السؤال حياة والجواب موت

علي الخليلي
(فلسطين)

(سيلفادور دالي)يحاول الجيل الجديد من أدباء فلسطين في المرحلة الراهنة (يمكن تحديد هذه المرحلة بدءاً من نشوء السلطة الوطنية في العام ،1994 إلى حينه)، أن يتجاوز قاموس "أدب المقاومة" التقليدي الذي ورثه عن أدباء المراحل السابقة، إلى قاموس خاص به، دون
ان يعني ذلك على الفور، تخلّيه عن هذا الإرث، أو ابتعاده عن المقاومة، وإنما يعني مدى قدرته على "المغايرة" الإبداعية في التعامل مع الواقع اليومي المتغيّر، ومع ما ورثه أيضاً. فماذا يكون هذا القاموس؟ وهل استطاع الجيل الجديد أن يحقّق هذا التجاوز فعلاً؟
لا تتوفر كتب منشورة لمعظم مبدعي هذا الجيل المعني. وبالتالي، فإن دراسته تحتاج إلى متابعته في الصفحات الأدبية التي تشتمل عليها الصحف اليومية. وهي متابعة صعبة، بخاصة وأن هذه الصحف (ناهيك عن المجلات)، لا تولي في الغالب، اهتماماً لأدب الشباب، غير ان "كتاب الشهر" في عدده الثامن الصادر عن وزارة الثقافة برام الله، في أكتوبر/تشرين الأول ،2004 لبّى هذه الحاجة دون شقاء البحث في الصحف والمجلات، حيث اشتمل على مختارات لأربع أديبات (شاعرتين وقاصتين)، وتسعة أدباء (سبعة شعراء وقاصين).
ومن خلال هذه المختارات، أحاول أن أصل إلى ذلك القاموس الخاص بالإبداع الشبابي، وإلى مدى الانجاز الذي تحقق فيه.

القاموس

الملاحظة الأولى التي لا بد من تسجيلها بشأن هذه المختارات، انها موزّعة على المكان الفلسطيني كله تقريباً، في معانيه وتحولاته الجغرافية والسياسية والثقافية، داخل فلسطين وخارجها، حيثما يوجد الجيل الجديد من الأدباء الفلسطينيين، في الوطن، وفي المهاجر والمنافي على حد سواء، فثمة شاعران لاجئان في سوريا، وشاعر ثالث مغترب في باريس، وبعض الباقين من هؤلاء الأدباء الشبان، عاد مع أهله إلى أرض الوطن في العام ،1994 وتفتّحت موهبته في فضاء هذه العودة، وبعضهم من مواطني الأرض المحتلة ولم يسبق لهم مغادرتها، لاجئين من أراضي العام ،1948 ومقيمين في مخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة، أو غير لاجئين، في مدنهم وقراهم الأصلية.
وتفيد هذه الملاحظة في تتبع تأثير المكان في النص. وهو ما يشكل الملاحظة الثانية، والأهم، فور الدخول إلى أجواء "القاموس" الذي أبحث عنه، من أديب إلى آخر، ومن المكان في بعض أشكاله، إلى المكان في أشكاله الأخرى.
ابدأ بالشاعرة "هلا الشروف" التي بدأ بها "كتاب الشهر" نفسه. من مواليد ليبيا 1978. وقد عادت مع أهلها، إلى رام الله، قصيدتها المختارة "سيدة لا تشبهني". تلك السيدة التي لا تشبه شاعرتنا "تخرج الآن من حلمها دافئة/ تفتح نافذة للصباح الودود/ وتغري عصافيره أن تحطّ على شالة من قَصَب/تجد الوقت لزينتها في المرايا/ ومقلتها خطّ حُمْر يمُّر على الوجنتين..". أما شاعرتنا نفسها فتصرخ بالمقابل، أو تهمس: "وأنا هنا على أرض ريحٍ/ وبين القضايا، أنتظر جنازته والتعب".

تعقد الشاعرة مقارنة بين سيدتين، الأولى التي تنعم بالدفء والزينة والتمتع بجمال الطبيعة. والثانية التي تترنح على أرض عاصفة، في طوفان قضايا عديدة، تضجّ بالموت والشقاء، الأولى لا شأن لها بالشاعرة، والثانية هي الشاعرة نفسها. أين "مكان" السيدة الأولى؟ لعلّه المنفى عربياً أم أجنبياً سيّان، حيث الاسترخاء في الصباح، وحيث لا قلق سوى على "الجسد" الفيزيائي الذاتي، أن يمرض أو يهرم. وأما "مكان" السيدة الثانية، فإنه الوطن بالضرورة، حيث الاحتلال والمقاومة وجنازات الشهداء في كل يوم، ويبدو لي وهو ما يبديه النص في الأساس، ولو ضمن إيماءاته أن هاتين السيدتين، رغم التناقض بينهما، موجودتان معاً في إطار سيدة واحدة، هي الشاعرة الممزقة بين المكان في المنفى، والمكان في الوطن. كأنها عادت ولم تعد في آن، وهذه بالتحديد، هي إشكالية العودة التي صنعها اتفاق أوسلو، والتي نواجهها في كثير من نصوص الأدباء العائدين، هل تحنّ الشاعرة الشابة إلى المنفى الذي سمّاه "آباؤها" الأدباء الكبار العائدون، وعلى رأسهم الشاعر محمود درويش "المنفى الجميل"؟ نتابع قصيدتها، فنلمس، في الباطن، فيضاً مستوراً من هذا الحنين: "سيدة لا تشبهني/ تخلع الماضي على طرف السرير/ وتركب أولى الطائرات إلى احتفالات السنة الجديدة/ فالذكريات خفيفة كوشاح صيف في هواء مرّ../ وأنا هنا على أرض هَمّ/ وبين الزوايا أنام قليلاً وأصحو قليلاً/ وأفرش ذاكرتي فوق كتفي لعلّ الليل يبصرها فيتعب..".
أما الشاعرة "سميّة السوسي"، فإنها في قصيدتها، "فكرة فراغ أبيض"، لا تعاني من هذا التناقض، هي من مواليد غزة العام ،1974 ومقيمة فيها. ثمة معاناة من نوع آخر، رغم انه متداخل فيه، لهذه الشاعرة: "تغسل الصباحات وجه البريد/ الصندوق فارغ..". هل تنتظر رسالة من الخارج؟ من المنفى؟ ولكن "الصندوق فارغ". لا أحد يكتب إليها. إن الحصار الذي تفرضه "إسرائيل" على الوطن الفلسطيني، هو الذي يمنع وصول "الرسالة"، ويمنع قلب "الصندوق الفارغ" من أن يمتلئ. غير ان الشاعرة سمية السوسي لا تذكر هذا الحصار بحرفٍ. باطن النص قادر مع ذلك، على أن يفيض بقاموس المقاومة ضد هذا الجدار المخفي تحت السطور. كيف تكون هذه المقاومة؟ لا تستعير الشاعرة من إرث "أدب المقاومة" شيئاً. يمكن القول انها تتمرد عليه. هي ليست من "القافلة" ونصّها "لا يشبه القافلة". إذا كانت "هلا الشروف" تحدّثت لنا قبل قليل، عن سيدة لا تشبهها، فإن "سمية السوسي" تريد التأكيد لنا أن "كل القافلة" من سيدات وسادة، لا تشبهها: "الفواصل تحبك اللغة/ الريح هادئة هذا المساء/ غوغاء تعكّر مزاج الخطيئة/ الخطيئة تحتفي بفشلها../ لا يشبه القافلة". جُمَل حادة. مفردات نزعم أنها جمل. وقد تتورط في تصور أنها فقرات كاملة. أين صوت المقاومة؟ نتابع القصيدة، من أولها، من وسطها، من آخرها، سيّان: "كساقية أجرجر صوتي../ في خريف حاد الرائحة/ رائحة خجل عتيق". أي خجل؟ نتابع: "لك ان تعبر النهر مرتين لتعرف البقية". لا بد من تكرار التجربة. فالنهر ليس ذاته في كل مرة، بخاصة حين تقرر الشاعرة "يجهل النهر قاموسه"، الشاعرة هي النهر أم القصيدة؟ من المؤلم أن تجهل الشاعرة قاموسها، أليست هي القصيدة في آن؟ من المؤلم ان تكشف القصيدة عن جرحها بالقاموس لعلّه الاضطراب في "فكرة الفراغ الأبيض". هل كانت التسوية السياسية التي جاء بها اتفاق أوسلو مجرد "فراغ أبيض"؟ دمٌ في الواقع، في كل ركن. لكن السياسة في الواقع ذاته، تنتهي إلى فراغ، وإلى صفحة بيضاء لا كتابة عليها. وفي المحصلة، في الجملة الأخيرة، تعلن الشاعرة: "أحمل رقعة فشلي"، ثم تكمل فجأة: "تدهشني ممحاة تجاور الباب". هل تتجه إلى محو المشهد كله؟ كيف يمكن لها أن تمحو فراغها الأبيض؟ يجوز، فقد سبق لها، في مفردة أخرى أن أعلنت "اختلف" هي التي تختلف، موحية في هذا الاختلاف، أن الجيل الفلسطيني الجديد كله "يختلف" بالضرورة، فكيف لا يقدر على محو الفراغ الأبيض الذي نسمّيه "الفشل" أيضاً؟

السؤال

ولكن السؤال هو الأساس للقاموس كله. "أنا أسأل، إذن أنا فلسطيني". لم يقل هذا أحد، إلا أنه مبثوث في خلايا القاموس المعني، السؤال وليس الجواب. الجواب موت. أما السؤال، فإنه الحياة، أو أنه المقاومة المستمرة، الشاعر "عيد محمد بحيص" من مواليد يطا قرب الخليل، في الضفة الغربية ،1975 يعبر إلى قصيدته "هبوط الوتر" بالسؤالك "على بدن المسافة/بين العتاب وضوء التمرد/يظل سؤالنا النيئ عاصياً..". ثم يزداد اندفاعاً: "سؤالنا المستفيض طازج مثل أنوثة الغابات../سؤالنا المذاب في كأس من الأرق../سؤالنا الحتمي../سؤالنا الشك ومصائد الناس/حفاوة الذئب وذم القطيع..". الشاعر "كفاح الفني" اللاجئ لأبوين من حيفا، والمقيم في رام الله يجعل من السؤال أسئلة شتى، وإنما لجواب واحد، في قصيدته "تجريب في القفز عن لفظة الموت في النص الذي ليس "هو" الزمان أو المكان، فماذا يكون "هو" في هذه المغايرة المعقّدة؟ لعله شفاء الغياب عن حيفا التي أمست خارج الزمان والمكان، إلا في مخيلة اللاجئ الابن الذي يولد فيها: "عن هو النص/هواء هبّ من هوج سنونو طار يميناً/غياب تدفنه بين فمك والكلام الذي لم تقله/ليس زمان هو/ليس مكان هو/ولا ما تعقد فيه الأغنية لامرأة تعرفها كنرد/طفيف كالندى/ثقيل كألف عام أسئلة لجواب واحد..".
الشاعر "باسل ترشحابي" اللاجئ والمولود في سوريا 1978 يحاول من جهته أن يتعامل مع السؤال، في قصيدته "أوراق المرأة الصدئة" بواقعية شديدة، فهو يغرق في "الوقت المنهار"، وفي البهتان والمشاهد الخلفية ووهج المعابر ومرايا الإيقاع (عناوين لمقاطع من قصيدته)، إلا أنه في المقطع الأخير، يطفو على سؤال محدد: "مرتين التقينا ولا أذكر الثالثة/هل نسيتك في الحلم أم غيهب الكارثة/فالحواس، ولا وقت للوقت، كانت تغيب مع الرعب/حيث جهنم تطلع من أول الأرض/حتى الجنون/هل جنين انتهت/أم جنين استوت فوق عرش المنون؟". الكارثة التي هي النكبة التي هي المأساة في العام ،1948 وصولاً إلى مذبحة جنين في العام ،2002 والمتواصلة إلى حينه، وبداية من لقاء بلا حواس، هو مضمون السؤال، حيث المكان واضح، والزمان واضح، إلا أن الجواب مفتوح لامتدادات أخرى، كثيرة ومتشابكة، للسؤال. إن اللاجئ البعيد عن وطنه كله، يرى الوطن في هذا المعنى، أكثر وأشمل وضوحاً في المكان وفي الزمان، من المواطن المقيم فيه، لماذا؟ امتداد آخر للسؤال، لا يشفع له، وللتعامل معه، سوى النص الشبابي الجديد.

عكَّاز خشبي

من المرعب جداً أن يكون السؤال مجرد "عُكَّاز خشبي" الشاعر محمد الديراوي مواليد غزة 1976 والمغترب في باريس، هو الذي أوحى لنا بهذا لرعب الناس في قصيدته "وقعة الجد". لقد وقع الجد المتوكئ على عكّاز عن الدرج، ومات. غير أن العكّاز لا يزال يواصل صعود الدرج: "كان يركب حصانه الخشبي ويصهل/يا جدي الحياة لا تدخل في الخشب../وعندما وقع ظلّ عكازه يهتز../عكاز يكمل صعود الدرج". وإذا كان ثمة من ضوء في الخارج، فماذا ستفعل "رشا" الصغيرة (لعلها ابنة الشاعر) حين تدرك أن عمود النور كان عكازاً خشبياً: "رشا تقرأ الغياب الذي في النافذة/ترسم آلة تصوير وتؤلف ذكريات أخرى/الطنين الذي في الخارج/إنه عمود النور أيضاً/ماذا ستفعل رشا لو كان عمود النور عكازاً خشبياً؟".
السؤال الغُربة المنفى الوطن، على الحافة ذاتها: "أرتعش على حافة الشرفة/هل ترى البريق الذي في البعيد/إنها السلاسل والذكريات التي ألبسها/وربما هو العَرَق على ذيل حصاني". لا يزال الحصان الخشبي موجوداً، من غزة إلى باريس، حتى يصرخ الشاعر: "إنه أنا/إنه أنا/انظروا جيداً/يداي عصفور يئن/وعيناي نافذتان..".
الشاعر نجوان درويش المولود والمقيم في القدس ،1978 يرفض هذا الرعب، ويلقي جانباً بالمكان المهتز، ليدخل من جانبه في رعب أشد، وليهبط كسيحاً بلا أوفى عكاز، لا فرق عنده بين وطن مقسّم ومنفى مسيج:
"انك غبيّ جداً إذ تفكر بالرحيل/ لم تدرك بعد ان لا فرق بين وطنك المقسم كالحظيرة/ وبين الأوطان المسيّجة كالمراعي/ ستخرج من سدودم لتلقاك عامورة..". ثم يزداد هبوطاً في جحيم الرعب، حيث لا يرى في نفسه سوى "لاجئ من كريت". كريت الجزيرة اليونانية التي يقال ان الفلسطينيين القدامى جاءوا منها: "أنا لاجئ من كريت/ لا أملك سوى أغنيات نسيتها/ وبضع تذكارات/.. اعرضها عليكم لقاء بضعة قروش أو رغيف".
ان الرعب الهائل في هذا النص، يستولي على القاموس، ليعبر به إلى تراجيديا التغيير الكلي. يصرخ: "ليسوا أعماما، إنهم مخلاة ضبع/ ليسوا أخوالاً، إنهم أجفان حدأة.. فإلى أين؟ يعترف الشاعر انه "هجاء ذاتي"، وانه "اليأس". يكفي ان يعترف انه "هجاء".
ونحن هنا بصدد تراث تقليدي بحت: هجاء، رثاء، مدح.. إلخ). وأما "اليأس" فإنه انعكاس تلقائي (وتراثي ايضاً وفق التلقائية) للواقع العربي المتعلق بقضية القدس تحديداً (والقدس كما ذكرنا، هي مدينة الشاعر ومسقط رأسه) هذه المدينة التي يلتهمها التهويد، على مستوى المكان والزمان والإنسان، على مدار الساعة، والعرب "الأخوال والأعمام" حولها، ليسوا أخوالا، ليسوا، أعماما، إلى آخر الاعتراف.

القصص

لا يبتعد قاموس القصص القصيرة في هذا "الكتاب"، عن الموروث السائد في "أدب المقاومة"، على العكس مما رأيناه في القصائد. ولعل واقعية التفاصيل اليومية التي حرصت عليها هذه القصص، هي ما أبقت على الإرث، فالمقاومة عملياً، مستمرة، والقصص في هذا السياق، تبدو مستمرة ايضاً في "التسجيل" المقارب للتقارير الصحافية، أكثر منه لأي مغايرة إبداعية جديدة.
القاص يوسف الشايب (مواليد السعودية ،1975 ومقيم في رام الله)، يكتب مجموعة من القصص القصيرة جداً، تحت عناوين من مفردة واحدة فقط لكل قصة (حاجة، حياة، صيف، حاجز، حلوى، حصان، حرية..)

ما يؤكد على هذا التسجيل، ضمن رؤى مكثفة بعمق، وبساطة في آن. منها قصة "حرية": "كان يصرخ: أمي تموت. وتصرخ به القنابل حولنا: اخرس، يبكي: أمي تموت. ينتحب: أمي تموت. لا سيارات إسعاف قادرة على الوصول إلى المكان، ولا ملائكة بيض، يرتجف: أمي تموت. يصمت "ماتت".
القاصة أحلام محمد بشارات (مواليد قرية طمون قرب نابلس في الضفة الغربية 1975 وتقيم فيها)، تجعل من قصتها القصيرة "لأني احبك" فضاء مفتوحاً مثل جرح أسطوري، للعذاب على الحواجز العسكرية "الإسرائيلية" ثمة مئات من هذه الحواجز على امتداد الضفة الغربية وقطاع غزة، منذ العام ،2000 إلى الآن.

تدور القصة عند واحد منها. قصة عروس تتجه بثوب الزفاف الأبيض، مع والدتها وبعض أقاربها إلى منزل عريسها. جنود الحاجز يوقفون "موكب" الزفاف، يلهون ويعبثون بالعروس وأمها وأقاربها. العروس تموت غيظاً وقهراً. ولكن الجنود لا يكترثون: "عروس.. أرقص، ليش ما بترقص، قوم، قوم..!/ ماتت، فكيف تقوم؟". يصرُّ الجنود، بعد ان سحبوا الجثة إلى داخل جيبهم العسكري، على إحدى عجائز أقاربها، ان تكون عروساً بديلة "أنت عروس كبيرة. إنت بترقص، وانتو صفقوا.. صفقوا.. ها ها..". والعجوز، ماذا فعلت؟ تنتهي القصة عند السؤال حيث لا جواب، لأن الجواب هو الموت.

الخليج
2005-02-07