(في الذكري الثامنة لرحيله)

عمار عوني
(تونس)

عندما قال عبد الوهاب البياتي إنني حزين هذا الصباحلن أنسي ذاك الصباح الذي جلست إليه فيه وحدي حوالي الثامنة صباحا كان ذلك الموعد متفق عليه في اليوم السابق وقد كنت حضرت إلي النزل الذي يقيم فيه قبل حوالي ربع ساعة وجلست علي إحدى الأرائك البسيطة في البهو منتظرا مجيئه، وهو نزل متواضع غير بعيد عن محطة برشلونة للحافلات وسط تونس العاصمة. كان النزل خاليا إلا من عون الاستقبال والنادل الذي انشغل بترتيب بعض الأشياء في المقهى الذي وراء الستار القريب لذلك عندما سمعت وقع أقدام في السلم عرفت أنه هو. وعندما استدرت رأيته ينزل آخر الدرجات وتبدو علي وجهه سمات الحيرة والأرق الباهت.

شتات من الذاكرة:

لم يكن جليسي في ذلك اللقاء الذي دام حوالي نصف ساعة إلا الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي آخر الرواد الذين قادوا حركة التجديد في الشعر العربي الحديث منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي. في ذلك الصباح الخريفي الغائم وعندما كانت تجول بمخيلتي أشياء شتي ألقي التحية ثم جلس قبالتي ونظر إلي قائلا: إنني حزين هذا الصباح!! .

اكتفيت بالصمت لأنني فهمت أنه سيقول شيئا فاسترسل قائلا: بلغني بالأمس أن بعض الشبان يشتمونني في المقاهي...لأنني ألقيت بالمجموعات الشعرية التي سلموني إياها في سلة المهملات بالغرفة بعد أن قرأتها ولم أجد فيها شيئا من الشعر! ربما تفطن أحد عملة النزل إلي ذلك ونشر الأمر... ومما أذكر أنه قال أيضا: شباب اليوم لا يقرأ. يتصورون أن كتابة الشعر أمر سهل... الشعر تجربة عميقة تقوم على القراءة والدربة والمعاناة لسنوات طويلة... شبان اليوم يتلهفون علي النشر والشهرة دون كتابة شعر حقيقي... .

هذه الحادثة التي رواها على مسمعي في صباح ذلك اليوم من أيام الأسبوع الأخير من شهر أيلول (سبتمبر) 1997 ظلت حاضرة في ذاكرتي وظللت محتفظا بها في نفسي إلي اليوم. كنت قد أجريت معه حوارا صحفيا نشرته وقتها في إحدى المجلات العربية ولكن ظلت بعض التفاصيل الأخرى التي لم تنشر حاضرة وقد داهمتني بمناسبة الذكري الثامنة لرحيله حيث كان توفي ـ رحمه الله ـ يوم 3 أيلول (سبتمبر) 1998 في العاصمة السورية دمشق بعد سنوات طويلة من المنفي قضاها بعيدا عن العراق.

الشعر شراع حياة :

ليس من الغريب أن يكون عبد الوهاب البياتي شاعرا كبيرا ومن ألمع الشعراء العرب إلي جانب بدر شاكر السياب وثلة قليلة في العصر الحديث. فقد وهب حياته للشعر والكتابة وكانت القصيدة هي الشراع الذي يحتمي به من عواصف الحياة الهوجاء وثلوج المنافي الباردة في الأقاصي البعيدة. ومن ثم فقد عاش الشعر وكانت القصيدة هي الضوء الذي ينير له عتمات الموانئ ويدفعه بعيدا في سماء الإبداع الشعري كرسالة إنسانية سامية. وقد كنت رثيته عند وفاته بقصيدة مطولة منها هذه الأبيات :

لتنـم هناك أبا علي (1) في جـوا
ر.. أحبـة ففنـاؤهـم يتـلمـع
ودمشق من قِدَمٍ مزار للهوي
هي الملاذ إذا تأخر مرجــع
فـي اللاذقية شاطئ متنهـد (2)
لكأن موجه عاشق يتوجـع
فلقد سَمِعتَهُ كالصدى متفجعا
هل يبدع الأشعار بعدك مبدع؟

والمتأمل في المسيرة الشعرية للبياتي التي امتدت حوالي نصف قرن لا يجد عناء في تلمس البعد العالمي في شعره الذي برغم من ارتباطه بعذابات الوطن العراقي والعالم العربي فإنه قد ارتقي إلي رحاب الإنسانية الواسعة من خلال تطرقه لآلام الإنسان وتوقه إلي الحرية والعدالة والحق والمحبة. فالشاعر الذي اضطر إلي الرحيل عن العراق مبكرا وخبر غربة المنافي لسنوات طوال ظل ملتحما بالآلام البشرية ناشدا لإنسانية الإنسان والقيم المثلي المعبرة عنها كالحرية والكرامة والعقلانية:

مدينة الضرورة
ترهص بالعالم والإنسان
تحت سماء صيفها العريان
أواجِهُ الضياع والأسطورة
أوَاجِهُ النسيان
أيتها الصيرورة
النسخ المكرورة
في هذه الماكنة الكبيرة
تقرضها الفيران
يا ببغاء الملك الأبله، يا عشيقة السلطان
تسلقي حوائط المتاحف
وضاجعي الزواحف
وقامري برأس هذا الثائر
ها هو ذا محاصر من شارع لشارع
تتبعه الخناجر... (قصيدة مراثي لوركا)

لا ريب في أن التجربة الشعرية الحارقة التي عاشها وطوحت به بعيدا مسافرا بين عواصم الدنيا وباحثا عن الإنسان المفقود في هذا العالم ظلت تراوح بين مدارات الوطن الأم وبين الوطن الأكبر / العالم ديدنها البحث عن الإنسانية الضائعة في أتون هذا العصر الذي مزقه التشيؤ :

أيتها النافورة الحمراء
أسواق مدريد بلا حناء
فضمخي يد التي أحبها، بهذه الدماء
يا صيحة المهرج، الجُمهُورْ
ها هو ذا يموت
والثور في الساحة مطعونا بأعلى صوته يَخُورْْ
غسلا لعار الموت حتف الأنف
أغمد حد السيف
في قلب هذا الليل
قاتل حتى الموت
من شارع لشارع
أدركه الأوغاد
وزرعوا في جسمه الخناجر
وقطعوا الخيط الذي يهتز في السماء
طيارة الطفولة الخضراء
تسقط في خنادق الأعداء
غرناطة اليتيمة
يبيعها النخاس
من يشتري عائشة، من يشتري العنقاء؟
أميرة من بابل أسيرة...
أقراطها من ذهب المدينة المسحورة
من يشتري الأميرة؟ (قصيدة مراثي لوركا)
إن رثاء الإنسانية الضائعة في هذا العالم غرض لافت لنظر قارئ قصائد البياتي ذلك أن موت / تشيؤ الإنسان من أبرز المفارقات التي تعيشها البشرية في هذا العصر الذي أدي إلي تلاشي القيم السامية وانهيارها في المجتمعات الأوروبية الحديثة الموسومة بالحداثة والتقدم:
في ليل باريس بلا دليل
أتبع موتي في زحام الشارع الطويل
ها هي ترقص في كأس من المدام
عارية تحت سماء الليل والأنغام
تغازل الظلال
تقول لي تعال
وتختفي في الظلمة
شاحبة كنجمة
تفر من باريس
تاركة وراءها أوليس
يبكي علي قارعة الطريق
يموت في حانات ليل العالم الطويل
أنا أمير الدنمارك هملت اليتيم
أعود من مملكة الموت إلي الخمارة
مهرجا حزين
يقاتل الأقزام والأصفار
في مدن الضوضاء والتجارة
أيتها الأعمدة المنهارة... (قصيدة: الموت في الحب)

المنفى والإبداع الشعري :

وإذا كان الشعر تجربة حية يعيشها الشاعر بين عواصف الحياة المنذرة بالضياع والتيه والموت أو لا يكون، فالبياتي قد دفعت به العواصف التي كانت تمزق وطنه إلي المنفي حيث غادر العراق مبكرا ومضي غريبا مسافرا بين عواصم الدنيا، لذلك كان الشعر عنده مرتبطا بالمنفي في تجلياته المتعددة فعلي حد قوله: المنفي مفصل من المفاصل الأساسية في شعري لأنني منذ بداية حياتي كنت أعتبر أن الإنسان عندما يولد يقذف به إلي المنفي لأنه يأتي إلي الحياة بدون إرادته، فالعالم إذن منفي في داخل منفي والناس رهائن كما قلت في إحدى قصائدي. والمنفي يولد مع الإنسان ويكبر يوما بعد يوم إلي أن يتسع إلي معان كثيرة: المعاني الوجودية، المعاني الفلسفية، المعني السياسي أيضا... وهكذا فالمنفي يبدأ من الولادة إلي القرية، إلي المدينة إلي القطر إلي العالم أجمع...إنه دون الشعور بالمنفي لا يستطيع الشاعر أن يبدع، فالكتابة هي رد علي نفي الإنسان، علي اللامعنى، وهي ضد الليل والظلم والشر...هكذا يبدأ الشاعر منذ أن يكتب قصيدته الأولي بالدفاع عن نفسه وعن الآخر بالكتابة، فالكتابة إذن هي دفاع الإنسان ضد الموت والتعاسة والظلم وكل الأشياء التي تسلبه إنسانيته... (3)

عائشة ـ العراق/الأمل الضائع:

لقد كان البعد عن العراق/الوطن الأم جرحا كبيرا ظل نازفا في قلب الشاعر وملهبا لخياله طيلة السنوات الطويلة التي عاني غربتها في المنافي البعيدة. من هنا فلا غرابة أن تكون صورة الوطن/القطر حاضرة بقوة وتوهج حارق في أغلب قصائده لا سيما عندما يستحضر لحظات الطفولة وسنوات التعلم الأولي بالمدرسة، وتكون الذكري فضاء للحنين والبكاء الخافت مواجهة للغربة والضياع:

أصعد أسوارك، بغداد، وأهوي ميتا في الليل
أمد للبيوت عيني وأشتم زهرة المابِينْ
أبكي علي الحسين
وسوف أبكيه إلي أن يجمع الله الشتيتين
وأن يسقط سور البين
ونلتقي طفلين
نبدأ حيث تبدأ الأشياءْ
نسقي الفراشات العِطَاشْ الماءُ
نصنع من أوراق كراساتنا حرائق
نهرب للحدائق
نكتب أشعار المحبين علي الجدار
نرسم غزلانا وحوريات
يرقصن عاريات
تحت ضياء قمر العراق
نصيح تحت الطاق
بغداد! يا بغداد! يا بغداد
جئناك من منازل الطين ومن مقابر الرماد
نهدم أسوارك بعد الموت
نقتل هذا الليل

بصرخات حبنا المصلوب تحت الشمس (قصيدة كتابة علي قبر السياب)
والمتأمل في بنيات القصائد الوطنية التي كتبها الشاعر يقف علي تداخل رمزي مكثف بين صورتي الوطن والمرأة، وتتراوح المعاني في مقاطع تلك القصائد بين الشعور بالموت والضياع وبين الإحساس بالأمل والإنعتاق. فصورة عائشة وهي من أبرز الرموز التاريخية للمرأة والتي استحضرها البياتي في أشعاره تبدو من أقوي الصور الشعرية المجلية لحضور المرأة ودلالاتها ترددا بين العشق والضياع، بين الحياة والموت:

حين انتظر الشاعر
ماتت عائشة في المنفي
نجمة صبح صارت:
لارا وخزامى/هندا وصفاء
ومليكة كل الملكات
تمثالا كنعانيا
نار حريق في أبراج البترول
وفي أبيات نشيد الإنشاد
ودما فوق سطور التوراة
وجباه لصوص الثورات
صارت نيلا وفرات (قصيدة مرثية إلي خليل حاوي)

وتواجهنا صورة عائشة في قصائد أخري حيث تلتبس رموزها بدلالات مختلفة (صفصافة عارية ـ امرأة ميتة ـ امرأة مقتولة ـ حب ضائع) وهي في كل ذلك تظل متداخلة بصورة الوطن/العراق وما يختزن من معاني الفراغ والجدب والموت والدماء النازفة:
عائشة عادت مع الشتاء للبستان
صفصافة عارية الأوراق
تبكي علي الفرات
تصنع من دموعها حارسة الأموات
تاجا لحب مات
تعبث في خصلات ليل شعرها الجرذان
تزحف فوق وجهها جحافل الديدان
لتأكل العينين
مقطوعة الرأس علي الأريكة
عائشة عادت إلي بلادها البعيدة
قصيدة فوق ضريح، حكمة قديمة
قافية يتيمة
صفصافة تبكي علي الفرات
عارية الأوراق... (قصيدة مرثية إلي عائشة)

إلا أن صورة الوطن وإن كانت مرتبطة بالعراق في أغلب القصائد فإن هذه الصورة تبدو أرحب في بعض القصائد التي يبدو فيها الشاعر مستشرفا للغد المشرق في سياق رؤيا يحدس فيها أمل التحرر والانعتاق المنتظر:
قبلت مولاتي علي سجادة النور وغنيت لها موال
وهبتها شمس بخاري وحقول الشمس في العراق
وقمر الأطلس والربيع في أرواد
منحتها عرش سليمان ونار الليل في الصحراء
وذهب الأمواج في البحار
طبعت فوق فمها حبي لكل ساحرات العالم النساء
وقـُبل العشـاق
بذرت في أحشائها طفلا من الشعب ومن سلالة العنقاء
)قصيدة: عن وضاح اليمن والحب والموت(
5 بين تونس والشابي /الحب العربي :

تظل كثيرا من الأشياء المتوهجة عالقة بالذاكرة، لكن بعضها تطاوع حبر القلم بسلاسة وتبقي الأخرى عصية تتأبي في مجاهل الكيان. وحينما حاولت استدعاء ما أمكن من التـفاصيل حضرتني صورة الشاعر البسيط الذي يمشي بين الناس دون ضجيج أو بهرج زائف، ويجلس في المقاهي العادية محاورا من يأتي ليجلس إليه أو يسأله. زار البياتي تونس مرات عديدة لكن لم تتح لي فرصة الجلوس إليه إلا في أيلول (سبتمبر) 1997 عندما قدم للمشاركة في الملتقي الأول للشعر العربي المنعقد آنذاك، والحق فقد قدمني إليه صديقه الناقد أبو زيان السعدي الذي كان يرافقه في أغلب ردهات النهار والليل، وأذكر أنهما كانا يجتمعان كل صباح في مقهى باريس في الشارع الرئيسي بتونس العاصمة في مجلس أدبي كان يعج بالكتاب الجامعيين والعابرين وقد حضرت ذلك المجلس ثلاث مرات. لعلي أذكر هنا ما كان يردده صاحب عائشة من إعجابه الكبير بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي وأنه كان من بين أحب الشعراء العرب إليه، منذ بدأ يتلمس أبواب ملكوت الشعر أيام الطفولة وكانت قصائده في طليعة المنابع الشعرية التي نهل من مواردها وسحرته أضواؤها الساطعة. وهكذا يمضي الشعراء في الرحلة الأبدية بعيدا عن العالم الأرضي المليء بالمفارقات ويبقي الشعر نبراسا للأمل وتبقي قصائدهم مصابيح تنير العتمة تطلعا إلي الأسمى. يقول الشابي:

أتخشي نشيد السماء الجميل؟ أترهب نور الفضاء في ضحاه؟
ألا انهض وسر في سبيل الحياة فمن نام لم تنتظره الحياه
ولا تخش مما وراء التلاع...فما ثم إلا الضحى في صباه
وإلا ربيع الوجود الغرير، يطرز بالورد صافي رداه
وإلا أريج الزهور الصباح، ورقص الأشعة بين المياه
وإلا حمام المروج الأنيق، يغرد منطلقا في غناه
إلي النور! فالنور عذب جميل، إلي النور! فالنور ظل الإله...

ammarouni@yahoo.fr

القدس العربي- 2005/09/14