الطيب لسلوس
(الجزائر)

(شاغال)سولارا صباح كائن مزيج من الجذور الأفريقية والإنجليزية بدأت تتعلم اللغة العربية بعد سن الثانية عشر وتقول عن تجربتها في الكتابة باللغة العربية أنها مغامرة لاكتشاف جماليات اللغة العربية.

**

"أخطائي كثيرة في النحو والبلاغة.. لعدم تقيدي بها كثيرا رغم أني درست مبادئ النحو إلا أن قواعد النحو والبلاغة لشخص مثلي يتحدث اللغة العربية كلغة ثانية أو ثالثة يربكني حيث أني ما زلت في نطقي للغة العربية أتكلمها بلسان أعجمي أحيانا وينقلب عندي المذكر مؤنثا ويصير المؤنث مذكرا... أعرف أن أخطائي لا يغفرها سيبويه ولو أنه يدري أن هناك مخلوق اسمه سولارا يتكلم اللغة العربية بهذه الطريقة لقام من قبره وأعاد صياغة البلاغة... أعرف: إن النقاد العرب لن يتقبلون أخطائي"

*

لذلك ترفض فكرة نشر نصوصها إلا في حيز الأصدقاء والصديقات المقربون وتكتب الشعر بالإنجليزية أيضا.

*

من المؤكد أنها خطوة رصينة نحو النص بوصفه أثرا.النص الذي يبرز كينونة الكائن وخطوة نحو تأسيس شعرية الكائن خارج الحس التاريخي الممركز حول الذكوري والممارس على المرأة بالخصوص واستعادة الشعرية من زاوية "الأنتروبولوجي" والتي يتحرر فيها الكائن من نمط محدد من "اقتصاد الجسد" الذي فرضته نظرة خاصة للكون والإنسان والمصير يبدو لي أن الخطأ الذي يمكن أن يرتكب في حق تجربة مثل تجربة الشاعرة سولارا هو قراءة النصوص ومحاولة تفكيكها بنصوص أخرى مركزية على طريقة التفكيك التقليدية نوعا ما لأن تجربة كهذه تستغني تقريبا عن القاموس الإتمولوجي فليس هناك تاريخ وشاهد عن العلامة " الدلالة". هناك دائما ما يمكن أن نسميه بالقاموس النفسي أو البعد النفسي مدعوما بحقل دلالي ناظم للدلالات حسب البعد الأنتروبولوجي بدل البعد التاريخي للعلامة.
سؤالي الدائم وأنا أقرأ نص سولارا هو البحث عن: صوت "المتخفي"..عن "من يتكلم"؟ أين هي علامة طائر الله ؟كما يشير الشاعر الأديب محمد زيدان في تعليقه لأحد نصوص الشاعرة.

بعلم يقيني
انك آت
ولكن
دخولك يستعصى
وخروجك يستعصى
(نص رُقية لطائر الله)

لأن الإنسان المتوحد المنعزل عن أي قول يحتويه متيحا للآخر فيه أن ينبجس بحدة قلقة وواعية بجدارة الكائن الحر من الصعب تحديده. من يتكلم ؟

ألَمْ تَرَ كيف انك تخرج منى إليك...
لتكن أنت انبثاقي
وأنا الدم المنساب فيك
(نص هذيان)

هنا ليس فاعل النحو المتأهب إلى بذخ البلاغة وأيروسيتها.. ليس الكتابة المكتوبة مسبقا والنصوص التي تسبقنا إلى وصف حالة كائن مقذوف به في وجود ما....ولكنه النداء الذي لا يتوقف من أجل الإنسان الكوسموبولي المستغرق المنهوب الذات في بيضة راسخة السيطرة على حياته حيث لا يتمكن من ممارسة طفولته المفقودة.
الذات التي كلما ازداد رجها أكثر عادت إلى الفردانية الحنونة.. الجارفة، متنكرة لهيمنة الذات العامة..

ان أراك تخرج منك الي
أراك أنت منى
وأنت ما أنا
وأنا ما أنت
وتراني ابحث
عنِّي..
خلالك ..
منك
أرصدك مقياسا للتعاويذ الخفية
وتتجلى الحروف في جذوة كلام
وكلانا حزين
(نص هذيان)

.. نداء الإنسان ليستفيق من غيمة الجماعية ولينتبه إلى أراض أكثر جدارة بالكائن الإنساني. في مواجهة وجوده الأنطولوجي ومعاناته. نداء يؤكد طهارة ما.. فها هو الملاك الساقط من السماء يكف عن الحنين السطحي، ومناجاته الدائمة للعودة ومنبها إلى أن هناك ما يستحق البقاء على الأرض. تحسيس الكائن بنوع من "البراءة الأصلية" على خلاف "الخطيئة الأصلية". ملائكية يفقدها تحت وطأة روح الاجتماع العام والتدجين والقهر الممارس باسم الأساطير الجديدة التي تلصق على فمها ابتسامة "الصباحات التي تغني ("تطور، تخلف، حداثة، تقليد")تلك الأساطير الجديدة التي تحاول إقناعه.أن يتحول إلى كائن يغير جلدة روحه من أجل تحقق شرط الراهن فيه.لتقتلعه من تاريخ يعنيه ويميزه عن الآخر وتسهل له الانخراط في تاريخ يشرف عليه العقل المركزي (الحقيقة البيضاء) مقابل خلاصه من العذاب والعزلة وعدم الاعتراف بفردانيته وشخصانيته ككائن له وجوده الذي يستحق الفرادة وقدسية الحدوث.
أتحايل علىّ واحل قيد جنوني.

اخرج منى,
من صحوة روحي,
كخيوط الماء,
وجه البياض,
من شهقة ذات مشروخة,
من رداء الصمت,
أقواس الكلام,
وفاتحة النطق,
وكالغريبة عن دمى
أتهاوى عليّ
وذلك قيد جديد.
(نص لوح ازلى)

إلى هذا الحد من الوجودية العميقة ويكون الأمر غاية العادية تقريبا حيث تنهض النصوص لتعرية وفضح كل ذلك.
لكن ما أثار اهتمامي في هذه التجربة بحق وما أعتبر جدير بالوقوف وهو البحث للوقوف على الأرض المظلمة للآخر... الآخر بوصفه كل ما هو ليس نحن وبوصفه يتطلب المعرفة وحالة

المؤانسة الضرورية تحت الضوء.
تحديدا في الأفق الغربي
يطير النورس متجها نحو الشمس
يعبر المحيط
ليلتقي بالذاهليين
*( نص عزلة تسرب الضوء)

ينسل الحزن كف بيضاء
تلوح في حافة القلب
وتتدلى اليد اليسرى
تبحث عن اليمنى
لتطوى الجرح
(نص جناح الليل)

تلك النصوص التي تكتب الكينونة المؤنثة أو العالم بوصفه مؤنثا لأنه وكأنها تشير إلى أن اللغة أبدعها اثنان كانا اجترحا العلامات هما الكائن المذكر الذي يكون قد أبدع كل العلامات والدلالات كبطاقات تعارف بينه وبين الكائن المؤنث وأيضا الكائن المؤنث الذي أبدع كل علامات الذكورة من أجل التواصل معها. إنه لمن الممتع مشاهدة العلامات المذكرة تدخل ضيفة بشكل خاص تماما ك "الزواج" الحر "الاتحاد الحر" الذي يصفه "أندري بروتون" لكنه مقلوب هنا في حالة مؤانسة للكينونة المضادة. إنه جلال وقوة المؤنث المتأني في شكله البادئ فمثلا التمييز للضمير المضاد "المذكر" بشكل لذائذي الذي يجمع بين شتى المتناقضات أيروسي..ديني..طفولي..عارف ..جاهل.. بريء.. خبيث ..مدنس .. طاهر..متوتر.. هادئ.

البنت الحديقة
قلبها عصفور
وشائج مليئة بالفأفأة والتأتأة
وفم فاغر بالغناء
أغنية وثلاثة أحرف
حرف يمنحك الضوء
قميص الورد
ويشرأب في صهوة الحلم لزمن آت
يقص حزنه في متاهات الوجود
ويبحث عن لغة
وسوسة بوجه المحبة
يغنى
"يا حادي جرحتني نايات القصب"
ويشعشع القلب في القفص

الحرف الثاني بقلب الولد المجنون
يضرب الأمل
بخيزران الصباح
يهش عصافير الغناء
لتنثر البياض فقاعات
وتستحيل البنت على يديه يمامة
يطير القلب تجاه الحديقة
يرفو كملاك في وهج
من وطأة العشق: القلب فضاء طليق

وحرف قلادة بعنق حامى
ارشفه من حليبها في الصباح
واكسر كأس الكآبة
واعلم انه الفطام
اخرج من حزن أمي
الملم ما تبعثر
والقلب يثرثر بحروف ثلاثة
صاد
ميم
تاء
(نص ثمة ألفة لا تصلح الا لعصفور العزلة)

أشير أنني كنت دائم الاشمئزاز من تلك الكتابات التي تستعيد عالمها المؤنث وبشكل مشوه عادة والذي يساهم في ترسيخه الخطاب الذكوري عن المرأة والعكس.
ومن الغريب أن المرأة ستصوغه وتعيد تلبيسه بكينونتها دون حذر فهناك كتابات كثيرة لا داعي لجرها هنا وحتى كتابات ربما جد مهمة في نظر البعض. لست أدري إلى أي حد أنا محق... ربما بسبب نظرتي إلى الأنوثة وحضورها كشعرية وعلى أن العلامة المؤنثة هي دائما الرحم الأصلي.. الذكورة فيه لا تستعيد إلا حياتها الجنينية كما يقال والحق أنني كنت أيضا أستغرب كيف يتصور البعض الرحم الذي هو الكينونة نفسها يجترح بالقول العالم على حسب هيدغر" الشعر تأسيس الكينونة بالقول". لأنني ببساطة لم أتخيل الكينونة الرحم تجترح نفسها كمعنى من جديد، إذ لا بد من مسافة بين أعين الكينونة المؤنثة وبين المرآة التي تتيح لها أن ترى نفسها فيها فالرجل مثلا ككينونة يتاح لها أن تقف مع النضج على أن سبب وجودها كان كينونة مضادة لها وهي المرأة. لكن المرأة ككينونة لا يتاح لها ذلك، لأن كينونتها تحمل نفس خصائص الكينونة المكونة. أي أن المذكر يولد من كائن مختلف والذي هو المرأة أما المرأة فتولد من نفس الكائن.
ويبدو هذا مهم من حيث أن الرجل مدفوع إلى استكناه " حياته الجنينية حياته اللاواعية " بدافع الاختلاف أو التضاد ويكون ذلك حاضرا لا شعوريا كما لو كان خطأ أصيل يحدث. يدفع المذكر إلى حالة بحث في طبيعة الكينونة المضادة "والأصلية". هذا البحث الذي سيظهر في فنه فيما بعد طبعا في إشارة إلى أن الكثير من الأساليب الفنية تعتمد بشكل أساسي عن اللاوعي والحلم كما يظهر واضحا ذلك في السريالية.
إضفاء الاسم من جديد على الكائن هو دافع كل شعرية أصيلة حين تنزع الكتابة إلى الاستغناء عن الأيقونة لصالح اللغة وحين تنتهي غاية الكتابة إلى جرجرة الوجود إلى القاموس منهية بذلك سبب خوفنا من اللامسمى أو الأيقونة المجهولة " لقد كان الخوف هو نزوعي الدائم" لمبروزو
حين يكون دافعنا إلى الكتابة هو كل هذا يبدو أن المذكر يبحث دائما عن السبب غير المعقول الذي انقطع فيه الحبل السري بينه وبين الكينونة المكونة "الرحم" إنها حالة مؤلمة تماما مثلما راح الحبل السري بينه وبين الوجود ينقطع حيث يزداد الوجود صمتا كلما نضج البحث عن سبب واضح لهذا الانقطاع ألم نعتقد في طفولتنا في اليوم ما أن القمر يتحدث والأشجار والقطط ولكن هذه الكائنات لم تعد تحدثنا وتزداد صمتا كلما تقدمنا في البحث عن سبب صمتها.أي ألم تكن شعرية طفولاتنا تعي بشكل يبدو خاطئا الآن أن الأشياء تحمل معناها في ذاتها على عكس ما هو ونحن نعي الآن أن الأشياء تستمد معناها منا نحن. وهنا عندما نكتشف أن الكتابة هي مناجاة ...ندم سبب أننا لا ندري ما حدث ولا ندري معقولية حدوثه ذلك الحدث الذي انقطعت فيه الكينونة التي هي كل ما أسميه الآن ليس أنا عن الإجابة مثلما يقول ألبيركامي "يولد الفن من كوننا نسأل الكينونة ولا تجيب". إذن من الآن فصاعدا فإن القاموس والذي هو الوجود المحنط... المحنط لأننا كلما عدنا إلى الكتابة فنحن معترفين ضمنا أن الكينونة النائمة القاموس الذي كنا قد أنشأناه في عمل إبداعي سابق لم تعد يرضينا صمتها وهو قاموس منقسم إلى اثنين.. إلى علامات ودلالات من أجل الكائن المذكر أبدعها الكائن المؤنث ودلالات من أجل الكائن المؤنث أبدعها الكائن المذكر وهناك ساحة مشتركة هي حالة عبور أو راحة لكل من الكائنين أنها الهيرما فروديت تلك الدلالات التي لا جنس لها وهي كثيرة في كل الثقافات تلك الدلالات التي يتفق فيها الكائن خارج جنسه دون التورط في الكائن المضاد. إذن كائن الشعر هو دائما في حالة إزاحة وتخريب وبناء للعلاقة بين الدال والمدلول إلى مساءلة الكينونة المضادة اتفاقا مع جملة هيدغر "أن الشعر تأسيس للكينونة بالقول" لكن هناك ميزة خاصة للمؤنث تميزه عن المذكر وهي أن الذاكرة الجنينية بالنسبة للمؤنث تسهم في إغناء ذاكرته الناضجة أو "الواعية" وهنا أشير إلى أن المؤنث أكثر قدرة على السيطرة وغور في اللاوعي واستدراج ذاكرة الطفولة فيما قبل اللغة حينما كانت اللغة مجرد أصوات في ذاكرة الكائن وكيف أن الكائن المؤنث له القدرة على تملي نفسه في المرآة، لكي ترى نفسها كينونته المنعكسة منكتبة . في نص الشاعرة سولارا هناك حالتان هناك الحالة السابلة الطبيعية التي يكون فيها المؤنث متخفيا في حالة هيرمافروديت لا يريد أن يعلن عن جنسه باختيار الدلالات والعلامات النصية الواقفة في برزخ بين التأنيث والتذكير لأن الهيرمافروديت حالة عابرة يستعملها المؤنث والمذكر للعبور إلى بيت أو أرض الكائن المفارق وهناك ما هو أجمل وهو استضافة المذكر إلى أرض المؤنث وعلى الفور يتغير قاموس الكتابة بسرعة كنوع من التزين الأنثوي للحالة المضادة حيث تبدو الكلمات خاشعة مستسلمة مميزة قوة التأنيث البرية المتكبرة ومتشبعة بمكانها وزمانها الأنثوي الدائري مبرزة للمذكر فتنتها التي هي نفسها الاحتواء الحنون له، لأن قوة
التأنيث الاحتواء الجليل لكينونة المذكر الذي تعتبره دوما جزء منها.

يا غريب
يا مبعثر في عزلتك السامية
وحيدا كالمعصية الشاردة
مائلا كما الصدى
إن دنوت منك
جذبتني الريح للمسافات العنيدة
وذكرتني بخواء الشوارع دونك
مثلك أنا
أتلفح بالصمت
واحتاج قليلا لشئ يصرخ
(نص الغريب)

***

لتأت الوجوه مسرفة في نسيس البكاء
ليأتِ الصمت الثرثار
بكل أسماءه البهية
مفتعلا
مشقة الكلام بدءا بالمعانى المتآكلة الشفاة
إقترب يا هدهد الفتنة تأمل وجه الأرض,
إنها تود العناق.
ألق بوردة في رذائل الوجع
وقبلني,
لاننى هناك أغنى
عن حصافة الاستعارة,
إنفلاتة الرغبة كالنأى الوحيد،
عن الحب في أواخر الليل
(نص ها أنذا قد أعددت للصمت لغة)

. لعلي أشعلت عود ثقاب في أرض شعرية خاصة ليس لها حدود في علاقتها بالإنسان.

الطيب لسلوس
الجزائر
عضو هيئة تحرير مجلة الثقافة الجزائرية