكسل) شخص في الحياة، لا أستيقظ إلا كيفما يحلو لي وأسير بكسل في الشوارع وعملي يكون منصبا علي القراءة فقط. حتي هذه المتعة كان يحرص علي ألا أمارسها إلا في أوقات معينة، يدخل إلى حجرتي ليلا وحينما يراني منهمكا في القراءة يطفئ لمبة الحجرة ويأمرني بالنوم ثم يدخل إليٌ ليتأكد من أنني لا أقرأ علي الضوء الشاحب القادم من خصاص النافذة عبر الشارع!

المشكلة التي كنت أخشاها هي أن أتحول إلى أحد نماذج الكسالى الذين عرفتهم في طفولتي. الكسل مرتبط عندنا بالبدانة، بالأشخاص الشرهين تجاه الأكل، خيري المكوجي الوحيد في بلدنا كان مفرطا في البدانة. كانت الفرصة مهيأة أمامه دائما للكسب فهو المكوجي الوحيد لكن كسله جعله من أفقر الأشخاص، حينما يذهب إليه أحد بجلابية، بقميص، ب 'ببنطلون' كان يطلب منه أن يعود بعد أسبوع أو عشرة أيام وفي أحيان بعد أسبوعين، زفارة السمك تفوح دائما من منزله الذي يستخدم حجرة منه لأعمال الكي، يضرط دائما بشكل عادي أمام أي أحد. ويقرن ذلك بالضحك البرئ، لا يغسل فمه أو يديه بعد الأكل ويستخدم هو وزوجته وأبناؤه (وجميعهم مفرطون في البدانة) 'الفوط' التي يلف بها أصحابها ملابسهم في مسح اليدين والفم. لم تجد معه تحذيرات الناس إطلاقا، امتنع بعض من اشتروا المكواة الكهربائية في نهاية الثمانينيات عن التعامل معه ولكنه ظل علي أحواله.

النموذج الثاني كان زميلي في 'التختة' طوال سنوات دراستي الابتدائية، اسمه هاني، بدين جدا، لهذا السبب سمحت المدرسة باستثناء 'تختتنا' نجلس عليها أنا وهو فقط، كل تختة عليها ثلاثة. ينام أثناء شرح المدرس. أحيانا يشخر بصوت عال. حينما يأمره المدرس بفتح يديه ليضربه يتكاسل ثم يجاهد لتظل عيناه مفتوحتين، لا يبكي إطلاقا رغم قوة ضربات 'الخيزرانة'، لا يلعب معنا في 'الفسحة' وإنما يفتح حقيبته المصنوعة من قماش المريلة الذي يرتديه ويخرج سندوتشات بعضها محشو ب'الطبيخ'، كتبه دائما مبقعة وحينما كنت أسأله ماذا تفعل ليلا كان يقول لي 'أنام من بعد العشا لغاية الصبح'!

بعد قدومي إلى القاهرة أحاول ممارسة الكسل علي فترات، الامتناع عن تأدية أية أعمال حتي ولو كانت كتابة نص خاص بي، فقط أمدد علي كنبة في مواجهة التليفزيون، أو أجلس لأحدق في الفراغ، أو أعاود هواية قديمة بقراءة مجلة ميكي، أو أرسم ورغم ذلك أشعر بالإرهاق، قرأت ذات مرة لا أتذكر أين أن زوجة صمويل بيكيت كانت تتضايق من استرخائه الدائم فوق السرير، وتسأله: لماذا تنظر إلى جهة واحدة؟ لماذا لا تنظر إلى الجهة الأخرى؟ فيقول بكسل: وما الفائدة التي تعود عليٌ!!

كلما تذكرت هذا أخرس ضميري الذي يفكرني¬ ويصر علي ذلك¬ بأعمالي المتراكمة علي المكتب وتحتاج إلى مغادرتي السريعة للكسل!

***

الكسل.. معنيان ثقافيان

حسن عبدالموجود

معظم أصدقاء الطفولة كانوا يحلمون بأن يصبحوا ضباطا وحلمي كان دائما مهنة يتحقق فيها شرط الكسل. حينما كان أحد يسألني 'نفسك تبقي إيه؟'
كنت أرد بما يناسب السائل. إجابة أنا غير مقتنع بها. كنت أتخيل نفسي في جميع المهن وأتأكد من أنها جميعا لا تناسبني. ما يناسبني ألا أعمل إطلاقا، أريد فقط أن أستمر طوال حياتي أقرأ تان تان وميكي جيب ثم المغامرين الخمسة والشياطين ال(13) وأجاثا كريستي وروايات عبير واستيقظ بعد الساعة الثالثة ظهرا ولا أخرج من المنزل إلا بعد أذان المغرب حينما ينكسر 'جو' نجع حمادي الخانق!

المسئول بشكل أساسي عن حلمي هذا كان أبي، المحافظ، المنضبط، الذي يريدني أن أسير في الحياة وفق جدول مكتوب أحدد فيه موعد استيقاظي وواجباتي وصلواتي ومتى أخرج من المنزل ومتى أعود، والواجبات في أثناء فترة المدرسة هي واجبات المدرسة، أما في فترة الإجازة فحفظ القرآن. كان يتعامل مع نجع حمادي بعد قدومنا إليها باعتبارها 'نيويورك' مثلا المدينة العملاقة التي يمكنها ابتلاعنا، تغيير أخلاقنا، وكان همه الأساسي أن يحافظ علي أخلاق القرية بداخلنا. دائما عند السابعة صباحا في أحد أيام يناير القارس يقترب من سريري وبكل ما أوتي من قوة يسحب الغطاء من فوقي وهو يزعق 'قوم.. قوم' والتباطؤ في التعامل معه، إبداء أي كسل معناه مصيبة بالنسبة إليٌ. أحيانا كنت أدخل 'الحمٌام' وأغلقه خلفي وأخرج بعض الملابس المركونة في الغسالة وأنام علي الأرض واستخدم هذه الملابس كأغطية.
ولكنه لم يكن يتواني معي، 'يرزع' الباب وهو يتساءل عن سبب تأخري.
يراقبني بعد ذلك وأنا أسحب سجادة الصلاة وأصلي. ثم يحضر المصحف وجلدة إطار ولعدة ساعات يبدأ في تسميعي ما حفظت. في معظم المرات كنت أتحمل الضرب ممنيا نفسي بمشاهدة فيلم لإسماعيل يس أو مباراة للأهلي أو المنتخب ولكن كل هذه الأمنيات كانت تضيع أمام إصراره علي الاستمرار وكنت أسأل نفسي: ألا توجد لديه متع في الحياة؟ كيف يتحمل الجلوس كل هذه الساعات؟!

كنت أحلم إذن بمستقبل أصبح فيه (أكسل) شخص في الحياة، لا أستيقظ إلا كيفما يحلو لي وأسير بكسل في الشوارع وعملي يكون منصبا علي القراءة فقط. حتي هذه المتعة كان يحرص علي ألا أمارسها إلا في أوقات معينة، يدخل إلى حجرتي ليلا وحينما يراني منهمكا في القراءة يطفئ لمبة الحجرة ويأمرني بالنوم ثم يدخل إليٌ ليتأكد من أنني لا أقرأ علي الضوء الشاحب القادم من خصاص النافذة عبر الشارع!

المشكلة التي كنت أخشاها هي أن أتحول إلى أحد نماذج الكسالى الذين عرفتهم في طفولتي. الكسل مرتبط عندنا بالبدانة، بالأشخاص الشرهين تجاه الأكل، خيري المكوجي الوحيد في بلدنا كان مفرطا في البدانة. كانت الفرصة مهيأة أمامه دائما للكسب فهو المكوجي الوحيد لكن كسله جعله من أفقر الأشخاص، حينما يذهب إليه أحد بجلابية، بقميص، ب 'ببنطلون' كان يطلب منه أن يعود بعد أسبوع أو عشرة أيام وفي أحيان بعد أسبوعين، زفارة السمك تفوح دائما من منزله الذي يستخدم حجرة منه لأعمال الكي، يضرط دائما بشكل عادي أمام أي أحد. ويقرن ذلك بالضحك البرئ، لا يغسل فمه أو يديه بعد الأكل ويستخدم هو وزوجته وأبناؤه (وجميعهم مفرطون في البدانة) 'الفوط' التي يلف بها أصحابها ملابسهم في مسح اليدين والفم. لم تجد معه تحذيرات الناس إطلاقا، امتنع بعض من اشتروا المكواة الكهربائية في نهاية الثمانينيات عن التعامل معه ولكنه ظل علي أحواله.

النموذج الثاني كان زميلي في 'التختة' طوال سنوات دراستي الابتدائية، اسمه هاني، بدين جدا، لهذا السبب سمحت المدرسة باستثناء 'تختتنا' نجلس عليها أنا وهو فقط، كل تختة عليها ثلاثة. ينام أثناء شرح المدرس. أحيانا يشخر بصوت عال. حينما يأمره المدرس بفتح يديه ليضربه يتكاسل ثم يجاهد لتظل عيناه مفتوحتين، لا يبكي إطلاقا رغم قوة ضربات 'الخيزرانة'، لا يلعب معنا في 'الفسحة' وإنما يفتح حقيبته المصنوعة من قماش المريلة الذي يرتديه ويخرج سندوتشات بعضها محشو ب'الطبيخ'، كتبه دائما مبقعة وحينما كنت أسأله ماذا تفعل ليلا كان يقول لي 'أنام من بعد العشا لغاية الصبح'!

بعد قدومي إلى القاهرة أحاول ممارسة الكسل علي فترات، الامتناع عن تأدية أية أعمال حتي ولو كانت كتابة نص خاص بي، فقط أمدد علي كنبة في مواجهة التليفزيون، أو أجلس لأحدق في الفراغ، أو أعاود هواية قديمة بقراءة مجلة ميكي، أو أرسم ورغم ذلك أشعر بالإرهاق، قرأت ذات مرة لا أتذكر أين أن زوجة صمويل بيكيت كانت تتضايق من استرخائه الدائم فوق السرير، وتسأله: لماذا تنظر إلى جهة واحدة؟ لماذا لا تنظر إلى الجهة الأخرى؟ فيقول بكسل: وما الفائدة التي تعود عليٌ!!

كلما تذكرت هذا أخرس ضميري الذي يفكرني¬ ويصر علي ذلك¬ بأعمالي المتراكمة علي المكتب وتحتاج إلى مغادرتي السريعة للكسل!

عن الكسل والعمل
والرفاهية العربية

محمود قرني

تثير مفردة 'الكسل' عديدا من نقائضها كضرورة للتعرف عليها. فثمة التباسات ترتبط بتجليات المفردة لدي الطبقات الاجتماعية المختلفة .. فالعاطلون عن العمل كسالى رغما عنهم، والفقراء والكادحون الذين يعملون أكثر من نصف يومهم يجدون السلوى في بعض الكسل العارض الذي يصيبهم برغبتهم في عطلاتهم الزوجية أما الكسالى بالوراثة فهم المثير الحقيقي لهذا المعني عبر التاريخ، هؤلاء هم أنطاع الطبقات المترفة الذين يرفلون في حرير الفقراء منذ مطلع الهمجيات التاريخية الأولي، ففي المجتمعات ما قبل الزراعية كان يتمتع رجال الحرب والحكام ورجال الدين بفراغ هائل، وقد منحت صكوك الغفران، مثلا، نصف الأملاك الأوروبية للكنيسة لقاء الحياة الثانية، وكان الحكام ورجال الحرب يعتبرون الأعمال اليدوية شأنا وضيعا، لذلك حافظوا طيلة الوقت علي الفوارق بين الطبقات.

وربما ساهم تطور مفهوم العمل في الدولة الحديثة وتحوله إلى قيمة إنسانية في تجاوز مثل هذه النطاعة المترفة، ويبدو أن هذا التطور المفاهيمي تأخر نسبيا في الوصول إلى صحراواتنا العربية، وربما لذلك لازلنا نجد طبقة مليونية من الحكام والأمراء وأبناء وأحفاد الأمراء يعيشون من الفائض الريعي لإماراتهم وممالكهم ولازالوا يحافظون علي هذا المفهوم القاهر والمتخلف لقيمة العمل ويندفعون في سبيل الترسيخ لهذه التفرقة بين العمل اليدوي 'الوضيع' واللا عمل الذي يقترن بممارسة أشكال اجتماعية تسلطية، ويظل هذا النموذج غير قابل للقياس عليه لأنه خارج التاريخ بدرجة أو بآخري.

ورغم أن بعض الفلاسفة مثل 'برتراندراسل' بالغ في إضفاء قيمة فردية علي العمل بكافة أشكاله، حتي أنه امتدح الحرب التي استوعبت طاقة هائلة من العاطلين إبان الحربين الأولي والثانية، إلا أن ضبط نموذج العمل المنتج يحتاج إلى تصنيفات نوعية أكثر حذرا مما تشير إليه المحارق البشرية التي أشعلها الكسالى الذين لا يعملون من الطبقات المترفة 'الهمجية'، وراح وقودا لها فقراء الأرض منذ بداية التاريخ، وكأن هذه الطبقات الموصوفة بالهمجية في حاجة إلى الامتناع عن العمل لتؤكد ثقافتها العدوانية لأن العمل حسب هذا التصور قرين العبودية .

وليس هناك من مساحة للحديث من منظور ترفي عن الكسل في مجتمع قوة العطالة فيه تجاوزت كل الحدود المتعارف عليها دوليا، فحسب المؤشرات المعلنة لدينا الآن سبعة ملايين شاب في سن العمل ولا يجدون هذا العمل، وعلي مستوي العالم فإننا تقريبا الدولة الوحيدة في العالم التي يمثل ثلث سكانها شبابا بين العشرين والخامسة والأربعين وهي طاقة عمل جبارة يمثلها حوالي 22 مليون مواطن، تدفع بهم الظروف إلى أعمال كاريكاتورية إذا ما قورنت إمكاناتهم العلمية ومهاراتهم الجسمية والحرفية، إذا كانت الحرب الثانية استوعبت 8.7 مليون عاطل في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها واستوعبت العراق من مصر ثلاثة ملايين عاطل إبان حربها مع إيران فإننا نخشى علي دولتنا من النهوض بحرب مثيلة عندما تطالع هذه الأرقام، حلا لمأزقها.

في هذه المناخات الأكثر عتامة وسوداوية تبدو مفردة الكسل هي الأكثر سخرية من آلام الفقراء والمعدمين والأكثر دقة في توصيف الترف الذي تمثله طبقات من الأنطاع والكسالى عبر التاريخ، هؤلاء الذين يعتبرون أن الفراغ هو إحدى أدوات الاستعراض، حيث ان هذا الفراغ في جوهره هو امتناع عما كانت تسميه الحضارات المثالية بالأعمال الوضيعة والشائنة التي تليق بالأرقاء.

ورغم أن الثورات العلمية ساهمت في الكثير من الحالات في ت حسين الوضع اللاإنساني لهؤلاء الأرقاء عبر العصور، فكفلت أنظمة نقابية عددا من الامتيازات العينية والتقنية التي اختصرت ساعات العمل، إلا أن هذه الانتقالات النوعية لا يمكنها أن تنسحب علي هؤلاء في العالم في اتساعه، بل تظل هذه الأوضاع أقرب إلى صورة الاسترقاق القديم في ثلثي العالم علي الأقل حتي أننا يمكننا مقارنة الفلاح المصري حتي هذه اللحظة بالفلاح في العصر الفرعوني الذي حرث أرضه بالمحراث الذي حرث به جدي، نفس قطعة الأرض التي تقع إلى جوار بيتنا.

أنا لا أعرف الكسل بشكل ما، لأن هذه المعرفة بشتى أشكالها قد تقتلني جوعا أظن أن شركائي علي امتداد عالمنا وصحراواتنا بأكثر جرأة مني، فهم أيضا لا يستطيعون بحال التحقيق من هذه المعرفة، ولذات الأسباب تقريبا لذلك فإن أفضل من سيجيب علي هذا التساؤل شخص في حالة من التثاؤب العابر، سوف يدلي بدلوه في مسألة عويصة مثل الكسل، ثم يواصل تثاؤبه.

***

كسل البدء والمنتهي

ميرال الطحاوي

أريد حبا وحشيا، نومي الخفيف الكسول
ان ثقلي ليس الوحيد تحمله أغطية السرير
اوفيد من 'قيثارة الحب'

قبل النهاية بقليل كل مرة أقف، هل هو الكسل أم الخوف من النهايات يأتي الكسل في كل البدايات ، حروف ندخرها في الذاكرة ونخبائها في الأدراج، حكايات غير مكتملة تغازل عوالم لم تتشكل بعد كل الذي فينا يتقلب علي هدأة التجارب وأسي التأمل المتأني للروح، الكتابة ليست لحظة الاندفاع، كل اندفاع محفوف بمخاطر التسرع والتكرار، 'النص المراوغ' يغازل لحظات القلق وهواجس الإخفاق في القبض عليه كما هو.. طازج وصريح بلا كوابح، العقل الذي يمسك بدفة التجربة ومحاولة النضوج والوعي يصبح معطلا.. اكتبي ما الكتابة سوي لحظة الاندفاع العظيم، لحظة الأرق.. في كل المرات التي كنت ضيفة علي بيوت الإبداع، منتجعات أوروبية واسعة، علي الغرف أسدلوا الستائر، وزورونا بالأضواء الخافتة، وأحاطوا الغابات بالسكون، كل غرفة كانت مشرعا ما.. نص مراوغ، في أضواء الشموع وتجمعات العشاء حين يشتكي الكتاب من لحظات الأرق دائما ما يتردد السؤال.. 'ما أخبار الكتابة' الكاتب الكبير.. الذي يسكن فوقي دائما ما يسألهم وقف رنين الهاتف، ولا تتوقف ساقاه عن الخبط العنيف في الأرض يروح ويجيء في ماراثون القلق ولا يكف عن الاتصالات التليفونية في المساء يبتسم 'هل يقلقك صوت أقدامي؟!' أجيب بتلطق بل صوت مكالماتك.. يضحك بمرح طفولي ويحكي عن ارق الإمساك بالقلم ونوافذ الهروب، قبل البدايات كل يوم يصارع ديوك الهرب والكسل بمحاولات الهروب حتي تأتي الكتابة فيسكن إلى قلمه، وفي استراحة المحاربين بين ضوء الشموع الليلي نتجنب الحكي عن تلك اللحظات الحميمة المنفردة مع الورق، الكتابة تظل سرا وغواية تراود باشتهاء وتتمنع بدلال ثم تغدق بلاحساب، في المنتجعات البعيدة الباردة لا اكتب، أظل أتنقل من كتاب إلى كتاب، ومن هاجس إلى آخر وأراقب الآخرين، لحظات الاحتراف تعني اتفاقا سريا مع الروح، الكمبيوترات المحمولة تعمل وفق المخططات المحدودة لأوقات النهار.. كيف لهم ان يديروا بوصلة الكتابة مع ساعات النهار، يتلاشي وهم مغازلة لحظات العزلة، فالعزلة لا تردني إلا إلى التأمل والتوحد معها، قرب المدافئ انعس كقطة كسول وأتعلل بطبيعة كل روح، أتدرب في الأوراق الخفية والبدايات التي تكتمل واحمل الأيام التي تضيع بحثا عن لحظة الألق.. تأتي الكتابة حين لا انتظرها مثل غفوة ، فيض من الحروف والتفاصيل التي اختزنتها أيام الرقاد، تأتي كضيف صاخب يملأ جرابه بالمفاجآت كل الذي كان فيك يتفتح ويتواصل..

قبل النهاية بقليل يهبط الكسل.. الشخصيات التي اكتسبت بعض الروح، المعالم التي تشكلت، والحكاية التي أثقلها السرد تصب باتجاه المنخفض، لحظة الهبوط.. الذين عاشرتهم وكان لهمه بعض ملامحي وتفاصيل ذكرياتي وخبراتي، الذين صاروا أكبر من ان اختار مصيرهم يتمردون علي هذا المصير، نهايتهم المحتومة أقف أياما، شهورا أعيد القراءة وأبدل في النهايات، خوفا من ان يستمرئ القلم كسلة ، وان تغفوا الخيوط التي اشتبكت لابد ان تضع النقطة الأخيرة في المنحني، لابد ان نفارق لنعرف آخرين، وان ندفن موتنانا لتتواصل دورة الأنبات النهايات التي نكتبها، قد تهددنا بالفقد، والمخازن التي سطرت كل البدايات لابد ان تهبط علي النقاط الأخيرة، حينها لا يصبح بالإمكان تبديل المصائر ولا استعادة لحظات التفجر يمرح الكسل بعين التأمل، ترهق الروح من وطأة التردد، تضع النقطة الأخيرة.. يصبح النص كائنا يرافقك حينا ثم يأفل تتركه لعيون الآخرين، نتركه كوليد اكتمل ريشه وعليه ان يطير بعيدا وعلينا ان نرقد على أفراخ اصغر، الكتابة كبذرة الرحم يستقبلها الجسد بخوف وتقلب وغثيان ثم تنمو في تربة الكسل حتي يأتي المخاض، المخاض والأحضان المؤلم يترك علي الروح آثارها واستشهاءاتها لبذار جديد مؤلم محير، مربك مفرح، يتفرد ويمشي علي قدميه تاركا حيز الوجود لكائنات أدق تحتل مناطق الإخصاب وتبحث عن وجودها في وجودك.
أليست الكتابة هي دراما الوجود والخلق مصغرة، لحظات كمون وكسل كي يستكين النبت في الرحم الدافئ ولحظات متعته الشرسة.. في الكمون نحيا كي نغتم الصخب، وفي الفقد تتوحش الرغبة والشبق لامتلاء محتمل يقتنص لحظته ليمتلكنا فنمتلكه.

***

تأملات في أحوال الكسل

سعيد توفيق

صورة الحياة في الدار الآخرة كما رسمتها لنا الأديان علي النقيض من صورتها في الدنيا: فالدنيا دار جهد وعمل، ومن ثم تعب وشقاء: ولهذا يقول لنا الإنجيل بالتعب تأكل منها طول حياتك.. ، ويقسم الله في كتابه لقد خلقنا الإنسان في كبد . أما الدار الآخرة أو الجنة ، فليس فيها شيء من هذا ، وكل شيء ينال دون أدني جهد أو مشقة : فأهل الجنة علي الأرائك متكئون ، وألذ الطعام والشراب يؤتي به إليهم إذ يطوف عليهم ولدان مخلدون، وحتى أجمل النساء اللاتي يكافح الرجال من أجلهن في الحياة الدنيا بمحاولة إحراز شيء من القوة ممثلة في المال أو السلطة ينالهن المؤمنون بالجملة هبة إلهية وثوابا علي كانوا في الدنيا يفعلون . ومفاد القول إن أهل الجنة ينعمون بحالة من الكسل المترف الجميل ثوابا علي عملهم في الدنيا . فهل يعني هذا أن الكسل ينطوي علي قيمة إيجابية باعتباره مرتبطا بالسعادة والنعيم، وأن العمل ينطوي علي قيمة سلبية باعتباره مرتبطا بالجهد والشقاء ؟!

إن وضع السؤال علي هذا النحو ينطوي علي مغالطة : لأنه يعقد مقارنة بين أمرين مختلفين من حيث طبيعة كل منهما: إذ يفترض وجود معني واحد لما له قيمة ولما يجلب السعادة في الحالتين ، وهو افتراض لا نستطيع أن نتحقق منه : فنحن لا نعرف ما الذي ستكون عليه الطبيعة البشرية في الحياة الآخرة : ومن ثم لا نعرف علي أي نحو تتحقق السعادة في النفس البشرية ، وما هو الذي يعد ذا قيمة بالنسبة لها . وما لا نعرفه ينبغي دائما أن نصمت عنه كما يقول فتجنشتين. فنحن لا نعرف كما يعلمنا الظاهراتيون سوي ما يظهر لنا في خبراتنا البشرية التي نحياها ، وهذا هو المجال المتاح لنا والذي يمكن أن نخوض فيه . وما نعرفه هنا ونكون علي يقين منه هو أن مفهوم الكسل في حياتنا مرتبط بمفهوم العمل باعتباره نقيضا له .
فلنحاول أولا أن نحدد مفهوم العمل : ماذا يعني العمل ببساطة ؟

يمكننا تعريف العمل بأنه كل نشاط أو جهد يسعي إلى التأثير في عالم الإنسان إما من خلال خلق شيء جديد أو من خلال تحويل شيء ما من صورة وحالة معينة إلى صورة وحالة أخري . وهذا التعريف البسيط الذي أقدمه هنا هو ما يمكن أن يحررنا من كثير من سوء الفهم الذي ارتبط بمفهومي العمل و الكسل معا : إن مفهوم العمل قد ارتبط تاريخيا في الأذهان بالطبقة العاملة ، وهي الطبقة التي يعمل الفرد فيها غالبا لمصلحة الآخر الذي قد يكون هو الإقطاعي أو البورجوازي أو حتي الحكومة . وقديما كان يقصد بهذه الطبقة أولئك الذين يشتغلون بالعمل اليدوي في مقابل أولئك الذين يشتغلون بالنظر العقلي ، وكان اليونان يحقرون من شأن العمل اليدوي ويعتبرونه أدني مرتبة من النظر العقلي (أوالتفلسف ) الذي لا يتوافر إلا لتلك الصفوة التي تعيش عيشة الفراغ فيما يري أرسطو . وقد ظلت هذه النظرة الدونية للعمل سائدة في الغرب حتي عهد ليس ببعيد ، فحتى أوائل القرن التاسع عشر في بريطانيا كان من الطبيعي أن يشتغل العامل خمس عشرة ساعة في اليوم دون أن تكون له أية حقوق في المطالبة بأوقات فراغ أو عطلات : إذ كانت الإجابة الجاهزة الشائعة للرد علي مثل هذه المطالب هي : وماذا يفعل هؤلاء بأوقات فراغهم التي ستكون مفسدة لهم ؟! وهكذا كان هناك دائما في مقابل السواد الأعظم من طبقة العمال فئة صغيرة ممن يشكلون الطبقة التي تعيش عيشة الفراغ leisure class ، وهي الطبقة التي كانت تحظي بالكثير من الامتيازات التي لا تقوم علي أساس من العدل الاجتماعي، ومن هنا كانت الكراهية لتلك الطبقة أو عدم التعاطف معها علي الأقل ، وفي مقابل ذلك كانت تلك الطبقة تحاول دائما أن تحظي بالتأييد باختراع النظريات التي تبرر بها وضعها وامتيازها الطبقي . وعلي الرغم من تراجع هذه الطبقة ومحاولة الجامعات خلق طبقة الصفوة البديلة بطريقة أكاديمية منهجية بحيث تبدو نتاجا للنظام وليس للصدفة ، فإن هذه الطبقة فيما يري برتراند رسل في كتابه الذي يحمل عنوان في مدح الكسل هي التي أسهمت في بناء مجمل ما نسميه الحضارة بما أبدعته من علم وفن وفلسفة ، حتي إنه ذهب إلى أنه بدون الطبقة التي تعيش عيشة الفراغ لم يكن من المكن للبشرية أن تخرج أبدا من حالة البربرية (ص. 62 (

وبعض هذا الكلام صحيح وبعضه خطأ: فمن الصحيح القول إن الحضارة قامت علي جهود الصفوة من المبدعين عبر العصور، ولكن ليس من الصحيح في نفس الوقت القول إن هؤلاء الصفوة يشكلون طبقة تعيش عيشة الفراغ في مقابل الطبقة العاملة . ومن ناحية يمكن القول إن بعض الخطأ هنا يكمن في أن هذا التصنيف والتمييز يستند إلى نوع من التمييز الطبقي الذي كان متأصلا في الفكر الغربي منذ اليونان الذين كانوا يحقرون من شأن العمل اليدوي ، حتي إنهم كانوا يعدون فنا كفن النحت من قبيل الصناعات شأنه شأن الحدادة والنجارة . ومن ناحية أخري يمكن القول إن مكمن الخطأ الأساسي في مجمل الكلام السابق مرتبط بسوء فهم مفهوم العمل ذاته : فمفهوم العمل ليس مقصورا علي مفهوم الطبقة العاملة أو مرادفا له ، فالعمل يمتد إلى الإبداع نفسه ، و إلى أولئك الذين وصفهم أرسطو بأنهم يعيشون عيشة الفراغ . فما معني الفراغ هنا ؟ لا ينبغي أن نفهم الفراغ هنا علي أنه ضد العمل بإطلاق ، وإنما هو ضد نوع معين من العمل ، و أأأأأو هو بمعني أدق يعني التفرغ لنوع محدد من العمل الذي نسميه الإبداع سواء علي المستوي العلمي أو الفني أو الفلسفي . وهذا الشكل من أشكال العمل ( أو الإبداع ) الذي يتطلب التفرغ لا يعني أو يفيد معني الكسل ، بل يعني نشاطا عقليا وجهدا روحيا مضنيا ، والدليل علي ذلك أننا نصف الإبداع الفني دائما بأنه ينطوي علي نوع الألم والمعاناة التي تفوق كل أشكال المعاناة في الأعمال الأخرى . ولم يكن عمل المبدعين دوما إلا ثمرة هذا الجهد العقلي والألم الروحي السامي الذي يفوق كل أشكال الألم الناتجة عن الأعمال الأخرى التي يمارسونها أحيانا لكسب قوت يومهم: ولهذا توقفت الحياة الإبداعية لكثير منهم عندما توقف أو تدهور نشاطهم العقلي. ولذلك يمكن القول إن حالة الكسل لا وجود لها لدي المتفرغين للعمل الإبداعي : فحالة الكسل الوحيدة المقبولة هنا والتي يمكن فهمها باعتبارها حالة إيجابية هي ما يمكن أن نسميه حالة الاسترخاء الإبداعي التي تبدو دائما كما لو كانت نوعا من الجزاء الذي يكافئ به المبدع نفسه علي عمل أنجزه ، وتكون في نفس الوقت بمثابة مرحلة تأمل أو حضانة لميلاد عمل جديد . فالعمل في حياتنا سواء الإبداعية أو غير الإبداعية مرتبط بالمعاناة والشقاء ، ولكنه في نفس الوقت مرتبط بحالة من السعادة والبهجة المتولدة عن إحساسنا بقدرتنا علي التأثير في العالم ، وعلي أن نكون فاعلين فيه .

ولنحاول الآن تطبيق هذه التأملات في أحوال العمل والكسل علي أحوالنا في مصر . فماذا نجد ؟

إن العمل علي المستوي الإبداعي يتطلب مناخا من الحرية ووفرة من المحفزات التي تبعث الطاقة في الروح ، وهي أمور غائبة علي الأقل علي مستوي الإبداع العلمي والفكري : ولهذا وجدنا أجيالا من المشتغلين بهذه المجالات في الجامعات قد أصبحوا موظفين كسالى ، أي أصبحوا طاقات معطلة تفتقد الروح المحفزة علي العمل الإبداعي . أما علي مستوي الطبقة العاملة الأخرى التي تشكل جموع الشعب من موظفين وعمال ، فإننا نلمس فيها روح الكسل الذي يصل إلى حد التبلد، وهي حالة غريبة أصابت حياتنا في الصميم ، ولعلها تكون عرضا أساسيا من أعراض الأمراض المزمنة التي نعاني منها . ولا شك أن هذه الأعراض تشبه من بعض الوجوه الحالة الهروبية الانسحابية التي عبرت عن نفسها في العصر الهيلينستي الذي جاء في عقب أفول الحضارة اليونانية ، وهي الحالة التي تمثلت أعراضها في مفهومي الأباثيا عند الرواقيين و الأتراكسيا عند الأبيقوريين : والمفهوم الأول كان يعني إماتة اللذات ووأد الشهوات ، أما المفهوم الثاني فكان يعني حالة اللامبالاة أو عدم الاكتراث ، وكلتا الحالتين جاءتا كانعكاس وتعبير فكري عن انحلال العصر وافتقاد الأمن والكرامة والحرية . ولكن في حين أن مثل هذه النزعات عبر العصور كانت فيها مسحة من التفلسف أو الموقف الفكري العقائدي ، فإنها في حياتنا الخاصة الراهنة تتخذ شكلا لا مثيل له : إنها حالة سيكولوجية محضة أصابت الروح والوجدان، وعبرت عن نفسها في تبلد الحس والشعور .

في مدح الكسل

برتراند راسل

ترجمة: د. رمسيس عوض

لقد درجت، شأني في ذلك شأن معظم الجيل الذي انتمي إليه، علي المثل القائل بأن 'اليد البطالة نجسة'، ولما كنت طفلا يتحلي باسمي الفضائل، كنت أصدق كل ما كان يقال لي.. واكتسبت ضميرا مازال يدفعني إلى العمل الشاق حتي اللحظة الراهنة.. ولكن علي الرغم من أن ضميري لا يزال يسيطر علي 'أفعالي' إلا أن 'آرائي' قد اجتاحتها ثورة.. فأنا أعتقد أن العمل الذي ينجز في العالم يزيد عما ينبغي إنجازه بكثير، وأن ثمة ضررا جسيما ينجم عن الإيمان بفضيلة العمل، كما أني أعتقد أن ما تحتاج البلاد الصناعية الحديثة إليه من تبشير يختلف تماما عن نوع التبشير الذي ألفته.. كل إنسان يعرف قصة المسافر في نابولي الذي رأي اثني عشر شحاذا مستلقين في الشمس (كان هذا قبل أيام موسوليني) والذي قدم ليرة إلى أكسلهم طرأ فهب أحد عشر من رقدتهم يطالب كل منهم بها، فما كان من المسافر إلا أنه نفح الليرة الشحاذ الثاني عشر.. لقد كان هذا المسافر مصيبا فيما فعل.. ولكن الكسل في البلاد التي لا تستمتع بشمس البحر الأبيض الساطعة أكثر مشقة ولابد من دعاية ضخمة لإرساء قواعده.. وأملي بعد قراءة الصفحات التالية أن يبدأ قادة جمعية الشبان المسيحيين حملة لإغراء الشباب الطيب بألا يفعل شيئا.. واذا تم لي ما أبغي، لن تكون حياتي قد ضاعت سدي.

***

قبل أن أعرض آرائي الخاصة مدافعا عن الكسل يتحتم علي أن أدحض رأيا لا يمكن لي أن أقبله.. فعندما يخطر لانسان لديه من وسائل العيش ما يكفيه أن يشتغل بعمل من أن أعمال الحياة اليومية كالتدريس في المدارس أو الآلة الكاتبة فإنه يقال لهذا الانسان أن مثل هذا التصرف من جانبه سيحرم آخرين من تصل لقمة العيش إلى أفواههم.. ولهذا فهو تصرف شرير.. ولو أن هذا الرأي كان صحيحا لكان من الضروري أن نصبح كسالى فحسب حتي تمتلئ أفواهنا جميعا بالخبز.. والأمر الذي يغيب عن أذهان من يزعمون مثل هذه المزاعم هو أن الانسان عادة ينفق ما يربح وأنه في إنفاقه لما يربح يتيح لغيره فرصة العمل.. وما دام الانسان ينفق دخله فهو يوفر لقمة العيش للآخرين بالقدر الذي ينتزعها به من أفواههم.. والمجرم الحقيقي من وجهة النظر هذه هو الانسان الذي يدخر، فمن الواضح أنه لن يتيح فرص العمل لاحد لو أنه اكتفي بمجرد حفظ مدخراته في جورب كما يفعل الفلاح الفرنسي في الأمثال الشائعة.. أما إذا استثمر مدخراته فسيكون جرمه أقل وضوحا وتنشأ بذلك حالات مختلفة..

من أكثر الأمور شيوعا أن يقرض الانسان مدخراته لحكومة ما. وبالنظر إلى أن أكبر جانب من المصروفات العامة في معظم الحكومات الراقية يتلخص إما في دفع نفقات حروب قديمة أو الاستعداد لحروب جديدة فان الانسان الذي يقرض ماله للحكومة هو في نفس وضع الرجال الأشرار في مسرحيات شكسبير الذين يستأجرون القتلة.. والنتيجة النهائية لعادات هذا الانسان الاقتصادية هي زيادة القوات المسلحة للدولة التي يقرضها مدخراته.. ومن الواضح أنه من الأصوب لو أنه أنفق المال حتي لو كان علي الشراب والميسر.

ولكن البعض سيرد عليٌّ محتجا بأن الحالة تختلف تماما إذا استثمرت هذه المدخرات في المشروعات الصناعية.. قد يمكن الأخذ بهذا الرد عندما تنجح مثل هذه المشروعات وتنتج شيئا مفيدا.. ولكن لا سبيل لأحد أن ينكر أن غالبية هذه المشروعات ينتهي الأمر بها إلى الفشل.. وهذا معناه أن قدرا كبيرا من الجهد البشري الذي كان يمكن تخصيصه لإنتاج شيء يمكن الاستمتاع به يبذل في انتاج آلات يقدر لها عقب إنتاجها أن تظل عاطلة لا يجني أحد من ورائها نفعا.. وعلي هذا فالإنسان الذي يستثمر أمواله في مشروع يفضي إلى الإفلاس يضر الآخرين كما يضر بنفسه.. ولو أنه أنفق ماله مثلا في إقامة الحفلات لأصدقائه لجنوا كما نأمل من ذلك لذة ولأستمتع كذلك سائر الناس الذين ينتفعون من ورائه أمثال الجزار والخبار وتاجر الخمور.. ولكنه لو أنفق هذا المال لنقل مثلا علي تركيب قضبان حديدية لعربات في مكان ما حيث يثبت أن الحاجة لهذه العربات معدومة فأنه بذلك يحول كتلة من الجهد في مجدي ليس من شأنه أن يجلب المتعة لأحد.. ورغم ذلك فإنه يعتبر ضحية حظ عاثر لا يستأهله إذا ما أصبح فقيرا من جراء فشل مشروع استثماره بينما أن المسرف المرح الذي ينفق ماله فيما يعود علي الآخرين بالخير والمنفعة يعامل بازدراء كشخص مغفل مستخف تافه.

كل هذا مبدئي فقط.. وأنا أريد أن أقول في جدية تامة أن العالم الحديث يصيبه الكثير من الأذى نتيجة الاعتقاد في فضيلة العمل، وأن السبيل إلى السعادة والرفاهية ينحصر في الإقلال المنظم للعمل.

وبادئ كل شيء. ما العمل؟ العمل نوعان: أولهما تغيير وضع المادة علي سطح الأرض أو بالقرب منه بالنسبة لمادة أخري مثيلتها.. وثانيهما القول للناس الآخرين بأحداث هذا التغيير.. النوع الأول غير بهيج واتجاه غير مدر للربح، أما النوع الثاني فبهيج ويدر ربحا طائلا، والنوع الثاني من العمل مطاط بشكل لاحد له فليس هناك من يصدرون الأوامر فحسب، بل هناك أيضا من يقومون بإسداء النصح بشأن الأوامر التي ينبغي إصدارها. وفي العادة تصدر هيئتان منظمتان من الناس نوعين متباينين من النصيحة في وقت واحد.. وهذا هو ما يسمي بالسياسة.. والمهارة التي يتطلبها هذا النوع من العمل لا تنحصر في الإلمام بالموضوعات التي تسدي النصائح بصددها بل بإتقان فن الحديث والكتابة لحث الناس واستثارتهم، أي بإتقان فن الإعلان.

وهناك طائفة ثالثة من الرجال في أوربا بأسرها وأن لم يكن لها وجود في أمريكا تنعم باحترام أكبر من أي من الطبقتين العاملتين السالف ذكرهما.
هناك رجال يتسنى لهم بحكم ملكيتهم للأرض أن يجعلوا الآخرين يدفعون ثمن التفضل بالسماح لهم بالحياة والعمل.. وملاك الأرض هؤلاء كسالى خاملون ولذلك قد ينتظر مني أن أمتدحهم، ولكن كسلهم لسوء الحظ ما كان ليتوافر لولا جهد الآخرين وكدحهم.. وحقيقة الحال أن رغبتهم في الكسل الحلو هي من الناحية التاريخية منبع الإيمان العام بقداسة العمل، وآخر شيء لاتوده هذه الطائفة إطلاقا هو أن يحذو الآخرون حذوهم.

***

منذ بدء الحضارة حتي الثورة الصناعية كان يمكن للرجل كقاعدة عامة أن ينتج بالعمل الشاق ما يقيم أوده وأود عائلته وما يزيد قليلا.. هذا بالرغم من أن زوجته كانت تقوم علي أقل تقدير بمثل عمله المرهق، ومن أن أطفاله كنوا يسهمون بجهدهم عندما يشبون عن الطوق وتشتد سواعدهم.. ولم يكن الفائض القليل الذي يربو علي حاجيات الكفاف يترك لأصحابه الذين يقومون بإنتاجه بل كان من نصيب المقاتلين والكهنة يستأثرون به. وفي أوقات المجاعات لم يكن هناك فائض.. ولكن المقاتلين والكهنة كانوا علي الرغم من ذلك يضمنون لأنفسهم علي أي حال ما كانوا يضمنون في الظروف الأخرى الأمر الذي أفضي إلى تضور الكثيرين من الكادحين جوعا.. واستمر هذا النظام في روسيا حتي عام 1917(1) ومازال مستمرا في الشرق، كما ظل باقيا في إنجلترا علي الرغم من الثورة الصناعية أثناء الحروب النابليونية.. ظل هذا النظام مستمرا حتي المائة عام الأخيرة حينما استولت طبقة جديدة من المنتجين علي زمام السلطة وانتهي هذا النظام في أمريكا بنشوب الثورة إلا في الجنوب حيث استمر حتي اندلاع الحرب الأهلية. ومن الطبيعي أن يترك نظام هذا شأنه قدر له أن يستمر كل هذه الفترة دون أن ينتهي إلا قريبا جدا أثرا عميقا في أفكار الناس وآرائهم. وكثير من المعتقدات الخاصة بفضيلة العمل، مما نعتبرها بديهيات لا تحتاج إلى نقاش، مستمدة من صلب هذا النظام، وهو نظام لا يتفق ومقتضيات العالم الحديث، لأنه كان نظاما يسود المجتمعات قبل الثورة الصناعية.. ووسائل العلم الحديثة من شأنها ألا تجعل الفراغ في حدود حكرا تنفرد به طبقات ضئيلة العدد وتنعم بامتيازاته بل تجعل منه حقا يعطي بالتساوي لأفراد المجتمع.. وأخلاقيات العمل هي أخلاقيات العبيد ولا حاجة للعالم الحديث إلي نظام العبيد..

ومن الجلي أن الفلاحين في المجتمعات البدائية لو تركوا لشأنهم لما فرطوا في الفائض الضئيل من إنتاجهم الذي كان المقاتلون والكهنة يستأثرون به ولكانوا يؤثرون علي ذلك إما خفض إنتاجهم أو زيادة استهلاكهم.. كانت القوة المجردة في بادئ الأمر تضطرهم إلى انتاج الفائض والنزول عنه. ولكنه وجد بالتدريج علي أية حال أنه من الممكن إغراء كثرتهم بقبول أخلاق من شأنها أن تجعل الواجب عليهم أن يكدوا ويكدحوا رغم أن بطون الآخرين كانت تتخم في استرخاء وكسل بجانب من كدحهم. وبهذا الأسلوب الجديد قلت كمية الإرغام المطلوبة كما انخفضت تكاليف الحكم. وحتى يومنا هذا سيصاب 99 % من الكادحين البريطانيين بالدهشة الحقة لو أقترح انسان انه لا ينبغي للملك أن يحصل علي دخل يزيد عن دخل الرجل العادي. وفكرة الواجب من الناحية التاريخية كانت أداة استغلها أصحاب السلطان لإغراء الآخرين علي قضاء مصالح أسيادهم الخاصة، لا مصالحهم هم. ويعمل أصحاب السلطان بطبيعة الحال علي إخفاء هذه الحقيقة عن أنفسهم، وذلك بأن يفلحوا في إقناع أنفسهم بأن مصالحهم ومصالح الإنسانية عامة شيء واحد لا تعارض فيه. وهذه هي عين الحقيقة في بعض الأحيان. فأصحاب العبيد في أثينا مثلا كانوا يسخرون جانبا من فراغهم في إضافة شيء دائم إلى الحضارة. هذه الإضافة إلى صرح الحضارة لم تكن لتوجد تحت ظل نظام اقتصادي تسوده العدالة. فالفراغ ضرورة للحضارة. وفي الأزمنة السالفة كان الفراغ الذي تنعم به الأقلية ممكنا بفضل كد الأكثرية وكدحها. وكان لكدحها قيمة لا لان العمل شيء حسن بل لأن الفراغ شيء حسن. ويمكن عن طريق وسائل العلم الحديثة توزيع الفراغ توزيعا عادلا دون أضرار بالحضارة.

***

وقد جعلت وسائل العلم الحديثة في الإمكان تخفيض قدر الجهد المطلوب لكي يحصل كل انسان علي ضرورات الحياة تخفيضا هائلا وأصبح هذا واضحا أثناء الحرب، ففي هذا الوقت تم سحب كل رجال القوات المسلحة وكل الرجال والنساء العاملين في انتاج الذخيرة والمشتغلين بالتجسس وبدعاية الحرب أو بمكاتب الحكومة التي لها علاقة بالحرب كل هؤلاء تم سحبهم من وظائفهم الإنتاجية. ورغم هذا فقد كان مستوي الرفاهية المادية بين العاملين غير الفنيين في صفوف الحلفاء مرتفعا عن ذي قبل أو بعد ذلك.. (وقد أخفت السياسة المالية مدلول هذه الحقيقة فقد ظهر من عقد القروض كما لو كان المستقبل يغذي الحاضر، ولكن هذا بطبيعة الحال أمر مستحيل الوقوع فالإنسان لا يستطيع أن يأكل رغيفا من الخبز لم يوجد بعد). لقد أثبتت الحرب بشكل قاطع أنه من الممكن عن طريق التنظيم العلمي للإنتاج الاحتفاظ لأهل العصر الحديث برغد نسبي وذلك بفضل جهد جانب ضئيل من القدرة العاملة في عالمنا الحديث.. ولو أن التنظيم العلمي الذي أوجدته الحرب ليتفرغ الرجال للقتال، ولصنع الذخيرة قد احتفظ به بعد نهاية الحرب، ولو أن ساعات العمل خفضت إلى أربع ساعات، لسار كل شيء علي ما يرام، ولكن بدلا من ذلك عادت إلى العالم فوضاه القديمة وأصبح المطلوبون للعمل يعملون ساعات طوالا متصلة وترك الباقون ليتضوروا جوعا بسبب تعطلهم عن العمل. لماذا؟ لان العمل واجب ولأن الانسان لا ينبغي له أن يحصل علي اجر يتناسب مع ما ينتجه بل يتناسب مع فضيلته كما هي ممثلة في جده واجتهاده. وهذه هي أخلاق دولة العبيد مطبقة في ظروف تختلف تماما عن ظروف نشأتها. فلا غرو إذن إذا كانت النتيجة محزنة. ولنأخذ مثالا، لنفرض أن عددا معينا من الناس في وقت ما يشتغلون في انتاج الدبابيس. هذا العدد يقوم بصناعة ما يحتاج إليه العالم من دبابيس، ويعمل (قل) ثماني ساعات يوميا. فيجيء شخص ما ويستحدث اختراعا من شأنه أن ينتج نفس هذا العدد من الناس ضعف هذا العدد من الدبابيس. ولكن الدبابيس رخيصة الثمن أصلا مما يجعل من المستبعد جدا شراء عدد أكبر منها بسعر أقل. في عالم يسوده العقل، سيعمل كان إنسان يشتغل بصناعة الدبابيس أربع ساعات بدلا من ثمان، وتجري الأمور على ما كانت عليه. ولكن العالم الحالي ينظر إلى هذا الحل على اعتبار أنه محط بالقيم والأخلاق. ولهذا مازال الرجال يعملون ثماني ساعات وإنتاج الدبابيس يزيد علي الحاجة بكثير، وينتهي الأمر بموظفي الأموال إلى الإفلاس مما يفضي إلى تشريد نصف عدد الرجال المشتغلين بصناعة الدبابيس وتعطلهم عن العمل. وفي نهاية الأمر، تتوفر لدينا نفس كمية الفراغ التي كانت ستتوافر لو اتبعنا الخطة الثانية.. ولكنه فراغ تشوبه البطالة التامة التي تصيب نصف عدد العاملين بينما يرزح كاهل النصف الآخر تحت ثقل العمل المرهق. ومن المؤكد أن بإتباع هذا الأسلوب سيسبب الفراغ الذي لامحيص عنه شقاء في كل مكان بدلا من أن يكون مصدرا للسعادة عميما. فهل من الممكن أن نتصور جنونا أكثر من هذا..؟

والفكرة التي تنادي بأن يتمتع الفقراء بالفراغ كانت ولا تزال دوما مثار دهشة الأغنياء وذهولهم. وفي انجلترا بلغت ساعات العمل اليومي العادي للرجل في أوائل القرن التاسع عشر خمس عشرة ساعة. كما كان الأطفال يعملون أحيانا مثل هذا القدر من الساعات. وكان من الشائع جدا أن يعمل الأطفال أثنتي عشرة ساعة. وعندما اقترحت هيئات تحرص علي التدخل فيما لا يعنيها أن ساعات العمل هذه ربما كانت أطول مما ينبغي، كان الرد علي هذا أن العمل يقي الكبار من الخمر كما يحمي الصغار من الشر. وفي طفولتي، بعد أن نال عمال المدينة حقهم الانتخابي بوقت قصير أقيمت بحكم القانون بعض العطلات العامة اختفاء بهذه الذكري مما آثار سخط الطبقات العليا. وأنا أذكر أني سمعت حينذاك دوقة متقدمة في العمر تقول في هذا الصدد: 'ما عسي الفقراء أن يفعلوا بالعطلات؟ ينبغي عليهم أن يعملوا' والناس الآن أقل صراحة عن ذي قبل ولكن هذا الشعور مازال سائدا وهو مصدر الكثير من اضطرابنا الاقتصادي.

***

دعنا نفكر برهة في أخلاقيات العمل بصراحة دون التجاء إلى الخزعبلات.. كل انسان يستهلك بالضرورة خلال حياته مقدارا معينا من نتاج الجهد البشري.
وبفرض أن العمل شيء كريه فمن الظلم أن يستهلك انسان أكثر مما ينتج وقد يقوم بطبيعة الحال بأداء خدمات بدلا من انتاج السلع ولكنه ملزم بتقديم شيء مقابل مأكله ومسكنه وفي هذه الحدود، وفي هذه الحدود فقط يجب علينا الاعتراف بواجب العمل.

لن أتحدث طويلا عن الحقيقة التي تتلخص في أن عددا كبيرا من الناس في المجتمعات الحديثة باستثناء الاتحاد السوفيتي يعمد إلى التهرب حتي من الحد الداني للعمل وأعني بالذات كل الذين يرثون المال أو يتزوجون طمعا فيه.
وأنا لا أعتقد أن السماح لهؤلاء الناس بالكسل يكاد يصل في ضرره ما تصل إليه مطالبة الكادحين في سبيل الرزق أن يكدوا أو يتضوروا جوعا.

ولو أن الكادح في سبيل الرزق عمل مدة أربع ساعات يوميا لكان هناك ما يكفي كل انسان، ولما كانت هناك بطالة هذا لو افترضنا وجود جانب من التنظيم المعقول المعتدل للغاية. هذه الفكرة تذهل الأغنياء لأنهم مقتنعون بأن الفقراء لن يعرفوا كيف يستغلون كل هذا الفراغ. وفي أمريكا غلابا ما يعمل الناس ساعات طوالا حتي بعد أن يغدوا أثرياء. هؤلاء الناس بطبيعة الأمر كارهون لفكرة توفير الفراغ للكادحين في سبيل الرزق إلا علي اعتبار أنه نتيجة متجهمة للبطالة، وهم في الحقيقة يكرهون الفراغ حتي لأبنائهم.
والغريب في الأمر أنهم لا يكترثون بكون زوجاتهم وبناتهم لا يقمن بعمل شيء علي الإطلاق بينما هم يتمنون لأبنائهم العمل في كد واجتهاد. الغريب أن الإعجاب المتعالي نحو الفراغ والكسل الذي يمتد إلى كل من الجنسين في المجتمع الأرستقراطي مقصور في المجتمع الذي يسير دفته الأثرياء (البلوتوقراطية) علي النساء ولكن هذا لا يتفق علي أيه صورة مع منطق العقل السديد.

يجب الإقرار بأن الاستغلال الحكيم للفراغ هو نتاج المدنية والتعليم وأن الانسان الذي اعتاد علي العمل ساعات طويلة يصيبه الملل لو أنه أصبح متعطلا بين يوم وليلة. ولكن بدون جانب كبير من الفراغ يجد الانسان نفسه محروما من الكثير من أطايب هذه الحياة. لم يعد هناك داع لكي يعاني غالبية الناس من هذا الحرمان. والتقشف السخيف الذي يحمل طابع التضحية هو الذي يجعلنا عادة نستمر في الإصرار علي العمل بكميات ضخمة رغم أن الحاجة إليها لم تعد قائمة.

ورغم أن هناك تباينا تاما بين المذهب الجديد الذي يسود حكومة روسيا وبين تعاليم الغرب التلقيدية في كثير من الأمور، إلا أن هناك بعض الأوضاع القديمة التي لم يطرأ عليها إطلاق أدني تغيير تحت ظل هذا النظام. فموقف الطبقات الحاكمة وخاصة هؤلاء الذين يقومون بالدعاية التعليمية بشأن وقار العمل يكاد يكون تمام نفس الموقف الذي اعتادت الطبقات الحاكمة فيما مضي التبشير به لمن يطلق عليهم اسم 'الفقراء الشرفاء'، وفي ظل المذهب الجديد يعود إلى الظهور التبشير بالاجتهاد والاتزان والاستعداد للعمل ساعات متصلة من أجل فؤاد تجني في المستقبل البعيد، حتي الخضوع إلى السلطة يعود إلى الظهور. أضف إلى ذلك أن السلطة لا تزال تمثل إرادة حاكم الكون الذي يلقب الآن علي أية حال باسمه الجديد 'المادية الجدلية'.

***

وانتصار الطبقة العاملة في روسيا يطابق في بعض النواحي انتصار القائمات بالحركة النسائية في بعض البلاد الأخرى. فقد أقر الرجال بقداسة المرأة وطهارتها لأجيال متعاقبة، هذه القداسة التي لا تتوافر في الرجل. وقدم الرجال العزاء للنساء علي مركزهن الواطئ وعلي ضعفهن زاعمين أن القداسة أمر مرغوب فيه أكثر من القوة. ولكن القائمات بالحركات النسائية قررن أن يجتمع لهن كل من القداسة والقوة لأن الرائدات بينهن قد أمن بكل ما قاله لهن الرجال من كون الفضيلة أمر مرغوب فيه ولكنهن لم يعتقدن فيما زعمه الرجال من تفاهة السلطان السياسي. وقد حدث شيء من هذا القبيل في روسيا بشأن العمل اليدوي. فقد ظل الأغنياء وإمعاتهم لأجيال متلاحقة يكيلون الثناء علي 'الكد الشريف' ويمتدحون الحياة البسيطة ويدينون بدين يبشر الفقراء بأن فرصهم في دخول ملكوت السماوات أوسع من الفرص التي تتهيأ للأغنياء، وبوجه عام حاول هؤلاء الناس أن يدخلوا في روع العمال اليدويين أن هناك شرفا خاصا في تغيير وضع المادة علي الأرض تماما كما حاول الرجال إقناع السيدات بأنهن يحصلن علي شرف خاص من عبوديتهن الجنسية.

وفي روسيا أخذت كل هذه التعاليم بشأن امتياز العمل اليدوي وتفوقه علي محمل الجد مما أدي إلى تكريم العامل اليدوي أكثر من أي شخص آخر
. وانبعثت ما هي في جوهرها مناشدات بعثية وأن لم تكن هذه المناشدات تخدم الأغراض القديمة. هذه المناشدات البعثية تطلق بغرض الحصول علي عمال يجابهون أشق الأخطار للقيام بأعمال ذات طابع خاص. وبذلك أصبح العمل اليدوي المثل الأعلى الذي يراود الشباب كما أصبح الأساس الذي ترتكز عليه كافة التعاليم الأخلاقية.

ومن الجائز أن يكون هذا في الوقت الحاضر للخير. فروسيا كبلد مترامي الأطراف يزخر بالموارد الطبيعية يرنو إلى التطور، وعليه أن يتطور باستخدام جانب ضئيل من القروض. والعمل الشاق في مثل هذه الظروف ضرورة ومن المحتمل أن تجني الثمار من ورائه. ولكن ما الذي سيحدث عن الوصول إلى نقطة حيث يستطيع كل إنسان أن يحيا في رغد وراحة دون أن يعمل ساعات طوالا؟

لدينا في الغرب طرق شتي لعلاج هذه المشكلة. فنحن لا نبذل أية محاولة في سبيل العدل الاقتصادي لدرجة أن أقلية صغيرة من عدد السكان، لا يقوم الكثير منهم بعمل شيء علي الإطلاق، تحظي بنسبة كبيرة من الإنتاج. ونظرا لعدم وجود سيطرة مركزية علي الإنتاج فنحن ننتج مختلف الأشياء التي لا حاجة لنا بها. ونحن نحتفظ بنسبة عالية من الطبقة الكادحة في حالة تعطل لأننا نستطيع الاستغناء عن عملهم بجعل الآخرين يكدحون. فإذا ثبت أن كل هذه الوسائل ليست بالناجحة نلجأ إلى الحرب فنجعل جانبا من الناس يشتغلون بصنع المفرقعات الشديدة الانفجار وجانبا آخر يقوم بتفجيرها كما لو كنا أطفالا قد اكتشفوا لتوهم الصواريخ والألعاب النارية. ونحن ننجح ولكن في عسر عن طريق شتي هذه الحيل في أن نبقي الاعتقاد بأن قدرا كبيرا من العمل اليدوي شيء محتوم في حياة الانسان العادي، ماثلا في أذهاننا.

¼ مجتزأ من مقال 'في مدح الكسل' الصادر في كتاب بالعنوان ذاته المشروع القومي للترجمة
(1) منذ ذلك الحين نجح أعضاء الحزب الشيوعي في الحصول علي امتيازات المقاتلين والكهنة.

أخبار الأدب
15 أغسطس 2004