محمد أحمد المسعودي
(طنجة- المغرب)

إلى رضوان أعيساتن شاعرا وصديقا

(فيصل سمرا- السعودية)ستتناول هذه القراءة المتواضعة بعدا واحدا في الديوان الأول للشاعر الواعد محمد عابد"علبة الخسائر".وهو بُعد التشكيل الساخر للعالم كما يتمثل رؤيةً ويتشكل لغةً في نصوص هذه الأضمومة الشعرية الجميلة.
إن أغلب نصوص الديوان قصيرة مكثفة قوامها الصورة الواحدة المتكاملة معنى و مبنى.إنها الصورة/اللقطة أو الصورة/اللحظة التي تولد المفارقة وتولد الضحك من العالم أو بالأحرى فعل الإنسان في العالم.لنتأمل فعل شرطي المرور:
شرطي المرور/ فجأة،/ أوقف جميع السيارات/وتملى/سيقان امرأة عابرة/
على الرصيف الآخر/ص.33

إن توتر الصورة وتكاملها يتمان في هذا المشهد عن طريق لغة مباشرة تقريرية واضحة لكنها تشي بمفارقة الموقف ولا معقوليته.إن الصورة تنزاح عن المألوف في عالم الواقع مشكلة العالم وفق رؤية شعرية ساخرة.وتستند الصورة إلى بلاغة التقديم والتأخير للتلاعب لغويا بالموقف وللتركيز على لقطة بؤرية قصد توليد المفارقة:"شرطي المرور،فجأة،أوقف جميع السيارات".الجملة في أصلها جملة فعلية لكن الشاعر قلبها مقدما الإسم ليتخذ موقع البؤرة في التركيب وليثير انتباه القارئ.الشرطي هو بطل المشهد لأنه استطاع إيقاف حركة العالم/حركة جميع السيارات التي تسير في مختلف الجهات.إلى هنا تمتلك الصورة قدرا هاما من بلاغة التشويق والإمتاع،ومن ثم تجعل القارئ في لهفة لاكتمال باقي المشهد،فإذا بالشاعر يفاجئه ساخرا لاهيا بقوله:"وتملى سيقان امرأة عابرة على الرصيف الآخر".أوقف الشرطي حركة الشارع كله ليتملى في سكون سيقان امرأة تعبر الرصيف. يتحول صخب العالم إلى صمت وسكون لأن الشرطي يتعبد في معبد الرغبة/أو في معبد عشق الجمال. أو لأنه يكسر جدران ما يفرضه العالم عليه من إكراهات عبر هذا السلوك الغريب والمفارق.هكذا ينجح الشاعر في تشكيل رؤيته الساخرة عبر الصورة المشهدية النثرية التي تتجنب المجاز والاستعارة وغيرها من أدوات التصوير المعهودة في الشعر العربي القديم.
وإذا كان النص السابق قد شكل رؤيته الساخرة للعالم بوساطة مفارقة الفعل/السلوك،فإن هذه البنية التصويرية تسم نصوصا أخرى في الديوان.يقول الشاعر في نصين متناظرين/متحاورين:
النص الأول بعنوان:مجنون
يجري لاهثا/ويكتب بالفحم على الجدران/:أيها الحمير/Je suis libre/33
النص الثاني بعنوان:عاقلة
تتهادى متبخترة/وتقول/:أيها الحمير/Il est libre/ليكتب حريته بالفحم./34
تتولد السخرية في النصين عبر بلاغة السرد وعن طريق الشرح والتوضيح.إن حرية المجنون مجرد شعار أسود على حائط أبيض.هكذا يتحاور النصان عبر بلاغة التناظر المرآوي ليعكسا مفارقة الواقع والحياة ومفارقة السلوك الإنساني.إن الخيط الفاصل بين الجنون والعقل واه.الحرية في ذاتها مغامرة وجنون لا يمران إلا بالسواد الفحمي.بهذه الشاكلة يتخذ الشاعر من الوجود موقفا واضحا داعيا إلى الحرية المجنونة وإلى الجنون الحر/العاقل.ويتمكن الشاعر من خلال الجمل البسيطة المباشرة في سرديتها من توتير المشهد ومنحه إيحاءات متباينة إلى جانب توظيف العبارة الفرنسية التي تخرق أفق انتظار القارئ وتعبر بقوة عن تعارض الواقع/الحلم-الحرية/القيد.
ويمضي الشاعر في نصوص أخرى على نفس الوتيرة إذ تتشكل السخرية من مفارقة المواقف والأفعال والأقوال،أو من خلال التخييل الغريب الذي يقوم على الاحتمال والافتراض كما نجد في نص:آفة الجلوس.يقول الشاعر:
ماذا لو تمرد/كرسي شارد بمقهى/على زبون أنيق جدا/وانتقلت العدوى/إلى كل الكراسي/وخرجت في مظاهرة صاخبة/ تندد بآفة الجلوس/آنئذ/
ستعتقل سلطات الجلوس/عددا من الكراسي/وتحاكمها بتهمة/الإخلال بأمن الخشب/والقاع../39
يذكرنا تمرد الكرسي في هذا النص بنص"هذا هو الكرسي" لأحمد بركات وتذكرنا ماذا الاستفهامية/الافتراضية التي تتحول إلى التوكيد والإثبات على سبيل السخرية المتخيلة بنصوص الشاعر الراحل في عدد من قصائده."" لكن طريقة تشكيل نص محمد عابد تتمكن من تفجير طاقة السخرية من خلال افتراض تمرد كرسي المقهى على زبون أنيق جدا ليتحول فضاء المقهى برمته إلى حالة من الصخب والعنف المادي للأشياء تجاه الكسالى من البشر.ولكن المفارقة أن سلطات الجلوس/الكسل ستحاكم عددا من الكراسي التي ساهمت في هذا التمرد لإخلالها بالأمن.هكذا تشكل كلمة آنئذ الفجائية تحولا في فرضية النص من الحرية والجنون إلى حالة من القهر والتسلط.وبهذه الكيفية تتحول السخرية إلى رؤية تراجيدية للعالم وتتوتر اللغة في تنقلاتها البلاغية المتنوعة لتتحول إلى تشكيل تصويري تسمه المفارقة في المواقف والأفعال.
وفي نصوص"علبة الخسائر"النص الذي أخذ الديوان منه اسمه وميسمه يرصد الشاعر خسارات العالم أو خسارات الإنسان المعاصر في الوجود في لقطات تصويرية دالة موحية تمثل الأشكال الآتية من الخراب الإنساني:/ص.47-49
خسران الحرية (صورة الطائر المصاب بقنبلة)
خسران الدفء الإنساني ومظاهر الفرح (صورة الدرب الحزين الصاخب)
خسران الصداقة والوفاء بالعهد والالتزام بالمواعد (صورة الساعة الزائدة عن الحاجة)
خسران الحب (صورة المعشوقة الغادرة الثرثارة)
تتشكل بلاغة هذه النصوص الأربعة عبر جمل بسيطة/سردية تنتهي بتحولات مفاجأة دلالة ولغة لتجسد تغير الواقع وزيف الحياة المعاصرة.وبهذه الطريقة يتمكن الشاعر من رسم ملامح سخريته من العالم أو من الإنسان سيد هذا العالم الذي يتميز بالازدواجية والتناقض والمفارقات المضحكة المبكية.
ويتوفر الديوان على عدد من النصوص عبارة عن لقطات سريعة الإيقاع خفيفة الكلمات لكنها ثقيلة من حيث الدلالة ومن حيث الإيحاء الساخر.وهي نصوص لا تمتلك رصيدا كبيرا من التفاصيل والجزئيات كما هو الحال في النصوص السابقة بحيث تتكون من ثلاث كلمات أو أربع ولكنها توحي بمعاني واسعة شساعة الحياة وتدل دلالات متباينة حسب ما تسع اللغة من قدرة على الترميز والإيحاء.يقول الشاعر في نص احتضان: قلبي/تحضنه/مرمدة /43
ويقول في نص جسد:حر كحرية القيد /44
هكذا يتخذ التعبير الشعري من اللقطات السريعة ومن المشاهد المرئية طاقة مشحونة بالمفارقة تنفتح على السخرية من الوجود والحياة.إن الذات الشاعرة تحضنها مرمدة الزمن أو الحياة التي حولت كل شئ إلى هباء،وإن الجسد مكبل كالقيد تماما.هكذا تقوم السخرية في النص الأول استنادا إلى مفهوم الاحتواء والتماهي بينما تقوم في النص الثاني على أساس الجدل وعلاقة المشابهة.فالتصوير الرمزي يتشكل في النصين من خلال لغة مكثفة بسيطة خالية من الزخرف اللفظي ومن التفصيل المعنوي الذي يتعمد الشرح والتوضيح.ولكن المعنى يظل مع هذه الكثافة الشعرية مُشعا واضحا قريبا من المتلقي.وهذه ميزة أخرى تحسب للشاعر ولشعريته الجميلة التي استفادت أكيدا من تجارب سابقة وبلورها وفق رؤيته الخاصة.والملاحظ أن الانشغال بما هو يومي يعد بؤرة التجربة الشعرية في جل نصوص الديوان. وعن طريقه يتمكن الشاعر من التواصل مع المتلقي وتقديم لمحاته الساخرة وتشكيل رؤيته للعالم والحياة والذات.