(كولاج تأويلي مجتزأ من المشروع الرؤيوي لقاسم حداد)

علي شبيب ورد
(العراق)

1

علي شبيب وردوأنت تسأل.. من هذا الذي انتقى.. فسحة للرؤى في الهبوب.. واستباح العاصفة ؟ ومن ذا الذي.. رام أن يربك الراسيات في تخوم الذائقة ؟ انه دالق الأسئلة.. وناثر الظنون.. فوق هامات الرسوخ .. عاشق باحث في بحار الغياب، عن لقى ثمينة تقنع الأسئلة. وتربك الظنون. وربما تفقد المدى غموضه، والأسى هوله، وتكشف الوجود عاريا والخواء كلّه والملل. باحث عن لحظة يصبح الزمان تحتها راكعا يذرف السنين. والسنون تذرف الأمكنة. والأمكنة شخوصها، قاهرا قاهرا وفاجرا فاجرا وزائفا زائفا. والشخوص فعلهم، دونما أقنعة. بل عراة كما خلقوا يكشفون.
هو الذي نأى بالشعر جانبا عن ضجيج السابلة. وانتمى للمتون وحدها. بعيدا بعيدا عن يباب الكلام. وغبار القافلة. انتخى لهيبة النص. في رحاب العزلة. غرس فسائل البوح. واستطال البوح نخلا. وهزّ النخل صبرا. فأمطر النخل ضوءا. فأسفرت للشعر جهة. وفي فراديسها.. يقطف التلقي رطب النص. ويذوق عسل الشفرة. وبلذّة مندهش..يأوّل أسرار الطّعم. نصوص قراءات متناسلة.
وهو الذي :

2

يذهب إلى الباب يفتحه، لا يرى أحداً. يعود، يتناول الجريدة ويواصل القراءة. وبعد دقائق يرمي بالجريدة و يتوجه إلى الباب، يفتحه، ينظر في الخارج، لم يكن هناك أحد. يغلق الباب ويعود إلى جريدته. وبعد دقائق يكرر نفس العمل...................
هو القلق بعينه. القلق من رتابة اللحظة الحاضرة. ومن ضبابية اللحظة القادمة لا محالة. والمفضية إلى شعور بالرهبة. والتوجس من طلاسمها، التي ربما تحمل اللامتوقع وغير السار. هيجان مشاعر وانثيالات ظنون واندياحات مخاوف واندلاقات أسئلة. وكيف لا وهو بانتظار ما لا يدريه ؟
هو بانتظار الكامن والخفي. بانتظار العماء الذي يذكي في المخيلة بؤرا لا تفنى من الرّيب. وعوالم احتمالات لا تطاق. انتظار يفتح أمامه مغاليق أبواب رياح عواصف وبراكين حمم .
ولما تقدم يقول : لابد من احترازنا. كيف يحترز ؟ أيمسك سلاحا ؟ وأيّ سلاح يمكنه به مواجهة الغيب ؟ وما سلاح الرؤيوي سوى المخيّلة ؟ تلك الحاضنة السحرية لعوالم الرؤى والمقبرة العجيبة للرتابات وأحايين القنوط والملل.
انتظار بترقب وحذر لما تخبئه اللحظة القاطنة في الأفول. والرابضة في المستقبل المتجهم المتربص لغفلتك ووهنك. والذي لا يكل من النظر إليك بنهم وشراسة.
ولا يمكنك تفادي هوله. إلاّ بردع التراخي والكسل. وقتل مكامن الفراغ والرتابة والملل
وتلجأ إلى سلاحك المجدي والمقنع لك على الأقل وملاذك الآمن هو المخيلة. لتعود من حيث أتيت، إلى العزلة في صومعة الكتابة.

3

تعود لها ليس خلاصا من الأسئلة. بل في مواجهة أعاصيرها التي لن تهدأ. لتحريض مجامر الشكوك كي تحرق وهم ثوابت قناعات اللحظة. أملا في العثور على رقيب عثراتك وقنديل عماءاتك ودليل مساراتك في سفر بحثك الأبدي عن جدوى وجودك. سفر مغامرتك المتواصلة في مسالك التجربة للتنقيب عن عشب خلودك. هناك وفي فضاءات تحررك من وهم يقيناتك. تلقى الضفة الأخرى لنهر مروقك ضد المألوف وبين مصدّات العادة حيث الحرية. ضفة يمسك شأفتها ويمط بها بالمقلوب شبيهك اللدود والنصف الآخر لرأيك. هناك في نشوى حرية بوحك ربما أكون ( أنا ) من يجلس منتظرا طلعة فهرس أخطائك الفاتن. ولربما من يتمادى في التملّي فاحصا ليدسّ جمر التجربة تحت إبطيك. ويضمك مثل الصديق الذي لا يخلعك إلا لكي يصوغ لك القميص الجديد وأنت إلى الكتابة كأنك إلى التجربة. صدقني أنا أيضا وضعني العاشر من بين التسعة. البياض سيدي يربك فراسة المخيلة الرائية. والحروف تطّاير هلعا لأنّ الشاشة تنين يلعق نواجذه المرعبة. أراك سيدي تلمّح إلى ما كان يرمي إليه ريلكه في قــولـــه : (عليك أن تنتظر وتجمع الفطنة والعذوبة لحياة كاملة وطويلة إن أمكن، آنذاك في أقصى النهاية ربما استطعت أن تكتب عشرة أبيات جيدة ) 0 أي قناع أخّاذ يرتديه السيميائي وهو يخفي أسرار الثّيمي ليمرّ طليقا إلى فسح التلقي متخطّيا متاريس عسس المنع، بغية كسب ود الذائقة الخام والكسولة لأشباح الغربة ؟!!
حقا.. الوضع الرّاهن الساكن فوقنا والناهب لحظات عزومنا والقامع لسموّنا كصخرة سيزيف. يستحق منّا الآن أن نستعد لأن نعيد النظر في الكثير من راهن يقينياتنا ونستعد خصوصاً لأن نستبدلها بما يعيد إلى حياتنا حياتها، في الاشتغال والاشتغال حد التشفير المتألق. والطارد لوهم العداوة في الآخر. والباعث فينا نبض مودّته كي نكسب سرّ تسارعه للمستقبل. فهو ليس عدوا. العدو كامن في ما نظن، من فرط العادة والتسويف. غير أن الرهبة والقلق لن يدوما طويلا. فالمخيلة الخصبة بمرجعيات المعرفة والكفوءة بالمران الكتابي قادرة على تجاوز قلق خط الشروع والإتيان بمتون تستبطن أصالتها وربما قدرتها على إخراج ذائقة التلقي من خمولها المتوارث من ذاكرة المألوف والسلفي. وأنا مثلك تماما.. أحب أن أرى في الكتابة باب النجاة الموارب دائما، المنتظر، أبدأً، والأرحب من الحية على الدواب. باب هو الآن من بين أندر ما يحتاجه الشخص العربي في خريطة تتقلص جغرافيا وسياسيا، جدير الآن أن يجعلها الأفق الواسع الرحب الفسيح معرفيا، بحريات المخيلة كاملة.

4

وفغرت فاهي مشدوها، وأنا أتفرّس في لعبتك السردية الغائرة في الجمال. تلك التي تحنو بها على عبئك المكدود، أيّها الرّائي الكوني والمترفع الرؤيوي على اللحظة الفانية. مزيدا من الإيغال في الغرائبي والنائي عن الرتابة والضجيج. ويا له من عبء ثقيل ( عبء الحكمة ) الذي لا تقوى على حمله أبداننا الناحلة.. هذا وحل الطريق / هذه رائحة البحر / تلك ذريعة الزمن/ أولئك طهاة الفتنة/ ارفع النصيحة عن الناس/ كل ذلك نقيض / أو.... / و يندفع لمسرح للمجابهات.
أركضُ به في طرقات المدينة. تفتح المخافرُ منافذَها في انتظاره. أجلسه على حافة الطريق ليشرب. فيمد يده في حركة الشحاذين، يتراكض المارةُ ليضعوا قطعاً صغيرة في الكف المعروقة. كفه مثقوبة فتسقط العطايا مثل بذور الطبيعة في الأرض. ينظر إلى ذلك ويضحك. يربت على الطين فينشأ العشب فيربيه مثل الأطفال. يستوقف شحاذين كثيرين، يقول لهم، وهو يشير إلى الأرض : إنها لكم، شجر / أطفال.
يلتفت ناحيتي، فأفهم. وأنا أفهم ما هي إلاّ حكمة أهل الماء وأهل البحر. حكمة من أغوونا بلغز الحب. حكمة أنليل العادل في توحيد الكون. حكمة بحر زرقته تنهر زرقة السماء برذاذ الأسئلة. فدعنا نتبادل أنخاب غربتنا على ضفاف نهر عبئك الأزرق.
فانتبه.. يا أناي.

5

انتبه.. مفتتح تحذيري لقصيدة تشكلت على ثمانية مقاطع. بعضها بسياق نثري وبعضها من الشعر الحر. لكنّها تتوحد جسديا على ثيمة البوح بحكمة التجربة للمخاطب الآخر ( وربما مناجاة للنفس ) في إسقاط فني على التلقي. سأعمد إلى تأشير عجول لشفرات المستوى الجمالي باعتبارها تستبطن أثمن كنوز المستوى الثيمي. وسأهرع إلى الكلمة ( وعاء المعنى ) وبالتحديد إلى التجاور اللغوي الذي يفضي إلى الضربة أو الصدمة الشعرية أو المفارقة اللغوية والصورية... الهواء الثقيل. القوة والنفوذ الذي يوزع الفتات والفزع والعذاب اليومي - إحالة - في النص السومري يقول أيّوب.. حين وزّعت الآلهة الأنصبة كان العذاب من نصيبي. صباح يجهش. بمعنى يفزع ، هو يوم مرعب آخر. قتلى يبكرون إلى النوم. الناس موتى يسيرون في قبورهم. لأنهم منفيون في نفوسهم من فرط الانكفاء على غموضهم. يتغرغر الأفق. صورة تعبر عن تشكيل حركي عن حشود البشر وهي تتوافد بالخروج صباحا إلى دوامات الغربة. كتاب الليل. تشكيل صوري أخّاذ آخر عن الليل وهو يفتح فاه لإطلاق سراح أسراه. الأجراس تنهض من نومها. أنسنة للأشياء، وهي أجراس الصباح. أجراس ولادة فجر جديد. تريد للزرقة أن تنهر السماء. جملة اعتمدها الشاعر بوابة أو ثريّا لمتنه الثماني. تريد للحكمة إن تردع الجبروت. للطرائد أن تكفّ عن الحكاية. أن تفعل شيئا، أن تتحرك. الكتاب الصغير. تشفير يشظّي التأويل. كتاب الحكمة والمعرفة والحق. ليشير إلى الضمير . حيوانات تتفلّت من سطوة الغابة. إيحاء فاضح لمأساة الشعوب القابعة تحت نير شريعة الغضنفر. صلاة الليل. قناع لمرمى فضائحي وشهواني هو مناخ المقطع الذي ورد فيه. جسد مشبوق إلى جسد مشنوق. لوحة أتمنى أن يرسمها سلفادور دالي. فشكرا لك يا دالي الشعر على هذه اللوحة القصيدة أو القصيدة اللوحة. وسأظل أتأمّل فيها مليّا،
إلى أن نلتقي :
عندما يبدأ المنتهون
أو..
عندما يجهر الصامتون.

***

علي شبيب ورد
نشر عدة دراسات نقدية في الصحف والمجلات
مجموعته الأولى ( سماء.. ثـ.. أمنة )
مجموعته الثانية ( محاولات في إيذاء النص )