محمد شعير

عبدالوهاب البياتيفي ردهة احد فنادق دمشق الكبرى، دخل عبدالوهاب البياتي مستندا علي يدي سائق سيارته، كنت أقف في أحد أركان الفندق مع سيدة عراقية، أشارت إلي هل تعرفه ؟وأضافت في فرح طفولي : إنه البياتي!
تقدمت نحوه واحتضنته،قال لي جئت لأخذك بالسيارة لنتجه إلي منزلي ... ضحكت السيدة وقالت أنت تعرفه إذن !
تركتهما قليلا يتحدثان سويا ، ثم أشار إلي أن نتجه إلي منزله . قال إنه يفضل أن يتناول طعامه هناك ولا يفضل أكل المطاعم. وبما أنني مدعو علي العشاء عنده سألني ماذا تحب أن تأكل ؟
قبل أن أجيب كان قد استطرد ما رأيك في الشاورما والحلوى الشامية !
ابتسمت فقبل أن أجيب كان قد أخرج النقود وأعطاها للسائق وأمره أن يتوقف أمام أحد المحلات. وقبل أن ينسي سألني عن السيدة التي وقفت معنا : إنها زميلة منفي هل مازالت جميلة ؟!
وأضاف ¢ لقد إلتقيتها في باريس منذ عشر سنوات ، وتقول أنها تكتب الشعر ¢.
هكذا كان البياتي عندما التقينا رغم جسده الناحل الذي أرهقته سنوات المنفي وبصره الذي كلٌ ، كان يحتفظ ببديهة حاضرة وذاكرة متوهجة وحضور مدهش .
بغداد هي مدينة البياتي التي ليس كمثلها مدينة ، يحفظها جيدا وهو الراجل العارف بالمدن ، تماما مثلما يظل عشقه¢ لعائشة¢ وحدها وهو الخبير بالنساء . بغداد ¢ البياتي¢ هي المدينة التي ينصهر فيها الكل ...¢في بيئة الفقراء التي عشت فيها والمساجد والأولياء ، العرقيات والطائفيات المتآخية والمقتربة بعضها بالبعض الآخر ، كل ذلك جعلني أومن بوحدة الوجود ، بوحدة الإنسان. قد تفرق الانسان المذاهب والايديولوجيات ولكن جوهره واحد . وأنا أحاول أن أوكد علي جوهر الإنسان خارج غلاف هذه القشرة. وهذا ما علمتني بغداد إياه فقد تشربت فيها بثقافة كل الاتجاهات القومية والعرقية والطائفية، بالتراث الروحي لهذه الفسيفساء ، والتراث الروحي هو الأصل ، تكتشف عند ذاك أنه لا توجد فوارق بين البشر بالرغم من اللغة والدين والمذاهب الطائفية¢ .

ظل ¢ أبو علي¢ يهرب من قفص إلي قفص ومن منفي إلي منفي محاولا التحرر من قيود الزمان والمكان ، وفي كل ترحالاته كان يحن إلي بغداد ليس كمدينة فاضلة لأنه يري أن المدن الفاضلة لا توجد علي الأرض ، فقط المدن التي يبدعها الشعراء والتي لا يمكن للغزاة واللصوص أن يقتحموا أسوارها . فمدينته الأثيرة شوهها الغزاة : ¢ أنظر إلي بغداد التي ولدت فيها لا أحس أنها بغداد القديمة، أو بغداد التي كان ينبغي أن تولد، إذ دخلت عوامل مختلفة شوهتها، وكلما قارب النضوج الاجتماعي والثقافي والفكري والحضاري علي الاكتمال، دخلت عوامل علي المدينة لتمزق نسيجها الحي، مثل الغزو الأجنبي، أو الداخلي، أو بالهجرة من الأرياف إليها. مثل هذه العوامل جعلت المدينة أشبه بثوب من الحرير أو النسيج، كلما أوشك علي الاكتمال حلت خيوطه، ويبدأ من جديد، أحيانا بشكل فج وعشوائي لا بشكل أصيل. فالمدينة تحتاج إلي النضوج، والنضوج الحضاري لا يتم إلا بمزيد من المدارس والمتعلمين والمثقفين الهامشيين. المدينة بوتقة للاختمار الروحي، وما لم يكتمل هذا الاختمار فلن تكون مدينة، بل مجرد فندق كبير ومجمعات سكنية.. بغداد الطفولة كانت بالنسبة إلي هي المدينة المثلي، إذ أنني كنت ألهو فيها أو أتجول في طرقاتها وأتأمل فضاءاتها قبل انبثاق الوعي لدي، غير أنني بدأت أعي بؤس المدينة والفقراء الذين يعيشون فيها، وبدأت الحقائق تتكشف لي ووجدت أن هذه المدينة أشبه بمدينة مزيفة أو شحاذ يلبس رداء مكونا من خرق متعددة ومختلفة الألوان، لهذا لم يكن البحث عن النموذج هينا، كان أشبه ببحث المتصوف عن الله ¢

الطغاة سحبوا الجنسية يوما من البياتي فشهر سلاحه الشعر لائذا بمدينته الجميلة: ¢ أم الدنيا بغداد، بناها المنصور / لتصبح عاصمة الألم الخلاق/ وفد الشعراء إليها/ من بعد المنصور/ فباسوا تربتها/ سكبوا فوق ضفائرها خمرا / حتي صارت بستانا / ومزارا لطيور البحر/ وبدو الصحراء / من كان يحج إليها / ينسي مجنونا بالعشق / حبيبته الأولي/ ينسي مفتاح الدار/ ويموت شهيدا فيها سكران/ خلبت لب معري النعمان / فظل يردد : بغداد!/ كانت أحلي امرأة/ وستبقي أحلي الحلوات ¢.

لكن لو استيقظ البياتي من رقاده الآن وشاهد الغزاة وهم يقتحمون المدينة لصرخ : ¢جنرالات وجنود مأجرون / من كل القارات، برسم البيع ، هنا في أفلام / الجنس الممنوع وفي إعلانات الصابون/إدفع دولارا ، تقتل إنسانا ، باسم القانون ¢.
ظللت أطارد سعدي يوسف ثلاث مرات وفي كل مرة كان يخدعني، ففي ثلاثة مدن عربية مختلفة ، كنت أتصور أننا سألتقيه وسنتحاور، فأعد نفسي، وفي كل مرة كنت أعود بأسئلتي خائبا !
المرة الأولي في دمشق ، وكان مفترضا أن يأتي من عمان وفي الطريق أضطر إلي مغادرة الأتوبيس الذي كان يعبر به من الأردن إلي دمشق تضامنا مع عاملين أردنيين رفضت السلطات السماح لهما بالدخول وأعتبر أن عبوره وحده ليحضر احتفالا ثقافيا نوع من الخيانة لأفكاره. بعدها مباشرة أيقن صاحب ¢ الأخضر ابن يوسف ¢ أن الشروط الحالية للمنطقة العربية لا تسمح باختراق ثقافي، ليعلن لجؤه السياسي إلي لندن لتكون أخر منفي يختاره. المرة الثانية التي خدعني فيها سعدي كانت في المغرب عندما أرسلت له تذاكر الطيران علي شركة طيران غير التي تم الاتفاق عليها كما قال لي المنظمون وقتها!

ومرات هنا في القاهرة عندما اعتذر عن التكريم في الدورة الأخيرة لمعرض الكتاب أو حتى في عدم رده علي دعوة المجلس الأعلى للثقافة لحضور مؤتمر أمل دنقل . يبدو سعدي يوسف في منفاه الاختياري أكثر استقرار بعد سنوات من الهجرة بين موسكو والجزائر وعمان ودمشق وباريس والكويت وقبرص وعدن وبلجراد وتونس و...... ..... ليصلح أن يطلق عليه¢ المنفي المحترف ¢
ولذلك ففترة لندن كما يؤكد لعباس بيضون : ¢ أكثر فترة في حياتي كلها اطمئنانا. الاطمئنان أولا علي جسدي باعتبار أن الجسد معرض للفناء بسرعة أو بعنف هناك. ثانيا الاطمئنان علي ما يخص العيش، بمعني الإقامة المشروعة في مكان ما، لأني كلما كنت أطيل الإقامة في بلد عربي أفقد حقوقي. فالحقوق تتناقص علي طول الإقامة في البلاد العربية، لا تكتسب شيئا ويكون ما لديك أكثر عرضه لمهبٌ الريح. تفقد حقوقك كاملة بالتدريج. وهذا حدث لي في كل مكان عربي أقمت فيه. فجأة تجد نفسك أمام الجدار، فإما أن تخضع لهذا الجدار و أما أن تقفز عنه. أما في ما يتعلق بالإقامة في إنجلترا، فأنا داخل في هذه المنظومة الثقافة وأتعامل معها منذ فترة مبكرة جدا من حياتي ولم أنقطع. كثير من الشوارع التي أمر بها يذكرني بروايات وقصائد، وكتابا وشعراء. أشعر بألفة عجيبة مع الأمكنة هنا.
ثم أن هناك أمرا مهما جدا، فأنا لأول مرة في حياتي أستطيع أن أفكر بحرية، بمعني أن دورة التفكير لا تعرقل، فتظل طبيعية هادئة واعتيادية. ربما في التفكير المنطقي هذا الشيء أساسي ومن منطق الأشياء، ولكن في العملية الإبداعية تكون القضية اخطر بكثير، لان العملية الإبداعية في الأساس تقوم علي وهْم إعادة تشكيل الكون، وعلي وهم الخلق، وفي هذه النقطة أحس بالحرية المطلقة، أو علي الأقل بوهم امتلاك الحرية المطلقة. هذا الشيء ظل صعبا ومعقدا وفادح التضحية. فمن اجل أن أعبٌر في النص الشعري عن إشكالات معينة في واقعي، كان عليٌ أن أترك وطني وأهلي وامرأتي وان أدخل السجن وأتعرض للتعذيب... كل هذا يخلق رغبة بسيطة في حرية التعبير. الآن، فعلا، أجد نفسي مطلق الحرية. هذا بالإضافة إلي أمور أخري مهمة، فأنا اليوم لست بحاجة إلي عمل، ولست بحاجة إلي الكتابة بأجر في أي مكان، كما لست بحاجة إلي أن يكون لي مركز في أي حركة سياسية معينة في سبيل العائد المادي. كل هذه الأمور تحررت منها بالكامل. ومن هنا أنا أحتفي بمقامي هنا¢.

لكن في المدن التي تنقل فيها سعدي كان يبحث فيها عن بغداد : ( قال لي صاحبي: كيف تبدو لعينيك بغداد؟ / قلت :المدينة بالناس /قال : ولكنهم أنت / قلت : إذن، سوف اطلب أهلا سواهم/ وأقصد بغداد أخري.
ونشعر بارتباك سعدي وقلقه هنا وهو يرسل رسالة مبكٌِرة إلي الجنرال تومي فرانكس عندما يعرف أن البعض من المعارضة العراقية في الخارج ممن أيدوا أمريكا في غزوها ضد بغداد(يسميهم مثقفوا الCIA العراقيين ) وضعوا قائمة لأسماء سيمنعوها من دخول بغداد . قلق مثقف يشعر أنه سيمنع مرة اخري من دخول مدينته : ( سوف تدخل، يا سيدي الجنرال، بغدادّ ، كمن دخلها قبلك: غالبا ... لكنك تعرف، باعتبارك من أمة كانت مغلوبة، أن الشعوب لا تغْلّب . الحاكم يغلّب. وحاكمنا أول المغلوبين. وأنا سعيد بهذا، فلقد حرمني هذا التافه هواءّ وطني لأكثرّ من ثلاثين عاما .
أنت لك مأخذك علي يوليوس قيصر: تقول إنه جنرال، لكن خطبه طويلة، ولهذا قتل ! أنا، الشاعر، لن أطيل الخطاب . سوف تدخل بغدادّ ، يا سيدي الجنرال: هل أوصيك بما أوصي به عمر ( الخليفة الثاني بعد محمد) قائدّ جيشه المتوجه إلي العراق ؟ لا تقطعوا شجرة ... لكن الحديث يدور هذه الأيامّ مدارا آخرّ : إذ يقال إنكم تريدون أن تقطعوا مواطنين عن وطنهم، ويقال في الشائعات إن هناك قائمة أعدٌها عملاؤكم العراقيون تقضي بمنع حوالي 2000 عراقي معارض من دخول وطنهم، بدعوي تجنيبكم المتاعبّ في الفترة الأولي للاحتلال .)

ولكنه  وهو الشاعر الهارب من الأنماط الجاهزة¬ يجلس ليكتب نشيده الخاص عن بلاده : ( أهو العراق ؟ / مبارك مّن قالّ إني أعرف الطرق التي تفضي إليهِ/ مبارك من تمتمتْ شفتاه أربعةّ الحروفِ :/ ¢ عراق ، عراق ، ليس سوي عراقي ¢ ../ سوف تنقض الصواريخ البعيدة/ سوفّ يدهمنا الجنود مدجٌجِينّ/ وسوف تنهار المنائر والمنازل/ سوف يهوي النخل ، منقصفا : وسوف تضيق بالجثثِ التي تطفو/ ضفاف البحرِ والأنهارِ/ سوف نري ، لماما ، ¢ ساحةّ التحريرِ ¢ ، في كتبِ المراثي والتصاويرِ .../ المطاعم والفنادق:/ ماكدونالد Mc Donald/ دجاج كنتاكي KFC / وهوليداي إنْ Holiday Inn / سوف تكون خارطةّ الطريقِ ، وبيتّنا في جنٌة المأوي ،/ وسوف نكون غرقي/ مثلّ أسمك ياعراق/ ¢ عراق ، عراق ، ليس سوي عراق... ¢) . لكن رغم كل ذلك فرهان سعدي يوسف الدائم هو الشعر كي ¢ ينقذ الناس من فاشية مقبلة¢ والآن بعد أن استبدل العراق ديكتاتور محلي ضعيف بآخر عولمي قوي ، فهل سينقذ الشعر العراق من فاشية مقبلة !!

شاعران عراقيين فتحا جدارا في القصيدة العربية الحديثة، وأسسا للحداثة الشعرية، وحولهما  لا أحد أخر  دار سجال عنيف حول الأسبقية في تأسيس حركة الشعر الحر : لنازك الملائكة أم للسياب؟
ربما كان في اختيار نازك الملائكة الدخول في غيبوبة دائمة وسيلة للاحتجاج علي كل ما يحدث حولها. فالشاعرة تعيش منذ أكثر من عشر سنوات في القاهرة متنقله بين مستشفياتها ومنزلها بأحد الضواحي منذ أن تركت بغداد بعد الحصار الممتد عليها ولعدم توافر العلاج اللازم لها، لا تلتقي احد أو تحادث أحد فقط يحرسها ابنها . ولا أدري مدي حقيقة ما رددته وسائل الإعلام من أن رائدة الشعر الحديث تستفيق من غيبوبتها فتسأل عن بغداد وهل يبلي أبناء وطنها بلاء حسنا ثم تداهمها الغيبوبة مرة أخري. ففي صمت الشاعرة دلالة علي الرفض ربما أكثر ممن يملكون القدرة علي الكلام!
فنازك  التي ستكمل عامها الثمانون في أغسطس القادم  أطلقت تحذيراتها من مؤامرات أمريكا منذ سنين طويلة وبالتحديد عام 1958 بعد قيام الثورة في العراق: (فرح الأيتام بضمة حب أبوية/فرحة عطشان ذاق الماء / فرحة تموز بلمس نسائم ثلجية/فرح الظلمات بنبع ضياء/فرحتنا بالجمهورية) وكانت القصيدة¬ كما تصفها في مذكراتها الشخصية  تعبيرا بسيطا عن الفرح العميق الغامر. وتحذيرا من مؤامرات أمريكا والصهيونية العالمية( السوق صحا يا ورد حذار / من نقمته الصهيونية/ومخالبه الأمريكية ) .
ولكن لم تدم طويلا فرحتها بالحكم الجمهوري في العراق كي تتلقفها الغربة، بلا رحمة ولا هوادة، بعيدا عن محبوبتها بغداد، في عزلة، أبعدتها عن كل الأصدقاء والأحباب. نازك التي يبدو أنها تمتلك شعريا بصيرة زرقاء اليمامة فالجمهورية التي حلمت بها وقعت ضحية المخالب الأمريكية.
الغربة عن بغداد هو ما لف قصائدها بالحزن والكآبة وهو مافسرته : ¢لعلٌّ سبب ذلك أنني أتطلٌّب الكمال في الحياة والأشياء وأبحث عن كمال لا حدود له. وحين لا أجد ما أريد: أشعر بالخيبة وأعدٌ القضية قضيتي الشخصية. يضاف إلي هذا أنني كنت إلي سنوات خلت أتخذ الكآبة موقفا إزاء الحياة، وكنت أصدر في هذا عن عقيدة لم أعد أؤمن بها، مضمونها أنٌّ الحزن أجمل وأنبل من الفرح¢!

صمتت نازك الملائكة احتجاجا أو عجزا ولكن حسبها ان آخر ما تعيه ذاكرتها عن وطنها العراق ليل وقمر ونجوم ،والتماع دجلة تحت الأضواء ،وأنغام تترامي من بيت الجيران يحملها صوتا عبدالوهاب وأم كلثوم.

ومع نازك من بعيد يطل وجه بدر شاكر السياب ينشد في حزن عميق ¢أنشودة المطر¢، تتراءي إلي مسامعه بينما تسترجع مخيلته ذكري تلك المدينة التي كانت يوما أعظم عاصمة لأعظم خلافة إسلامية شهدها القرن الرابع الهجري. ورغم أن السياب ابن البصرة إلا أن بغداد كانت له ¢ الحلم ¢ الدئم ، بل أن النقاد يقرنون بين ما أحدثه في الشعر العربي من تطور وبين رحيله من قريته الصغيرة إلي المدينة الفسيحة ( كان بدر في هذه المرحلة ( الدراسة المتوسطية ) شابا بسيطا لا يتعدي عالمه القرية وضواحيها ومدينة البصرة أو ما عرفه فيها ، أما بغداد فإنها تعيش في خياله، فهو يتهيب الحديث عنها أو الاستشراف لزيارتها ) وهو ما يشير إليه الناقد إحسان عباس . السياب مثله مثل كثير من العراقيين يعيش المنفي والخروج الدائم وهو في قصائده تنتابه حالة الحنين الدائم إلي مدن العراق : ( الشمس أجمل في بلادي من سواها ، والظلام  حتى الظلام هناك أجمل/ فهو يحتضن العراق ).نوستالجيا في المنفي لمدينة يعرف الشاعر تاريخها المثقل... ولكن يظل ¢ الحلم ¢ : ( في العراق جوع/ وينثر الغلال فيه موسم الحصاد /لتشبع الغربان والجراد / وتطحن الشوان والحجر /’..ما مر عام والعراق ليس فيه جوع / ’..وكل دمعة من الجياع والعراة / وكل قطرة تراق من دم العبيد / فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد /أو حلمة توردت علي فم الوليد /في عام الغد الفتي واهب الحياة).

اما بغداد كما يريدها الشاعر محمد مهدي الجواهري فيقول عنها:

بغداد يا درب الغزاة ولحدهم ما إن لهم بعد الغدو رواح
يا رقية الحاوي ينيم بسحره
أفعى تسل نيوبها وتزاح
بغداد يا قلب العراق ووعيه وضميره لا زعزعتك رياح
لا نال دجلتك الرخية عاصف والجرف سمح لا عراه جماح

والجواهري لم يجمع العراقيون علي شخص واحد مثلما اجمعوا علي دوره وريادته واستاذيته لهم جميعا . فالبياتي يراها ¢ بوصلة الشعراء وقطبهم ونجمهم وإمامهم. به يهتدون ، وبرعايته وأبوته يحتمون، وبشعره يكبرون ¢... بل يذهب إلي أبعد من ذلك  وهو البياتي  إلي أن هناك قمتين شامختين في الشعر العربي، أعلي سناما من القمم الأخرى هما : المتنبي والجواهري .أما حسب الشيخ جعفر فيراه ¢أحد سته شعراء عظام في تاريخ الأدب العربي مع آمرو القيس وابوتمام وابونواس و المتنبي والمعري ولم يكن معلما لي فقط بل للسياب ولغيره من الشعراء ¢. و الجواهري  حسب تعبير البياتي  يجسد العراق كله : ¢ يتجسد من جديد وينفض عنه الرماد ، ويقوم سليما معاقي مثل طائر الفنيق، فالرجل عاش عصر القتلة وشاهدهم يموتون أمام عينيه، الواحد بعد الآخر، وظل هو وشعره الشاهد الحي علي الظلام الذي ساد العالم العربي خلال هذا القرن الملئ بالثورات والخيبات والانكسارات ¢.فالجواهري الذي عاش أواخر حياته بدون جنسيه بعد أن سحبها الطغاة هو تجسيد حي علي موقف المثقف الذي يقف بصلابة ضد السلطات الرجعية في بلاده مدافعا عن كرامة الانسان في مواجهة الاستعمار وحلفائه المحليين وفي مواجهه الظلم والفقر علي السواء وذلك من خلال قصائده التي اعتبرها الكثير من النقاد دليلا يجسد ¢ الكفاءة الفنية المذهلة والطاقة التقنية المهيمنة اللعوب¢ حب تعبير حلمي سالم .
هؤلاء بعض من شعراء العراق ... إذ يظل هناك العشرات بل المئات ، يظل حسب الشيخ جعفر والزهاوي،والرصافي، فاضل العزاوي ، محمد مظلوم ،سركون بولص ومظفر النواب وفوزي كريم ونبيل ياسين وهاشم شفيق وخزعل الماجدي وفاروق يوسف وكاظم جهاد وكمال سبتي وشاكر لعيبي وسلام كاظم وهادي ياسين وحكمت الحاج وعلي عبد الأمير وأديب كمال الدين وعبد الرزاق الربيعي ،.. وقبل هؤلاء وهؤلاء المتنبي وأبو نواس وابوتمام و........ وكأن (الشعر يولد في العراق/ فكن عراقيا لتصبح شاعرا يا صاحبي) كما يقول محمود درويش .

وهي حقيقة يمكن أن ندركها بسهولة :¢ اهو قدر محتم أم لعنة تاريخية ،يتجمهر الرماد شعرا في العراق ،منذ ان كتب ذلك الشاعر السومري المجهول اول سطور ملحمة جلجامش وجاء من بعده سدنة معابد آشور وأكد ليتموا الملحمة ويقدموها زهرة الانسانية الأولي التي لا تعرف الذي وأغنية البشرية الأولي؟

لقد كانت رعود الشعر وبروقه على مدي حقب التاريخ تهيئ لسقوط أمطار الشعر المتدفقة ،منذ بدايات الانسان ومازالت، وسوف تستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها وإذا كانت الأمة العربية كما يقال وكما قد رسخ في الأذهان امة شاعرة ،فالعراق بهذا المعني او ذاك هو جحيم الشعر وفردوسه ولا أعراف بين الاثنين' وهو ما يشير إليه الناقد العراقي علي عباس علوان.

وهذه بغداد كما تخيلها الشعراء ( بغداد سور ، ما له باب/ بغداد تحت السطح سرداب/ الفجر فيه، في سواد أحرف علي الورق/ والشمس فيه، واستداره الأفق/ وشمعة تراقصت من حولها سود الظلال/ وسبعة من الرجال/ جباههم مجري عرق/ وجوههم معتمات لا تبوح/ عيونهم لا تستريح / تنفذ في السرداب، تعلو... حيث بغداد تنوح/ تمشي علي نقش قديم في الخشب/¢ عاش العرب ¢ !) وهو الوصف الذي قدمه أحمد عبدالمعطي حجازي .
أو حسب أدونيس ( يا لهذه البلاد التي ننتمي إليها:/ أرض تّسبح في الحرائق/ والبشر كمثل حّطبي أّخضر./ ما أّبْهاكّ أيٌها الحجر السٌومريٌ،/ لا يزال قلبكّ ينبض بجلجامش،/ وها هو يستعدٌ لكي يترّجٌّلّ من جديدي،/ بّحثا عن الحياة،/ غير أنٌ دليله، هذه المرٌةّ، غبار ذّرٌيٌ./ أغْلقنا النٌوافذ ّ/ بعد أن مسحنا زجاجها بجرائدّ تؤرٌخ للِغزو،/ وألقينا علي القبور آخرّ ورودنا./ إلي أين نمضي؟/الطريق نفسه لم يعد يصدٌق خطواتِنا ) هذه هي بغداد المدينة التي لا يمكن أن تستسلم للغزاة ولا الطغاة

أخبار الأدب- الأحد 20 ابريل 2003