ترجمة: سعيد بنگراد
تقديم
بعد الهزة العنيفة التي أحدثها النموذج الپروپي في الدراسات السردية، كان لابد من حدوث هزة أخرى تطال كل القناعات التي أفرزها هذا النموذج والتي تحولت مع مرور الوقت إلى حقائق لا تمس.
يجب أن نعيد النظر في الكوني والعام.
يجب أن نعيد الاعتبار للزائل والعرضي.
لقد بلور النموذج العام تصورات نظرية ساهمت في تعميق معرفتنا بالنص السردي، وكشفت لنا عن وحدة الكائن البشري: وحدته في العقل والفن والغرائز. ومن هذه الوحدة جاءت الحاجة في العودة إلى التعدد. فمن صلب الكونية والعالمية ينبثق الاختلاف والتنوع والتعدد.
إن الانزياح عن الهيكل السردي العام والعودة لمساءلة ما "أهملته" النظريات الأولى هو السبيل إلى معانقة خصوصية الفعل الإنساني.
من هذا المنطلق يقدم لنا كورتيس ( Courtès)هذه الدراسة الممتعة لما يسميه بالمكون الخطابي، أي الوحدات الدلالية التي تشيد عالم النص كجهاز ثقافي أيديولوجي يبحث عن عمق الإنسان من خلال سلوك الإنسان. إن هذه الوحدات، في عرضيتها وتغيرها وهشاشتها ( إنها تعكس هشاشة الوجود الإنساني نفسه)، هي الكوة التي يؤول عبرها الفعل الإنساني ويتحدد موقعه ضمن التنوع الثقافي الكوني.
وكان التركيز على ثلاث مقولات أساسية: البعد الثيمي والبعد التصويري والبعد القيمي ( لم نقم بترجمة إلا ما يتعلق بالتصويري والثيمي ). يتحدد البعد التصويري في نظر كورتيس في كل المضامين التي تعود إلى الحواس الخمس، أي إلى كل ما يمكن إدراكه كمعطى مباشر قابل للمعاينة في العالم الخارجي. ويتحدد البعد الثيمي ككون مجرد، أي بصفته مضمونا لا رابط له مع العالم الخارجي. وبعبارة أخرى، لا وجود للثيمي إلا من خلال النسخ المتولدة عنه: إنه موجود بالنيابة. وينظر إلى البعد القيمي كوجود محايث لقيم تولد ثيمات، لتتحول هذه الثيمات إلي سلوك أي إلى معطى تصويري.
إن الأمر يتعلق بطريقتين للامساك بالكون ومعطياته، إنهما نمطان للقراءة والتأويل: لا وجود للحب وللكراهية والحنين
( ثيمات) إلا من خلال النسخ المتنوعة. فما ندركه من هذه المقولات هو معادل مشخص لحدود مجردة دائمة التحقق، وفي تحققها تغتني وتغني الممارسة. وبهذا المعنى سيتحول المعطى الدلالي ( ما كان ينظر إليه كعنصر متغير ) إلى عنصر ثابت قابل لأن يستثمر في قوالب متنوعة.
إن الصياغة النظرية التي يمكن أن تعطى لسميائيات الخطاب يجب أن تكون لها القدرة على استيعاب هذه المفاهيم. وعبر هذه المفاهيم يمكن الوصول إلى تحديد الأكوان الدلالية والنظر إليها باعتبارها تنويعات ثقافية تخبر عن العمق الحضاري لمجموعة بشرية ما.
يتابع كورتيس هنا ما قدمه في كتابه:
Le conte populaire poétique et mythologie, ed.PUF1986
حيث حاول الكشف عن "منطق للمخيال "من خلال تتبع حياة الموتيفات والثيمات وأشكال تحققها في كل الطقوس: طقوس الحياة السارة منها والمحزنة. ولقد قادته دراسته إلى الكشف عن الكثير من " الحقائق السلوكية" التي لا تظهر من خلال الدراسات "الجادة". والكتاب الذي نترجم منه هذه الفقرات هو بعنوان:
Analyse Sémiotique Du Discours, de l'énoncé à l'énonciation, ed. Hachette, Paris, 1991
ويشتمل الكتاب على أربعة فصول:
- مقدمات وآفاق،
- الأشكال السردية،
- الأشكال السردية والدلالية،
- الأشكال التلفظية والأشكال الملفوظية. و الفقرات التي نترجمها تنتمي إلى الفصل الثالث وتمتد من ص 163الى ص 172. وسيلاحظ القارئ الذي يعود إلى النص الأصلي أننا لم نترجم الجمل التي تحيل على ما سيأتي أو تشير إلى قضية سابقة.
النص المترجم
نطلق لفظ "التصويري" (le figuratif) على كل مدلول وكل مضمون للسان طبيعي، وبشكل أوسع، على كل نسق تمثيلي (بصري مثلا) يمتلك معادلا على مستوى الدال (التعبير) في العالم الطبيعي والواقع المدرك. وبناء عليه، فإن كل ما يعود داخل كون خطابي معين (لفظي أوغير لفظي) إلى إحدى الحواس الخمس التقليدية: البصر، السمع، الشم، الذوق، اللمس، وباختصار كل ما يدخل ضمن إدراك العالم الخارجي، نطلق عليه التصويري.
ويتحدد الثيمي( le thématique)، في المقابل، باعتباره عنصرا لا رابط بينه وبين دائرة العالم الطبيعي: إن الأمر يتعلق هنا بمضامين، وبمدلولات لأنساق تمثيلية لا تملك معادلا داخل المرجع. فإذا كان التصويري يتحدد من خلال الإدراك، فإن الثيمي يتميز بمظهره المفهومي البحت. وهكذا، فإن "الحب" و"الكراهية"، و"الطيبوبة" و"الخبث" لا وجود لها، إن جاز التعبير على مستوى الإدراك، إنها مقولات مجردة. وفي المقابل، فإن ما يعود إلى الحواس الخمس هو سلوك الحب والكراهية والطيبوبة والخبث. وهو سلوك متغير وفق السياقات السوسيوثقافية. وهكذا يمكن أن نميز بدقة بين مفهوم الإيروسية الذي لا يدخل ضمن البعد الثيمي وبين أنماط تعبيره المحسوسة، المتنوعة تنوع السياقات الثقافية التي يضمها البعد التصويري.
وهكذا، فإن التصويري والثيمي يتقابلان ويتكاملان في نفس الآن (1). فالتصويري له علاقة بالعالم الخارجي، بالذي ندركه من خلال الحواس، أما الثيمي فيتعلق بالعالم الداخلي، بالبناءات الذهنية الخالصة، مع كل التنويعات المفهومية المكونة لها. وتجمع هذين المكونين علاقات متبادلة يجدر بنا توضيحها بتفصيل. وستساعدنا الأمثلة، التي سنعتمدها في توضيح هاتين المقولتين، على فهم أساس التمييز بين التصويري والثيمي.
ولتكن البداية من التصويري. فهذا البعد لا يمكن، وتلك أطروحتنا، أن يوجد منعزلا. إنه يستدعي إما إجراء ثيميا وإما إجراء قيميا كما سنرى ذلك لاحقا. فلو كان بهذه الصفة، لدخل ضمن اللامعقول، وسيكون محروما من أي معنى (بالمفهوم المزدوج لهذا الحد: الاتجاه والدلالة). وتلك فيما يبدو حالة الإنطوائي. وبالفعل، فعندما أستحم مثلا، فإني لا أقوم بهذا من أجل الاستحمام، ولكني أهدف إلى شيء آخر. إنني أفعل ذلك لأشعر بلذة، أو لغاية صحية، الخ. إننا نريد القول، من وراء كل هذا، إن التصويري، في حالات متعددة، وليس دائما خلافا لما كتبناه سابقا، يحتاج، لكي يدرك، إلى ثيمة تجسده. وسنقترح المثالين التالين:
المثال الأول:
سأفترض أني أنا الفرنسي أدخل لأول مرة بلدا من الشرق الأقصى، بلدا لا أعرف عاداته، ولا تقاليده الثقافية، وأشاهد في الشارع أشخاصا يثيرني سلوكهم الحركي: فما أشاهده يدخل ضمن التصويري، ضمن الإدراك البصري و/أو السمعي، ولكني في نفس الوقت أتساءل عن معنى هذه الحركات. ذلك أن ما ينقصني فعلا هو التأويل الثيمي الذي ينصب على هذه الحركات. وفي هذه الحالة، فإن العلاقة تصويري/ثيمي يمكن مطابقتها مع العلاقة دال/مدلول (تعبير/ مضمون).
المثال الثاني:
لنأخذ نص بابا ياغا. فعندما أسدت الفتاة خدمة لياغا كافأها على ذلك. فالجزاء الذي يعد لديها من طبيعة إيجابية، يُعبر عنه على مستوى ذهني. وهو مستوى ذو طبيعة ثيمية "أثنى الياغا على الفتاة"، ثم على المستوى التداولي "وأهداها ثيابا متنوعة ". فمع هذه "الثياب" نلج الميدان التصويري. ولكن إلى هذه الحدود، لا نعرف أية قيمة يمكن إسنادها لهذه "الثياب". فلكي يكون لهذه الثياب معنى داخل الخطاب، يجب منحها بعدا ثيميا. الشيء الذي سيقوم به المتلفظ مباشرة: >ذهب الرجل ثم عاد فلاحظ أن ابنته غنية، غنية جدا <. ففي هذه اللحظة رُفع الالتباس عن هذه "الثياب" فقد أُولت كدليل على "الغنى" (الغنى بطبيعة الحال مقولة ثيمية).
يجب الإقرار بأن التصويري غالبا ما يكون تابعا للثيمي. ذلك أن الاستنجاد بمعطيات العالم الخارجي، كما يدل على ذلك الخطاب الحكمي، يشتغل كذريعة لتأكيد نسق من القيم. فالكثير من خطاباتنا اليومية، على غرار الحكايات الشعبية، ترمي إلى تمرير"أفكار" أي معطيات مفهومية وتحاول توضيحها قدر المستطاع. ولنأخذ على سبيل المثال حكايات بيرو Perrault حيث إن ثيمة "النفور" تشخص لحظة طرحها: >لقد كانت هذه الأم تنفر نفورا بشعا من البنت الصغرى. فقد كانت تجعلها تتناول طعامها في المطبخ، ولا تدعها تكف عن العمل. وكان على هذه الفتاة المسكينة أن تقوم بأشغال كثيرة منها جلب الماء مرتين كل يوم من مسافة بعيدة .
والجدير بالملاحظة أن الحكايات الشعبية، على خلاف عمل بيرو، لا تكلف نفسها عناء إظهار الثيمات الموجودة على شكل "أخلاقيات": لقد استعمل التصويري دائما ليدل على شيء آخر، من أجل الرقي بالقارئ أوالسامع إلى مستوى القيم المفهومية المطروحة للتداول.
ولنعد الآن إلى الثيمي. فما يثير الانتباه لأول وهلة هو استقلالية الثيمي، خلافا للتصويري الذي هو في حاجة دائمة إلى عنصر إضافي (الثيمية كما هو الشأن في المثال السابق، أو القيمي كما سنرى). إلا أن هذا الوجود محكوم بشروط معينة
( في بعض الحالات فقط). وهكذا فإن اللسان الطبيعي يطرح بشكل مباشر المستوى الثيمي دون الاعتماد على تمثيل تصويري، وتلك ميزة الخطاب الرياضي أو المنطقي وأيضا الفلسفة، رغم أن الفلسفة تحتاج أحيانا إلى أمثلة ملموسة، أي تصويرية. وفي هذه الحالة، فإن هذا يعني أن الثيمي عنصر مكتف بنفسه. وعلى هذا الأساس سندرك أن التناظر الذي طرحناه سابقا بين التصويري والثيمي من جهة، وبين الدال والمدلول من جهة ثانية، يعد لاغيا. إضافة إلى ذلك، فإن الإقرار بأن اللغات الطبيعية وحدها قادرة على التعبير مباشرة عن الثيمي، معناه أن الأنساق السميائية الأخرى تشكو من محدودية حقيقية. ولنأخذ على سبيل المثال السميائيات البصرية. فلوحة ما قادرة بالتأكيد على التعبير عن معطيات ثيمية، ولكنها تقوم بذلك بالضرورة عبر التصويري. فالصباغة لا يمكنها أن تكون إلا تصويرية. ذلك أن الإمساك بها لا يتم إلا من خلال البصر.
ومن نافلة القول، إذن، التأكيد على أن من يمتلك طبيعة مفهومية أو ثيمية، لا يعبر عنه بالضرورة من خلال اللوحة أو الصورة. فالعنوان الذي يعطى للعمل يستخدم غالبا من أجل تحديد تأويله الثيمي. وتلك مثلا حالة:
la planche de B Rabier. (التي درسها ج . م. فلوش J.M.Floch) المعنونة عش مريح. وفي جميع الحالات، سيكون من الصعب إعطاء تمثيل بصري لعملية منطقية أو استنباط فلسفي مثلا. إن اللسان الطبيعي، على العكس من ذلك، لا يشكو من أية محدودية.
وبإمكاننا الآن، بعد تأكيد الاستقلالية النسبية للتصويري في علاقته بالثيمي، أن ننكب على دراسة بعض أنماط الترابطات الممكنة بين هذين المكونين الدلاليين.
لقد كانت فرضيتنا الأولى هي غياب علاقة ثنائية قارة بين التصويري والثيمي. ويمكن تحليل بعض الحالات. قد يحدث أن يتطابق نفس المعطى التصويري، أو نفس الصورة ( إذ إنها من طبيعة إدراكية) مع إجراء ثيمي، أو ثيمات مختلفة:
1صورة
ثيمة 1 2 3 4 5
فإذا أخذنا "إضرابا " مثلا، سنلاحظ أن هذا الإضراب سيعلن عنه، مدعما بالصور، في الصفحات الأولى من جرائد الصباح. إنه يعود في هذه الحالة إلى المستوى التصويري. ومن الطبيعي أن تقدم كل جريدة تأويلا مختلفا لهذا الحدث. وهكذا من المحتمل أن تتبنى جريدتا Le Figaro, l'Humanité (2) إجراءات ثيمية متناقضة كلية.
وبالمثل، فإن الضيف الذي يترك بقايا في صحنه، سينظر إليه نظرة إيجابية في الإكواتور، وسينظر إليه كفعل لا أخلاقي في فرنسا. إن نفس المعطى التصويري (البقايا) ينظر إليه كعلامة على اللباقة هناك، وعلى الفظاظة هنا. وعندما دخلت الدبابات السوفياتية أرض أفغانستان، فإن هذا الفعل، الذي يعد من طبيعة تصويرية، (لقد أمكنت مشاهدته على الشاشة) قد أُول كتعبير عن /الصداقة/ (هب "الأخ الأكبر" لنجدة بلد يعاني من مشاكل) وكتعبير عن عدوان (السوفيات احتلوا بلدا غير بلدهم). ونعرف أيضا أن الدموع قد تكون من الفرح وقد تكون علامة على الحزن. وضمن هذه الدائرة تندرج الإشكالية الكبرى للموتيفات الخاصة بالتقاليد الشفاهية الشعبية (كما يشهد على ذلك كتابنا:
le conte populaire : poétique et mythologie
وكتب أخرى) وأيضا بالمعمار وبالنحت وبالصباغة. ففي جميع الحالات، يعد التصويري عنصرا ثابتا وينظر إلى الثيمي كسياق حقيقي. هناك علاقة أخرى ممكنة نمثل لها بالشكل التالي:
صور1 2 3 4 5
ثيمة1
ويعد هذا الشكل نقيضا للشكل السابق. فالمعطيات التصويرية المختلفة تتظافر من أجل توضيح ثيمة واحدة، إن جاز التعبير. والأمر يتعلق في هذا الشكل ببنية الخطاب الحكمي الذي يقدم معطى مفهوميا واحدا (=ثيمة) في أشكال تصويرية متنوعة. ولنعد مرة أخرى إلى حكايات بيرو، ونأخذ نفس الفقرة السابقة: (لقد كانت هذه الأم تنفر نفورا بشعا من البنت الصغرى. فقد كانت تجعلها تتناول طعامها في المطبخ، و لا تدعها تكف عن العمل. وكان على هذه الفتاة المسكينة أن تقوم بأشغال كثيرة منها جلب الماء مرتين كل يوم من مسافة بعيدة).
ففي هذا المقطع يظهر"النفور" من خلال تمثيلات تصويرية متنوعة: "تتناول الطعام في المطبخ"، "جلب الماء"، "لا تكف عن العمل". إنها طرق متعددة للتعبير والترجمة التصويرية لنفس الثيمة "النفور". ونحن نعرف الأهمية البيداغوجية التي توفرها الاستعانة بالحكمة وقوتها الاقناعية. ويعود ذلك، بطبيعة الحال، إلى كون الحكايات والأساطير والمرويات الدينية (لقد كان المسيح يحدثهم عن أشياء كثيرة من خلال الحكم) Mt, 13, 3 وأيضا الخطاب السياسي والإشهاري وأشكال أخرى تستثمر بشكل كبير البنية الحكمية: لقد حلت المتعة والبعد الشعري محل التقشف الثيمي.
ويمكن الحديث عن علاقة أخرى ممكنة بين التصويري والثيمي. وتقيم هذه العلاقة نوعا من التطابق بين هذين المستويين: حد مقابل حد. ولتكن الترسيمة البسيطة التالية:
صورة 1
ثيمة 1
إن الأمر يتعلق ببنية الرمز ذاتها (الرمز بالمعنى العادي). وهكذا، فإن الميزان مثلا، في مستواه التصويري يُربط، ب"العدالة" على المستوى الثيمي. وفي الايقونوغرافيا الغربية في القرنين 17و18كما يذكرنا بذلك بانوفسكي:
(et sa signification, l'oeuvre d'art Gallimard, 1969)وآخرون، فإن "الدب" يمثل /الغضب/، وتمثل "البوم" أو"الكتاب" /الحكمة/، ويمثل "الدنفيل" /العجلة/الخ. وكذلك الأمر مع "لغة الورود": "الشقار" يحيل على المثابرة، و"الكاميليا " تحيل على الزهو، و"الزهور" تشير إلى الحب.
إن مقروئية وإدراك هذا النوع من الرموز لا تتحددان، بطبيعة الحال، إلا داخل إطار معين: فالميزان لا يحيل دائما على العدالة في كل الخطابات. وكذلك الأمر مع الرمزية الأيقونية التي سبقت الإشارة إليها. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن لغة الورود، إنها ليست قابلة للتعميم بل مرتبطة بأكوان زمانية وفضائية وثقافية معينة. فلا وجود لمعطيات تصويرية مرتبطة كونيا بعنصر ثيمي واحد: فحتى في حالة الصور الأكثر انتشارا في العالم مثل "الماء" و"التراب" و"الهواء"، فإن كل ثقافة تتصرف تجاه هذه العناصر تصرفا خاصا. فقد يكون الماء "هنا" رديفا للحياة والفرح، ويكون "هناك " مرادفا للموت والكوارث والشر ولكل ما هو سلبي.
وعلى عكس الرمزية التي تربط بين وحدة تصويرية وبين وحدة ثيمية كحد مقابل حد، ف شبه-الرمزية تراهن على التداعي، وعلى تطابق فئة مع فئة أخرى. وقد أعطينا توضيحا كافيا في دراستنا لمقطع من كتاب Le Lion (J.Kessel) (3) ، حيث إن التقابل صداقة/عداوة الذي يقع على المستوى التمثيلي متلازم مع مقولات تصويرية متنوعة تشتغل كتعابير لها (الشيء الذي يمنح هذا النص بعدا حكميا).
وعلى هذا الأساس، فإن كل ما يعود، مثلا، في هذه الحكاية إلى "مغلق"، "صمت"، "سكون"، "مظلم"، "بارد"، يجب النظر إليه كتمثيل تصويري لثيمة /الصداقة /، وبارتباط مع ذلك، فإن كل ما يعود إلى "مفتوح"، "ضجيج"، "حركة"، " مضيء"، "حار"، يحيل، بالضرورة، في هذا النص على/العداوة/.
المستوى الثيمي صداقة (م) عداوة
مغلق (م) مفتوح
صمت (م) ضجيج
المستوى التصويري سكون (م) حركة
مضيء (م) مظلم
بارد (م) حار
وهناك إمكانية أخيرة لأشكال العلاقة بين التصويري والثيمي. ويمكن أن نمثل لها على الشكل التالي:
صورة 1
(1 ثيمة /1صورة)
صورة 1
ووفق هذه اللوحة، فإن العلاقة بين الخطاطتين معا يتوسطنهما إما عنصر ذو طبيعة ثيمية وإما عنصر ذو طبيعة تصويرية. وتلك، فيما يبدو، حالة الاستعارة. ففي هذه الحالة قد يحدث أن يكون وجه الشبه من طبيعة ثيمية: فتشبيه "فتاة" ب"زهرة" معناه إيجاد نقطة تشابه بينهما، سمة الجمال مثلا. وفي الجملة الشهيرة لباسكال "إن الإنسان مجرد قصب، أضعف ما في الطبيعة، ولكنه قصب مفكر"، فإن الرابط بين الإنسان والقصب هو طابعهما الثيمي "الهشاشة". وفي مكان آخر، فإن التقريب بين الصورتين يقوم على أساس تصويري. وذلك، فيما يبدو، الحال في "هذا المنجل الذهبي في حقل من النجوم"، حيث إن "المنجل" و"القمر"يشتركان في الشكل واللون.
ويجدر بنا، بعد تحديد أشكال العلاقات بين المستويين، أن نقوم بخطوة جديدة إلى الأمام. وعليه، سنقترح تشريح كل مكون دلالي وفق نفس المبدأ. ولنأخذ حالة البعد التصويري. إن فرضيتنا في هذا المجال تنطلق من تصور يقول بتطور التصويري، إن جاز التعبير، بين قطبين، وقابل لأن يتمفصل وفق التقابل: التصويري الأيقوني (م) التصويري المجرد.
إن التصويري الأيقوني هو الذي ينتج أفضل الأوهام المرجعية (نعتقد في حقيقة ما نرى) ويبدو بذلك أقرب إلى الواقع. وهكذا فإننا عندما نقرأ وصف زولا ل أحشاء باريس Le Ventre de Paris نشعر بوجود تشابه كبير، بوجود =أيقونية بعبارات سميائية، ولو على مستوى تعدد الجزئيات الملموسة المشار إليها في النص].
أما التصويري المجرد، فعلى العكس من ذلك، لا يحتفظ إلا بأقل عدد من السمات "الواقعية". فإذا كنا ندرج صورة فوتوغرافية لسياسي معروف ضمن التصويري الأيقوني، فإن صورته الكاريكاتورية تدخل ضمن التصويري المجرد. إن الاختلاف في رأينا يكمن في عدد السمات والعناصر المكونة (4). وكذلك الشأن مع الصباغة. فمن جانب، هناك تمثيل يريد لنفسه أن يكون "واقعيا"، والأمر يتعلق بالصباغة المسماة "تصويرية". أما الجانب الثاني فيعود إلى الصباغة اللاتصويرية أو "المجردة". وفي هذه الحالة، وكما أشرنا إلى ذلك سابقا، فإننا لا نخرج من المجال التصويري، ذلك أننا نبقى في حدود البصري. ولهذا، فإن التشابه (=الأيقونية) مع الواقع، يميل إلى التقلص، إن لم نقل الاختفاء الكلي، عندما يصبح من الصعب تأويل وتحديد النقط والسمات والأشكال والمساحات الملونة. وبطبيعة الحال، فإن التصويري الأيقوني، والتصويري المجرد ليسا سوى الحدود القصوى داخل محور: فما بينهما يمكن الحديث عن الكثير من المواقع الممكنة. وبما أن التقابل هنا هو من طبيعة تدرجية وليس من طبيعة مقولية، فإن الانتقال من التصويري الايقوني إلى التصويري المجرد يتم بطريقة غير محسوسة والعكس أيضا صحيح.
ومن أجل تدعيم هذه الفرضية، سنأخذ أمثلة من اللسانيات. وهنا أيضا نقترح التمييز بين وحدات تصويرية أيقونية وبين وحدات تصويرية مجردة. وسنأخذ من جديد نص بابا ياغا لإعطاء توضيح أول. فإذا كان "السلوك"، وهو حد اختير لغاية تعميمية، يعود إلى التصويري المجرد، فإن الأفعال الملموسة التي يعددها النص: "نسج"، "تسخين"، " إشعال الموقد"، يجب إدراجها ضمن التصويري الأيقوني. في حين تتحدد "اخدميني"( sers-moi)، بين القطبين، في موقع احتوائي في علاقتها بالأفعال الملموسة من جهة، ولا تشكل سوى شكل من أشكال "السلوك" الممكنة.
التصويري الأيقوني التصويري المجرد
"نسج" "إشعال الموقد" "اخدميني" سلوك
وبطبيعة الحال، فإن التقابل أيقوني/مجرد ليس من طبيعة مادية، إنه مجرد علاقة. فعنصر متغير واحد يمكن، وفق السياقات، أن يدرج ضمن هذا القطب أو ذاك، أو ضمن القطبين معا. وهكذا، فإن "اخدميني" يمكن اعتبارها أيقونية في علاقتها ب"الفعل"الذي يعتبر عنصرا أكثر تجريدية من سلوكنا.
ولنأخذ مثالا آخر من المجال اللكسيمي (5). ولتكن صورة "السهرة" le bal وسنبقى في حدود التعريف الذي نصادفه في القاموس: لقاء للرقص. نلاحظ في البداية أن "الرقص" أقل أيقونية من "سهرة"، فالسهرة أكثر تخصيصا من الرقص (وحسب القاموس، فإن السهرة تحيل إما على الأوساط الراقية، وإما على الأوساط الشعبية). ومن جهته، فإن الرقص أقل تجريدية من الحركة التي يقتضيها (الرقص متتالية تعبيرية من حركات الجسم تنفذ وفق إيقاع خاص).
التصويري الأيقوني التصويري المجرد
حفل رقص حركة
فمن الواضح أن التقابل الأيقوني/المجرد قائم على وجود أكبر أو أقل عدد من السمات المكونة للوحدات المقارنَة. وهذا بالضبط ما يسمى في الدلالة المعجمية، بالكثافة المعنمية (la densité sémique). ونلاحظ مثلا أن " dressé" تستدعي العناصر التالية /الزمنية/، /العمودية/، /الوجهة/ (من أسفل إلى أعلى)، /الحركة /.في حين يجب ربط "أعلى" بالتصويري المجرد ذلك أن تعريفها لا يستدعي سوى السمة /عمودي/. ومع ذلك يمكن ل"أعلى"، في إطار مرجعي مختلف عن مرجعنا، أن تكون من طبيعة أيقونية في علاقتها بوحدة ما قابلة للمقارنة. وهذه الوحدة هي من طبيعة مجردة.
يجب أن يستأثر التصويري المجرد باهتمامنا أكثر، وذلك لكونه هو الذي يسمح لنا بالإمساك بالتنظيم الدلالي المؤطر للتصويري الأيقوني. وينصب التحليل في هذا المستوى على التقريب بين الوحدات التصويرية الأيقونية، وعقد مقارنة بينها ثم القيام بعد ذلك باستخراج السمات التصويرية (على شكل مقولات) ذات الطبيعة التجريدية طبعا. وهذا ما قادنا في كتابنا "الحكاية الشعبية" إلى استخراج صور أيقونية مثل: أبيض/أسود، النهار/الليل، من جهة، وقمر/نهر، شمس/بركة، من جهة ثانية، وهي مقولات تصويرية مجردة ومستترة. ففي الزوج الأول من التقابل (أبيض/أسود، نهار/ليل) تتحدد الوحدة التصويرية المشتركة في واضح/مظلم، ونترك جانبا، بطبيعة الحال، سمات أخرى مثل/الزمنية/ المؤسسة ل نهار/ليل. أما الزوج الثاني (قمر/نهر، شمس/بركة) فإن السمة المشتركة قابلة للتمفصل في: سمائي /مائي. وهذا التقابل لا يأخذ بعين الاعتبار التقابل: ديناميكي/سكوني، الواقع في الزوج نهر/بركة.
ويمكن، داخل هذه التقابلات، أن نخطو خطوة جديدة إلى الأمام، آخذين في الاعتبار أن "الواضح" يعد في الحكاية الشعبية الفرنسية جزءا من الفضاء"السماوي"، تماما كما أن "المظلم" يعد إحدى مميزات الكون "المائي". يجب الاعتراف إذن بأن الأزواج الأربعة المتقابلة (أبيض/أسود، نهار/ليل، قمر/نهر، شمس/بركة) قابلة للاستيعاب داخل مقولة تصويرية تجريدية (بالنسبة لمتننا وليس في جميع المتون) يمكن تعيينها اعتباطيا ك: أعلى/أسفل. ويمكن الإشارة إلى الموقع التوسطي ل"سماوي" بين التصويري الأيقوني "شمسي" وبين التصويري المجرد "أعلى".
أبيض / أسود
ليل / نهار
أعلى /أسفل
قمر/ نهر
شمس / بركة
وهكذا نرى أن التصويري المجرد، منظورا إليه من زاوية استبدالية (=العلاقة >أو، أو< بين الوحدات) يمكن أن يخلق سننا تصويريا كاملا (كما تم تحديده في "le conte populaire”).أما على المستوى التوزيعي (العلاقة >و، و< بين الوحدات)، فإن السمات التصويرية المتواترة هي من طبيعة تناظرية تمكننا من خلق تقارب سياقي، مؤقت ومحلي، بين صور أيقونية مختلفة.
ولنعد الآن إلى مبدأ الكثافة المعنمية الذي تمت على أساسه مقابلة التصويري المجرد بالتصويري الأيقوني. فهذا المبدأ قابل، فيما يبدو، للتطبيق على المستوى الثيمي. وبناء عليه، سنميز بين الثيمي التخصيصي (spécifique) (الأغنى من حيث السمات) والثيمي النوعي (générique). فإذا أخذنا "المعرفة" كثيمة نوعية، فإن "الخبر" (كاكتساب متعد للمعرفة) و" انعكاس" (اكتساب منعكس للمعرفة) سينظر إليهما كثيمات تخصصية.
وتلك أيضا هي العلاقة الموجودة بين "الخبث " و"العدوانية". ذلك أن العدوانية خاصة بالكائن البشري وحده، في حين أن الخبث يمكن أن يمارس أيضا على الإنسان. وبالمثل، إذا كانت الصداقة (ثيمة نوعية) تستدعي "العناية" ( كثيمة تخصيصية)، فإن العكس ليس بالضرورة صحيحا. فيمكن أن تكون العناية تجاه شخص ما دون أن يؤدي ذلك إلى ربط صداقة معه.
وكما هو الحال مع التصويري، فإن المرور من قطب إلى آخر، من الأكثر "نوعية" إلى الأكثر "تخصيصية"، أو العكس، يتم بطريقة تدريجية. إن الأمر لا يتعلق سوى برابط. فما يتحقق في خطاب معين بصفته ثيمة نوعية، قد يحتل في مكان آخر موقع ثيمة تخصيصية. والعكس أيضا صحيح.