-1-
قراءة تجربة شعرية متفتحة علي الجديدة لوحدها تغني المفردة النقدية التي نحافظ عليها في ديار الغربة من الضياع، بعد إن قل ما نقرأه من شعر هنا. شخصيا كونت مفردات نقدية من قراءتي لتجارب الثقافة العراقية والعربية، قبل أن أكونها من قراءاتي المترجمات من كتب النقد.. الآن نحن في جفاف نقدي، والماركسية لا تقرأها في أوروبا ولا يوجد واقع مزر يعلمك المقارنة، بين الأدب والواقع. لذا نعول علي التجارب الشعرية الجديدة، خاصة ما تفتحه قصيدة النثر ـ وهو ما يشكل حركة ثالثة في الحداثة الشعريةــ من آفاق بنيوية وشكلية حرة. في أن تري في ضوئها الشعر العربي وهو ينتقل بوضوح نحو حداثة أكثر رسوخا، كما كانت حركات تحوله في الستينات والسبعينات من هذا القرن واضحة وكبيرة.
هل جف ماء الشعر العربي بعد أن جفت حياة الثوريين النضالية؟ وهل نضب معين التجارب الشخصية، بعد أن جري احتواء الشعراء من قبل كل الأنظمة والتيارات؟ وهل بقي الشعراء يكتبون ما يقع عليه بصرهم في أرض جوار؟ وهل أننا لا نتطور شعريا إلا متي ما كانت هناك رياح من الشعر الغربي تهب علينا منداة بمياه الأطلسي؟ أسئلة كثيرة تراها ولا تقف عندها، نجترحها من التجارب الناقصة للشعراء، ولا نبني بيتنا في مضاربها. من الممكن أن تقرأ جزء التجربة الشعرية العربية كلها في تجربة ديوان واحد. هذه مفارقة قالها أحد الشعراء الإنكليز في حديث مقهى مع الزميل الشاعر كريم كاصد. ومن الممكن أن تقرأ تجربة مرحلة شعرية في ديوان واحد. كما حاصل فيما بشعراء العقود. الكل ملخصون في تجربة واحدة، والجمع منضو تحت عباءة المفرد. هذه محنة من يري أن القصيدة واحدة وإن اختلفت عناوينها، وأن التجربة واحدة وإن اختلفت بلدانها، وأن الشعراء فتحوا نافذة واحدة علي الطريق فمرت امرأة واحدة في الطريق. فإذا به يعريها، فيكتب الإيروتيك الناقص عن علاقة كاذبة. بينما يلبسها الآخر عباءة وحجابا فيري فيها وجه فاطمة أو ليلي، والثالث يدخلها الجامعة أو الوظيفة، ومن هناك يطل عليها فإذا بها تخيط بذلات لأطفال وهميين. وعندما لا يستوي الواقع العربي مع التجارب المرة، ينكفئ الشعراء إلي النقد والترجمة وكتابة الرواية والاحتذاء بأثواب القديم.
ما أردت قوله في هذه المقدمة يشبه أي استهلال لقارئ يعيش في المتشابه، ولكني عندما أتصفح ديوانا لشريحة من جيل ستيني نضج في السبعينات وكتب قصائد متميزة، وما يزال مسؤولا عن تجربته، تشعر انك ما زلت في واحة الشعر الحقيقية. ومن بينهم الشعراء: عبد الكريم كاصد، وياسين طه حافظ، وفوزي كريم، وموفق محمد، وعلي جعفر العلاق، وسركون بولص، وهاشم شفيق، وهاتف الجنابي، وصلاح فايق وغيرهم كثير من أسماء ترسم للشعر العراقي خارطة أخري هي غير الخارطة التي رسمها النقد للحداثة في الشعر العربي. وفي الثمانينات تعمق الإحساس بالشعر من خلال تجاور المفردة المأساوية مع المفردة الأسطورية، وكان الزمن في دوران متحرك يعيد صياغة نفسه من خلال المتكرر، إلا إن هذه الحركة كانت تدور في نطاق المفارقات وهي أن تكون الحروب غير مؤهلة لصياغة تجربة عندما تجير لغير الوطن. فأصبحت الحاجة إلي الشعر البعيد عن تجارب ناقصة ضرورة ثقافية.
- 2 -
الآن يعيد الشعراء حساباتهم ثانية، بعد أن وجدوا أنفسهم في محيط التكرار المفترق، فبدأوا العودة لموضوعات لم تستنفد طاقتها التعبيرية بعد، منها المزاوجة بين الحب والقلق، بين التأمل الخيالي والتجربة الواقعية، بين التعامل اللغوي للمفردة المشحونة بالشعرية وبين الجملة الشعرية النثرية. بين أن تعيد صياغة الماضي من دون أن يقود تجربتك، وبين أن تعيد تشكيل الماضي وفق جدل الحاضر. وهي من الموضوعات القادرة كلما أبدل الشعراء مواقع رؤيتهم لها أن تمنحهم جديدها. بمثل هذه البني الجديدة تنفتح القصيدة علي عالم من التخيل المنفلت من العقلية. فأصبحت المفردة سيدة الجملة، وتحولت الصورة إلي جزئيات في مرآة الواقع، فتشظى التكوين الواقعي القديم لتتداخل فيه تكوينات حياتية جديدة. كل ذلك والشاعر يسحب خلفه أرثا من صور لحروب مدمرة للغة وللواقع. ومع نحيب أجيال، وانين قوافل لا تكتفي بزيارة العتبات المقدسة كي تفرج عن نفسها، بل أصبحت مرغمة علي أن تغير أوطانها حاملة أنينها المستمر.
- 3 -
في ديوان ممالك ضائعة للشاعر علي جعفر العلاق، نجد هذا وغيره. ثمت عودة للموضوعات القديمة: ــ الوطن، بابل، الأصدقاء، المواقف، الأحلام المجهضة، الرغبات الضائعة، والفكر المحاصر.. الخ. تلك التي أشرنا لقدرتها علي التجديد، وهي الموضوعات نفسها التي لجا إليها قبل فترة الشعراء الذين أشرنا لهم. فكتبوا بما يشبه النقلة نحو حداثة ثالثة للقصيدة، بعد أن وجدوا الشعر مهمة أكبر من كونه توظيفا لقضية أو إيديولوجية أحادية. فالشاعر علي جعفر العلاق، يتخذ من الوطن بابل، قضية أكبر من كونه العراق المستباح ببنادق حراسه الملثمين بالتاريخ البعيد. قضية هي عماد البحث عن صيرورة قارة في الأرض العراقية. فديوانه يحمل عنوانا دالا علي ما نقول ممالك ضائعة حيث يغنيها بأنين فاجع بوطن، أناشيده أنهكها الدمع، وثمت غراب يطارد أحلام الأمة التي تتغني دائما بأغلالها!
لوحوا لوفود الظلام
وأفسحوا الدرب للغجر النائحين،
أنغطي هزائمنا بغبار
الكلام؟
أنغطي كوابيسنا
بالأنين؟
فالتجربة لا تبدو هنا ذاتية، أو من تلك التي نعيشها جمعا. بل هي مؤسسة قمع قائمة علي تاريخ من العنف السري، وثمت أحلام فكرية عن الأمة كانت مدججة بأسلحة الماضي والتراث تقود الجميع إلي أرض سواد. لكن الغربان دائما تسد منافذ الشمس فتغير مسار الركب إلي الظلام.
دفعنا إلي الريح أطفالنا
وتمائمنا
كم تبعنا نجوما من الطين داميةً
كم رأينا المدى ينحني مثقلاً بانكساراته:
أفراتان من فضةٍ وعويلْ،
أم هتافُ الطيورِ الشريدة يمتدُّّ
مشتعلاً بين جيل ٍ
وجيلْ؟
ليست الشواهد دليلا دائما علي تجربة، فقد لا نستشهد بمقطع أو أكثر للتدليل، يكفينا قراءة التجارب الشعرية للشعراء العراقيين المهاجرين، للقول أن حجم المأساة تكمن في الصياغات الشعرية الجديدة تلك التي نبهّ لها السياب وعمقها البياتي وعاشها سعدي وقرأها البريكان قراءة تراثية وصمت، فهي لغة العراقيين الجديدة التي تنبت مع أغصانها حسك الحاضر، فتدمي العين والذاكرة.
أي غراب يطاردُ
أحلامنا؟
أيّ أمةْ
تتغني بأغلالها المدلهمة؟
- 4 -
يمتاز الشاعر علي جعفر العلاق بصفاء المفردة واقتصاد الصورة، فليس في شعره زوائد او تراكمات من القول، وليس في أفكاره ما يحلق من دون أسباب ممتدة إلي واقع، وليست لغته من تلك التي تشبعت بموروث وتركت الحاضر، بل كل شعريته تنحصر في الصورة الحياتية اليومية ولكنها المبنية علي سياق جدلي:
منذ البارحة وأنا أبحث في روحي عن أطلال ليلي
البارحة والليل، مفردتان زمنيتان مفترقتان بالمعني وفي الوقت نفسه تشكلان وحدة لحال تتشكل في الصورة الآتية:
ليس إلا حجر الذكري،
وإلا كمأة الفجر،
وريح جارحهْ..
الحجر والكمأة والريح: ثلاث مفردات، متغير المادة: صخر ونبات وغاز/ ثابت ومتحرك ومتنقل/ جوفي وارضي وسمائي ــ أرضي/. ثمت رغبة للتناقض الداخلي في بنية الصورة/ مادتها المفارقة. و ثمت تعايش مع النقائض ضمن صور واحدة، مما يعني أن يخلق مناخا جدليا لكل النقائض.. فالحجر ذلك الإرث الذي يشكل علامة للتراث، والكمأة تلك التي تولد من البرق السماوي من دون بذرة معلنة، والريح ليست إلي مكنسة للتواريخ القديمة. كل هذه المفردات ــ الصور أطلال ليل جاءت القصيدة بعمل شعري وببناء غير ذهني، فيها من طاقة المخيلة ما يجعل إنسيابها علي سطح القراءة سهلا مقبولاً. لعل لغة العلاق الشعرية منذ تجارب له قديمة ليس فيها نتوءات صلبة تمنع من الجري السريع في مياه اللغة، وهذا ما جعله شاعرا غنائيا ورومانسيا حتى في اشد المآسي حياة.
- 5 -
من يستقرئ قصائد الديوان هذا يجد أن الشعر لدي العلاق جمع مفترقاً للأزمنة. فهو أبن للحاضر، مشكلاته، لغته، يومياته، وفي الوقت نفسه يسند الحاضر بمرتكزات الماضي، خاصة في مفردة الأمة وما يلحقها، ثم يوشي الصورتين معا. في لغته مفردة تنز عن ذات تعاملت مع أحداث وفيها من خصوصية الفرد ما يوجع القلب. بمثل هذه البنية المركبة تسير صور كل قصائده تقريباً.
هل المكان أمهٌ
من الحصى؟ هل الزمان نجمةٌ
مهترئة؟
يا نجمة الأنين:
كل عشبة شظيّةٌ
من قمر الجوع، وكل امرأةٍ
مكسورةٍ
مثل سماءِ
الضريحْ.
وعندما تفحص مفردات هذا المقطع تجدها مستلة من ثلاثة أزمنة وثلاث حالات. فيها من الماضي الكثير: المكان والأمة والحصى والزمان والنجمة والسماء. وفيها من الحاضر الكثير أيضاً: الاهتراء، الشظايا، الجوع، المكسورة، الضريح، وفيها من الأنا الكثير: السؤال هل؟ والكل في عشبة، وفي امرأة، والعلاقة بين مكان حصى ونجمة مهترئة، وبين عشبة والضريح. ثم هذه اللغة المنطوقة التي نقرأ بها القصيدة فتحيل علي مقترب وليس علي البعيد. وفي الديوان كثير من تلك الصور التي تجمع بين المفترقات. لعل القصيدة عند العلاق سياق حال متداخلة فيها من بنية العقل والتعمل الذهني أحيانا بما يفيد اتكائها علي مفردات قارة قديمة. هل هو الانتماء لتاريخ أمة كبيرة وعظيمة يجعل الحداثة الشعرية لا تفارق مفرداتها حتى لو حصدنا من ذلك التراث والتاريخ اشد قسوة في زمن الطغاة؟ بالفعل أن من يتعايش مع تاريخه القديم وينتمي إليه يجد المفارقات تقوم من وعي ناقص لذلك التراث وعندئذ تحدث المفارقة الشعرية في أن تكون حديثا وفي الوقت نفسه تريد لقصيدتك أن تنطلق خارج مكبلاتها القديمة!