عبد الكبير الميناوي
(المغرب)

جدار الصمت

عبد الكبير الميناوييبدو أنه صارت هناك حاجة أو ربما ضرورة لأن يتم التفكير في تكوين شرطة فنية وثقافية يكون من بين مهامها حماية الفن والذوق وفرض الصمت والنظام داخل القاعات والفضاءات، التي تستقبل ما يستدعي من الحضور واجب الانتباه، وصولا إلى نظافة في المشاهدة أو السماع.
يأتي هذا الكلام بعد أن اضطرت كثير من المؤسسات الثقافية والفنية إلى أن تضمن ملصقاتها وبرامجها الأسبوعية والشهرية والسنوية إشارات لعلامات منع كالتي نطالب بحفظها خلال كل اختبار للحصول على رخصة السياقة. علامات تتوزع في الغالب بين منع استعمال الهاتف المحمول ومنع التدخين ومنع اصطحاب الصغار دون سن معينة ومنع حمل الأكل إلى قاعات العروض الفنية والثقافية.
هناك كثير من الاستثناءات الجميلة على صعيد التذوق والحرص على الترفع عن بعض الممارسات غير اللائقة. غير أن الاستثناء لا حكم له أو عليه، حتى صار معروفا أننا شعب لا يقرأ، بل ولا يعرف سبيلا لتعلم آداب مشاهدة العروض المسرحية أو السينمائية والانتباه لقراءة نص شعري أو قصصي أو غيره.
نحن شعب بارع في "اصطياد" الدعوات لحضور العروض المسرحية أو غيرها، وحين تطفأ الأنوار ننخرط في ممارسات لا تليق وربطات العنق التي نضعها.
نحن شعب لا ينتبه لعلامات المرور، لذلك لانفرق بين الإشارات المنظمة للسير والتي وضعت في أمكنتها لغايات معروفة، بحيث يفقد اللون الأحمر، مثلا، كثيرا من حمرته ليتحول إلى أخضر يفتح أمام صاحبه طريقا في الاتجاه الممنوع.
لا ننتبه لعلامة "قف"، لذلك نحصد بسياراتنا وشاحناتنا وحافلاتنا وقطاراتنا الأرواح. نحن كذلك، فكيف لنا أن ننتبه لعلامات تمنعنا من مجرد استعمال هاتف محمول أو تدخين سيجارة شقراء أو حمل شيء من الأكل إلى قاعات العروض الفنية أو اصطحاب طفل صغير في جولة مسرحية ؟
إلى هذه العلامات الأربع، ربما صارت هناك ضرورة لإضافة علامات أخرى، مثل منع معاكسة الفتيات أو تبادل الأحاديث الحميمة أو "الطقطقة" بحبات "الزريعة"، التي يبدو أنها تتجه لتصير من مكونات الموسيقى التصويرية التي توضع للأفلام والمسرحيات !
شبابنا لا يفرق بين حديقة عمومية أو شارع عام أو قاعة للعروض الفنية، لذلك يمكن لأحدهم أن يخرق جدار الصمت بحوار هامس مع صاحبه أو صاحبته، كما يمكنه أن "يدخل" في النص المسرحي بكلمة طائشة أو صوت غريب.
نحن شعب لا يقرأ، ولا يعرف كيف يتذوق فن المشاهدة والسماع واحترام الغير. نحن شعب لايقرأ، لكننا مفتونون بـ " الجزيرة" و "العربية"، وغيرها من الفضائيات المتناسلة كالفطر. ندمن متابعة الجديد على مستوى أخبار الدم والأغاني ومباريات الكرة. نتابع برامج النقاش الثقافي والسياسي. وفي ركن الحي ومقاهي الشارع الرئيسي للمدينة نعيد مناقشة أخبار العالم ونتائج مباريات الكرة. نحسب أنفسنا مهمين وعارفين بالشأن العالمي على مستوى السياسة والاقتصاد والفن والرياضة ... إلخ، لكننا عوض اقتناء ديوان شعر أو تذكرة عرض مسرحي أو غنائي ... عوض كل ذلك نجد أنفسنا نبحث عن شتى التبريرات لتكريس حماقاتنا، ابتداء من عدم الاقتناع بقيمة ما يكتب أو يعرض وانتهاء بغلاء المعيشة، مع أننا نقتل أيامنا في استهلاك خمر رخيصة أو جعة فاسدة أو تصيد سرطان رئة بسجائر دخانها يقتل النفس ويلوث الجو والملابس.

فرسان آخر الزمن

في المسرح، كما في السينما والشعر والرواية والقصة وغيرها من حقول الثقافة والأدب، نترك الباب مشرعا، ملطفين من دور النقد بدعوى التشجيع على الإبداع و مراكمة الإنتاج.
يحدث كل هذا ضمن واقع أدبي وثقافي يمتد فيه النظر على مثقفين يحترقون بلا ضمانات رسمية للإبداع والعطاء، كما يمتد على مدعين يحركهم منطق المعارك الوهمية وأضواء البرامج التلفزية والحوارات الإذاعية والصحفية.
مدعون بلا مشاريع وبلا عمق فكري وأدبي يمكن من تطوير العملية الثقافية في هذا البلد السعيد.
مدعون ينشرون كتاباتهم ضمن مشهد ثقافي يودع رموزه إلى المثوى الأخير في صمت دامع أو يتفرج عليهم يقتلون لياليهم بكؤوس تعشق الثلج والحمرة، والتي بدا أنها صارت تسعف شاربيها أكثر من العبارة.

رموز احتضنها القبر أو طويناها بالنسيان.

بين القبر وحرقة التهميش يلمع مدعون يكتبون شعرا تافها أو يصدرون روايات أكثر تفاهة : أشباه مثقفين ليس بإمكانهم أن يحركوا فيك غير الرغبة في الصراخ في وجوههم. هم الذين يجيئون المسرح والسينما من ركن الشارع، أو يكتبون الشعر أو الرواية أو النقد بكل ما للكتابة وما عليها، أو يلطخون بياض الرسم والتشكيل كيفما اتفق.
مدعون يكتفون بالكتابة بيدهم الثانية. فأين الثالثة ؟!... طبعا بعد أن يكونوا تابعوا شيئا مما كتبه أمبرطو إيكو عن كرة القدم أو سمعوا شيئا من النقاش الذي تلا حوارات محمود درويش الأخيرة.
من سوء حظهم (المدعون، طبعا) أن الشعر ليس ادعاءا ولا صفة نتباها بها عند لقاء أول شقراء نصادفها في المهرجانات الثقافية والفنية وحفلات التقديم للكتب والدواوين.
الشعر تواطؤ جميل بين الشاعر والمستمع أو القارئ، وليس ماركة مسجلة نلهث في الحصول عليها شهادة جودة من خبراء الإيزو 9001.
الشعر لايحتاج منك أن تكون(ي) سيدة جميلة بوجه يمتلئ أنوثة وبتسريحة شعر على الموضة، حتى يقتنع بك العدد القليل ممن وجدوا أنفسهم، بدافع المجاملة أو الواجب المهني (الصحافي)، يقتطعون وقتا من مسائهم للاستماع إلى "شعر" هو أقرب إلى تقارير نشرات الأخبار منه إلى كلام قبيلة الشعراء.
للشعر كبرياؤه وألقه.
للنقد بهاؤه وجبروته، كما أن له بياضه الرافض أبدا لعادة الإخوانيات في تشجيع التفاهة وعدم القيام بمهمة النقد والنهي عن المنكر.
الشعر، كما كل الصنافة المؤثثة لحقل الإبداع، يولد شامخا. أما غير ذلك (ودونه) فمجرد محاولات. أوراق امتحان كتابي تحتمل زخرفة الألوان الحمراء في انتظار ضربة المقص التي إما أن تجيز أو أن تنبه أو أن تقضي بضرورة الكف عن التقدم خطوة إلى الأمام.
الكتابة لا تحتاج منك أن تصاب بإسهال إبداعي أو أن تختلط عليك إغراءات التساهل في النقد.
بين الإسهال والتساهل، يمكن للمدعي أن يتمعن، مثلا، في دلالة خروج الشاعر المغربي الراحل أحمد المجاطي إلى دنيا النشر والقراءة بنصف ديوان. شاعر "الفروسية" الذي غادر هذا العالم البارد تاركا للأوفياء والعارفين حرقة الغياب.
بين الإسهال والتساهل، يبقى القارئ متحكما في سوق التلقي، وإلا فما السبب الكامن وراء امتلاء القاعات بالجمهور إذ يلقي شاعر كمحمود درويش قصائده الباذخة، في حين لا يتعدى الحضور في لقاءات أخرى عدد أفراد فريق لكرة السلة ... وفي أحسن الأحوال أفراد فريق للكرة المستطيلة ؟؟؟

Kebir05@hotmail.com

مراكش