خمسون عاماً من النزيف الشعري الكردي

ثوب مطرز بخرز الكلمات، لا يليق لغيركلماذا هذا الملف؟
قبل رأس السنة، بأيام، اقترح المشرف على موقع تيريز، "مزكين كمو"، بأن نعمل ملفاً للشاعر، بمناسبة دخوله العام الخمسين؛ لم أكن أعرف بأن الشاعر، قد دخل الخمسين.
قال مزكين: سنعمل له مفاجأة.
لم نعمل تلك المفاجأة. بعد أيام جهّز الفنان رشيد حسو، بورتريت أحمد حسيني، ثم نشرنا الخبر مع البورتريت، ثم كتبنا، بأن الملف، سينشر في الشهر الأول، من العام الجديد، ثم تأخر الملف لأكثر من شهر.
أرسلت الدعوة للمساهمة في اغناء الملف، للشعراء والكتاب الكرد، تأخر البعض، اعتذر البعض، ولم نتلق ردوداً من البعض الآخر.
تيريز ـ القسم الكردي، أيضاً نشر ملفاً مماثلاً، أردنا أن نترجم بعضاً مما فيه، ففعلنا. لكن، هل هذا الملف الذي بين أيديكم، يحيط بتجربة الشاعر أحمد حسيني؟؟ ربما، لا. المشكلة في النقد القليل، وهاهو صوت شاعري عربي رهيف، يكتب عن التجربة، ويكتب خالص مسور.
منى كريم، أرسلنا لها "الديوان" المترجم، فكتبت ماكتبت، برهافة شاعرة ناقدة. خالص مسور، أرسلنا له، مااستطعنا من تأمين قصائد الشاعر بالكردية، وكتب. هذا هو كل النقد، للتجربة الشعريةّ!.
تأخر الملف، لأكثر من شهر. كان الشاعر قد انتقل من ستوكهولم، إلى لندن، ومن بيت إلى آخر، ليس فيه حاجة الحياة العصرية: الأنترنيت.
وضع محمدنور الحسيني، الأسئلة الدقيقة النبيهة، أرسلنا الأسئلة للضيف المحتفى، ودون أن يعرف، من الذي وضع الأسئلة؛ كانت الأسئلة كثيرة جداً. وكنا نريد أن نقدم حواراً أكثر شساعة، ووضوحاً ومتعةً.
تأخر الملف، فاختصرنا الحوار، بما هو في صيغته الآنية.
ثمت اعتذار لقراء تيريز، على التأخير. ثمت اعتذار حقيقي.
ثمت شكر للمساهمين في هذا الملف. ثمت شكر حقيقي.
لنقرأ الشاعر، في نزيفه من عامودا، إلى الخمسين عاماً.
لنقرأ سليل الألم.

* ينشر هذا الملف، بالاتفاق، مع موقع تيريز: www.tirej.net

* بورتريت أحمد حسيني، من عمل رشيد حسو.

****

السيرة
في عامودا ولدتُ، وفي السويد، سأموت

في عامودا ولدتُ عام 1955، وفي السويد سأموت. ولا أعرف أين سأُدفن. شعري ينحو إلى هذا السؤال، ولن ينتهي به.
في السبعينات، كنتُ مع والدي في بيروت: منزل من الخشب والتنك، فقرٌ بليغٌ، تركنا عامودا، إلى بيروت.. والدي الشيخ توفيق، بهيئته الشديدة الشبه بـ جاك بريفير، السيجارة المشتعلة على الدوام، في زاوية الفم، وعلى الدوام هي في عقبها. دخل منزلنا، ومن يديه الرجفتين قدّم له والدي الشاي:

  • تفضل، سيدا.
  • من هو؟ أسأل.
  • شاعر الأكراد "جكرخوين".

سألتقي به لمرتين متتاليتين، أتذكر واحدة منها: كنا مجموعة، قصدنا منزله في القامشلي، كانت يدُه محترقةً، وكان برماً نزقاً، قال: يمكنكم البقاء لنصف ساعة فقط، وعندما فَرِحَ بنا، قال: يمكنكم البقاء ساعة أخرى.

***

حاولتُ تفجير الألم في شعري؛ قلتُ: ولتكنْ هذه اللغة هي لغتي الأم، ولتكنْ في فضيلة اكتشافها الجديد في كل نصٍّ جديدٍ لي، لكن كيف سأتمكن من شدِّ الآني الهارب، إلى اللحظة الطائرة في فضاء حرية مفقودة في الروح الكردية منذ أكثر من مليون سنة؟.
كتبتُ، لعلّني لا أفلت جدوى وجودي في الكون، بأن لا أكون ثقيلاً، ضيفاً غير مرغوب به، أغادر دون أثرٍ.

***

ـ في غرفة إبن عمي "محمد نور"، المطلة على الهلال النحيف لصوت الآذان، عرفتُ الشعر.
في دكان "محمدي أسعدو" أجدتُ قراءة الشعر الكردي.
في صومعة "صدَقَة" خطفتني النشوة الإلهية، وهي تعبر قصائد مولانا القطب "الجزيري" بصوته الأشقر، وهو يقرأ قصائده بصوته مدبوغاً بالوجع والتبغ.
ـ بدأتُ أكتب الشعر، وأنا في يقين الثأر الشعري الكردي من وفاة شاعرين كرديين في حادثتين هما في الألم الكثير: "فصيح سيدا"، الذي تفجر به بابور الكاز فألهبتْ روحَه الرقيقةَ الشاعريةَ وهو في العشرينات من سنينه، وفي السنوات الأولى من دبيب الشعر الكردي على أصابعه. فاحترق، فمات.
"كسرى عبدي" شاعر آخر كان على جروف اللغة الكردية، يستكشف دروبها، كان على الحافة في الوصول إلى النشوة، إلى اللغة التي هي وليدة نصّها، وليدة فضيلتها البكرالأولى: عبور الألم شعرياً، لكن لم يمهله الزمن المتفجر ـ وهذه المرة على هيئة إسطوانة غاز ـ هرع لنجدةِ جيرانٍ يحترقون في إنفجار الإسطوانة، فاحترق هو، وظلَّ في البعيد، في تلك الأعالي، يهرع لنجدة الجيران.
ـ أأنا سليلُهما الأليم؟!
ـ في غرفة أخي الموسيقيّ "سعيد" تتصقّل لغتي موسيقياً، ويتسرب أنين أوتاره إلى كتاباتي برفقة صوته المجروح. وتالياً تتصقّل مناخاتي مروراً في أنابيق سليم بركات الشعرية.

***

أحاول مروراً من خلال الخيط النحيف للغة الكردية، أن أشدّ حاضري ووجودي في الإستمرار الفيزيائي، أعني أن أستمرَّ في الحياة، وتالياً لأسألَ: مادور لغتي الشعرية في الخلْقِ والإبداع، في الحياة والموت؟
الشعر الكردي، تناقلَ من حجرة إلى أخرى، شفاهةً، وإنْ دُوّن، فهو تدوين الفقهاء على هوامش كتبهم الفقيرة، نقلاً عن شيوخهم الأنيقين. جكرخوين هو المدّون الكبير، و"العابر الكبيرُ" بنعالٍ من أوائلِ القرن العشرين من عامودا، إلى السويد.

***

ثمتَ ماهو إحساسٌ طاغٍ وثقيلٌ: القراءة بالعربية.. وكذا التكوين الثقافي، والكتابة بالكردية، كيف يمكن محاورة لغتين، ربما هما في النقيض الكامل من حيث القواعد والشحنة والبلاغة. كتبتُ قصيدتي وأنا إبنٌ لهذه الموازين.
انتقل الشعر الكوردي في لهجتنا من شاعر إلى آخر، لكن عبر دم جكرخوين الذي يجري في عروقنا، دون إضافة دم شعري جديد
الضروري الآن في الشعر الكردي الكرمانجي تحديداً، هو إخصاب الروح التي جفّت من قراءاتنا بالعربية، إخصاب الروح والمكان والألم، بمفردة هي عذاب الكرد فيها،هل فعلتُ في شعري ذلك؟.

***

أمرٌ محيرٌ أن تكونَ كردياً، وفي هذا العالم! أمرٌ محيرٌ أن تكون شاعراً كردياً!.
الأنين لمجروحٍ في الشعر الكوردي، منذ مليون سنة

ستوكهولم

***

الحوار

أحمد حسيني
ألمي، هو ألم الشمال

وضع الأسئلة: محمد نور الحسيني

* أبرز مجايليك من الكرد في سوريا كتبوا بالعربية، ماالذي جعلك تكتب بالكردية، رغم تشابه البيئة والظروف الإبداعية؟.

ـ تبدأ الحكاية باكتشاف أبجدية، تقف على الطرف الآخر من أبجدية المدرسة، ومناقضة تماماً لإيقاع اللغة الرسمية التي لها علاقة حسية وذهنية بعصا المعلم، ثم بالإرهاصات والبدايات التي مهدت فهمنا للفكر الشمولي، الذي مارس إلغاءنا وجوداً وهوية في وضح النهار، أولاً، الأبجدية التي تمنحك الشعور بالاختلاف الجذري من خلال شكل وجهة كتابتها وممنوعيتها، ومن ثم التوجس والخوف الدائمين من امتلاكها والتعامل مع مخزونها المعرفي ثانياً.
في اكتشاف تلك الأبجدية، وأنا في نهاية المرحلة الإعدادية تكمن، كما أتصور، سر ومغزى توجهي إلى الكردية.
ولا يعرف لذة الاكتشاف الذي أتكلم عنه، ولازال طعمه تحت لسان روحي، إلا من مارسه في صباه. متعة أن تتخلص من التاء المربوطة والمبسوطة. متعة أن تتحرر من التردد في كتابة الهمزة على الألف أم النبرة. متعة أن تدخل محراب اللغة دون معاناة أو خوف من رقيب في ترجمة المعاني والمفردات إلى لغة أخرى، لا تجيدها وأنت طفل.
في حقيبة من التنك، كانت تضم دفاتر حسابات قديمة، وتاريخ مذهل لانكسارات وهزائم والدي المالية، ثمة كتيب دون غلاف، قرضه الفأر من هوامشه، اسمه "ممي آلان"، أبدأ قراءته وفك رموزه، معتمداً على لغتي الغريزية في فهم الأحداث، واستكناه معاني الأبيات. لازلتُ أحتفظ بذلك الكتاب في صفيحة من التنك في القامشلي، مخبأة مع مجموعة من مقتنياتي الأخرى عند أحد الأصدقاء.
كتبت القصيدة الأولى بالعربية، ونشرتها حينذاك، في جريدة صوت الرافدين باسم أحمد جوانرو. حين قرأت قصيدتي المنشورة، أصبتُ بصدمة غريبة. كانت القصيدة تضم مفردات مثل الزبيب، سيباني خلاتي، مم وزين، السفرجل، البلوط، سيامند، الجبل، وأنا أقرأ القصيدة، كانت كل هذه المفردات التي زلزلت كياني ووجداني أثناء كتابتها، قد فقدت سطوتها وبريقها، وإلى درجة مذهلة، معانيها.
عدتُ من دمشق محبطاً وسائلاً نفسي عن سر أن يتحولَ زبيب "موش" وبحر "وان" وبلوط "بوطان" في العربية إلى هذا الشكل الباهت في المعنى والتعبير، ناهيك عن غياب الحس الشعري، مقارنة، وأنت تردد ذلك بالكردية في مستواها الشفاهي المحض.
وأنا أستمع إلى برنامج شعري في القسم الكردي بإذاعة بغداد، وجدتُ نفسي أردد في أعماقي بيتاً شعرياً، لا أعرف مصدره، ربما سرقته من المذيع الذي كان يلقي القصائد التي وردت إلى البرنامج، ربما قمتُ بتقليد قصيدة من تلك القصائد، تابعتُ ذلك البيت الشعري إلى النهاية، وكتبتُ قصيدتي الأولى، ترددتُ كثيراً قبل أن أقرأها لأخي "سعيد" الذي أصر على جودتها وإمكانية لحنها، ومن ثم غنائها.
لاشك أن غرفة أخي "سعيد" التي كانت تزخر بلقاءات فنية، ويتردد عليها مغنون وفنانون، قد ساهمت إلى درجة كبيرة في إغناء مخيلتي واحساسي بالكردية، وصقلت ذائقتي اللغوية، ومنحتني الشعور بامكانية الولوج إلى عوالم غامضة ومستعصية، بدءاً من الفلكلور الكردي، وانتهاءً بقصائد الجزيري.
حين فقدتْ تلك الغرفة شاعرين شابين ماتا حرقا، هما "فصيح سيدا" و"كسرى عبدي"، وجدت نفسي الوريث الأكثر قدرة على الانتقام من الموت، ومن خلال احتضان ألمهما، لغة وهوية، والبحث عن معنى الافتقاد والموت والشعر والحرائق والانتماء إلى كيان مقموع ومستلب، في متاهة حلمهما.
"كسرى عبدي" حتى في حديثه العادي جداً، كان يستخدم كردية نقية وأصيلة ومذهلة. كنت أقول له من أين لك كل هذه المفردات؟ يجيبني: "ابحث عنها ياأحمد ستجدها". وبالفعل صرت أبحث عنها في ثنايا الكتب، قديمها وحديثها، أدون كل مفردة غريبة وأسأل عن معنى كل كلمة، حتى تراكمت لدي مجموعة لاتصدق من المفردات والمعاني والجمل والتعابير والمرادفات. كثيرون ربما يتذكرون حين جاؤوني قاصدين استعارة تلك الدفاتر القواميس بغية استنساخها وكتابتها وامتلاكها.

* في المنفى، السويدي، والآن الإنكليزي، قدمتَ معظم تجربتك الشعرية ـ الحياتية، والتي يجمعها خيط واحد، هو الألم، لماذا كل هذا الألم، حتى في قصيدة حب؟ أين ينتهي الألم الشعري في قصيدتك، ومن أين يبدأ؟

ـ قصائدي هي ترجمة أكيدة لخسارات الروح التي عاشت حزنها الخاص، وارتهنت لفواجع وهزائم ومراثي انتمائها لغة وهوية.
ألمي، هو ألم الشمال الذي انفجّر مع انفجار ذلك النحيب المدمر لوالدتي، وهي تصر على احتضان وتقبيل الجثة المشوية لأخي المحروق في سينما عامودا، وأنا في الخامسة من عمري.
لاشك أن لوالدتي الأثر العميق في تفجير هذا الألم؛ كانت ذاكرتها، ذاكرة الفجيعة والحنين والحروب، تسرد لنا، ونحن نتكوم حولها شتاءً، قصصاً مذهلة عن الجيوش والثارات والهجرات، وعن البطش التركي، وعن قصف الفرنسيين لعامودا بالطائرات، ثم جاء موت خالي ـ أخوها الوحيد، ليجعل من حزنها سلوكاً يومياً، دفعها أن تعيش كل عمرها على ذكراه. خالي الصوفي "شريف"، كان سيد الحدود ومروض الألغام، مهرباً معروفاً بقدرته على اكتشاف الألغام، وفتح المسالك الآمنة للعبور، يأتينا صيفاً، ليأخذنا إلى الجهة الأخرى من الحدود، ثم يجول بنا المدن الشمالية من نصيبين إلى ماردين وآمد، ومع اقتراب موعد فتح المدارس، يعود بنا إلى عامودا، في ظهيرة قائظة وهو يسرع الخطا باتجاه عامودا، آملاً لقاء أخته الوحيدة، انفجراللغم بين يديه، وظلت جثته بين الألغام، تنتظر من ينتشلها من التفسخ. كل من يقتل بين الألغام يدفن هناك، هكذا تقول القوانين التركية، بعد ثلاثة أيام، وبعد وضع خطة محكمة، استطاعوا أن يسحبوا الجثة إلى عامودا، لم ينتهِ ألم والدتي بهذا الفقد، إلا وهي تودع الحياة في حضني، وعلى يدي اليمنى.
كنا نكبر، وتكبر معنا آلامنا، تتعمق وتتجذر أكثر، لتمنحنا طعم ولون الكائنات الحزينة، التي ذاكرتها ذاكرة الفقدان، ووجودها يوشي بالخسارة الأكيدة. كائنات تعيش في محرقة حنينها، وتتنفس سطوة ذكرياتها في عالم بات مشغولاً حتى الفجيعة بالعرضي واليومي، وبالثرثرة والخواء.
بدايات القصيدة بألمها وحزنها، تظل مشدودة إلى تلك المساحة العبثية التي امتدت بعيداً في الموت والفراق، بدءاً من الحريق الظالم، ومروراً بالأصدقاء الذين تركوا برحيلهم، بالإضافة إلى الحزن والصدمة، تساؤلات قاسية عن المصير، وعن سر وجودنا في هذا العالم المهشم، وانتهاءً برحيل أخي "عبدالباسط"، الذي ومنذ ثلاثة عشر عاماً، لم تمر ليلة واحدة، دون أن أغلق عيني على ذكرياته.
أما بالنسبة إلى المنفى والكتابة في حضن هذا العالم المختلف ثقافة وطرائق فهم للكون والحياة والكائنات، هي دون شك تجربة تختلف من شاعر الى آخر، رغم العديد من القواسم المشتركة. المنفى معاناة دائمة يعيشها الشاعر أكثر من غيره، العلاقات اليومية تجبره على أن يتذكرغربته، ويعي هامشية وجوده في الزمان والمكان. وأعرف جيداً أن تجربة المنفى والاغتراب في قصائدي، هي تجربة متوترة وحزينة وأليمة، وخصوصاً حين تستدعي لغةً نوستالجية، لغة الذاكرة التي تنشد وتستدعي كل الماضي بجزئياته وتفاصيله وتداعياته الصغيرة والكبيرة، على شكل رموز وإيحاءات وأحلام وشخصيات وصور وإيقاعات وأصداء وملامح، هي في كل الأحوال، كل ما تبقى من نسيج تلك الحياة الحميمة والدافئة التي شكلت فضاءات طفولتنا وحزننا وكل خساراتنا.
ولكنني، لن أخفي عليك، بأنني في هذه البلاد تحديداً، وجدت واكتشفت ومارست ?حماسي واندفاعي? الشديد ?للكتابة?، ?وأقمت علاقتي الحياتية والمؤلمة ?مع لغتي، والتي أصبحت مع مرور الوقت وطني المفقود.?

* ثمة مسارب للغة جكرخوينية، لاتزال تجد لها معابر في نصك الشعري ـ الحداثوي، هل تريد المواءمة بين الكلاسيك والمعاصرة، أم أن المزج ليس إلا تمازج لغة، والدخول في تخوم اللغة الثالثة: لغة المتمكن من تراثه (وهنا جكرخوين النموذج)، ومن ثمَّ الذهاب إلى تخوم النص الذي يدل عليك، لغوياً في الدرجة الأساس؟.

ـ لا أعتقد أن شعرنا مجبر على الانقطاع عن تراثه وذاكرته وقاموسه، وخصوصاً الشعر الذي يكتب باللهجة الشمالية، إننا بحاجة إلى نقطة انطلاق للتواصل والتأسيس، بشرط أن نمتلك الأدوات التي تساعدنا على الرؤية المغايرة والمعاصرة في التوظيف وفهم إشكاليات العلاقة بين السابق واللاحق، القديم والجديد، الكلاسيك والمعاصرة، التقليد والابداع.
لدينا أنماط إبداعية متميزة، تتسم بالبعد المعرفي، سواء أكانت نصوصاً وتجليات فردية مثل "الجزيري" و"فقي طيران"، أو نتاج الذاكرة الجمعية، التي تتجسد اختلافاً وتنوعاً في الفلكلور الكردي؛ والأدب الشفاهي الغني والخصب الذي يحتوي على مساحات معرفية وذهنية وجمالية وحسية وطرق فكر وتأمل، تحتاج إلى دراسة وتمثل وفهم وتفسير وإنارة لدلالاتها، ومحاولات جدية منهجية لتأويلها، كسبيل إلى إعادة بناء الذات، التي تعاني يباسها وانصهارها المحتم.
إنني أكتب باللغة التي أشعر أنها تمنحني خصوصيتي في اللغة، لاأهتم كثيراً بما ستؤول إليه، بقدر ما أبحث عن الالتباس واقتناص اللحظة الزمنية التي تعبرني إلى الماضي، وتترك آثارها على روحي وجسدي، محاولة ترويض وتحويل تلك اللحظة إلى فعل كتابي، دون شك، تضفي على وجودنا وحضورنا في الزمن معنىً مغايراً.
الأهم من كل ذلك، أن تبدع اللغة التي تشير إلى معاناتك وتوجساتك وألمك، وكيفية تعاملك مع الكائنات والموجودات من حولك، وطرق فهمك وحوارك مع الأسئلة التي تشغل ذهنك.
باختصار شديد، اللغة التي يوظفها الشاعر، تظل محكومة بإرهاصات التجربة، ولا تسير على نسق ووتيرة واحدة من جهة المضمون تحديداً، هي تتبدل اعتماداً على أشكال التوظيف، وعلى حجم المعطيات التي تمنحك القدرة على أن تكتب شيئاً مغايراً للعادي والمألوف.

* كتبتَ الشعر في مرحلة متأخرة نسبياً إلام تعزو ذلك!؟ هل ثمة شرارة إلهام قوية دفعتك إلى هذا الخيار بشكل نهائي؟.

ـ لم أفكر يوماً أن أغدو شاعراً. لا أدري بالضبط من أين جاءت هذه المصيبة.

كنتُ مهتماً إلى أبعد حد باللغة الكردية، وأتفاخر بقدرتي على كتابتها وقراءتها، لكن الشعر تحديداً، بدأ كما أتصور مع بداية صداقتي و"محمد نور الحسيني".
كان "محمد نور"، قد بدأ ينشر قصائده وينتظر بلهفة زيارتي له، ليقرأ جديده على مسامعي. كانت لغته صعبة وصوره الشعرية ملفتة وغريبة أيضاً، تُولِّد عندي الذهول، كنت في أعماقي أحزن على الكردية: لماذا لا تكتب بهذه الجمالية!؟.
إذا استثنينا القصائد الغنائية والمقفاة التي كتبتُها، كانت القصيدة الأولى هي "عروسة النار" التي كتبتُ بداياتها في السويد أثناء زيارتي الأولى لها للمعالجة.
جاءت القصيدة، إثر الهجوم التركي عام 1983 على البيشمركه في كردستان العراق، كنتُ أعاني من العزلة القاتلة، أقرأ الكتب الكردية طوال الوقت، كلما أنهيت كتاباً، ركضتُ إلى المكتبة، لأستعير آخر، أثناء ذلك انتابتني موجة رهيبة من الوساوس والهواجس، التي دفعتني إلى الاعتقاد بأنني مصاب بسرطان الرئة، ولم تنته، إلا وأنا على متن الطائرة التي عدتُ بها إلى دمشق.
حملتُ معي حقيبة من الكتب الكردية، ومن ضمنها ديوان "رُوزَنْ بارناس"، الذي لفت نظري بلغته اللامألوفة. حين وصولي إلى عامودا، زارني المرحوم "صدقة"، مستفسراً عن الكتب التي جلبتها معي من السويد. أحضرتُ له الحقيبة، فسال لعابه، واتفقنا في النهاية على أن نتبادل ونتقايض البعض منها. أخذ "زاركوتنا كوردي" لأورديخان وجليلي جليل، ووعدني بدواوين شعرية. هكذا من خلاله حصلت على ديوان "عبدالرحمن مزوري" الأول. إن التجربتين، تجرية روزان بارناس وتجرية عبدالرحمن مزوري، شكلتا لديّ، عملياً، الفكرة الأولى عن أنه يمكن للقصيدة الكردية أيضاً أن تكتب بفضاءات بعيدة عن "جكرخوين" و"تيريز" و"يوسف برازي".
حين زرتُ المرحوم "صدقة"، في صومعته لاحقاً، أخذت معي قصيدة عروسة النار، وقرأتها له، ففرح بها كثيراً، وأصرَّ على أن القصيدة جميلة ورائعة، وعلى أنني شاعر، وهكذا بدأ مشواري معه، ومع ديوان وقصائد الجزيري، الذي كان مخبئاً تحت الطاولة، بأصابعه النحيفة يقلِّب الديوان، ويبدأ بقراءته الصوفية للقصائد بفصاحة تامة، يتوقف عن القراءة، مسهباً في الشرح والتأويل، وفي تفسير الغامض الملتبس، بإحساس معلم يجهد ويصر على أن التلقين سيساعد التلميذ على فهم أعمق وأشمل لتلك الرموز والإيحاءات والصور. إنني مدين له على اللقاء بالجزيري الذي سيرافقني إلى الموت.
أي خيار في النهاية هو خسارة.. أن تختار الشعر خياراً نهائياً، يعني أن تخسر الخيارات الأخرى.

* اختصاصك الأكاديمي أقرب إلى السرد والدقة والمنطق ـ أقصد الفلسفةَ ـ لماذا اتجهتَ إلى الشعر، إلى العاطفة القصوى والحنين والبلاغة.. هل ثمة مسارب تتقاطع عندك، بين الشعر والفلسفة؟.

ـ الشعر فعل اللغة، والفلسفة فعل الفكر، الفكر مهم للشعر، بقدر ما اللغة مهمة للتفكير. ثمة انفعالات عقلية كبرى، كما هناك قصائد فكرية عظيمة. هذا ما يقوله "جان آنسيه".
أعتقد أن دراستي للفلسفة، أفادتني كثيراً جداً في كتابتي الشعرية، من حيث روح التأمل، ومحاولة النظر إلى العالم بعمق أكثر، خارج إطار الحياة المتغيرة. جعلتني أفهم وأهتم بالقضايا الأكثر شمولية، والمرتبطة بالإنسان والمفاهيم الإنسانية الواسعة، وبالمعاناة الإنسانية بشكل عام، ولذلك لا أعرف إن كانت لغتي ومحتوى قصائدي قد تأثّرا بدراستي للفلسفة أم لا.
لكنني، أستطيع القول بأن كل ما قرأته من فلسفة، كان خارج إطار المنهاج الجامعي، لا أتذكر بأننا درسنا فوكو ودولوز وباتاي ودريدا وشتراوس وآخرين في الجامعة. ولكن الدراسة الجامعية ساعدتني في فهم أعمق، وربما أسرع من حيث استيعاب القاموس المصطلحي الفلسفي. كما أنني بذلت جهداً لابأس به في معرفة الأسئلة التي تهم واقع ثقافتي وهويتي ولغتي، والإشكاليات الناتجة عن واقع الحالة الثقافية الكردية.

* يُؤخذ على شعرك، بأن فيه نبرة بكائية طاغية، حتى درجة النوستالوجيا القصوى، وأنه يغلّب العاطفة على التأمل في ثيمة الحزن؟.

ـ وعي الشاعر لجسامة وحجم المأساة في التاريخ الكردي قديماً وحديثاً، ومن ثم الظروف والمتغيرات السياسية والاجتماعية والنفسية التي تعصف، منذ مليون سنة، وحتى الوقت الراهن، من حدود وألغام وتشويه للبنية الروحية، واقتتال داخلي، حروب صغيرة وكبيرة، مجازر وإبادات، وانتهاك أعراض واغتصاب، وضياع هوية، وأكاذيب ونفاق وتسلق وذل وهزائم وتدميروخردل ومؤامرات وتصفيات، أضف إلى ذلك قائمة طويلة ومملة من الخسارات والذكريات والفقدان والحنين، وظروف الشاعر الشخصية والعائلية، لا بد لكل هذا، أن يلقي بظلال قاتمة على الحس والوعي الإبداعي برمته.
من المفروض ألا نبدد حزننا بالبكاء، علينا أن نمنحه معنىً، وألا ندعه يمر دون أن نؤسس له في اللغة تعبيراً يوائم كثافته..

* لقد تركتَ بصماتك في القصيدة الكردية الجديدة.. هل كنت تتوقع هذا الاحتفاء!؟.

ـ أي احتفاء تسألني عنه!؟، لم أكتب يوماً بقصد أن يُحتفى بي، كما إنني لن أتواضع كثيراً، أفهم موقعي جيداً، أفهم بأنني حين كتبت بهذه اللغة، كنتُ أموت قليلاً في كل قصيدة كما يقول مالارميه. الاحتفاء الحقيقي بالنسبة لي، هو أن أقتنع قبل رحيلي، بأنني حقيقة قد تركتُ بصماتي على القصيدة الكرمانجية تحديدا!.

* ثمة دعوات قوية لنبذ كل إبداع يكتبه الكردي بالعربية أوالتركية، أو الفارسية، يصل إلى درجة المحاربة لدى البعض.. ألاتعتبر الأمر تطرفاً ومغالطة؟.
ـ إن هذه المناقشة سابقة لأوانها، تبدأ مع اللحظة التي يبدأ فيها الكردي بدراسة لغته.

أستغرب كيف نناقش هذه الظاهرة والطفل الكردي جالس الآن على مقاعد الدراسة، يتعلم العربية والتركية والفارسية. أعرف أنها لغة الذئب، يقول "كاتب ياسين"، ولكنه لم يستطع أن يعبر عن ألمه ووجدانه، إلا بلغة الذئب، تلك.
إن لغة المدرسة والتعلم، تحل تدريجياً مكان اللغة الأم، التي هي مكتسبة أصلاً، وغير قادرة على منافسة محتواها المعرفي. بمعنى أننا حين تعلمنا العربية، لم نتعلمها بشكل مجرد عن تاريخها وجغرافيتها وفلسفتها وفكرها وثقافتها، يعني أن الكردي في تناوله العالم، وفي نظرته إلى نفسه ومحيطه، وفي مجمل أنساقه المعرفية والتحليلية والفكرية، يعتمد على لغة المدرسة، حيث يمتلك المرونة في التعامل معها تعبيراً وخيالاً. إن هذه اللغة ستنتج حتماً شعراءها وكتابها وفنانيها ومفكريها.
ولن أتردد في القول، بأن الجزء الأهم والأكثر عمقاً، والأوسع دلالة لمعاناة الكردي وألمه والتناول الأكثر فنية وجمالية لهويته وأساطيره وأحلامه، قد كتب بالعربية.
إن الكاتب الكردي الذي استخدم لغة التعلم كوسيلة للتعبير عن معاناته، وعن مأساة وجوده، هو كاتب كردي بامتياز.
أعتقد إن مثل هذه الدعوات، تجد لها صدىً أوسع في أوساط أولئك الكتَّاب الذين استفادوا من واقع اللغة الكردية، حيث أنهم حين يقارنون نتاجاتهم وكتاباتهم بكتابات أولئك الذين يكتبون بلغة التعلم، يكتشفون حقيقة أدواتهم ومدى قدرتهم على التعبير والإبداع.
لايعني هذا أنه على المبدع الكردي باللغات الأخرى، أن يستسلم لقدره، عليه أن يحاول ويجهد ويتوجس باستمرار، على ألا يترك لغته الأم محرومة من قدراته الخيالية والمعرفية والإبداعية والنقدية. أعرف أن الأمر صعب للغاية، ولكن بعض التجارب الواقعية، أثبتوا إمكانية ذلك.

* لم يعد الشعر يُقرأ عالمياً ـ ثمة نغمة تتردد ـ؛ والشعر الكوردي، جرفت جزءاً مهماً منه الفاجعة الحياتية، أكثر من الإبداعية!، إلى أين أودت بك هذه الطوفانات؟ ألن يأخذك النثر إلى حياته!؟.

ـ لايعني هذا أن الأجناس الأدبية الأخرى تقرأ بشكل أفضل، في وقتنا الحاضر. أعتقد بأن قراء الشعر كانوا دوماً قلة، ولا يقرأ الشعر، إلا أولئك الناس الأكثر وعياً لضرورة قراءته، من حيث المستويين النفسي والمعرفي، أولئك باستطاعتهم اكتساب متعة القراءة ومتعة الراحة النفسية. يقول "آلان جفروا": "هناك رجال ونساء لا يكتبون الشعر، لكنهم أقرب إلى آلهة فن الشعر من بعض الشعراء أنفسهم". الشعراء يكتبون فقط من أجل اولئك الرجال والنساء، لأن الثورة الحقيقية للبشر والتغيير النهائي للعالم مرتبط بهم. بالفعل، قبل سنة ونيف كنتُ في آمد، بعد ان أنهيت من قراءة محاضرتي، كان ناشر ديواني قد رتب موعداً مع القراء، كي أوقع لهم على الكتاب، بدأتُ التوقيع، وما أن انتهيت، حتى وجدت فتاة في العقد الثاني من عمرها، تحمل دفتراً أسود بين يديها، نظرت إليَّ، دون أن تتكلم، وضعتْ الدفتر بين يدي، وقالت: "أرجو أن تقبلها هدية مني". كان الدفتر مغلفاً بقماشة مخملية سوداء. سألتها عن ضرورة ذلك، فقالت: إنني أقرأ لك باستمرار، وأحفظ الكثير من قصائدك عن ظهر قلب، وحين قرأت، بأنك تركت كتابة الشعر، حزنتُ جدأً، ولم أتخلص من سطوة الحزن إلا بعد أن مزقتُ أجمل ثوب عندي، وغلفت به الدفتر، ثم مدتْ يدها إلى الدفتر، وفتحته، فإذا بخصلة مقصوصة من شعرها في وسط الدفتر، وذلك حداداً على هجري للشعر. حينذاك تذكرتُ رجال ونساء "آلان جفروا".
إذا كنتَ تقصد بالنثر كتابة الرواية أو القصة، فإنني بالتأكيد، لاأتجرأ حتى مجرد التفكير في ذلك.

* قيل بأن المبدع يكتب كتاباً واحداً.. قصيدة واحدة.. ربما ينطبق هذا على إبداعك بشكل جلي، إذ ثمة تصادياً يتردد في معظم مجموعاتك في الأعمال الكاملة متّشحاً بنبرة الفجيعة، ماذا تقول!؟.

ـ ما يهمني في كل هذا، هل استطعت في تجربتي الشعرية أن أضيف إلى الكردية شيئاً من قلقي والتباسي؟.
هل نجحتُ في سياق الكتابة الشعرية الحديثة على كتابة قصيدة، هي قصيدتي، لغة وخيالاً وإيقاعاً؟.
كتبتُ بحزن يليق بكل الذين فقدتهم، وبكل أولئك الذين أحن إليهم، كنت والألم توأمين في الكتابة. ولم أكتب في حياتي إلا وأنا حزين، وكان هاجسي الوحيد دائماً وأبداً أن الكتابة في الحزن تحتاج إلى لغة باسلة واستثنائية، من حيث بعدها التخييلي والإيحائي. وحين شعرتُ بأنني لم أعد قادراً على منح أحزاني اللغة الجديرة بها عمقاً وفضاءً، توقفتُ عن الكتابة. فمنذ عام 2000 لم أكتب إلا قصيدة واحدة.

* أحمد حسيني يتكىء على ذاكرة نائية، معظم تلافيفها متشكلة في عامودا.. أما تشعر بأنك أسير هذه الذاكرة!؟ وأنه آن لك أن تتحرر منها؟.

ـ من أين سأحصل على ذاكرة أخرى، وطفولة أخرى، ستظل عامودا نبض القلب حتى النفس الأخير. لن أبدِّل ذاكرتي، مهما تبدلت الجغرافيات والأمكنة، لاأستطيع ذلك. منذ عشرين سنة، أستبسل من أجل أن تدوم عامودا، وتبقى في الذاكرة الشعرية والوجدانية. الناس عاشوا غربة أو غربتين، ونحن نعيش اغترابات لاتنتهي، لكل منها دويها وقدرها وطعمها وشكل وجوديتها. مع الوقت تحولت عامودا إلى ألم وسكين حادة قاتلة، وما يؤلم أكثر هو مصداقية قول كافافيس الشهير:
"إن كانت حياتك قد خربت في هذه الزاوية من العالم، فأينما ذهبتَ ستجد خراباً".

* لقد تكرّستَ بشكل أو بآخر كشاعر يكتب باللهجة الكرمانجية، ويكاد يكون اسمك هو الأكثر تداولاً..! لكن، ألا يبعث على الاستغراب، أن لغة يتحدث بها أكثر من عشرين مليوناً، لم تقدر أن تكرّس إلا شاعراً، وبضعة نجوم، تنوس هنا أو هناك، دون إشراق معقول!.. أين تكمن المشكلة!؟.. هل هي في المواهب، أم في اللغة، أم في النقد، أم في ماذا؟؟؟.

ـ الكل حرّ في أن يكتب مايراه مناسباً له. ولكل شاعر، كما أعتقد، تصوراً للشعر، ولدور الشعر، ولأهمية الشعر من الناحية الروحية والجمالية والفنية. وكل شاعر، مهما كان شعره متواضعاً، يفهم إلى حد ما مسؤوليته تجاه اللغة تحديداً.
دائماً، وعلى امتداد العصور، هناك شعراء يقدسون دور الكلمة، وكانت حياتهم مرتهنة بقصيدتهم. ودائماً، هناك من يعتبر القصيدة أداة للهذيان والثرثرة واللعب المجاني، الذي يفضي إلى تشويه اللغة وتشويشها. في لهجتنا، ثمة قصائد مخجلة، تسخر من كاتبها نفسه، قبل أن تسخر من اللغة وأصحاب تلك اللغة. علينا أن نعترف أيضاً بأن واقع لغتنا وغياب النقد عن الساحة الأدبية، ساعدا على ترسيخ المزيد من المباشرة والاستسهال والادعاء والرداءة الشعرية التي ينتظرها النسيان.
رغم أن الكردية تعرضت إلى دمار وخراب وانقطاع، إلا أنها لم تفقد جاذبيتها، لاعلاقة لما يكتب بقوة الكردية أوضعفها. "فقي تيران" كتب شيخ صنعان بلغة سهلة وشعبية مألوفة، لكنه، بإنارتها من الداخل، وبحساسيته الشعرية، منحها فضاءات تعبيرية مذهلة. هناك الكثير من الدجل، والكثير من استغلال غياب النقد، وهناك أيضاً تجارب حقيقية، تحاول بجهد مضنٍ وبأناة أن تجد لها حضوراً متميزاً في المشهد الشعري الكردي.
منذ وجودي في ستوكهولم وأنا أعايش بشكل أو بآخر؛ الوسط الثقافي الكردي تحديداً، أعرف كل الذين يكتبون بالكردية، لي صداقات وعداوات لابأس بها، أغلب صداقاتي عمقاً، لا علاقة لها بشاعريتي، أو بالكتابة تحديداً، رغم إنني أحتفظ بصداقات حميمة مع أغلب المثقفين الكرد، ومن أجزاء كردستان. وعداواتي، في أغلب حالاتها مع الكتاب، هي نتيجة مواقفي من تجاربهم، وحفنة من الأسئلة التي لها علاقة مباشرة بمصداقية الكتابة والإبداع، وكيف أن الكثيرين قد استغلوا واقع الثقافة الكردية، ليصطادوا في مائها العكر.
أحدهم، على سبيل المثال، يعيش في دولة أوروبية منذ طفولته، يدرّس في جامعتها، ويقرأ بلغتها، لكنه غير قادر على كتابة مقالة صحفية لجريدة من الدرجة الرابعة، بينما نجده في الكردية، يمطرنا بمقالات يومية، لاعلاقة لها بالفكر والمعرفة والموهبة، وتنم عن جهل وأمية واضحة، كلام عادي جداً، يمكن أن تسمعه من أي شخص يجيد التكلم باللغة، هذا، لو قارنت هذه الحالة مع آخرين من غير الكرد، تجد أن التركي أو اليوناني أو الفارسي الموهوب، باعتباره لا يستطيع التعامل مع لغته بهذا الاستسهال والاستخفاف، ولغته هي الأخرى لا تسمح له بطرح اسمه دون موهبة أو امتلاك لأدوات فنية وجمالية تساعده على التعبير، تجدهم كتاباً وصحفيين ناجحين في اللغات الأوربية تلك.
لو طرحت هذا السؤال مثلاً: كيف لكردي درس ستة عشر عاماً بالألمانية، ولا يتجرأ على كتابة رسالة بها، أن يكون كاتباً وصحفياً وناقداً بالكردية، فقط بالكردية؟.
شخص آخر، على سبيل المثال، أيضاً لا علاقة له لا من قريب أو من بعيد، بشيء اسمه إبداع أو شعر أو كتابة، ناهيك عن الحدس والرؤى، وجد في الكردية ضالته، إنها لغة سائبة، لا حول لها ولا نقد. حين تقرأ له، تجد أنه يترجم من العربية إلى الكردية، إنه يعرف جيداً بأنها في العربية ستكون مجرد ثرثرة وكتابة من اللادرجة، فالكردية عنده، إذاً، خير وسيلة لنشر هذه البضاعة الكاسدة.
باختصار، هناك انطباع سائد لدى أغلب من يجيد القراءة والكتابة بالكردية، ولدى أغلب الناس هنا، بأن كل من يرغب قادر أن يصبح شاعراً وكاتباً كردياً، طالما أن فلان وعلان يكتب بها بهذه السهولة. بهذا الشكل يمارسون تشويه المشهد الثقافي الكردي برمته.
ليس من الضروري أن نكون جميعاً كتاباً وشعراء، باستطاعة المرء أن يكون ناجحاً في إطار عمله واهتمامه، مثلاً أن يكون طاهياً جيداً، أو تاجراً ناجحاً، أو سائقاً ماهراً!!.
نحتاج إلى وعي ونظرية نقدية، أكثر من حاجتنا إلى أي شى آخر.

* إذا كان سليم بركات قد هيمن بالعربية، وشيركو بيكس بالصورانية، وأنت بالكرمانجية، كيف ستنمو بقية الكائنات الشعرية، ومتى ستشرق تلك النجوم التي تنوس في البعيدة، ومتى ستأخذ فرصتها من التنفس!؟ .. هل هذا الطغيان لأسمائكم عائد إلى قوة موهبتكم، وعادية المواهب الأخرى، أم ثمة كسلاً نقدياً، أم ثمة سوانح أخرى تهيّأت لكم دون سواكم؟.

ـ لايمكن مقارنة سيطرة سليم بركات بالعربية بأية تجربة ابداعية أخرى، رغم أنني متأكد بأنه لولا لغته الصعبة على الترجمة، وما يترتب عليها من تكاليف مادية ترهق دور النشر، لكان سليم بركات أكثر سيطرة وانتشاراً، ليس فقط بالعربية، وإنما بلغات أخرى، وذلك اعتمادا على أسلوبه الحداثي، والنسيج الفني لرواياته، والعوالم التخييلية الفانتازية الأسطورية التي تهم قارئ الرواية الحديثة. وفي هذا الصدد، ليس أمام سليم بركات من مخرج، سوى جائزة نوبل التي ستجبر دور النشر على ترجمته والاهتمام بأدبه المتميز.
شيركو بيكه س، بالاضافة إلى موهبته وشاعريته، درس منذ طفولته بالكردية، هذا إلى جانب أنه نجل الشاعر فائق بيكه س، بمعنى أنه من حيث الاحساس والانفعال متحرر من سيطرة العربية، رغم أنها تشكل خلفية ثقافية ومعرفية بالنسبة له، لكنها لا تصل إلى الحد الذي يفكر وينفعل ويحس بها، وهذه العلاقة الأصيلة مع اللغة، ساعدته على الاحتفاظ بذاكرته الطفولية، وعلى امتلاك قاموس لغوي غني وزاخر، يحتاجه أي شاعر في أية لغة كانت. هذا بالضبط هو الفرق بين من درس الكردية وكتب بها ومن درس العربية وكتب بالكردية.
إنني أرى عكس ذلك تماماً، هناك تجارب عديدة ومواهب تتبلور وتحاول أن تشق طريقها، في الصورانية والكرمانجية، فلو نظرنا الى المشهد الشعري الكرمانجي اليوم، لوجدنا أسماء من الجنسين تعمل بأناة وبوعي على امتلاك أدواتها ولغتها ولونها ورموزها وطعم قصيدتها؛ كل هذا إلى جانب الكثير من الثرثرة واللاشعر والابتذال.
الأهم من كل ذلك، في الشعر تحديداً، باعتباره نوعاً أدبياً، عنصريًا يعتمد على لغة الأمة كما يقول إليوت، أن يتحرر الشاعر من سيطرة اللغات الدراسية على خياله ومشاعره وانفعالاته، وأن يدرب ويمرن ويلقن ويعلم وينمي ذائقته وأحاسيسه بلغته الام، بمعنى أن يتخلص من حالة الترجمة في روحه وخياله، وهذا لا يتم إلا من خلال اللجوء إلى الكلاسيك والفلكلور والأغاني الشعبية وإلى مخزون الكردية في اللهجات الأخرى.

* (التمثالُ النصفي لـ صوفي شريفو وأبنائه):
http://www.tirej.net/afifi_3.htm

***

النقد

منى كريم

أحمد حسيني.. الميت في حلمه

تعتبر شعرية أحمد حسيني شعرية خصوصية ومتخمة بالحس الإنساني، لأنها في الدرجة الأولى تنطلق من حسه كإنسان كردي، يختار حلمه واللاوطن والموت سويةً، بشكلٍ إجباري وغزير بالحزن. إنني أرى في قصائده تلك العلاقة الحميمية بين الذات المساوية للآخر، كتلك الموجودة لدى رامبو، يحاول خلالها أن يضع روحه عبر مسح رؤوس الآخرين بكل لطف، أو العكس، حين يكون الآخر دافعاً في كتابته لنصه، الآخر الحزين والمتعب، خاصة الآخر الكردي الذي يمثل في جوهره صورة لتشظي الإنسان. أحمد حسيني شاعر بجينات جديدة، إنه امتداد لتراكم شعري كردي يحاول أن يضيف له المزيد عبر حميميته مع القصيدة، يحتوي هذا التراكم ويرصد علاقاته الجديدة مع فكرته كوجود مستقل. أمقت أن أضعه في جمل مرصوصة، أشعر أن الكتابة عن كل هذه الرقة الموجودة في قصائده أمرٌ صعبٌ، إنني أستمع لأنفاسه القوية في أذني تحلق بجمال.
يملك الشاعر كماً كبيراً من النوستالجيا المفعمة، إنه بالإضافة إلى إخلاصه في أن يكون متشائماً، يعمل على تعرية واقعه، ويريد أن يكون كما قصيدة بلا إضافات أو زوائد عبثية. هنالك العديد من الجوانب التي تجعلنا نرى البعد السحيق لحزن أحمد حسيني، جوانب لحياته الشبيهة بمحرقة في حزنها وجمالها. مشكلة الشعراء أنهم يعانون من الهذيان وهذا الإسهال اللغوي حول الحياة دون أن يكونوا قد لامسوها بشكل حقيقي بعد، وهنا أرى أحمد حسيني في تجربته، لأنه يعرف عما يتكلم، وماذا يحتضن..
الكثير من المثقفين الأكراد تحدثوا عن أحمد حسيني، وتعمقوا في وظيفة اللغة الكبيرة في شعره، لكنني للأسف جاهلة بهذا الأمر، كوني لا أجيد اللغة الكردية ولم أكن محظوظة بذلك، لذا فأنا الآن أتعامل مع أحمد حسيني بشكل مختلف قليلاً وبعيداً عن دور اللغة الكبير في شعِره.

***

في قصيدة "أعود منكم" والمكونة من ستة مقاطع، يمثل كل مقطع حالته الخاصة، وغير المنفصلة عن جو النص العام ووحدته العضوية، إنها أشبه بالأسبوع المكون من سبعة أيام الذي خلق فيه الله الكون ـ حسب الأساطير الدينية ـ وترك اليوم السابع للراحة / بينما ترك أحمد حسيني المقطع السابع كتعبير عن حالة فقد وصمت. هذه القصيدة فيها كم كبير من النوستالجيا التي تطرقت لها، بقدر ماهي مشحونة بالضجة الكردية، ضجة الرصاص الذي يفزع أطفالهم ويسلبهم خزائن أحلامهم:
"أُنعِشُ عتباتكم بألحان النحيب
بشقوق مغلاق الباب،
بنسمةٍ قاسية،
بالدروب الميتة..".
الشاعر هنا يقترب كثيراً من مخاطبة الآخرين المرتبطين بذاته، مما يمنح القصيدة المزيد من الدفء، يرسم هذه العلاقة كحالة حنين وعشق غير مقتصرة على رائحة الموت المنتشرة بقسوة. لا يرغب الشاعر في أن يكون رمزياً، لا يرغب في أن يختبئ وراء الأشياء، أو يجعل هذه الأشياء بحد ذاتها مغطاة، لأنه يطمح لكتابة أخرى ذات طابع وسطي غير أناني، حتى يحقق للقصيدة أن تكون فكرة من أجل الإنسان، لا باعتبارها مخلوقة كي تكون فكرة فقط. بذلك تصبح قصائد حسيني نصاً لمساحاتٍ من الكلام، الكلام الذي يُرّد الشعر إليه كما يرى هيدغر.
لقد حمل النص منذ البدء متخيلاً جديداً للعودة، ومن ثم الانطلاق، فهو يصل لينطلق مرة أخرى ، واكتسح بذلك المناطق المجهولة من سرديته الخافتة، فبعد التجارب الشعرية التي تمارس قمع فكرة "السردية الخافتة" وإنكارها، أو النوع الآخر من القمع المُتمثل في التعامل مع الشعر باعتباره مساحة مليئة بالسرد. شكل الشاعر في نصه هذا حركة هندسية بين الذات والآخرين باعتبارهم أنا أخرى، أو ما يجب أن يرتاده ويرصد به الأحاسيس.
إن إحساساً مباغتاً يُرفع في اتجاه هذه العلاقة التي لا يمكن أن تعتبر حكراً له بقدر اعتبارها تمثيلاً لوجوده في العالم، ودونه تنقص كينونة الإنسان. الحديث في هذا النص يرمز للإنسان بالشيء غير المعلوم أو غير المنتهي.

***

النص الثاني ألا وهو "مثلما الموت، أنت تدون" ينتقل الشاعر من فكرة العودة إلى فكرة الموت، رغم أن قصائده تحفل بهاتين الفكرتين كعناصر أساسية ومحركة. كيف للإنسان أن يكون بحد ذاته سائل موت متحول؟ هكذا كان "أسلان" الذي أهدى إليه الشاعر قصيدته وهو الصديق الذي أخذ الحقيقة معه ـ على حد تعبير الشاعر-. سيكون من اللازم أن نتذكر هذا الترابط بين صديقه الموت، وموته الصديق، لأنه في الإهداء يجعل من صديقه موتاً، ومن مخاطبته في القصيدة للموت صديقاً. في المقطع الأول في هذه القصيدة أحس بهذه الصداقة بين الشاعر والموت دونما أي حقد يبديه الشاعر تجاه صديقه الموت، بل إنه يدعوه ليصبح بمستوى حركته وصعلكته وتطلعه نحو العالم. في المقطع الثاني يطلب الشاعر من الموت أن يقدم القربان لـلعلاقة التي يعيشها حديثاً معه، يطلب منه أن يمنح الآخرمن نفسه، وأن يمنحه ـ أي يمنح الشاعرـ القليل من موته، وبذا لا يصبح الموت فقط صديقاً للشاعر، بل إن الشاعر يصبح صديقاً لهذا الموت. ثم تبدأ في المقطع الثالث مرحلة تحول الشاعر إلى موت، موت مرعب وله مخالب، موت بكينونة مستقلة غير تبعية تحاول أن تعرض مدى قسوة الأشياء من حوله بألوانها المتعبة والتي في ذاتها قد تبدو أكثراحتراقاً من أي حالة فقد. أما المقطع الرابع ينتقل حسيني للمكان، لعاصمة موته، "عامودا"، مدينته التي هيّأته بشكل مبكر، ليكون موتاً أبيض، إلى أن يفقد ألوانه لاحقاً مع رحيله. المقطع الأخير من القصيدة هو المرحلة الأخيرة في صداقة الموت بالشاعر، حيث يتحول الموت إلى حقيقةٍ شموليةٍ وآسرة، تختار له أشياءه وتفاصيله، والأهم من كل ذلك أنها تختار له (أنا) ـه .
"أنتَ الذي اخترتَ صرختي، أيها الموتُ،
ومثلما الموت
فأنتَ الذي تدوّن للزهورِ
المقابرَالمنسيةَ لجسدي،
أيها الموتُ".
يوقظ الشاعر في ملحمته (ملحمة أحمد حسيني) الطبيعة الكردية، كي تكتب نصها الخاص، يجعل كل الأشياء تتحدث، يستنطقها، يجعلها تتحرك بشكل انسيابي ليرصدها، فيحولها بذلك إلى رموزٍ ممتلئة الحضور. هنالك حالة تناص بين هذه الطبيعة التي تنطق، وبين حالة الشاعر الذي يستحضر في لحظته الآنية لحظةً مسلوبة ومنقرضة، ليرتكب فعل تجاوزٍ ضد الجمود ويخلق تحولاتٍ جديدةٍ خاصة. مستفيداً من تقنياته السردية، ليرتفع بالنص بعيداً عن الإطار الضيق، وعبر اللغة المسرحية، أو لربما السينمائية في حركتها وتنقلها، بالإضافة إلى حركة التوظيف المتمرسة التي تشير لأسئلة ودلالات تكسو العالم بثياب جديدة، والحوارية القائمة بين شخوص النص. إنها ملحمة تسبب لي الأرق، لأنها تجعل من الشعر مادة مكثفة واسعة منطلقة وغير متراجعة، كما يصنع منها منطقةً خاصة تتعامل بشكل غير تقليدي مع الأشياء، وأنسنتها واستنطاقها. وبالتوازي مع روحانيته يتجاوز ما يسمى بالجفاف الشعري. الهدوء الذي تتسم به الملحمة ينتج عن كلمةٍ بإمكانها اختراق الآخر دون اللهث وراء الرموز المفرطة والمفتعلة أحياناً. لقد تكبد حسيني عناء التقاط الجزئيات، واستحضارها كعالمٍ عبر القصيدة وأدواتها الخاصة.

إننا نقف أمام تجربة شاعرٍ كبير، (شيخ شعر)، شاعرٍ مشغولٍ بكتابة جملةٍ شعريةٍ واحدة تؤسس وتضع خطاً واضحاً لها في الأفق، تستجيب لما حولها من إشارات، ومرتكزة على همها المضيء، مما يجعلنا نشعر بتلك العزلة التي تفصل الشاعر داخل الزمن. التجربة هنا تجربة جماعية، تحاول لفت الانتباه إلى معاناة ما مدفونة، وتتنوع عبر ثيماتها لتطرح كل مرة نفساً جديداً، بعيداً عن الحديث حول شكلانية الشعر (ظاهره). إنه في الحقيقة نموذج للنظرية الوجودية القائلة:
"الوجود الإنساني حوار مع العالم، والنشاط الأشد احتراما هو الإصغاء وليس الكلام"، لذا يصغي حسيني بتمرس لما حوله قبل أن يطلق كلماته.
هذه التوطئة بين جماعية المعاناة وفردانية التحدث الشعري، دليل على أن الشاعر لم يصل بعد إلى نقطة استقرار، بل إنه يرغب في تحريك التفاصيل فينا، ويبقى منكباً على حالة الترحال والتحول المستمرة وفقاً لهواجسه ومنطلقاته. نصوص حسيني التي قرأتها (وهي نصوص قليلة من حيث العدد) تظهر لي أن هذه المثلثات تشغله، من حنينٍ و ألمٍ، والنزوح إلى كتابة سيرة ذاتية عنه (في الظاهر) وعن الجميع (في الباطن). بعض ما قرأته يشعرني بهذا الاهتمام الذي يوليه الشاعر لسردية القصيدة، ففي الشعرالعربي مثلاً يمقت الكثيرمن المتلقين - سواء كانوا من النخبة أم غيرهم ـ سردية القصيدة، ويعتبرون هذا الشيء معيباً لها، ودلالة مكررة على تقليد الشعر الغربي، وهذا الهوس بقصيدة النثر، بينما أشعر دائماً بهذا الاحترام الكردي لمفاهيم كثيرة منها السردية في القصيدة / والتعبيرية الحالمة.
يلفت الشيخ أحمد حسيني انتباهنا إلى ما يبثه من هدوء وسكينة عبرقصيدته، فهو رغم روحه البكائية الحزينة إلى أقصى الحدود، يحاول أن يضع موسيقى مختلفة لحركة دموعه، أي أن يصنع موسيقى غيرثابتة عبرالمعنى لاعبر الشكل. ويجانس ما بين موسيقى المعنى وصورها ليخلق مادة جديدة تترك الكثيرمن الافتراضات في الذهن.
ومن بين هذا التوافق ما بين باطن وظاهر النص، يلعب الشاعر على ثنائيةٍ أخرى، ألا وهي ثنائية الزمان والمكان، ورغم أنني لا أستشعر بتلك المقاديرالمحددة من الزمن مثل المقادير الزمنية التي تضعها اللغة، والتي يتعمد الشاعر إلغاء وظيفتها، لتصبح الخيارات مفتوحة، لكن عبر آلية التحول والتحرك في أجزاء القصيدة، تشعر بمرور الوقت ليصبح شاباً تارة و"شيخ وقت" في تارةٍ أخرى ـ حسب تعبير البسطامي ـ بينما نجد أن المكان، وإن ذُكر بشكل تصريحي أو ضمني، فهو مفترضٌ بشكلٍ مسبق، بحكم أن الشاعر إنسان كردي، أي إنسان يملك خاصية فردانية، فيقوم ذات مرة بذكرأسماء المدن، ثم يترك لأشخاص النص أوعوامل الطبيعة تدلل على المكان، وهذه الثنائية الزمكانية تلعب دوراً متبادلاً في تحريك ذاتها وتحريك النص، فهنالك تأثير مماثل بينهما، فليس بإمكان المكان أن لايتحرك حين يتحرك الزمان، إنهما يملكان حركة واحدة متوازية، لكنها في باطنها متضادة رغم هذا التصالح حيث بإمكان الزمكانية أن لا تتوافق في نتائج أفعالها.
تكاد الحياة في قصيدة حسيني تبحث عن معاهدة صلحٍ / دلالة على نموذجية الرؤية لدى الشاعر واستغراقه بلا ضجة في زخم ما يعيشه وما عاشه قبل حياته وما سيعيشه بعد موته، باعتباره وطناً يشبه السؤال الذي لا إجابة له، هنالك اللادهشة التي يبديها حسيني إزاء الأشياء الميتة التي تسكنه، واللامبالاة نحوها بحكم أنه يعرف مسبقاً نهايتها باعتبارها جزءاً منه، وهو الكائن الفاني بشكل مسبق، وكأنه اختار ذلك في وقت ولادته تماماً.
كيف لكائنٍ ما أن يـُـقتل دون أن يتلفظ بكلمة أخيرة، أو رفسةٍ أخيرة ؟ هذا ما يفعله أحمد حسيني .

http://mona0.jeeran.com
mona@ofouq.com

***

خالص مسور

أحمد الحسيني: المزج بين الأسطورة والواقع

(قصيدة الحجاب)
"عندما تغزل في كبدك الخوف الأبدي
مغازل هذا المساء
على أعتاب الحدود، وفي أحضان ليال
غاب فيها القمر
تتحول حياتك إلى سخرية ونكت فسيحة
وحزام والدتك، وأشواك صيف طوروس اللطيفة
كان خالك يدير ظهره لرياح القدر، ميمماً نحو معجم التخوب المتلاطمة
كان يتفرس فيك وفي اندفاعك، وبنظرته الحادة كان يرمق "غزالي"، وخطوط أعمدة معجم التخوب المتلاطمة
كان دخان السجارة يتلوى نحوحقول الألغام، ولهاث رجال الحماية، ينسكب فوق رعبك.
وفجأة
سحبتك غزالة من يدك، ميممة بك نحو البيادر".

هنا نقول: أن عنوان القصيدة المؤلف من كلمة واحدة لاتساعد كثيراً على فك مغاليق النص الدلالية، وهو من سمات الشعر الحديث الذي يوغل في الغموض بعيداً، ولكن القصيدة التي تدخل ضمن الشعر القصصي، تفصح عن نفسها من خلال عباراته الفولكلورية المنسوجة في البيئة الكردية بعناية شديدة مثل: المغزل- التخوب- أشواك طوروس- الخال- دخان السيجارة- البيادر...الخ. وعبارة المغزل التي جاءت بصيغة الفاعل، أشاعت جواً من الحركية في فضاءات مضمون القصيدة، التي تفصح عن نفس شاعري طويل، متمثلة في الجمل الطويلة التي تدل على الهدوء والثقة بالنفس، حيث استطاع الشاعر بخياله الخصب العميق، تركيب الصور وتلحيمها ضمن سياقات مشاهد درامية، مكنت المتلقي من شم رائحة الماضي بكل حسناته ومآسيه، وفيها تماهى الماضي بالحاضر، والزمان بالمكان، فخرج الشاعر عن قوقعة جسده المادي، محلقاً بخياله السابح في فضاءات الرمزية بين النجوم عالياً، يستقرأ مصير وطنه المجهول، وقد انعكس ذاك الخيال على مرآته المادية فانثالت عليه الخواطر والأحاسيس انثيالاً، رابطة بين مشاهد وصور متتابعة من الحياة الفولكلورية للمناطق الحدودية الكردية، حيث تبدي القصيدة تلاحماً نغمياً دلالياً وانسجاماً في السياقات اللفظية، لتدل على أن الشاعر متمكن من أدواته التعبيرية، قادر على التلاعب بالألفاظ حسبما تقتضيه الموقف والرغبة، ويتملك ناصية اللغة بموهبة إسلوبية غاية في السلاسة وعذوبة التعبير، بحيث يعطيك في كل بيت، وشطر، وعبارة شيئاً جديداً، يثير الفضول والإنتباه، ويطرد السأم والملل من النفوس، وذلك من خلال مارأيناها من مشاهد حياتية رسمها بتلك الكلمات والجمل،التي أكسبت النص إيقاعاً داخلياً، وتوتراً صوتياً دلالياً مدهشاً، فالحسيني تائه في بحر من العشق الصوفي لوطنه، الذي يعبر عنه من خلال لغته المترسخة في داخله، لتتحول اللغة إلى رمز لدموع الأم الباكية، وقد بلغ به الوجد إلى حد الفناء الصوفي، في إيقاعات الزمن الكردي العصيب، في وهج شاعري ساحر أخاذ، ثم الإبحار في عالم الأفلاك والتخوب والحدود، والقيام برحلات زاهية في أعماق الصور الأسطورية للوحات حياته الجديدة التي رسمها بمهارة فائقة، والتي تنكشف له بكثير من الفتنة والصفاء، حيث تمتاز صوره بالإبتكار والفرادة وقوة الإيحاء والرمزية والمجازية. فهناك فيض من صور تتلاحق في تدفق إبداعي مثير، قد يعجز القارىء في كثير من الأحيان عن فك مغاليقها ومعانيها، معبرة عن عمق الجانب الوجداني، وعمق ظاهرة التخييل لدى الشاعر، وعن رؤيته الفلسفية إلى الحياة والكون، وقد تلتحم صوره الفنية الرامزة دوماً، مع المحاور الفكرية للنص محملة بالمعاني الإيحائية في الحدث الفني الكلي، وتنشيط فعالية النص، حينما يستغل الشاعر كل العناصر الديكورية لديه، نازعاً إلى صوره المبتكرة يعبر بها عن أحاسيسه التي هي في نفس الوقت أحاسيس شعب ووطن سليب، وفي نصوصه تتحلق الصور التي تربط الزمن ودلالته، فينقلها إلى دائرة اللوحات الفنية التشكيلية، وإلى مشهد حياتي مبتكر نابض بالحيوية والحركة، من خلال تدفق الظواهر الجمالية للوحاته وحركية وطغيان الأفعال النحوية، يمنح اللوحات النصية بعداً حيوياً، يتجسد في صورة إنسان ينطق. فالشاعر رأيناه كمصور فولكلوري بارع، ورسام حاذق للوحات تراثية تغشاها مسحة من سيمائية التأثر والحزن الدفين. وفي كل لوحاته يظهر كفنيٍّ متخصص في التراث الكردي، وقد أفلح في قصيدته هنا في التقديم لفكرته بصورة ساحرة للبيئة االكردية الإجتماعية - الطبيعية - السياسية أيضاً. فالشيخ الشاعر أحمد الحسيني مهندس بارع في رسم ملامح حياة جديدة لم يتطرق إليها غيره بمثل هذه الكثافة والشاعرية، فإذا كان في الحياة هناك مفهومي الخيال والواقع، فإن الحسيني قد جمع بصوره التعبيرية المبتكرة بينهما، أي بين سحر الخيال وجمالية الواقع، وأضحت أشعاره ميداناً رحباً لظواهر ومفاهيم حياتية من نوع جديد، أبدعها بجمل وتراكيب، استطاعت أن تضخ إكسير الحياة حتى في الشجر والحجر، وكل شيء في قاموس حياته الجديدة حي ينبض بالحركة والجمال؛ من قبيل:
(حكة ترابك. برية جسدك. أقدام صرخاتك. فص بيت النمل. معجم التخوب. قصائد التخوب. ورود الخوف. الغبارالحارة. أفق أنينك. أفق الدمار...الخ). فهذه هي حياته السحرية الجديدة التي ابتكرها الشاعر في سوية أفق سماء قصائده الجميلة. وفي هذه القصيدة يصورالشاعر الحالة الراهنة للبلاد الكردية، وحالة التقسيم والتجزئة التي تعرض لها وطن الكرد، ومشهد شاب كردي، يريد اجتياز الحدود مع خاله إلى الطرف الآخر، ثم حالة القلق والترقب والخوف من قبل الخال على مصير ابن اخته، وجاء بالخال هنا لأنه أكثر حناناً والتصاقاً بالأم ووليدها، قلق على مصير ابن أخته الشاب، الذي بدا يخط أولى خطواته نحو المجهول ولغاية سامية، رغم أنه سيتنقل بخطواته الحذرة ضمن وطنه الواحد، ألا أن هناك من يترصده ويعد عليه خطواته وأنفاسه، وقد بدا دخان سيجارة الخال يتلوى متثاقلاً - كحلم وخيالات ذاك الشاب - نحو حقول الألغام الخطرة، وحيث تشكل الألغام الرمز المزمن والثقيل لتقسيم موطن الكرد وترابه، وفي لحظة تأمل جنح الخيال بالخال بعيداً، وبدا يتدافع في مخيلته مشهد مستقبل ابن اخته، الذي استعد معه للرحيل لاقتحام ذاك المصير الضبابي المجهول، مشهد بدا متسربلاً بكثير من السحر والإتقان، حيث أبدع الشاعر المشهد في مخيلته بذكاء كبير، مما يدل على قوة التخييل لديه وعلى إحساس شاعري رهيف، يحفز الذكريات من أعماق اللاشعور، ليستعيد ذكرى بطولات خمدت بريقها، وتاريخ طوى الزمن صفحات أمجادها.
وفي المشهد الأول من القصيدة يقول الشيخ الحسيني:
(- من خلق الماء؟
فك خالك جود الماء من حول خصره
والتفت إليك
من دموعنا ياولدي، من دموعنا!
أول دمعة مست شفاه الأرض كانت دمعة والدتك.
مع دموع والدتك
ومن أكباد جرحى هذا الوطن
الجداول
و
الأنهار
انبثقت
- إذاً فأنا الآن أرتوي من دموع والدتي أيها الخال؟).
بدأ الشاعر بسؤاله المحير عن الماء كيف خلق ومن خلقه، ليلفت نظر القارىء ويهيئه لتلقي ماهو آت. ثم بدا يصور مشهداً واقعياً من الحياة الكردية البدوية أو حالة السفر في الجبال الكردية
(فك خالك جود الماء من حول خصره).
وهو مايناسب موضوع الشاعر، والمشهد بدا مفعماً بالأصالة والتشبث بالأرض، حيث الدموع التي سالت مياهاً، انحدرت من عيون والدة الشاب الكردي، وهنا تشابه مع الأسطورة المصرية التي تذهب: إلى أن الأمطار ماهي إلا دموع عيني الإلهة إيزيز الباكية على زوجها أوزوريس الذي قتله عمه الشرير الإله سيت. مؤكداً ـ في الوقت نفسه- على أصالة وعراقة الشعب الكردي في وطنه متمثلة في كلمات مثل:
(جود الماء. دموعنا- الأنهار. الجداول. دموع والدتك. انبثقت....)، أي أن الشاعر يريد هنا التوكيد بأن حتى أنهار كردستان، بحيراتها وجداولها، هي انبثاقات دموع أمهات الكرد الحزانى، وكل قطرة من ماء هذا الوطن هي دموع هذه الأمهات الباكيات، وهي المفاجأة من هذه المعلومة الجديدة التي تعلمها ابن الأخت من الخال!
(إذاً فأنا أرتوي من دموع والدتي أيها الخال؟).
دموع مست شفاه الأرض، تلك نسيج لقصيدة حية متكاملة ومتماسكة ترتبط عناصرها الداخلية والخارجية، بما يمنعها من الإنفلات والتناثر، حيث التناسق بين القيم الفكرية والعاطفة الوطنية المشبوبة. وكفاءة القصيدة عالية، حيث لايحتاج القارىء والمتلقي هنا إلى الإستعانة بالقواميس اللفظية، لفهم الموضوع بمزيد من الوضوح لاستجلاء الأمر، وهذه ميزة الشاعر المبدع، والأسلوب الذي جاء بضمير المتكلم كان في غاية السلاسة والعذوبة، وعلى شكل محاورة درامية معبرة عن الحالة الكردية المعاصرة، حيث تتعاقب فيها الصور الشعرية ذات الصياغة الشاعرية الجميلة ضمن فكرة القصيدة والتي ألمحنا إليها سابقاً مثل:
(سنونو الظلام. أزدهار الموت. خزينة عرق البغال. مغازل المساء. لهاث رجال الحماية. أنين التراب. آهات نظرات الصباح).
وهناك تعارض واضح بين البداية من جهة، الذي بدا هادئاً في سياقاته من حيث الألفاظ والصياغة الفنية التي بدأت بالفولكلور، حيث الفولكلور يتصف ماعدا الجانب الحربي منه، تتصف كلماته بالهدوء والتأمل والبعد عن الإنفعال، وبين الخاتمة المجلجلة من جهة أخرى، وهذه صفات شاعر متمكن من أدواته التعبيرية، خصب الرؤى والخيال.
بينما تدفقت السيول في خاتمة القصيدة، وعندما تفيض الأودية بالسيول، تنثال نحو القرية ـ حسب تعبير الشاعر - أو الطرف الآخر كل أوزار الحدود وأوساخها؛ وبذلك كانت لهجة الأمل والتفاؤل والإنتصار واضحاً على نهاية القصيدة، وقد أكد عليها هذه الصورة الشعرية مع السيل ومع هذا الشطر المعبر:
(وكان جانو ينقر بيضة الحياة).
والبيضة هي رمز الحياة، ونقرها يدل على استمرارية الحياة وولادة آمال جديدة.

***

في قصيدته، "عندما كان"، يقول الشاعر:

(لون ترابي
ينجرف نحوك
كان انتفاض دمك يهدأ
وماء صوتي
فوق جراحاتك يجري
كان ينعقد لسانك
وتتوه بوصلتك
فلم تميزنا عن بعضنا
أنا وأنت...).

وقد أحسن الشاعر هنا اختيار الألفاظ التي كونت لحمة النص وانسجامه، من خلال السياقات التي وردت فيها، حيث انزاحت في بعض المواضع عن معانيها المعجمية المعتادة، وبذلك بدا الشاعر متحكماً ببلاغية الألفاظ المعبرة عن موضوع النص، وقد عبر عن موقفه من همومه الوطنية وعن جراحات وطنه، من خلال تلك الألفاظ المتناسقة التي استطاعت أن ترسم حقلها الدلالي الخاص بها، والذي هو جزء من الحقل الدلالي العام، فكان صوت الألفاظ متميزاً مثمراً وغنياً للعملية التواصلية، كما ساهم تكرار بعض الكلمات في البناء الدلالي الرصين للنص، حيث أفلح الشاعر في الإتيان بكلمات وألفاظ تساعد حروفها على التواصل والإلتقاء ضمن سياق تركيبي مرن، مما يجعل اللفظ سهلاً على السمع واللسان معاً، وقد ساعده الإشارية في الضمير المخاطب للوصول إلى المشاركة الوجدانية والتفاعل الحيوي والشعور بالمسؤولية، لتساهم في رسم جمالية النص الشعري المتمثل في:
(انجراف لون التراب. ماء صوتي. تتوه بوصلتك). وقد شبه اللون بتربة تنجرف، ولكن العبارة أضفت المزيد من الغموض على بنية النص، وهو غموض غرضه لفت النظر إلى ما يذهب إليه الشاعر واستدراج القارىء للتأمل والإجتهاد في استخلاص المعاني، والدخول في عالم النص المفتوح على شتى الإحتمالات.

(بين حكة تراب صدرك ونحرك
كان أنيني... يعلو
وتحت شليل ثوبك وأقدام صرخاتك
لم أتخثر
ولم أختمر
من
وبإعصار نشوة برية جسدك
وبالفص الأسود لمسكن نمل منحدرك
أنتشي فرحاًً
حيناً
وحيناً... خائفاً..).
ثم يقول:
(عندما
تمسكت بشجرة خاصرتك
كنت أتمايل وحدي أمام العواصف
أتأرجح في أفق أنينك
وفي منعطف الطريق
أصبحتَ
كما الشمعة تنتحر
ودمدم، وحفلة طرب حجرية
وضوضاء شعرك الصبور
وشروق نهديك، وهدهدة سرير طفولتك
ألقيتها في وجه رعشة الإله).

يبدو الحسيني هنا كثير الإعتزاز بوطنه كردستان، تمتح قصائده من حب الوطن ومن آهات قلبه وأنين جراحاته الدامية، إنها قصائد من وهج احتراق الروح لدى هذا الشاعر المبدع الغيور، يذوب في عشق الوطن يسكر في حبه ولايرتوي من لذة شرابه، يتحد مع تاريخه وترابه، مع نهره وطيره، شجره وحجره، متمسك بهذا الوطن لافاً بيديه القويتين حول خاصرته، تميد به العواصف الهوجاء والمحن الشداد، يتأرجح فوق أنينه، ولكنه صامد كالطود الشامخ، يستعيد ذكرى تاريخ وطني مجيد، وبطولات قلعة دمدم وملحمة الخان ذي اليد الذهبية. ولكنه يشير إلى أن الوطن لايتحرر بالعودة إلى الماضي، ولا بالحجب، والطلاسم، ولا بالدعاء إلى الإله، الذي بدا بدوره مرتعشاً أمام ما يجري لشعبه ووطنه، بل الأوطان تتحرر بهمة شبابه وسواعد رجاله، ولذلك أظهر للعالم بطولات ملحمة قلعة دمدم، وجمال الوطن، ومرابع الطفولة فيه، ليقول هذا هو تاريخنا، وهذا هو وطننا الآسر الجميل، ولن نتخلى عنه مهما عظمت المحن والمصائب، ثم ألقى بهذه جميعها في وجه الإله الراعش، ألا فالتهي برعشتك أيها الإله ولكننا نحن الصامدون، وكأني بالشاعر يردد المثل الشعبي الشهير: "ماحك جلدك مثل ظفرك". فكانت الكلمات التي عبر بها الشاعر عن إحساسه العميق تجاه وطنه الجريح تتمثل في:
(الصرخات. العواصف. الأنين. الإنتحار. انطفاء الشمعة. منعطف الطريق...الخ). تلك كلمات تعبر خير تعبير عن حالة وطن الشاعر في ظل العواصف الهوجاء التي داهمته على مر السنين. كما أفلح الشاعر من خلال قصائده في رسم لوحة فنية بارعة بريشة ذات إيقاعات سريعة متتالية، امتزجت فيها الواقع مع حرارة القلب والإحساس الإنساني العميق، وقد اعتاد الحسيني ـ وكما قلنا- أن يضعك بأشعاره في لون حياتي جديد ذات رقة وعذوبة، فيضفي الحياة حتى على الجماد ويجعله ينطق ويحس كالإنسان تماماً. فالشاعر كالمسيح يحيي ماحوله من أموات وجماد بلمسة من عصاه السحرية، نرى ذلك من خلال:
(أنين له أفق، وجسد كأنه برية، وأقدام لها صرخات، وتراب لها أحضان...الخ).
وفي هذا البيت الرائع
(في ضروع الفلك اجعلوا نداءات الدم تختمر).
وهنا أوصل الشاعرالأرض بالسماء، حينما طلب بسكب الدماء بدون حساب، حتى يختمر الدم ويتخثر كالحليب ليس في الأرض فقط، بل في ضروع أفلاك السموات السابعة، تلك صورة رائعة لمعاني التضحية، ورنين صدى الدم المراق على مذبح الوطن، دم اهتزت له الأرض والسموات، هنا ثمة ربط بشكل ابداعي متقن بين الواقع والمتخيل، الكلمة الواقعية وصفتها المتخيلة.
(الضرع. الفلك. النداء. الدم. نداءات/ تختمر).
إن الشاعر الحسيني بدا لنا يرسم لوحات مبتكرة ببراعة فائقة، إنه فنان لقطات نادرة لما خفي عنا من الحياة الجميلة، فيضعك في محيط بحر حياة زاخر بالجمال والخيال، فلن تتمالك نفسك من التجاوب، والإندماج، والإبتهاج، مع المعاني الشاعرية الجديدة، وكأن لسان حالك يقول: كيف سلبت مني هذه الحياة الجميلة ياترى؟ وهو إلى جانب هذا وذاك، مهندس ألفاظ مبدع، قل من يجاريه فيها، وهو ما يجعل خارجك يلتحم بداخلك، في ملحمة حياتية لم يعشها من لم يقرأها له جيداً.

***

وفي قصيدته، "كالموت تنبت لك شفاهاً":
(مثلما أهيىء دموع الرحيل
فهىء أنت سهامك أيها الموت.

لاتخف من موتي أيها الموت
لقد تركت اعصاري في عشك.

لقد كبرت شبابتي في مقبرة عامودا).
غرائبية هذا العنوان تدل على المقدرة التخييلية لدى الشاعر، وهو ما يدل على أن الشاعر يطور لغته وصوره الشعرية بشكل متوازن ومكثف، وما يعتبر أيضاً نوعاً من تطور في ذهنيته الفكرية والجمالية معاً، بالإتكاء على مستند تراثي واقعي من البيئة والحالة الكردية ماضياً وراهناً، كما يدل على الهم الوطني والقومي أيضاً، هذه الواقعية مميزة في الفعل الحاضر (تنبت) الذي يشيع جواً من الحركية والإنفعال في مضمون القصيدة، والإنفعالية في عنوان القصيدة تعكس حالة من اللاشعور لدى الشاعر في مقاومة الظلم والعدوان، حالة استطاع الشاعر تجسيد صورها بكل جلاء ووضوح، رغم الطابع الغرائبي لبعض كلماته، مما أضفى عليها الكثير من الإثارة والتشويق. وجاءت كلمة (الخوف) بانزياحه الجديد بليغة الدلالة في مبناها ومعناها، لما فيها من قوة تحد ومكابرة على المصائب، ويبدو من خلالها الشاعر مستهيناً بالموت غير هياب ولاوجل في سبيل مبادىء وأهداف سامية، فهو لن يبالي بالموت، بل يتحداه في عقر داره، بل أن الشاعر يبدو وقد جهز نفسه للرحيل والخلود الأبدي، معبراً عن جبروته أمام الموت بـأنه (العاصفة التي اقتحمت عشه)؛ وقد يخافه الموت وهو لايخافه.
(لاتخف من موتي أيها الموت
لقد تركت اعصاري في عشك).
فهو هنا يتشابه في موقفه من الموت مع موقف الشاعر الانكليزي (جون كيتس) الذي عشق الموت في رسالته إلى خطيبته يقول فيها: (هناك أمران خصبا الجمال أحلم بهما: حبك وساعة موتي). مع فارق، وهو أن الحسيني لايعشق الموت المجاني، بل الموت في سبيل هدف سام، ووطن مكلوم، وشعب غدر به التاريخ والجغرافية معاً، فيرى الموت شيئاً عادياً، حيث يظهر هنا فلسفة الشاعر تجاه الموت، مظهراً الكثير من الشجاعة أمامه.
وفي هذا تكون وقفته أكثر شجاعة أمام الموت، من وقفة سيف الدولة الحمداني، وأبلغ من المتنبي في التعبير عن شجاعته أمام الموت، يقول المتنبي في شجاعة ممدوحه:

وقفت وما في الموت شك
تمر بك الأبطال كلمى
لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم

هذا التوازي بين (الموت- والردى، وبين هزيمة- وباسم) ما يدل على الإنتصار وإركاع الخصم في نظر المتنبي، له مايقابله بل أكثر قوة منه ـ وكما قلنا- في التعبير عن الشجاعة والإنتصار لدى شاعرنا الحسيني، فالذي يخاف الموت موته، هو المنتصرفي منافحته للخصم لامحالة.
فسيف الدولة هنا واقف في جفن الموت، وهو مستعد له في أية لحظة، ولكن حينما يفتح الموت عينيه ويرى فريسة سهلة اقتحم عليه عرشه فسيفترسه لامحالة، بينما الحسيني بدا وهو الذي يتهيبه الموت ولايتهيبه! فلا يستطيع الموت الإقتراب منه، بل يشفق على الموت ويشجعه على عدم الخوف من موته.
فالشاعر الحسيني يبدو هنا في غاية البسالة والشجاعة أمام الموت، وهو بذلك مبتكر لعلاقة جدلية جديدة بين الإنسان والموت وهي الحالة التي يفر فيها الموت من موت الإنسان، بعد أن كان العكس، أي عندما كان الإنسان هو الذي يفر من الموت، ولذا، فالشاعر مستعد للموت في أية لحظة في سبيل غايات إنسانية سامية نبيلة. فيطلب من الموت أن يجهز له سهامه، وأن يتهيأ قطاره للرحيل، فلن يبالي!.

***

وفي قصيدته، "ملحمة الشيخ أحمد الحسيني"، يقول:
(وفوق بطن تشالديران، عقد أبطال سوبارتو حلقة الرقص الأخيرة
وعلى حافات نظرات ميزويوتاميا، سأفرش جنوني وعشقي).
يبدي الشاعر - هنا وفي مواضيع أخرى من القصيدة - ثقافة كبيرة بالتاريخ والتراث الكرديين، ويستعين بهما في تطوير وصياغة شاعرية فذة، ويمد قصائده من خلالهما بنسغ من الحياة الكردية، واستعادة ذكريات عن بطولات الكرد وأمجادهم منذ غابر الأزمان وحتى اليوم، أي أن الشاعر هنا موغل في أعماق التاريخ الكردي، جاعلاً منه كائناً حياً ماثلاً للعيان، أمام أعين المتلقي وبشكل صياغة شعرية فنية جميلة ومحببة، يندمج معه القارىء والمتلقي بحماس كبير، تتميل في كلمات مثل:

(قاضي محمد. كي قوباد. سوبارتو. تشالديران. برزاني. بيران. بيازيد. سيبانى خلاتي....).
ثم يقول:
(لم يأت أسخيلوس
لم يأت كافافيس.
...
كانت تجف قصيدة مسرحياته، حيث كان أسخيلوس يدجن دروب التيه
ويشوي لحم أرنب القدر).

وهنا يظهر الشاعر الحسيني ثقافة عالمية واسعة أيضاً، وخاصة في مجال التاريخ والتراث اليونانيين، وهو المطلوب أيضاً من الشاعر الناجح، ليسير بجدارة في طريق المجد والتفوق، وقد انتقل الشاعر من الخاص إلى العام من عبارة القصيدة التي جاءت مفردة، إلى عبارة المسرحيات التي جاءت بصيغة الجمع، مما خلق لدى المتلقي حالة من الحيوية والإستمرارية في الحالة الدرامية الأسخيلوسية تحديداً، أي كأن الشاعر يقول لنا: كلما كان أسخيلوس يحاول عن طريق مسرحية من مسرحياته، تدجين دروب المزالق والتيه الإنساني، وترشيدها بالصوى والإشارات، كلما كانت قصيدة مسرحيته تستهلك وتجف، وهي كناية عن المكابدة التي لقيها الرجل وهو ينير بمسرحياته للإنسانية دروب الفضيلة، والخير، والجمال. وكانت ثقافته اليونانية هذه تنجلي في كلمات عدة أبرزها:
(اسخيلوس. كافافيس. طروادة. أوديسيوس. هيرودوتس. ديوجينوس...).
قامشلو

***

الشهادات

حليم يوسف

خمسون مقبرة

لا يمكن الحديث عن شاعر كردي، وأقصد الشاعر بالكردية، وليس المنحدر من أصول كردية، بمعزل عن استثناء الحالة الكردية الراهنة بكل تشعباتها التراجيدية. ولو كان الحديث عن شاعر آخر، عدا أحمد حسيني، لعنونت المداخلة القصيرة هذه بـ (خمسون وردة أو خمسون شمعة)، لكنها المقابر، نتركها وراءنا بدلاً من السنوات.
البداية كانت "شرمولا" ـ مقبرة عامودا، حيث كان الانشداد الأول بعد الخروج من الرحم، هناك يكون نحو شرمولا المقبرة التي تشد انتباه الاطفال المذهولين قبل الكبار. وأحمد الشاعر المنحدر من عائلة كانت التراجيديا اسماً لها، الأم والأب و...الأخوة، يصطفون على سلم الموت الذي ضرب العائلة عرضاً. وخارج العائلة، تنفتح دائرة الصداقة والشعر، حيث يتخذ اليافع أحمد شاعراً في العشرين "فصيح سيدا" مثالاً يحتذى به، إلا أنه لا يلبث أن يحترق، وأقولها ليس من باب المجاز، بل إن النيران التهمت جسده ومات محترقاً، ومثله كسرى عبدي الشاعر الآخر- هذا ما يؤكده في مقدمة ديوانه الذي يتضمن الأعمال الكاملة ـ ولذلك كانت قصيدته حقاً انتقاماً عميقاً من الموت. وتتسع شرمولا عبر جسد القصيدة، لتصبح مدينة كاملة تحمل اسم عامودا، تكاد البيوت فيها أن تكون توابيت متحركة، إذ لا وجود لماء ولا لعشب ولا لحرية شخصية، وتمنع فيها اللغة الأم والحب والسياسة والطفولة والشعر. وتقذف أمواج الفقر، عدا الاضطهاد القومي، بالكثيرين إلى ضفاف أوطان أخرى، وكانت روح أحمد حسيني إحدى تلك الارواح الهائمة هنا وهناك. لم تجد ملاذاً في بيوت التنك في بيروت، ولافي بيوت طينية تتساقط نقاط مياه عكرة من سقوفها القديمة كل شتاء في عامودا والقامشلي، وكان جليد سكندنافيا البعيدة ملاذاً. أخذ بعدها يتدثر بقصائده التي باتت تتدفأ على جذوات غبار لا يزال يتصاعد وراءه هناك، حيث البلاد مستباحة لأشباح يمعنون فيها سَلْباً ونهباً، وما من صوت قادر على أن يرتفع ولو قليلاً. تتخذ المقابر شكل حسرة تتسرب إلى الروح وتتزاحم، ولا عزاء سوى الشعر، الذي كاد أن يكف عن أن يكون عزاء للروح، لطالما قالها احمد: (الشعر أيضاً لم يعد يطفىء هلعي، سأتركه ورائي كحذاء عتيق. الجميع يكتب كالجميع، لم تعد للقصيدة نكهة أو معنى. أحس بالجفاف، لم يعد لدي ما أقوله، إنني أموت).
شاعر، من الشعراء المقربين إلى روحي، ربما لأن أحمد حسيني كما عرفته في عامودا، في القامشلي، في حلب، في السويد، في ألمانيا، هو هو مجبول من ضحكة صادقة لا تخطئ عنوان الروح، إلا أنها تخلف وراءها دمعة ساخنة، تسقط على جرح أعمق من الحزن بقليل. ويظل جميلاً بقصائده ولحيته الكثة ومشيته الخفيفة التي تشبه الركض وبشتائمه أيضاً. شاعر يحمل روح طفل، أكلت براري عامودا رجليه الباحثتين عن قطعة أرض آمنة قادرة على أن تكون موطئ قدم. سار دوماً على رمال الأمكنة المتحركة، سانده الشعر دائماً، ولم تخذله القصيدة.
سيرة هذا الشاعر، هي سيرتنا جميعا. كتب الشعر عن آلامه التي كانت آلامنا، وعن غباره فكان غبارنا، وعن فرحه العارم فكان فرحنا، وعن حزنه العميق فكان حزن شعب بملايينه، التي لم تخضع يوماً إلى احصائيات رسمية، فتنخفض إلى العشرين وترتفع إلى الأربعين. إن أحمد حسيني هو الوحيد من بين شعراء جيله الذي استطاع أن يرتقي بلغته الكردية إلى مستوى نص شعري متميز، يتفرد بخصوصية ملفتة. كما استطاع أن يرتقي بالقصيدة الكردية الحديثة ـ المكتوبة بالكرمانجية ـ إلى مستوى القصيدة التي تكتب باللغات الأخرى. أرى هذه التجربة الشعرية من أكثر التجارب الشعرية أهمية في الكرمانجية بعد رحيل جكرخوين وجيله الشعري. وتكتسب هذه التجربة أهميتها في سياق آخر، حيث إن الاحساس بأهمية هذه التجربة الشعرية يزداد مع مرور الزمن على عكس التجارب الشعرية التي تفقد أهميتها بقضاء الفترة الزمنية التي ظهرت فيها. إن احمد حسيني أحد أهم الشعراء الأكراد المعاصرين الذين يجب الاحتفاء بهم في حياتهم، وعدم انتظار ـ لاسمح الله ـ رحيله لكيل المديح له، لأن ما قدمه إلى القصيدة الكردية الحديثة (الكرمانجية) يضعه في صف الشعراء الأكراد الأمامي. من هنا تأتي لفتة موقع تيريز في غاية الأهمية.
- شكرا أحمد حسيني.
- خمسون تحية حب لك في عامك الخمسين.

ألمانيا

***

لقمان ديركي

عام 1987 تعرفت على أحمد الحسيني في بيته في القامشلي في عيد نوروز, ولم يطل بنا الوقت كثيراً كي نحبه, إنه من الأشخاص الذين لا يحتاجون منك إلى محاكمات عقلية أو أخلاقية لتصادقه, بعدها صرنا أصدقاء, وأيضاً أصدقاء في الشعر, كنا مدمنين على سماع قصائده بالكردية؛ وكنت أحب قصيدته (هكاري)، ولا زلت أحبها. كانت أمي تقول أن أحمد الحسيني شاعر فقط لأنه يكتب بالكردية، وكانت تنزع هذه الصفة عنا شعراء العربية أنا ومحمد عفيف الحسيني وحسين بن حمزة, وكنت في قرارة نفسي أعرف أن أمي اختارت شاعراً لتتحدانا به، وهي تعرف أن لا حيلة لنا بالجواب, ولما كنا نقول لها" "ليس ذنبنا، فلا مدارس كردية هنا"، فكانت تجيب: "وهل يعيش أحمد في ألمانيا؟". نعم، أحمد عاش في سوريا، وتعلم الكردية كأي شاعر كردي سوري، وقاوم بالشعر، وأخلص له، مكتفياً ببضعة منابر ليقول فيها شعره، حتى أضحى من كبار الشعراء الكورد في عصرنا هذا.
عندما لاحظت في ديار بكر أن التلاميذ الكورد الذين يدرسون في المدرسة الكوردية عددهم فقط 180 تلميذاً,عرفت أن التضحية التي قدمها كل من كتب بالكوردية ما زالت قائمة, وأن اللغة لا تحتاج إلى مدارس وحكومات ديمقراطية، بقدر ما تحتاج الى إصرار وعناد، لطالما اتسم بهما الشعراء الكورد السوريون، وفي مقدمتهم أحمد الحسيني, نعم، "يادي"، أحمد لم يعش في ألمانيا, نعم يا أمي, أحمد شاعرنا الذي نحب عندما نصفو إلى أنفسنا قليلاً.

الشام

***

سلوى كولي

الكتابات الماضية مع السنين، ماهي فاعلة وماذا تركت؟
(أحمد الحسيني ودخوله الخمسين عاماً)

الترجمة عن الكوردية: آخين ولات

دون أن يستأذن الوقت أحداً، يمضي ومعه الكثير من الأشياء. تلك الأشياء مجهولة، تنتظر أشخاصاً معينين، ليستكشفوا بمناظيرهم، ما في جعبته، ويأخذ كل منهم نصيبه.
والشاعر هو ذاك الذي يلج أعماق الأحلام والمشاعر، ويفعم مزهرياته بالزهر من تلك الأقاصي.
وشاعرنا الذي يلقب نفسه بالشيخ أحمد حسيني، وينحدر من عائلةٍ عريقة لها طريقتها، ولها حجراتٌ فقهية... فعاش حياةً ذات منحيين: منحىً ديني وآخر مترعٌ بالأحاسيس والأحلام، والمعاناة والغبطة؛ لاشك أن هذين المنحيين لا يتوافقان، إلا أنهما يلتقيان في التصوف.
لقد جمع الشاعرُ الاثنين معاً، لكن لأحدهما نصيب أوفر من الآخر، ولذلك نقرأ في قصائده تصوفاً مختلفاً، تصوفٌ بمعاناة وحزن الأصل، بوجع وهم الغربة، وتجربة أحمد الشعرية، هي تجربة مديدة.
استطاع أحمد الحسيني أن يعبر حدود منطقته، ويصبح شاعراً كردستانياً لأسبابٍ عدة، منها:
ـ اللغة التي يعتمدها، لغة متقنة، وقاموسه الشعري غني.
ـ استطاع أحمد الاستفادة من الفن وجماليات قصيدة الشعوب المجاورة التي يعايشها، ومن القصيدة العالمية.
نرى أنه يحتوي إلى حدٍ ما: سليم بركات، أدونيس، ومحمود درويش، ومن الشعر العالمي نري أنه قد تأثر بـ (ت. س. إليوت، ماياكوفسكي، ويتمان، رامبو، وكذلك بودلير).
ـ استقى أحمد غِنى قاموسه من التصوف الإسلامي، وكذلك الكردي.
ويبدو تأثير أسلوب كلٍ من: الملا الجزيري وفقي تيران وأحمدي خاني، واضحاً للغاية عنده، ولكن بأسلوبٍ خاص بأحمد.
ـ يعتبر أحمد واحداً من الشعراء الذين أبحروا بشعرهم في التاريخ، والدين، وأساطير شعوبهم.
ـ من ناحيةٍ أخرى فإن ظهور أحمد الحسيني على شاشة التلفزيون قد ساهم في دخوله إلى كل بيتٍ كردي أينما كان، خاصةً أن قراءة قصائده تأخذ نصف وقت البرنامج.
هذا وإن أحمد الحسيني مع آخرين من مثل رويار آمدي وتنكزار ماريني يعتبرون من الرعيل الثاني الذي أخذ على عاتقه تحديث الشعر الكردي في شمال غربي كردستان، منذ أواسط الثمانينات، حتى بداية التسعينات، بعد المرحلة الأولى التي بدأت على يد قدري جان، الدكتور كاميران بدرخان، الأمير جلادت بدرخان ورشيد كورد.
أسّسوا أرضيةً مناسبة لآفاقٍ جديدة، وجعلوا اللغة، الصورةالشعرية، فنية القصيدة وجمالياتها، هي العناصر الرئيسية في القصيدة، إضافةً إلى المضمون، حتى يرتقوا بالقصيدة الكردية إلى سويةٍ عالية، وبالتالي تبتعد عن التكرار واجترار لغة الجبل والسهول والزراعة.
شرعوا في كتابة القصيدة النثرية، وكذلك النثر، لتقوم القصيدة بدورها الحقيقي، بأنها اكتشافُ جديد في تداول اللغة، وإيجاد معانٍ دلالية أخرى في اللغة.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن الظروف السياسية لأجزاء كردستان الأخرى، قد حالت دون وصول أصوات الشعراء الآخرين من كردستان إلى الأكراد بشكل عام؛ كان هناك في جنوبي كردستان، من الشعراء من ارتقى بالقصيدة الكردية نحو أفق أخرى في الحداثة منذ السبعينات والثمانينات، مثل عبد الرحمن مزوري ومؤيد طيب ومحسن قوجاني، وفي شمالي كردستان فإن دور الشاعر روزن برناس لا ينسى أيضاً.
وكما نلاحظ فإن تأثير أحمد الحسيني قد بدا واضحاً في السنوات الأخيرة، على من تلاه من الشعراء الشباب.
في خمسينية الشاعر القدير أحمد الحسيني، لا يسعني إلا أن أتمنى له حياةً مديدة، عامرة وسعيدة، وآمل أن يعود إلى كتابة الشعر، ويتحرر من التكرار الذي كان في السنوات الأخيرة.
سيبقى أحمد الحسيني شاعراً مهماً في مجال الأدب وكتابة القصيدة. نكهة قصيدته وكلماته المتقنة تفتح دروباً للتعبير الجريء والجميل، بين الأشواك والمصاعب.

السويد

***

عبدالرحمن عفيف

بين كري موزا وديار بكر

(شيخ أحمدى حسيني، في ميلاده الخمسين)

في "كري موزا"، حيثُ مزارُ الشيخ الكبير ـ جد من جهة الأب - هذا الجد الذي لم أرهُ؛ توفي حين لم أكن بعدُ في هذه الحياة.
إن كنتَ في "توبز" أو في "حجي ناصرى"، عدّة كيلومترات على مبعدة من التل، ليلاً، في قلب ليل حالك، لسوف ترى فجأة كيف ينيرُ مزارُ الشيخ، نورٌ، تفكّر، ليس هذا بنور أرضي، يهبُّ إلى الأعلى، عدّة مرات ثم ثانية يقلُّ.
- ثانية اشتعل مزارُ الشيخ الكبير في كري موزا، شاهدتُ ذلك بأمّ عينيّ.
يقولُ الكثير من القرويّين في تلك النواحي...
وأنا ـ ماذا يفعلُ جدّي بهذا النور الواسع في موته الأخضر على سفوح تلال موزا، ماذا يطبخُ جدّي في الليل المتأخر هذا، أو، أيحتاجُ للقراءة إلى كلّ هذه النار!؟

***

أسمعُ عن آمد، أسمعُ عن ديار بكر ـ لم أزر آمد ، لم أزر ديار بكر!!
عاصمةُ ممالك كوردية في زمن سحيق، أنظرُ إلى الصور، أقرأُ في الأشعار، هناك يرقدُ جدّي الآخر، "بافي كال"، الجدُّ الأوّلُ للعائلة، في عامودا قيل لي لماذا سمّي بهذا الأسم، كان لما يزل شاباً وابيضَّ شعرهُ كالثلج، الأب الكهل، وآخرون يقولون ـ سمي هكذا للإحترام والتقدير. مزارُه في ديار بكر معروفٌ ومحبوب. أفكّر الآن، كم سيكون رائعاً لو استطعتُ مشياً أن أجتاز المسافة بين المزارين، من كري موزا حتى ديار بكر. أستطيعُ مشاهدة السفوح والقطعان في الربيع، أستطيعُ أن أتجول في المنحدرات وأعاين الأحجار في أودية الأنهار، أستطيعُ أن أستمع إلى أغاني الرعاة وأقطفُ العنب من الكروم. وفي الليل لسوف يتكفّلُ الجدّان بإنارة طريقي!! كلٌّ واحد سيقولُ لناره"
ـ هبّي ياناري...الحفيدُ في الطريق بيننا!.
ناران تشتعلان واحدة على تلال موزا والأخرى في قلب ديار بكر..

***

أودّ الكتابة عن الشاعر أحمد الحسيني، فيأ تي الجدّان لاقتحام كلّ شيء في مخيّلتي،
وأحمد الحسيني يهمسُ لي" أعرفُ هذا، إنّهما أيضاً يفعلان هذا حين أكتبُ الشعر.
ـ كيف لهما بهذه الطاقة أن يأتيا، هكذا بعيداً في المسافة والزمن؟
ـ هذا قدر، أو أننا نحملهما معنا أنّا نكونُ.

***

بعد إحدى قراءات أحمد الحسيني في ديار بكر، تهديه إحدى أجمل الفتيات دفتراً، في دفتيه خصلةٌ من شعرها.
هذه أثمن هدية تُعطى في الفلكلور الكوردي للشعر.

***

في شعره: الكورمانجية مكتوبة بصفاء ذهبها. كما لم تُكتب من قبل.
يقولُ "صََدَقَه" من بين أصحابه.
تعريفُ صََدَقَه: من الكورد المهتمين بعمق بالفلكلور والتراث الكوردي، كان لهُ دكّان صغير، يبيعُ فيه القرطاسية والطوابع، ويلتقي هناك العديدُ من المثقفين، قريباً من بلدية عامودا، ودكّان العم شيخ سليم الحسيني.

***

لم يتمّ تقديمُ شعره إلى الآن بشكل واف وجيد إلى قرّاء العربية.
وفي الكورمانجية يقومُ صغار هنا وهناك بالغمز واللمز والحسد والجبن.

***

هكذا في المستقبل.
أذهبُ في يوم ماطر، مليء بالغيوم إلى بريّة عامودا، أذهبُ في يوم خريفيّ، مليء بالشوق والمكابدة، أذهبُ إلى بريّة عامودا، أذهبُ إلى كولا شيخي دودا، أذهبُ فأجدُ أحمد الحسيني، هناك تضربُ الرّياحُ شعرهُ الطويل ولحيتهُ، والدموع تملىءُ الكون، ينظرُ إلى الأحجار التي أبرزها فيضان نهر عامودا قبل عدّة أيّام، ويصيح:
- شيخى دودا، شيخى مه زن، نارُ كوردستان.
وأنا تضربني ريحٌ قويّةٌ، تميلُ بكامل قامتي، فأسقطُ، ثمّ أقومُ وتضطهدني دموعي.

***

هكذا في المستقبل.
نلتقي في محطة باصات الجمعية التعاونية في عامودا، يأتي الباص بعد عشرين دقيقة، نركبُه إلى جهة القامشلي. إنهُ الشتاءُ، ننظرُ إلى الحقول، لا نتكلّم على الإطلاق. حين نصلُ إلى بريفا، يتوقف الباص وننزل متوجهين إلى عماد الحسن. عماد الحسن وأمه ينتظران على جانب الطريق، على وجهيهما ابتسامةٌ واسعة:
- أتعرفان، لقد طبخنا لكما على نار شيخي كري موزا!!

***

شيخ أحمدى حسيني.
سأقومُ الآن أصنعُ لي قهوة على نار الجدّين.
أتمنّى لك عمراً مديداً بمناسبة ميلادك الخمسين.
حقّا اندهشتُ حين تلفن لي "محمدو"، وقال أنك بلغت الخمسين.
قلتُ:
ـ أحقاً.. إنّه لا يزالُ مثل الجن...!.
إنّها تلك النار,
بين كري موزا وديار بكر
قوية لا تعرفُ السنين!!!.
ألمانيا

***

هوشنك أوسي

أحمد حسيني, شاعر الحجل، والأيائل، وأيقونة الكلام الكرمانجي.

قد يكون انطباعياً, ولا يُوغِل سبراً في ملكوت نصِّهِ, وكنهه التي تتيهُ بنا, فينا, وتلقي إلينا كمرايا كرستالية مُضاءةً بومضِ يعرِّينا من أسمالِ صمتنا على نحرنا, لكنه، رأيُ الشاعرِ في شِعرِ غيرهِ من الشعراء, سأُبديهِ هنا, إبداءَ الدهشةِ بما يجولُ في نبضها من خدرٍ مُنبهِرٍ بكلامٍ على هيئة الجرحِ المحترقِ عِشقاً, الذي لا يطال أنينهُ إلا تأويل الحجل لرؤيا الأيل الجريح بنصل سيامند المتروكِ على حافةِ الخرافة.
مابين الأحمدَين: الجزيري والحسيني، تمتد شجون القصيدة المرأة، والقصيدة الوطن, والوطن المرأة, والمرأة الوطن.
ما بين الأحمدَين, مشافهاتِ الآلهةِ عن احتراف الكرد قنصَ أسرارها بكلامهم, وتقمُّصهم العتيد الولود, المجيد العنود لها, أثناءَ مجاهرتها بما يعتملُ ظلالها الكليمة من وجدٍ ومجد.
ما بين الأحمدَين آصرةُ اليقين باليقين, والشكِّ بالشكّ. ومابينهما والجبال المحنَّاةِ بدم الجن, حجلٌ من خزفٍ يلوذُ بهما عُشِّين من هيامِ النار بالماء, وولهِ الطينِ بالطين, وإغواءِ السؤالِ للسؤال.
الحسيني في تحليقهِ في أفناء اللغة الأم, يصوغ نسوةً, طيوراً, ورداً, أكواناً, أفخاخاً, كمائنَ, فِتنناً, حروباً, أوطاناً من خرائبنا التي تولاَّها الحجلُ بواسعِ هديلهِ الذبيح.
الحسيني الشغوف بالعبث الطفولي بكمون اللغةِ المنزويةِ في غيهب حزنها, العاكفةِ على العودةِ بصحبته إلى جزائرِ الخرز الكرمانجي المذهَّبةِ بأقاصيص الملائكة عن مكابدات الكرد وطيشهم.
الحسيني القابع في آتون خيالهِ المائج الحصيفِ حصافةَ الربيعِ في توشيحِ صور قصائد الصيف برذاذِ بلاغةِ الشتاء، الذي يحاكي وحشة الخريف الغريق في أوجاع الكرد.
الحسيني المبحرُ في نصِّهِ قلقاً يفضي إلينا, الغائر في نصِّهِ أرقاً يتلون على أسماع الآلهة آياتٍ من نحيبِ ترابِ الكرد, قد اجتازَ نِصفَ سُبحةِ من سنين الألم الحائر بجراح الكرد الضَّالة ضلالةَ الحزنِ الذي شكمَ أقدراهم بالهزائم اللاهية بالهزائم.
اجتازَ خمسينَ نصَِاً بعد خمسين ريحاً دهماء تتوارى، وخمسينَ نكبة عارية من خمسينَ صيحةٍ في خمسين بوقٍ أصم.
سنونٌ خمسون، تفصلنا عن خمسين ديواناً للعويل الموشَّى بخمسين أغنية من أغاني الحجل على مقتل الجبل.
هاهو الحسيني يقفُ أمام خمسة عقود من برازخ العقل. يقفُ خلفَ خمسةِ عقود من الهزائم المعقودة على خمسة جبال، ترنو قامته المترنحة بين خمس قصائد من قصائده.
أما نحن, فبماذا يمكننا أن نقيسَ قامتهُ؟ أبهدهدة الغيوم التي مرَّت من تحت قناطرِ هذه السنين الخمسين؟ أم بالنجوم التي هوت من حرائقِ التراب, في حرائق الحبر؟ أم بشَعر عرائس المطر اللاتي زفَّها الوحل للمجزرة؟ أم بمالا نملك من تخمين الموتى لأجلنا في أمرِ دمنا؟ أم بتهويمات الخمر والتبغ عنَّا وعنه؟ أم بما يعرفه الجِنُّ عن مغامراتِ ظلالنا ومقامراتِ أقراننا من الهائمين على دمهم؟ أم بما تجهلهُ الملائكةُ عن أصول تفقيهنا للحجر دروسَ البرق الكليم؟.
أما أنا, فأُحيلُ هذا السؤال لكبير الأيائل, وزعيم الحجل في بلاد الكرد, كي يجيبنا.

الشام 12/1/2005

***

قادو شيرين

أحمد الحسيني وقامة القصيدة، العالية

الترجمة عن الكوردية: آخين ولات

هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن شخص حي، لا يزال شامخاً بيننا، سيما وأننا مثل غيرنا، لا نتذكر مشهوراً من مشاهيرنا إلا إذا اختطفه الموت منا.
يقول الناقد الروسي لوباناشافيسكي: "لا نعرف قيمة العظماء إلاّ عندما يموتون".
بمجرد أن تُذكر قصيدة النثر الكردية الحديثة، مباشرة يتبادر إلى ذهن كل شخص اسم أحمد الحسيني، ليس فقط في غربي كردستان، وإنما في كردستان بأكملها وفي خارج الوطن أيضاً. من أين يتأتي لنا هذا؟ لابد أن كل شخص ملم بحال القصيدة الكردية، يعلم لماذا يقال هذا، إن لم يكن أحمد الحسيني واحداً ممن أسسوا للقصيدة النثرية الكردية الحديثة، فإنه بالتأكيد شاعرٌ من الشعراء الذين ساهموا في تحديثها، وهذا ما جعل قامة القصيدة الكردية تعرف باسم أحمد الحسيني.
فقط الذي كتب "حفنة من الحزن المشاكس، أناغي القلم بحلمكم، رونو وأناشيد الشوق، التميمة، رسائل الحجل، ومعبد الحلم" بإمكانه أن يعلم أية مكانةٍ يحتلها في القصيدة الكردية، لأننا لا زلنا نفتقد النقاد الذين يمكن لهم أن يقرأوا ويقيموا القصيدة التي كتبت بعد جكرخون، وأقصد بالقصيدة التي كتبت بعد جكرخون تلك التي تطل عليها القصيدة الحداثوية أو الحديثة، التي تستخدم، فقط لغة جكرخون، لبناء القصيدة، ليس هناك شيء آخر غير اللغة، لاالقصيدة هي تلك القصيدة، ولاالصور هي نفسها تلك الصور، لاالرموز هي تلك الرموز، لاالشكل هو ذلك الشكل، ولاالقيمة هي تلك القيمة؛ كذلك العصر أيضاً، إذ ليس هو ذلك العصر.
كان جكرخون علم قصيدة عصره، إلا أن أعلاماً أخرى قد ارتفعت بعده، هناك أسماء أخرى قد ظهرت في الساحة، وأحمد الحسيني اسم من تلك الأسماء. الأسماء التي اتخذت على عاتقها القصيدة الحديثة، من منا يستطيع ألا يتذكر اسم أحمد، عندما يكون الحديث عن القصيدة النثرية الحديثة؟.
يعتبر أحمد الحسيني واحداً من مؤسسي القصيدة الحديثة، وكذلك أيضا شق طريق القصيدة الحديثة نحو آفاق أخرى جديدة.
الشاعر الذي يبدأ بكتابة القصيدة الحديثة، عليه أن يقرأ نتاج أحمد الحسيني بالكامل، ليتعلم من كتاباته لغة وأسلوب القصيدة الحديثة. لستُ شاعراً، إلاّ أنني أقول وأكتب هذا عن قناعةٍ ودراية، وذلك نتيجة قراءاتي له، وكذلك لما يقوله الشعراء الحداثيون، ويرتأونه في شعر أحمد، عندما يتناقش الشعراء في القصيدة الحديثة، يُذكر اسم أحمدالحسيني، ويتكرر مراتٍ عديدة.
"أخرج أصابعك التي تعرف العنب
والحمامات المذبوحة
من جعبة التاريخ... " الديوان، صفحة 230
الذي يقرأ هذه القصيدة، أقصد الذي يقرأ أحمد الحسيني ويواصل كتابة الشعر، لابد أنه سيتمكن من قصيدةٍ ذات سوية عالية وقوية، وسيستفيد من شعره كثيراً، مثل اللغة والصور الشعرية وأسلوب كتابة القصيدة النثرية ذات القامة العالية في الشعر، وأنا على ثقة من أنه لو جاء نقادٌ مختصون وقرأوا القصيدة الكردية بشكل عام، نقداً وتقييماً، فإنهم سوف يعطون مكانةً مهمة لأحمد الحسيني، الذي يكتب ويقول في "ديوان الشيخ أحمد الحسيني":
"أطلق ثلاثاً وأربعين مقبرة منهكة من صدره
وبتروِ، لفَّ قماطه، هدهد ترنيمته
وكسر قلمه؛
وفي الشعر الحريري لـ "بِرْجا بَلَكْ" التقى بملحمته البالية". الديوان، صفحة 399
هنا، وفي نهاية هذه الملحمة الشعرية لأحمد الحسيني، فإن القارىء بعد قراءة جهد ومكابدات الشاعر لسنين طويلة، يلفه الشك بأن ما عاد ليكتب الشعر بعد الآن، لأنه التقى بأسطورته المهترئة، وقد وصل بتجربته إلى النهاية فيكسر القلم. إلاّ ان تجربته وقصيدته ستبقيان حيتين إلى الأبد.

هولندا

***

مروان علي

عطر كردستان

حسناً فعل موقع تيريز، حين احتفى بالشاعر الكردي أحمد الحسيني، فشاعرنا يستحق أكثر من ذلك، ولكن خطوة تيريز تبقى، لأنها السباقة في الاحتفاء بشعر كردي عالٍ، وقامة شعرية عالية.
بدأب الصاغة، وصناع المجوهرات، وبداهة الصيادين، وشجاعة البيشمركة، وعذوبة نساء كردستان، كانت بداية تجربة شعرية، تحولت إلى مدرسة شعرية، لها موقعها الهام على خارطة الشعر الكردي الكرمانجي؛ ورغم أن هذه المدرسة لم تنل حقها من النقد حتى الآن - النقد الكردي أو النقد الكردي المكتوب بالعربية -، لكنها، ومع ذلك، تركت أثراً بارزاً في المشهد الشعري الكردي.
لغة أحمد الحسيني، جعلتني كشاعر يكتب بلغة أخرى، غير لغته، أكتشف لغتي من جديد، وأعيد ترتيب علاقتي معها، وأعتذر منها أيضاً بعد سنوات من الغياب غير المبرر أصلاً.
كلما قرأت قصيدة لأحمد الحسيني، تعبق الغرفة الصغيرة في هذا المنفى البعيد والبارد، بعطر كردستان، ويطير الحجل فيها، وتأتي إليَّ هنا في غربتي: قامشلي، عامودا، ديار بكر، مهاباد، وهولير.
تحية لأحمد الحسيني
تحية للذين يبنون حدود كردستان بالكلمات.

ألمانيا

***

عزيز خمجفين

الشيخ أحمد الحسيني

الترجمة عن الكوردية: آخين ولات

بالتأكيد لن أستطيع في هذه العجالة، وبهذا المقال القصير أن أعطي الشيخ أحمد الحسيني حقه، إلا أنني سأتحدث باختصار عن بعض مجموعاته التي وقعت بين يدي.
الديوان، مجموعة الأعمال الكاملة: يبلل أحمد في قصائده شعر القراء بمطر عامودا، وهو يعرض أحوال وحياة بني جلدته، كما هي في حقيقتها، بحلوها ومرّها... لم يضع أحمد قرَّاءه مرةٌ في المتاهات، وطلب منهم أن يكونوا فلاسفة، ليستطيعوا فك طلاسم ورموز قصائده، نسج القصيدة بجميع أشكالها، الكلاسيكية، الموزونة، الحديثة، كما أنه استفاد من الفلسفة أيضاً في قصائده.
أرى أن كل مجموعة من الديوان، هي خارطة بحد ذاتها، كل قصيدة من القصائد حسٌ، رؤيةٌ، وحياة بعينها... إلاّ أنها مرتبطة من حيث الروح، بروح "الحجل". النثر والنسج، منسوجان مع أحزمة القش... لازالت يدا أحمد الحسيني ترتجفان فوق حجارة عامودا... لازال قلبه مسكوناً بالخوف الذي تركه تلك الألغام المزروعة على الحدود في وجه الأطفال والنساء والرجال؛ هكذا يعبر أحمد الحسيني عن بكاء والديه والقرويين والذين سكنوا المدن، هكذا يعبر عن القمح الذي غدا كليماً بعد مروره بمطحنة الزمن، لم يترفع أحمد على بني جلدته، يعلم علم اليقين أن مطر برلين وستوكهولم لن يبلل شعر قومه، ويعرف تماماً أن مشاعر الكردي مرشوقةٌ بطين عامودا...
مهما ابتعدوا عبر الصحاري، وجالوا في الحضارات الغريبة، وحدقوا في المباني العالية في دبي، هونكونغ، أو كوالا لامبور، فإنهم سيبقون أبداً مسكونين بمزاريب بيوت قامشلو، الحسكة، وعفرين... هذه هي رسالة أحمد الحسيني..
"ملحنٌ أنا... ملحن جدائلك.
ربّانٌٌ في البحر المبرقع
في متاهات مياهك.
تعالي حبيبتي،
تعالي نتقاسم الأحزان مجدداً
نواري الجراح القديمة
ونفتح أخرى جديدة...".
في الكثير من من الدروب، يردع الريح الغاضبة عن وجنتي حبيبته، لا يدعها تتجه نحوها إلى الأبد، هو لا يتنازل هكذا بسهولة عن حبيبته.. هي الدم والعرق.. الجرح والوجع، ترى هل بإمكان المئات من المدن مثل ستوكهولم أن تنسيه عامودا؟!!.
لا أظن أن أحمد الحسيني من الممكن أن يستبدل دموع أمه بنهر الراين وشلالات أوربا، وضباب لندن!! التعبير والمعنى العميق، القيّم، يحفران دروب حب الوطن على القلب الحزين فيحييه.
لم ينغر أحمد ولم ينس نفسه. في كل قصيدة، وفي كل كلمة، يؤكد أن جدران النسج الحقيقي تبنى وتعلى بلبِناتِ عامودا.. هو يعلم تماماً أن العمود والمسند يمكّنان سقف بنائه أكثر..
مهما كان قد كتب الحداثوي من كآباته، إلا أنه لم ينس مرةً رائحة خبز التنور.. لم يقل قط أنه آراغون، لأنه يرى أنه في النهاية لاآراغون، ولابودلير يستطيعان أن يشعرا مثلنا بفراخ القطا المنسية بين القش والتراب والغبار، خلف الحصادات...!!.
لم يوح أنه أفلاطون وصاحب جمهورية، على العكس، فهو يشارك الكتاب والشعراء والقراء في زراعة النرجس، ليستطيعوا معاً إحياء لغةٍ فنية جميلة.

"حينما جاء الوطن
نسي حروفه في النار،
قيّد الأساطير بأجنحة فرات.
حينما جاء الوطن
جعل غيوم الربيع دموعاً،
جعل الجبال للحلم صدراً.
حينما جاء الوطن،
رمى البرق من الغمد،
امتص رحيق الجوع والخيم.

***

وأنت..
تهت بخرز الوطن،
بينما الوطن نجمة السهيل، في بؤبؤي ديار بكر
اتجهت إليه
فراشةٌ،
توضأت بدمع كردستان...".
أبو ظبي

***

نذير بالو

رثاءٌ من حرير

إلى أحمد حسيني. حينما الضجر لايقتلك.
امسح عن وجهك الألم،
واغمس يديك في الحبر طليقين،
ثم عد الى أشواقك، أيها الحنون الناكر للعشق.
لحيتك مثقلة بالهوى،
وأنت النديم، لا تكفيك الخمور، ولايكفيك الليلُ للهوس.
أيها الشيخ الجليل، ثوبك المطرز بخرز الكلمات، لا يليق لغيرك، فلا تخلعه.
أعلمُ أنك لا تجيد الصمت، لاتتقن الرقص، لا تقدر على القفز،
فادنُ من ظلك، واستنشق عطرك القديم منه.
يزرب الزيت من غنائك، يرسم التعجب في سريرك، وكأنه قلقك المتأخر.
لمن تترك مليكتك، وهذه المسافات من البياض..؟
أي شفاهٍ ستردد موتك في هذا الانتحار المعلن عبرالانترنت..؟
أي رثاءٍ يليق لهذا الحزن الذي نشرته في الضوء يا "أحمد"..؟
لازالت "شرمولا" البكاء في عينيك حيثما رحلت، فدعها تتحرر من الحزن.
لازالت عصافير الحريق في حقيبتك، فاطلقها لأقواس القزح،
تحمل عطور عامودا في جيوبك، فرشرشه على الورق ولا تبخل.
دخان سجائرك يرسم عصيان أنفاسك فلا تنكر.
ها أراك شارداً بين الاقفال، ومفاتيحك شبقة لممارسة الشعر.
ها أراك حائراً لانتقاء أبجدياتك، لتغازل الزجاج والثلوج.
شموسك بين شفاه الفجر، وأرصفتك مخامل تنتظر الندى،
تؤشر البوصلة إلى جهاتك المفقودة، والمدى الأرجواني كئيباً ينتظر أقلامك.
مصادفات حبرك دونت نبض فؤادك ايماناً، فلا تكفر.
اخفق بجناحيك هذا المساء،
وارحلْ حيث السراب لتكتب بقية حزنك.
استرحْ هناك في البُعد قرب أناشيدك،
ليسكن صداك الرحيق،
واستفق من طعنتك، ولا تلم الخناجر،
مواعيدك تنزف على الرماد صوراً خضراء
أنت الغبار المستحيل في جغرافية البرد،
فردد العذاب
فلا يزال للزمن لون من الصمت وآخر للفتنة،
وللمساحات شيء مباح للإغراء.
بيني وبينك متاهات وقناديل وتراب.
بيني وبينك وطن وصلصال ولغز دم.
بيننا وبين التراب رنين نهرول إليه بالنواقيس.
فك طلاسم فناجين قهوتك لآخر زفرة
دغدغ بعظامك هذا الملل
لتغفو الشهب على جرحك
إبكِ دموعك الأخيرة
انسج عشقك ضباباً، واملأ السهر بإيقاعات أغنيتك قبل أن ترقد.
ألمانيا

***

محمد عفيف الحسيني

جمال عبدالناصر، يخطب بالكردية، في قامشلو

1

تتشابك التجربةُ الشعرية لأحمد الحسيني، والحياتية، مع تجربتي: قرابةً، صداقةً، شعراً، مكاناً، منفىً، جيلاً، تدبيراً لطهو النزق، وأخيراً، روحاً؛ وتختلف هذه التجربة، اختلافاً فاجراً، أعني به اللغة، هو يكتب بالكردية، وأنا بالعربية. لغتان متضادتان. لايجمعهما إلا الجِوار الجغرافي فقط. نصفُ عُصارة جمعتنا، ونصفُ عُصارة فرقتنا؛ وغامرنا، مغامرة الحياة من عامودا إلى السويد. النزيف أخذه قبلي بأشهر إلى السويد؛ ثم التقينا في ثلج السويد. أتذكر قبل رحيله، كنتُ أخدم في الجيش الباسل، وكنتُ في إجازة غير باسلة، مررنا خلل دكاكين عامودا، صوب الدرباسية، مررنا خلل ألغام الترك القاحلة، وتحدثنا عن النزيف: سيرحل هذه المرة نهائياً عن عامودا، بعد تجربة حب في خزائن العادات والفتنة، بعد تجربة أخرى في الغمامة التي تراكمتْ على عينيه الشابتين ـ المرض، والمعالجة في روسيا العظيمة، ثم العودة، ثم اختطافاً إلى السويد، ثم العودة إلى عامودا، ثم ذلك المشوار المسائي، وهو يخبرني بأنه سيمشي، أبداً، ينتعل حذاءً من المغامرة إلى الاسكندناف (لنتذكر العابر الهائل بقدمين من الريح). وأنت؟ ساءلني. قلتُ: سآتي أيضاً. كنا فقيرين كذلك. كان يشتغل في الفرن، وهو خريج كلية الفلسفة الدمشقية، وأنا كنتُ أخدم في جيش الوطن الباسل، إجباراً، وكنتُ خريج كلية اللغة العربية الحلبية.
الحياة الصعبة بجودة الشمولية، أنستْنا أننا نكتب ونقرأ ونحب محمد شيخو المغني، كان الريش ينبت على أطرافنا، لنتحول إلى طيور خرافية نحيفة. فلم نتحولْ إلى طيور خرافية، لكن، نبتتْ لنا قوادمُ، وخوافيَ، لنطير، فطرنا؛ طيراناً بُراقاً. وكان محمد شيخو القتيل، قهراً من المخابرات، يتهادى آنذاك من بيته، لاأعرف أين بيته، إلى مقبرة الهلالية، سنكتب تالياً أنا والشيخ أحمد نصاً مشتركاً ـ عن العرق النافر في رقبته، وهو يعود من استنطاقات المخابرات، التي لاتنتهي، بل، انتهتْ، بالشمع الأحمر على بزْقه وشجنه.
كان علينا أن ننزح، فنزحنا. كان علينا أن نترك أرواحنا القديمة، وأصواتنا، تخفق فوق "شرمولا"، فتركناها، ولازالتْ هناك. يقول شيخي الكبير "إبن عربي"، بأن الأصوات البشرية، تظل في السماء معلقة مثل النجوم، تنتظر عودة أصحابها. تقرّ هذه الأصوات الفانتازية في الأعالي، ويصيب مفاصلها الانتظار، ولايأتي أصحابها. كانتِ الأسرارُ هي أسرار مظالم النظام الشمولي الشقيق لشمول الدولة الشقيقة آنذاك؛ لاأعرف بعد ذلك المشوار، أين ذهبتُ، وأين ذهب الشيخ الراحل.

2

"إسمي جانو،
وخالي لا إسم له، لاأعرف إسمه. في هذا المساء يغزل الهاجسَ الأبدي على أبواب الشمال، ويفكر عميقاً. وأنا وخشخشة حزام أمي، خشخشة أشواك طوروس الأليف. يدير خالي ظهره لريح القدر، ووجهه صوب قاموس الحدود القلقة. ينظر إليَّ، وإلى تلك الخصلة الجميلة المدلاّة على جبيني، بنظراته الحادة كصقر بري، يديرها بين سطور الحدود والألغام، كان دخان السجائر ينسحب نحو الألغام، ولهاث قافلته ينسكب فوق خوفي. سنتجه هذا المساء إلى الشمال الملغوم".

3

مابين بيت الشيخ عفيف، وبيت الشيخ توفيق، مسافة نداء جهوري: جار لجاره، لم أكن قد زرتُ بيتَ عمي، ولم أكن أعرف أن لي عم آخر، باسم الشيخ توفيق، غير الشيخ توفيق ـ أستاذي ـ قبل ذلك، قبل أن تتفجر الألغامُ بالألغامِ. ولم أكن أعرف بأن أحمد حسيني، قريبي، كان ذلك في السبعينات، وكان خاله، قد مزقته ألغام كمال أتاتورك، بالقرب من أنفاس عامودا، صعوداً إلى الجبل، كانت الجثة، أو كادت أن تتفسخ تحت ضربات التخوم الممنوعة، المحروثة بالألغام، استنجد الخال القتيل بالآلهة، لتجد له من يجره من بين عواء بنات آوى، إلى بيت الأخت "فاطمي" ـ والدة أحمد حسيني ـ، فأنقذته الآلهة؛ ذهبتُ بفضول القريب الجاهل، أرى الميت، فلم أرَ الميتَ، بل شممتُ رائحةَ البارود المنبعث من تلك الغرفة الشمالية بدرجاتها الأربع، واللامعة بملاطٍ إسمنتٍ، كان الخالُ مسجىً، وصموتاً، وتغطيه بطانية برتقالية من وبر الماعز. لم يكن الخال يتحدث، كان الخال قد مات. ولم أعرف أحمد حسيني. بل عرفتُ أن هذا البيت، هو أيضاً انتماء لي إليه. ربما بدأ أحمد يكتب الشعر، منذ ذلك اليوم، هكذا سأخمن الآن، وربما الألم الشعري الذي رافق تجربته الشعرية، بدأ منذ ذلك الوبر للماعز البني، المنسوج على جسد الخال القتيل، وخيال الخال القتيل، وربما، التطبع بطباع الموتى، هو حيرة الموت، إن جاء في عمر مبكر. هكذا تطبع أحمد بموتٍ ـ فجيعةٍ. أن يتمزقَ جسدُ القريب، وأن تكون له رائحة البارود، وهو الذي لم يغادرِ المنزلَ، إلا منذ يوم، من التسلل بين الألغام، وتفجر اللغم به. غسل العم الشيخ صدرالدين الجثة، ربما لم يغسلها، لاأتذكر، لكن، أتذكر أن عطرَه الذي رشَّه على البطانية، فارَ، العطر المدوخ الثقيل، الذي يشبه زيتاً كثيفاً، مستحضراً من نباتات الحدود القلقة، النباتات البرية التي تنبت على حافات الألغام.

4

كان "سعيد ريزاني"، يتدرب على الأغاني، يدرب حنجرته على الشجن الغنائي الكوردي، في غرفته الجنوبية الصغيرة، الغرفة التي تبتعد عن غرفة الخال برائحة باروده، مسافة بضعة أذرع قليلة. سعيد درّب صوته على الغناء، فغنى، وغنى معه "فصيح سيدا"، الأنيق القصير العشريني، الذي كان يكتب الشعر، ويعطيه للملحن المغني، يلحن ويغني ويعزف من شعر قتيل آخر. فصيح سيدا، الذي مات أيضاً، برائحة الكاز، هذه المرة. غاب آخرُ، من ذلك الحوش، الذي فيه شجرة توت، ستظل حية، تراقب الغادين والآيبين، وتدعو أن يعودوا، فلا يعودون. هل من أغانٍ تسجيلية بصوت الإثنين، شاعر ومغن، يدوزنان أوتار الحياة. ويدوزنان مرور فيلة البعث السبعيني في عامودا؟، المرور الذي جعل من الحياة في ضرورة الموت، أو النزوح. فنزح أحمد حسيني، إلى بيروت مع عائلته النازحة.

5

لم أعرف "كسرى عفدي"؛ كسرى، مات بحريق انفجار، عبوة غاز من ماركة وطنية باسلة، انفجرت به. كان كسرى عفدي شاعراً، لاأعرفه، ولم أقرأ له شعراً. من دوّن شعره؟ أين أخذته الحياة ـ الغاز؟ وأين استقرت قصائده الناقصة؟.

6

شاعران، يقول الشاعر أحمد حسيني، عنهما، أنهما السبب في إشعال الرحيق الشعري بالكردية، في روحه. ثمت من تدابير أخرى: الرحيل.

7

كانت بيروت، عاصمة الفقراء الكرد، في السبعينات، كرد جهات كردستان أجمعين؛ قبل احتلالها من الشقيقة، ثمت حرية كثيرة، وازدهار تجاري، وغبطة البعد عن الحزب الشمولي، أينما كان، قبل أن يمتد السرطان، وينتشر في لبنان، وكان سليم بركات من أوائل الذين استقرت بهم المطافات هناك، أعني من الكتاب الكرد السوريين، وكنا نسمع بأن شاعراً كردياً من بين ظهرانينا، غير مستأنس أبداً، وجبلي مثل وعل، غادر إلى الأبد مكانه الأول، وهناك، في بيروت البحر، ستهاجر أسرة أحمد الحسيني من تقشف عامودا، إلى العيش في بيوت الصفائح. كم عاشت العائلة بالقرب من أنفاس البحر؟. هاجرت في عام 1973، ومكثت هناك، لمدة ثلاث سنوات، سنة في جهنم الحرب الأهلية. ثم عادت الأسرة مجدداً، إلى عامودا. ولم أكن أعرف الشاعر بعد، ولم يكن يعرفني.
يقيناً، أنهما لم يتعارفا، البحر والشاعر، فالعمل الذي ينزف الوقت والروح والاستغلال في معامل لصنع الآلهة ـ أرباب الأعمال، يقتل كل شيء.
كل شيء يجري في عامودا، ملولاً، بدءاً من الولادة إلى الموت. بدءاً من حريق السينما الهائل الفاحش، في الشهر الحادي عشر من العام الستين، في القرن العشرين، إلى الحرائق اليومية التي تندلع في أرواح الشباب، وهم يقتادون بأيدي الأمن بتنويعاتها الفسيفساء الخرافية، لم يكن ثمت من متنفس بسيط لأن تكون كردياً، في مكان كردي، هو مكانك، وفي هواء كردي، هو هواؤك، وفي وحل كردي هو وحلك. كانت المدارس الأرمنية والسريانية منتشرة في الجزيرة، وكنتُ أحد الذين درسوا البدايات فيها؛ لكن ليس من مدرسة كردية.
الحزب الشيوعي، بطبعة خالد بكداش الكردي، والأممي أكثر من لينين وماركس وإنجلز والآلهة، كان يستحوذ على الشباب الكرد، لأن الزعيم الأوحد للشيوعية، كردي، وخرَّج شعراء أكراد ـ بالعربية ـ في فحولة تمجيد الشيوعية وبكداش وآل بكداش وحذاء بكداش وظلال بكداش في ناميبيا وجنوب أفريقيا وكوبا والمريخ، وبالطبع في الشآم، حيث مقام الإله الشيوعي، لكن نسي هؤلاء الشعراء أن يكتبوا عن كردستان، كانت أقدامهم الشاعرية الرهيفة تتعثر بعتبة كردستان، عندما يقتربون من هذه العتبة، لأنها قريبة، كانت خطواتهم الشاعرية أبعد، كانت قريبة جداً من خطوات المارد الجبار!.
أحزاب كردية أيضاً، كانت تتحرك تحت رمال البعث الكثيفة، ولها تجربتها العنيفة في السجون الوطنية، منذ الستينات، حيث شؤم الوحدة بين مصر وسوريا، الشؤم الذي طال زيارة جمال عبدالناصر لمدينة قامشلي، في الستينات، لماذا جاء إلى هذه المدينة المنكوبة ـ بعد ربع قرن ـ؟، جاء وخطب بصوته الجهوري للكرد الذين لم يفهموا من لغته سطراً واحداً، وذهب السيد الرئيس، وكانت السجون الوطنية الموحدة، تغص بكوكبة من المتنورين الكرد الأوائل، من شعراء ولغويين، وكتاب تاريخ، وكتاب فلكلور؛ حنينهم التدويني، كان يقبع في السجون، وكانت الأحزاب الكردية في بداية تمريناتها على التنظيم، البدايات التي قذفت ببعض قادتها خارج وطنها (نورالدين زازا نموذجاً). كانت الستينات من القرن الماضي، ستينات عذاب حقيقي لكرد سوريا: الجنين السياسي تكوّن، الجنين السياسي قمع. الالتفات الى الأدب الكردي، كان قد نضج، منذ عقود على يد المعلم الفذ "جلادت بدرخان"، من خلل مجلته الفذة "هوار"، وبمعية الجيل الرائد المؤسس: جكرخوين، أوسمان صبري، ملا حسن هشيار، قدري جان، ملا أحمدى نامي.. الخ، المجلة التي كانت توزع في عامودا عبر مراسلها آنذاك أوسي حرسان. بالطبع لايمكن نسيان حسين حزني موكرياني، الأب المغامر، الذي أسس في حلب، أول مطبعة كوردية عام 1915.
جاءت ـ بعد الانتداب الفرنسي ـ الحكوماتُ الوطنية، ثم جاءت الوحدة، فخرّبت الحياة الكردية في الجزيرة، وكانت الثورة الكردية في كردستان الجنوبية تشتعل، آنذاك، يقودها العائدُ الحديثُ من بطريركية الشيوعية، الملا مصطفى البارزاني، الشرارات الثقافية كانت تصل إلى عامودا، عبر الثورة، وعبر بعض المنشورات، والشرارة الأكثر ثقافية، لازالت تستقر في الحجرات الكوردية: الدروس الدينية والأدبية والخرافية، كانت في ذبالاتها الأخيرة، لكنها تركتْ أثراً كبيراً على مجمل الزمن والحياة والشجن الكردي في الجزيرة؛ تلك الحجرات التي انطفأت، بموت علمائها الكبار: سيداي ملا عبيدالله الكبير، الشيخ الخزنوي، الشيخ إبراهيم حقي، والجيل الثاني: سيداي ملا عبداللطيف سيدا؛ انتقلتْ علومهم إلى خزائن المخطوطات الثمينة التي أتلفها الزمن، كذا. لكن المخطوطات الفقهية، ستنتعش هذه المرة ثقافياً، على يد بعض تلامذة تلك الحجرات، سينسى هؤلاء تدريبات الفقه الشاقة والمواريث الأشق، وألفية ابن مالك، والملا الجامي، وتفسير إبن حجر، ليستقرَّ على بضعة كتب صفراء مشقوقة، هي كتب الكرد الباقية، في الزمن الهائل لهجراتهم ونزوحهم من بطشٍ إلى بطشٍ آخر. ستصل بعض هذه الكتب إلى يديِّ أحمد حسيني.

8

في الستينات، في الشهر الحادي عشر، من عام 1960، سيتفجع أهل عامودا، بحريق سينماها الهائل، ليذهب مائتان وثمانون تلميذاً (من صفوف البدايات) إلى المرتقى السماوية، بعد أن ارتقتْ بهم النيرانُ الهالكة إلى الاستنجاد بأمهاتهم، بلغة أمهاتهم، وليست لغة الزعيم جمال عبدالناصر، الذي ارتقى ذلك اليوم مبنى البريد والبرق والهاتف، وخاطب... لازال الزعيم على المبنى يخطب، لكن باسم آخر. احترق في الحريق، الأخُ للشاعر أحمد حسيني، "عبدالصمد". كان في الرابعة عشرة من عمره، احترق، ومات، وقبره بشاهديه الرخام، الذي يضم حرائقه، لازال يضم الجسد المتفحم المرتجف، يستقر تحت بضعة شجيرات من صنوبر الله، لها رائحة الحريق، وليست رائحة الطفولة العذبة، والصنوبر المتفجر.
قبل الحريق، بيوم، أخذ كمال شانباز، بيرقاً كردياً، ووضعه على سارية مدرسةٍ في عامودا، أَنزلَ علم الوحدة الموحدة، وزرع علم الكرد على أرض كردية، أغتيل تالياً، صاحب البيرق في بيروت السبعينات!!!. مزقته طلقات الاغتيال.

9

كيف يمكن الحديث عن الأثر الذي سيخلف الموت الفاجع، على شاعرية شاعر، هو خليط الألم؟ بل، كيف يمكن إنقاذ شاعرية شاعر، من الألم ـ كاهن الانحدار من الفنية، إلى العاطفة؟.

10

لم تكن اللغة الكردية متداولة كتابياً، إلا في القليل، آنذاك، بل هي في القمع المتشنج العصبوي العروبي، وليكن أيضاً الفاشي. سلالة زكي الأرسوزي وميشيل عفلق. كانت اللغة الكردية مثل مصكوكات نادرة، في أوائل الستينات، بعد الفورة الأربعينية والخمسينية، لنفس هذه اللغة في ظلال الفرنسيين، ثم الانسحاب العنيف والإجباري للغة الكردية، تحت ظلال الحكومات الوطنية، الأليفة مع أيقونات ميشيل عفلق، كان الكتاب الكردي ممنوعاً، والغناء الكردي ممنوعاً، والوحل الكردي ممنوعاً، وشهوة الكردي للكردية باللغة الكردية ممنوعاً، وسياق الكردي في سطره الأزلي عن كردستان ممنوعاً. لم يكن غير الخيزران، وهو يفلق باطن الأقدام. الخيزران اللدن المستورد من ماء الشمولية الطاهرة، التي كان يتطهر في أحواضها السيد الكبير خالد بكداش، في حين كان بنو جلدته، يتطهرون بماء الأقبية.
اللغة ـ هي جهات الكائن إلى آلامه. اللغة الأم. وليست لغات الآخر.
في أواسط الستينات، كانت الحركة الكردية الثقافية، شبه ميتة، بعد تلك الفورة، كان مولاي الشيخ أحمد الزفنكي، مفتي القامشلي، آنذاك، قد أنجز ترجمته الحياتية الكاملة، في ترجمة أهم أثر شعري كردي، قاطبة، إلى اللغة العربية، أعني به سِفر الملا الجزيري، من لغته الكردية الصعبة، إلى لغة أصعب. وطبع الكتاب بجزأيه، آنذاك في ظلال بيارق جمال عبدالناصر في القامشلي، كيف تمت الطباعة، وكيف تم تمرير أثر كردي، آنذاك!؟، سؤال في صيغة الجهل بالنسبة لي؛ لم تكن أواسط الستينات، سوى ركود فسيح للأدب الكوردي في سوريا، لكن، الغناءَ سيتصاعد من حنجرة المغنين الشعبيين: رفعت داري، حليم حسو، دمّر علي، جميل هورو، خضر أومري... وغيرهم. سيسطو هؤلاء بحناجرهم الشعبية، على مجالس الكرد الشعبية.

11

ولأنني أتحدث عن شاعر، في الألم، شاعر لاأعرفه حتى الآن، باسمه "الشيخ أحمد حسيني"، لم أعرف كيف تكوّن كردياً، وليس عربياً، مثل الجيل الكتابي الأول: حامد بدرخان ـ الأممي جداً، وتالياً، الكردي جداً ـ لكن، قبل وفاته بقليل، سليم بركات المعلم؛ ثم تالياً، نيروز مالك، دحام عبدالفتاح، فواز حسين، سيف الدين خليل، جميل داري، محمدنور الحسيني، زردشت محمد، إبراهيم اليوسف، طه خليل، وأنا المدوِّن. جيل آخر: أحمد عمر، لقمان ديركي، حليم يوسف، وأسماء كثيرة أخرى، ـ أتحدث عن الجزيرة، هنا ـ لأنني لست مطلعاً بما يؤهلني للحديث عن تجارب كردية في كوباني وعفرين والشآم ـ، أخذتنا البدايات دون استثناء إلى اللغة العربية، والاستثناء كانوا قلة، استثناء الكتابة بلغة الأم بأسرارها وحقائقها الخفية منها والواضحة؛ ليكن المشهد، هو مشهد النزيف من الكردية إلى العربية، ليكن المشهد الانغمار في شأن غير كردي بلغة غير كردية، ذهب الكثير إلى جهات كثيرة، غير كردية، في حين كان الكرد بحاجة إليهم. مساءلتان رئيستان مخربتان آنذاك للأدب الكردي في سوريا: الحزب الشيوعي السوري بطبعة خالد بكداش، ثم بتفرعاتها تالياً، والإعلام الكردي الفقير، الاهتمام بكل شيء سياسي، ونشر كل شيء سياسي ـ وإلى حد ما التاريخي ـ لكن الإبداعي، كان الاهتمام صفراً، اهتمام بدايات جاء من رابطة كاوا، في بيروت الثمانينات، لكن، الحزب هيمن بنشر سلسلة لاتنتهي من كتبٍ بالعربية المشوهة إملاءً ونحواً وصرفاً وعلامات ترقيم، والتي بالتالي، تشوه مايُقدم. الأحزاب الكردية في سوريا، وإلى اليوم، أغلب نشراتها بالعربية، إلا القلة، لنتذكر مجلات الأحزاب الكردية: الطريق اليسارية، (شبيهة طريق اللبنانية الشيوعية)؛ الحوار (الحوار العربي الكردي!)، الاتحاد ـ هفركتين تالياً (التي في كل عدد منها بضعة عشرة من صور السكرتير النشط)، سورغول، مجلة الشمولية الكردية العنيفة (وصور القائد الأبدي للعنف).
أين ستستقر دعوات الكرد السياسية، عندما لانجد مقالة لأحد الكوادر بالكردية، إلا في الندرة، ومن أواليات هذه الأحزاب، اللغة، قبل السجون والاضطهاد والاضراب عن الطعام، والبحث عن روح الكرد. الأحزاب الكردية، شجعت الكتابة بغير لغة الأم، من خلال مطبوعاتها بغير الكردية، وإلى هذا اليوم؟!.
في ظروف فلكية كهذه، ظهرت تجاربُ شعراء يكتبون بالكردية ـ وهي بالطبع فضيلة ـ، وكان أحدهم أحمد حسيني.

12

"صَدَقة"، من جهات الله الكردية، القريبة من بحيرة "وان"، و"بايزيد"، ومن أنفاس شرفخان بدليسي الكبير، الأشقر النزق المدخن الشره، صاحب الطوابع الوطنية لدوائر الوطن غير الوطنية، صاحب الكتب المنتقاة المعروضة بالعربية في صدر محله الصغير، على خيوطٍ بلاستيكٍ من نجيب محفوظ إلى توفيق الحكيم، المجلدات الكاملة المركونة على خشبٍ طبقاتٍ: أعمال طه حسين، أعمال الأنبياء الحفاة، أعمال الكردي النزق الآخر: عباس محمود العقاد، وكذا، أعمال أغاثا كريستي. لكن.. في الأسفل من تلك الطاولة التي تحتوي على الطوابع الوطنية، وتحت مغلفات قهرمانات ـ شهادات الزواج، شهادات الولادات، وشهادات الوفيات، كانت تستقر بضعةُ كتب بالكردية مستنسخة، تستقر رجِفةً خائفةً ممنوعةً، يصوّر السيد صاحب تلك العلوم السرية، تلك الكتب، يجلدها في البيت بأنّاة، ويقص أطراف صحائفها بأناة، ويلصق الصحائف بورق مقوى، وبأناة، ويعرضها لمن يريدها، يقرأ في ظهيرة عامودا الخرافية القتّالة، بضعة سطور من الملا جزيري المنسوخ، ومن مم وزين المنسوخ، ومن ترجمة الزفنكي الكبير، للشاعر الكبير. يقرأ ويدخن، يدخن ويقرأ، ويخاف من مرور مخابراتٍ، أو شُبْهة مخابرات؛ يعرض كتبه ـ كتب الكرد، لايعرضها، بل يمررها لمن له الهوى في لغة بعيدة عن المخابرات. كان أحمد حسيني، أحد الذين استهواهم كتب "صدقة"، أسفل طاولته المعذَّبة، وأسفل روح شرفخان بدليسي من جهات بحيرات الله المنسية. بحيرة "وان" أعني، وبحيرات الظهيرات الملولات في عامودا، حيث تخف حركةُ العباد، إلى القيلولة. تخف حركة "صدقة" أيضا، وهو على دراجته الزرقاء البيجو، يمر خلل أشجار الشيخ عفيف في حجرته، يقول له: إبن أخيك أحمد شاعر.
صدقة شريف، مات وهو يقرأ، ديواناً لتلميذه أحمد حسيني. هكذا سأخمن. ولِمَ لا؟.

13

في توتر الأجواء السبعينية، سيموت صديقٌ آخرُ للشيخ أحمد حسيني، "فصيح سيدا"، الشاعر الصغير المدرب بحنكة اللغة الكردية، وهو سليل ألغام الأحزاب الكردية آنذاك في الجزيرة، كان يكتب الشعر مسبوقاً بغنائية شعرية كبيرة، ومسبوقاً بلغة الرومانس، بعيداً عن جفاف اللغة السياسية، كان ينسل من أجواء السياسة في بيتهم على الأطراف الشمالية من عامودا، إلى غرفة سعيد ريزاني، على الأطراف الجنوبية من عامودا، ينسل عصراً أولَ إلى تلك الغرفة المبنية حديثاً والمطلة على خرابات الله وكروم الله؛ يجلس، يدندن شعراً كردياً، يتأنق، يسحب اللغة الكلاسيك إلى بعضٍ مما في روحه من المعاصرة، يشرب الشاي، ويشرب آلة الهارمونيكا، التي كان سعيد ريزاني ينفخ في روحها من روح أغاني الأفلام الهندية. مات فصيح سيدا في حرائقه الشابة عام 1975. وكان أحمد يترجم لغة شجرة التوت إلى لغة البيشمركه، بلغة جكرخوين الكلاسيك.

14

مات "كسرى عفدي"، أيضاً، وأيضاً في حرائق الجيران، أراد أن ينقذ الجيران في قامشلوكي من حرائقهم، فانفجرتْ به أسطوانةُ الغاز الوطنية. وكان صديقاً للبدايات الشعرية الكردية التي بدأت تستقر عند أحمد حسيني، من اللغة القوية والهادرة، إلى لغة، قوامها البحث عن الذات العاشقة، بدلاً عن المواضيع الكبرى؛ والشعر هو الذات أصلاً، ولتكن الذات العاشقة، التي ستحترق في حرائق بيئة رعوية. ليكن الهجران، إذاً.

15

في عام 1989، أواخر العام، كنتُ ومحمد كلش وإبراهيم محمد، قد غادرنا الشام، إلى بولونيا، بتدبير إلهي، وسماسرة السفارات، مقابل مبلغ معلوم؛ في وارسو الزمهرير المطار خرجنا، لانعرف أحداً، كان معنا آخر، شيوعي، كان سيأتي ببعثة شيوعية مباركة إلى بولونيا، كنا أربعة سنحط في بولونيا، كان يحمل معه منشورات النبي الأممي خالد بكداش، وفي المرور من جهة مطار إلى أخرى، اكتشفوا منشورات الرفيق الذي كان يتربع آنذاك في قائمة الجبهة الوطنية لمجلس الشعب الوطني، وليس الأممي، منشورات هي في التدليس للشمولية بطبعة البعث والاتحاد السوفيتي، أخذوا "رفيقنا الشيوعي"، لمدة شهر ونصف، حجزوه، إلى أن جعلوا أقدامه مثل أقدام الفيلة في الأقبية. وكنا الثلاثة نعوّل عليه، الذي أصبح معتقلاً، بأن يأتي أخوه الدارس في بولونيا، ليستقبل أرواحنا التائهة الخائفة في مطار بولونيا الزمهرير، فلم تسقبلنا سوى أشجار مقرورة عليها الكآبة والثلج والفقر، بعد الاطاحة بنظام الشمولية هناك.
خرجنا، اتصلنا مع أحمد حسيني، الذي كان قد سبقنا بأشهر قليلة إلى السويد، قلتُ له: أحمد لقد أتينا، اقتربنا من الاسكندناف، مائة فراسخ فقط. بعد ثلاثة أيام، في بولونيا، تعرفنا على الغجر هناك، الغجر الذين نشَّفت الشيوعية أرواحهم المتمردة، ورمت بنسائهم الجميلات السمراوات، أمام أبواب الفنادق، للتسول والعهر. كانت السفينةُ العملاقةُ تستقرُّ في السويد، وفي اليوم التالي، كان أحمد حسيني معنا في السويد. لقد انزلقنا مرة ثانية من أمهاتنا المكدودات، إلى أمهاتنا الشقراوات ـ السويد هذه المرة. وستبدأ رحلةٌ، هي رحلة الوصول إلى أن تكونَ منفياً، وتكتب الشعرَ في المنفى.
في مرحلة انتظار الإقامة، كتب أحمد حسيني، الشعر الذي دل عليه تالياً بقوة: الشعر الحنين ـ الشعر الحب الذي كان يلمع من بعيد.
الحياة الجديدة، ستأخذ كلاًّ منا إلى جغرافيا سويدية مختلفة، جمعنا نُزْل سكني سويدي واحد، لأشهر معدودة، ثم أبعدتنا الاقامات، وجدتُ نفسي فجأة في مكان معزول، لاأعرف أحداً، في كومونة صغيرة، وفي شقة كبيرة، تحيط بي أشجارٌ، ستظل تراقبني من النافذة، حتى في الظلام. أستنجد بأحمد حسيني، ليساعدَ خوفي من الأشجار المقرورة ـ هل كانتْ شجرةُ التوت بينها؟، كان يزورني، ثم انتقل أيضاً إلى مدينتي ـ هل كانت مدينتي؟. ثم ستأخذه الأقدارُ إلى ستوكهولم، أقدار العاصمة، حيث فيها النشاط الثقافي الكردي المتعدد. كان ثمة من تشكيل لاتحاد كتاب كردي، ببادرة مغامرة، ثم تشرذمت البادرة. كانت الفتنُ أيضاً موجودة في الزمن المقرور في الاتحاد المقرور الذي أصدر مجلة "وان"، ثم توقفت مجلة وان، ثم في حركة من المتاهة، متاهة المجلات بالكردية، في السويد غير الكردية، أقام الشيخ أحمد صلاته مع صلات الفذ جلادت بدرخان، فأشرف على مجلة، ستعتبر رائدة بحق في الثقافة الكوردية الحديثة، أعني بها مجلة "دوكر"، بسلطانها، سلطان اللغة الكردية الكرمانجية، وبحثاً عن الفن، وليس البحث عن المكان الكردي المفقود، كردستان. البحث عن الشعر.
المجلات ستتوقف. وستتوقف الحياة الثقافية الكردية، بشكل كثيف، اتحاد الكتاب الكرد القديم فشل، الصراع بين الأحزاب وصل إلى الخناجر المعنوية الكردية، في قاعات السويديين آنذاك. مثلما تفعل نفس الخناجر في الاتحاد الجديد، بعد عقد من زمن ثقيل، لكن، ليس في قاعات السويديين، بل في مواقع الكرد الأنترنيتية.

16

كان الأبُ، الشيخ توفيق الحسيني، يدخن، ويتراسل مع الفرنسي جاك بريفير، كلاهما يقضمان ورق التبغ، ويتأملان شمس المنفى، ويتراسلان. مات الأب وهو يأكل الزجاج؛ كانت له القدرة على ذلك، كما رأيتُ بنفسي. والشاعر، الإبن، يأكل الوقتَ في موت الأب في نهاية السبعينات. بل يأكل الضوءَ، الضوء الذي سيسحبه إلى مكائد عمنا المشترك "بورخيس"، ولغة المنفي الإغريقي الإسكندراني، إبن عمنا المشترك "كافافيس".

17

كنا نتجول في ستوكهولم.
كان يكتب الشعر بالكردية، وأنا أكتب الشعر بالعربية. وكنا في النزل السويدي، نتأمل سوياً عامودا. وكانت عامودا تتأملنا.
ـ لماذا لانطبع كتاباً مشتركاً؟ ساءلني أحمد.
فطبعنا كتاباً مشتركاً غريباً، هو بالكردية، وأنا بالعربية: حريق عامودا، حريق حلبجة، حريق محمد شيخو، حريق روحينا. ضم الكتاب ـ الديوان، تلك الحرائق. اللغة الشعرية لكل واحد منا لم تكن قد تخلَّصت بعد من الألم. طغى الألم الكثير على الشعر القليل؛ ومع ذلك نفد كل منا بشعريته من العاطفة الفجة، والصراخ. هكذا تترآى لي التجربة الآن، بعد مضي حوالي العقد والنصف عليها. كانت الطبعة ركيكة، والغلاف بلونين ركيكين، أنقذ الغلاف لوحة لـ بشار العيسى.

18

أخذتنا أقدارُنا، إلى أقدارٍ أخرى.
"عبدالباسط"، الشقيق الأصغر، ذلك الشقي الناري، بطباعه، سيجره مرضُ السرطان من قدميه، إلى قدم الموت، عام 1992، ولمَّا يكتمل الثلاثين من عمره.
كان أحمد حسيني، ذلك اليوم، قبل رأس السنة ببضعة ساعات، عندي، جاء من ستوكهولم، إلى غوتنبورغ، لنشاهد سوياً ثلوج بابا نويل، ولحية بابا نويل، وآلهة بابا نويل، ونشوي على مواقدنا، احتفالات رأس السنة، فشوينا خبر موت عبدالباسط، على نار السرطان.

19

أيةُ سيرة، أسردها؟
أسيرة الموت، أم المنفى، أم الشعر؟.
في عامودا، مررنا، ذلك اليوم خلل أشجار الزيزفون، مررنا بعتبة الزيزفون، استنشقنا الزيزفون، وهو يحدثني عن الرحيل من عامودا، إلى السويد؛ لكن، في السويد، مررنا ثانية، تحت أشجار الزيزفون المجاز، لكن، لم يحدثني عن رحيله من السويد، إلى بريطانيا.

20

عملنا أيضاً في "حجلنامه": كنا نسهر إلى الصباح، في نصف قبو، ندوِّن إخراج حجلنامه، وكان معنا في العدد الثاني، المشَّاء الآخر، المعلم سليم بركات. صديقنا القادم من فتنة اللغة العربية، إلى روح الكرد المعذبة.

21

تجربة شيخ أحمد حسيني، هي اختزال لسرد الحياة شعراً. بدأتْ منذ وقفة جمال عبدالناصر على مبنى البريد والبرق والهاتف في القامشلي، واستمرتْ مع الوقفة المبهمة للزعيم المفوه، إلى هذا اليوم، الذي لازال هناك يخطب ويخطب ويخطب، لكن، بلغة أخرى. بالتأكيد هي ليست اللغة الكردية، التي يكتب بها أحمد حسيني شعره.
شجرة التوت في بيت أحمد حسيني القديم، جانب السينما الصيفية، تراقب جمال عبدالناصر، وتهز برأسها، وهو يخطب ويخطب، بالعربية، لحشدٍ لن يفهم منه أي شيء، بالتأكيد. لكن، تفهمه شجرة التوت، في بيت أحمد حسيني. تفهمه، وتموت كَمَداً.

22

"يأتي الموتى،
يأتي أخوه،
وأمه تأتي،
يأتي أصدقاؤه،
يعود الندى،
وتعود سبّحةُ والده،
لكن، شيخ الورد لم يأتِ،
ولم يأتِ
قاضي محمد. كي قوباد. سوبارتو. تشالديران. بارزاني. بيران. بيازيد. سيباني خلات...
ولم يأتِ أسخيلوس،
لم يأتِ كافافيس".

***

غوتنبورغ