فاطمة ناعوت
(مصر)

نزيه أبو عفش" أكادُ أرى القصيدةَ : أرى الشبهَ ما بين الغيمةِ والله/ ما بين حبَّةِ قمحٍ ومسيحْ."

طفلٌ صحيحٌ ، يخاتلكَ فيعتمرُ وجهَ كهلٍ و لحية قديس. أعلنَ العصيانَ على قانونِ الضوءِ وفكرِ نيوتن ،ومنشور البلّور ، فاختصرَ الحياةَ والخيالَ والحبَّ و الله والمغفرةَ والخطأ الجميل واللونَ في الأبيض. يعلمُ أنه متى قرّرَ القبضَ على قلمٍ ، تسربلَ بالضعف ، ضعف المتوحدينَ في أوراقهم و مدادهم الأبيض الذي لا يقرؤه سوى الآلهة هناك خلف الغيمةِ البعيدة.
في قصيدةٍ مهداةٍ إلى "سعدي يوسف" في ديوان "أهل التابوت"دار المدى 2001 يقول نزيه أبو عفش:
--
"أهل الحبر الضعفاء /ما أجملهم!/يبنون بيوتًا بدخانٍ ورقائق غيمٍ/و يقولون لنا: ما أبهجَ أن يحيا الإنسانْ/كالدودة حُرًّا ونبيلاً /يحفرُ بين الأعشابِ كنائسَه ويصلي/كي تبقى أقمارُ الحبِّ/تضيء خرائبَ هذي الأرضِ العمياء.../ ما أجملَهم بشرًا/ما أشقاهم قديسينَ/وما أوجعَ دربهموا رسلاً! /ما أجملهم!/يبكون على أنقاضِ الدنيا/فتئنُّ على دنياها!/يبكون فيسقون هشيمَ حدائقها بدموعٍ خضراء."
--
بضعفٍ يشبهُ القوةَ بل ويتماسُ مع السادية أحيانًا ، يطلق ترانيمَ لا تخلو من موسيقى ،كأنما موسيقى سيجوريا ، وكأنما بنات قادش يرقصن رقصةَ الحدادِ والحبِّ والألم في طقسٍ أندلسيٍّ بارع .عرفته قبل أن أراه ،لم تختلف كثيرًا صورته الافتراضية في مخيالي عن صورة الحدقة الأقل يقينا وثباتًا. هذا الرجل يكفي أن تقرأ شعرَه لتحبَّه ، وأن تراه لتعرفَ أن للحياة وجهًا جميلا يختفي ويظهر كلَّ عدة عقود ، ثم يكفي أن تصادقَه ليأسرَكَ بياضُه.رأيتُه أولَ مرةٍ خلال مشهدٍ تشكيليٍّ سورياليٍّ لا يخلو من طرافةٍ وحضور ، خلف أكوامٍ من الكتب والأوراق المكدسةِ فوق مكتبٍ يخصُّ صديق مشترك كنا مدعوين من قبل زوجته على شرف الأصدقاء الأدباء والشعراء العرب الذين أتوا مصر لحضور فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب وكان هو من بينهم. رأيته إلى جوار وجهٍ جميل لامرأة عرفتُ فيها ناديا زوجته .
--
" دائمًا هكذا/واقفةٌ تحلمين!/لعلّكِ تحلمينَ بأن تعودي شابةً صغيرة/بجديلتين وضحكة/مثلما كنتِ قبل سبعٍ وعشرين سنة ،وطفلين ، وثلاثة بطون حمْل./واقفةٌ تحلمين/شاحبةٌ وحزينة/وعيناك مغرورقتان بهواءٍ أبيض/أصابعك الدقيقةُ تسندُ ذقنَكِ الدقيق/كعجوزِ ذاهلةِ أضاعت مفتاحا/تحلمين ربما بنزهةٍ/ربما بإجازةٍ صغيرة أخرى على بحر فينيسيا/بقميصٍ واسع الكمّين/كذاك الذي أحرقته بمكواتك فيما كنتِ تحلمين/ .....و أنا بعيد عنكِ أعضُّ الهواءَ بأصابعي/وأتوجع من لسعةِ أحلامِكِ الناقصة/...تحلمين بثوب زفافٍ أبيض/كذاك الذي لم تلبسيه قبل سبع وعشرين سنة/لأسبابٍ ما عدتِ تأتين على ذكرها/ثوب زفاف أبيض موشّى بأزهارٍ بيضاء/وكشاكش مخرمةٍ بيضاء/وأصداف صغيرة بيضاء/ ....تحلمين أن يأتي يومٌ سعيد آخر /لا يكون أحدنا فيه بحاجة لأن يقول للآخر: ما بكَ ؟تبدو ساهمًا كعجوزٍ أضاعت مفتاحا؟/يوم سعيد وأبيض/موشّى بأزهارٍ صغيرة وبيضاء/و سعاداتٍ صغيرة وبيضاء/وحريّات صغيرة وبيضاء/ولآلئ سرية ، صغيرة وبيضاء/تعكس ألوانَ بنفسج/حين ينسكب عليها نورُ الحياة الأسود."
--
نعم وجهٌ شاحبٌ ، وجه ناديا، وربما حزين برغم ابتسامته العذبة ،لكنه الحزن الذي يحقن قلبكَ بالفرح وائتمان الحياة ، مثلما يحدثُ حين نتأمل وجه مريم الجميل الحزين الجليل ، فنحبُّ عيونَنا .تكررت لقاءاتُنا ، ونشأ لونٌ من الصداقة لا يشبه ما تعودت عليه .اعتدتُ في صداقاتي أن أمثلَ الجانب (الضَّيف) ، بمعنى أن يعتني بي أصدقائي ،يهتمون بأمري وشئوني بوصفي( ضيفةً) على الحياة ، لم أخترق تفاصيلَها أو بتعبير أحدهم (أحيا على الحافة) ، فكانوا دومًا يقدمون لي النتائج ويوفرون عليّ الطريق بصعوبته ومتعته أيضًا. انقلبَ الخطُّ 180ْ مع نزيه أبو عفش ، أجبرني منذ الوهلة الأولى على التصدي لدور الأم والملاك الحارس ، فشعرت أني أمام طفلي المدلل ، الذي يمكن لكلمة أن تبهجه كما يمكن لها أن تتعسه .طفل التوحد والبياض ، شاعر مرمريته ( بلدته الأم)،والذي لازمته الشقيقةُ أو الصداع النصفيّ عمرًا كاملا ، فقط لتخفِّفَ من حدة توحده أو لتجعله يوغل في التوحد والعزلة. وجدتني مسئولةً عن إرضائِه والاهتمام به وامتصاص غضبه مني ومن الأصدقاء الفوضويين الذين لا يرتبون حضورَهم ويحرمونه من متعته في الشعور بالوحدة بينهم ،الوحدة خلال الزحام . هذا الشاعر الأبيض يطلب العتمةَ ليرى البياض ، ويطلب الزحام ليأنس بتوحده . يطلب الآخر ليقصيه بعقله ويدخل قوقعته كحلزونٍ أخرج رأسه الصغير ليرمي الوجود بنظرةٍ لا تخلو من أسىً ثم يلج العمق من جديد.الآخر هو النعيم إذن بعدما نقصيه ، ولكي نقصيه لابد أن يحضر ، إذ كيف ننعم بوحدتنا بغير أن نشعر بها ، وكيف نشعر بها بغير وجود الآخر.
--
" لا أحد هنا/لا أحد هنا/يدي تصافح الهواء/والظلام يردد صوتي" .
--
كلما علمت بقدومه القاهرة ، أفرح كطفلةٍ ستلتقي زميل مدرستها القديم ،حين يرمقني من بعيد وسط الزحام ، يستدير للخلف مبتعدا و ربما يخفي وجهه بيديه أيضًا ، فأذهب إليه أنا ، أسترضيه وأعتذر عن ذنبٍ لا أعرفه ، ربما ذنب السفر ، ربما ذنب الوجود ، ربما ذنب الشعر ، أو ذنب الإنسان ، أحمل ذنوبي وذنوب الأصدقاء ، يوم ذهبنا إلى مقهى الفيشاوي دونه ، الذنب الذي ذكرني به هاشم شفيق في "أوراق مصرية" المنشورة بجريدة الحياة يوم 23 أغسطس .أخطو نحو مغفرته البيضاء . نزيه الغاضبُ أبدًا والمبتهجُ حدَّ الصفح ، الواقف على باب الربِّ منذ الخليقة ،يسترقُ السمعَ لبكاء الله وحيدًا ،فيما يدقُّ الباب بهدوء يقترب من الصمت ويعرف أن ثمة رحلةً طويلة ، ستقطعها هذه الكفُّ حتى تمسُّ الباب هذا القريب ، رحلةً تستغرق الأبد كلَّه.
--
"كيف أغفر لهم؟/
في تلك الظهيرة الماطرة/
كلهم كانوا يصيحون :أمسكوا القاتل/أمسكوا القاتل/
وفعلا ، بعد أن أمسكوني/
عروني من ثياب خوفي/
فوجدوا تحت قميصي وردةً/
لأجل ذلك ذُبحت!!" ديوان "الله يبكي" دار المدى 2001

--
صداقتنا التي كانت تستكمل وجودها عبر البريد الإلكترونيّ ، يخرج الحلزون قليلا من قوقعته ، يكتب كلماتٍ قليلة في رسالةٍ ضوئية ، أقصر رسائل التاريخ إذ تصل أحيانا رسالته إلى نقطة كهذه (.) ، يرسل إلى اللؤلؤة الحزينة البعيدة كلماته البيضاء ثم يعود إلى البياض حيث أوكسوجينه الخاص ، والضوء الذي يناسب شبكيته .عاشق الأشجار باعتبارها ساكني الأرض الأصليين بحسب ماكس أوب ،فيخجل من بشريته باعتبار الإنسان غلطةً كونية لابد من إصلاحها .بعد تفكير طويل حول سبب تبديل الأدوار أمام هذا الرجل ، فأتنحى راضيةً عن دور الطفلة لأرتدي عباءةَ الأم ، عرفت السبب وهو الدافع وراء هذه الكتابة ، نزيه أبو عفش ،الشجرة الطفل ، يذكرني بشيءٍ جميل في حياتي ، بل بالشيءِ الجميل في حياتي ، بل بالشيء الوحيد الجميل في حياتي ،" عُمَر" ، ابني الصغير،طفلي المتوحِّد.
--
"جعلتُ من طبعة قدميكَ أيقونة/
وعلقتها على صدري/
لهذا/
كلما دقَّ قلبي أثناء الصلاة/
تفوح من ضميري/
رائحة كفرٍ حامضة!"