الظلام العربي لا يكفي
تخطيط لمنصور الهبر.
الرقابة. سرطان قديم جديد، ولربما إذا أمعنّا في البحث والتنقيب قد نجد أنها هي المهنة الأقدم في التاريخ: كيف لا وظهورها ترافق مع ظهور السلطة عموماً. لم توفّر الرقابة ومثلثها السحري - الجنس والدين والسياسة - بلدا أو زمنا، وقليلة هي البلدان التي تستطيع ان تدّعي أن شرطة أفكارها لم تمارس قط أي حظر على منشوراتها. فلطالما حاولت مقصلة الرقيب أن "تـعدم" على مرّ التاريخ هذا الكتاب أو ذاك، لاسيما في ظل الأنظمة التوتاليتارية التي لم تفتأ ترتكب مجازر "أدبية" لا تُحصى، والطغاة الذين يستغلون نفوذهم لقولبة أذهان الشعوب على هوى هوسهم الديكتاتوري. مما لا شك فيه أن وحش المنع فقد الكثير من "مخالبه" وهيبته ونفوذه مع حلول الثورة التكنولوجية وشيوع النشر الالكتروني، الذي ألغى الوسطاء وسبل اعتراض طريق الكتب. وأصبحت شبكة الانترنت وسيلة فاعلة لمكافحة الرقابة، من خلال منظمات تستخدمها أداة لنشر الأعمال الممنوعة وللتشهير بممارسات الرقابة في جميع أنحاء العالم. لكن المشكلة قائمة طالما هناك كتب ودور نشر وتوزيع. الغرب الليبيرالي نفسه ليس محصناً ضد لوثة الرقابة، فكم بالأحرى أوطاننا العربية. نادرا ما يمر موسم أدبي عربي "على خير"، من دون ان نسمع عن منع هذا البحث أو حظر تلك الرواية أو "إحصاء" هذه المسرحية. فهل الرقابة شر لا بد منه، كي لا يخرج قطار الحريات عن سكّته في شكل مأسوي؟ وإذا كان الأمر كذلك، من - وماذا - يخوّل المخوّلين حق اتخاذ القرارات في هذا الشأن؟ ألسنا في عصرٍ أصبحت الرقابة "طعماً" يهدف الى إثارة فضول القراء والجمهور وزيادة إقبالهم على العمل الممنوع؟ فهل تحولت الرقابة فخا من أفخاخ الماركتينغ؟ هنا جولة في أحوال هذه الآفة والتساؤلات الكثيرة التي تحوطها في تسعة من البلدان العربية.ج.ح.
***
1 - رسالة مفتوحة الى الرقيب العربي
سيدي الرقيب
تحية وبعد،
منذ مئات السنين وأنت تشهر علينا عقلك الضيّق الصدئ، على عينيك عصابةٌ وفي يدك مقصٌّ، تخفي هذا الكتاب وتبتر ذاك ولا حيلة لنا ضدّك سوى الاستنكار أحياناً، والاحتقار دائماً. لطالما كنتَ هنا، وفي الجوار، توبّخ وتعنّف وتلوّح بطهرانيتك المريضة وتزمّتك اللزج وديكتاتوريتك المسطّحة. اخترعتك السلطة بمختلف أشكالها: سلطة الدين، سلطة الدولة، سلطة الأهل، سلطة الخوف، وسلطة التابو المتمكن من ضحاياه. هدّدتَنا مراراً، ومراراً حاولنا التفلت منك والالتفاف عليك، ومراراً مراراً خضنا معارك ضدّك في سبيل حرية الفكر والتعبير؛ ضدّك دفاعاً عن لغة بلا ماكياج وأقنعة وملابس داخلية؛ ضدّك اعتراضاً على القمع والتخدير والتوتاليتارية ومظاهر العفّة والفضيلة الكاذبة؛ ضدّك تأييداً للصادم سياسياً ودينياً وأخلاقيا؛ ضدك حمايةً لكتّاب يلاحَقون أو يكفَّرون أو يتعرضون للترهيب، وحتى للاغتيال، جراء كلماتهم وأفكارهم. نعم، مراراً اعترضتَ سبيل الخلق والعقل الحر، وذبحتَ وسجنتَ وشنقتَ، وأثبتّ ازدواج معاييرك وفساد جهلك وظلامية نيرك، لكنك لم تكن يوماً غبياً مثلما أنت الآن.
لا، لم تكن يوماً غبياً مثلما أنت الآن: أوتسأل لماذا؟ أيّ رقابة تمارسها يا سيّد في زمنٍ أصبح الكلّ مشرّعاً على الكلّ، فلا يعطس طاغية في أدغال استراليا إلا نسمع صدى عطسته في بيروت؟!
أيّ رقابة في زمنٍ بات المنع ضمان انتشار أكبر ونجاح أوسع وتسويق أدهى للكتاب، فأضحت الرقابة عدوّة نفسها الأولى؟!
أيّ رقابةٍ في زمنٍ صرنا نحصل بكبسة زرّ بسيطة على كل المعلومات التي نريد، بينما أنتَ تحجب، وأكثر؟!
يفترض في الرقابة ان تكون خبيثة ماكرة، لكنها بلهاء بامتياز في عالمنا العربي. عندما يتكاثر هواء الحرية الذي يلفح كل الأمكنة، ينبغي للرقابة ان تصير أذكى من الهواء: فمن أين لك هذا الذكاء أيها الرقيب؟
يفترض في الرقابة أن تكون متطوّرة، وهي بدائية بامتياز في عالمنا العربي. عندما يصبح العالم مجموعة من "الأواني المستطرقة" (vases communicants)، "حرام" ان تظل الرقابة على سذاجتها: فكيف تحول دون إثارة شفقتنا أيها الرقيب؟
يفترض في الرقابة ان تكون "ليّنة"، وهي عنيدة بامتياز في عالمنا العربي. عندما يعجز أي جهاز عن سدّ المنافذ بسبب سيادة شبكة الانترنت، تفرغ كلمة "رقابة" من معناها تماما: فكيف تختبئ وقد قُطعت إصبعك، وكيف تنهض بعدما سقطتَ بالضربة القاضية أيها الرقيب؟
لقد انتصرنا عليك ولم يبق لنا منك سوى رقيبنا الداخلي، معقلك الأخير الذي يجب ان يُدكّ، وهو الرقيب الأخطر والأذكى لأنه يفسد الحرية ويجعل كتابتنا أكثر مراوغةً وحنكة، وإن كان يغلّب، أحيانا، حق احترام الإنسان وحمايته على حرية الخلق والفكر.
مفهومكَ صار بائداً، تقنياً ونظرياً على السواء، ومن يمارس الرقابة يشبه ذاك الذي يطلق النار على نفسه. نصيحة أيها الرقيب: أتريد ان تقتل كتاباً؟ غُضّ طرفك عنه. لا تثر حوله ضجة. مؤامرة الصمت، صدّقني، أفعل من ألف مقصّ في أيامنا.
العالم يتحرّك ويتغيّر يا عزيزي الرقيب، وأنت لم تزل عالقاً في غياهب مجد قديم لم تصمد منه سوى أشلاء ذاكرته، إطلالك العفنة.
سيدي الرقيب، لقد متّ ودفناك. فاذهب الى الجحيم.
joumana333@hotmail.com
***
2- الملف
لبنان - من ناظم السيد
مصر - من إبراهيم فرغلي
سوريا - من إبراهيم الجبين
السعودية - من عواض العصيمي
فلسطين - من علاء حليحل
الأردن - من حسين جلعاد
الإمارات - من حكيم عنكر
المغرب - من نجيب مبارك
العراق - من إسراء شاكر
رقابة في لبنان؟ يبدو الأمر غريباً في بلد لطالما عرف بصون الحريات وحماية المبدعين ونتاجهم. الكتاب الذي يُمنع في عاصمة عربية يُنشر في بيروت. الكاتب الذي يُضطهد في دولته العربية يلقى حماية وحفاوة في لبنان. ومع ذلك، في لبنان حجر ومنع يتكفّلهما الأمن العام اللبناني الذي أنيطت به الرقابة السياسية والثقافية والفكرية. لكنّ الرقيب اللبناني يختلف عن الرقيب العربي. هذا الأخير يتحرك وفق منهج إيديولوجي يطاول الحياة السياسية والمحرّمات الاجتماعية والأخلاقية ويلاحق الأفكار التي لا تنسجم مع نظام الحكم. أما الرقيب اللبناني فلا يقرأ عموماً. إنه ينتظر من الآخرين أن يقرأوا عنه ويرفعوا اليه تقريراً يتحرك بموجبه على الفور. الرقيب عموماً لا يفهم في الثقافة. لذا تراه يقف حائراً أمام رواية أو كتاب جنسي أو فيلم سينمائي في انتظار مَن يقرر عنه المنع، سواء أكان رجل دين أم مرجعاً سياسياً أم ضابطاً أمنياً كبيراً. وهنا تنكشف المفارقة البنيوية: الرقابة فعل ضدّ الثقافة، والثقافة فعل ضد الرقابة.
تحالف الشرطي ورجل الدين
الواقع أن الرقابة في لبنان نصّ عليها قانون العقوبات وقانون المطبوعات (المواد: 531 و474 و385 و389 و584)، لكن غالباً ما يكون تأويل القانون سيئاً بقدر فكرة الرقابة البغيضة نفسها. في كل حال، القانون نفسه يبدو متعارضاً مع الدستور اللبناني الذي نص على "حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات" (المادة 13). نصّ خاص أعيد تأكيده في مقدمة الدستور التي أضيفت عام 1990 واعتبرت أن لبنان جمهورية "تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد". هذا من حيث المبدأ. فإذا كانت الكتب والصحف والمجلات في لبنان لا تحتاج الى موافقة مسبقة من الأمن العام، فإن الرقابة تأتي لاحقاً عبر المنع والاستجواب والحجر.
في مرات قليلة ونادرة، منع الأمن العام اللبناني كتاباً بناء على انتماء كاتبه السياسي. في الغالب، يثير كتابٌ ما حفيظة جماعة أو مرجعية دينية فيعمد الأمن العام مباشرة الى منع الكتاب. هكذا يتمّ التحالف بين الشرطي ورجل الدين. وهنا يمتد حكم الطوائف من السياسة الى المجتمع ومن الأخلاق الى الثقافة. كما يتم إبدال التعدد الطائفي بالتوازن الطائفي. يكفي أن يعتبر رجل دين أن الكتاب كذا مسيء الى الأخلاق العامة حتى يكون المنع. والرقيب الذي يفتقر الى الثقافة، لا يستطيع التمييز بين الإباحية والإيروسية والبورنوغرافيا، كما حدث مع كتاب "حديقة الحواس" لعبده وازن الذي يُعدّ عملاً جمالياً ولغوياً وأدبياً مفتوحاً على جسد المرأة. وكان الأمن العام منع الكتاب عام 1993 بتهمة التعرّض للأخلاق العامة.
اذا كانت حكاية الرقابة قليلة نسبياً وقديمة في لبنان منذ رُفعت دعوى في الستينات ضد كتاب "نقد الفكر الديني" لصادق جلال العظم وتمّت تبرئته بحكم قضائي، فإن هذه الرقابة تتبدل فتقوى أو تضعف بحسب تعاقب الحكومات والحكم وبحسب "الرأس الأمني" الذي يديرها. وعليه، تُعدّ الفترة بين بداية التسعينات و"ثورة 14 آذار" من الفترات التي قويت فيها الرقابة واشتد خلالها ساعد الأمن العام. وكان لعودة الدولة الغائبة إبان الحرب وتحكّم الأجهزة في نظام اللبنانيين السياسي والحياتي، زيادة حدّة الرقابة وتالياً المنع. في هذه المرحلة مُنعت جميع كتب الصادق النيهوم "إسلام ضد الإسلام"، "محنة ثقافة مزوّرة" و"الإسلام في الأسر" التي أصدرها رياض الريس وكان نشرها مقالات في مجلته آنذاك "الناقد". وقد صادر وقتها الأمن العام اللبناني النسخ من المطابع والمكتبات ومن دار النشر، وذلك بإيعاز من دار الفتوى على ما قيل. كما مُنعت كتب أخرى صدرت عن "شركة رياض الريس للكتب والنشر" مثل "النصوص المحرّمة" لأبي نواس و"نزهة الخاطر في الروض العاطر" للنفزاوي و"نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب" لشهاب الدين أحمد التفاشي. وكما هو واضح، فإن بعض هذه الكتب وضعها فقهاء وقضاة إسلاميون (شأن معظم الكتب الجنسية العربية القديمة) وهي تُعدّ جزءاً من التراث الإسلامي على صعيد الثقافة الجنسية.
اذا كانت الكتب المستوردة لا تُمنع بقانون، فإن الأمن العام يلجأ الى الحجر في مثل هذه الحال. هكذا اختفى فجأة كتاب "الشخصية المحمدية" لمعروف الرصافي والصادر عن "دار الجمل" في ألمانيا. لكن ما حدث مع رواية "شيفرة دافنشي" لدان براون أمر مختلف. لقد مُنعت النسختان الفرنسية والانكليزية، إضافة الى النسخة العربية الصادرة في بيروت. وكان الأمن العام اللبناني تحرّك كالعادة بناء على تقرير رجال دين مسيحيين بعدما أثارت الرواية - التي بيع منها أكثر من ثمانية ملايين نسخة في العالم - حفيظة ال?اتيكان واستياءه بسبب زعمها أن "المسيح تزوّج مريم المجدلية وأنجبا أولاداً". في كل حال، لم يختلف رجال الدين المسيحيون في لبنان عن رجال الدين المسلمين حين غضبت قم الإيرانية على كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية" فأهدر الخميني دم الرجل فمُنع الكتاب في لبنان بالطبع. وكما لم تشفع المخيلة الروائية في "آيات شيطانية" لصاحبها عند المرجعيات الدينية الإسلامية، لم تشفع الحبكة التاريخية والبوليسية لصاحب "شيفرة دافنشي" عند المرجعيات الدينية المسيحية. وما حصل لـ"شيفرة دافنشي" حصل لكتاب "تاريخ القرآن" للمستشرق الألماني تودور نولدكه الذي منعه الأمن العام بحجة إثارة "النعرات الطائفية".
أما أدونيس العكرة الذي وضع كتابه "عندما صار اسمي 16" إثر اعتقالات 7 آب 2001، فله قصة أخرى مخالفة لسياق المنع المذكور. لقد منع كتاب أدونيس العكرة لأسباب كاريكاتورية تثير الضحك والألم معاً، منها الإساءة الى السلطة السياسية والتحريض عليها، الإساءة الى سمعة الجيش وصورته، المواقف من السلطة القضائية وأحكامها، تعريض علاقات لبنان الخارجية للخطر عبر الإساءة الى دولة شقيقة بحسب تصريح المؤلف. اتهامات لا يستطيع أي كتاب في العالم تحمّلها فكيف بهذا الكتاب الذي لا يحمل الا موقفاً وطنياً ضد النظام الأمني اللبناني - السوري والقضاء المرتهن والطبقة السياسية الفاسدة آنذاك.
في كل حال، ليست الكتب وحدها رهن المنع. ثمة ميادين أخرى تحتاج ربما الى ملفات لتسليط الضوء عليها كالأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية والمقالات الصحافية والمسرحيات وغير ذلك. يكفي أن نشير الى أن الرقابة حذفت مقاطع من فيلم لمخرج خلاّق يدعى مارون بغدادي لأنها تتضمن "شتائم وعبارات نابية". ولهذه الأسباب أيضا حذف الأمن العام 46 دقيقة من فيلم "متحضرات" لرندة الشهّال، ومقاطع من عرض لموريس بيجار. يكفي أن نشير الى محاكمة مارسيل خليفة لغنائه قصيدة محمود درويش "أنا يوسف يا أبي". وقيل يومها إن جماعة إسلامية من طرابلس رفعت تقريراً الى الأمن العام الذي استشار بدوره مرجعاً دينياً أفتى بتحريم تلحين القرآن من غير أن يعرف المرجع والرقيب أن في اللغة العربية محسّنات تدعى الاقتباس والتناص والتضمين والإيداع. في النهاية برّأ القضاء اللبناني مارسيل خليفة ليمنع تقليداً كان يمكن تعميمه في الثقافة اللبنانية أسوة بدول عربية يتناوب عليها الرقيبان الأمني والاجتماعي. إلاّ أن خطر القمع لا يأتي أحياناً ومباشرةً من الرقيب بالذات بل من الذين ينصبون أنفسهم وكلاء عن الله والدين والحقيقة والحرية الفكرية، مثلما حصل مع الشاعر والزميل عقل العويط بعد نشره "رسالة الى الله" في الصفحة الأولى من جريدة "النهار"، عندما نُظّمت ضده وضد الجريدة حملة اتهام وتكفير واسعة النطاق كادت تحقق مبتغاها الخطير لولا الضغط الثقافي العارم الذي أبدته الهيئات والأفراد المدافعون عن حرية الرأي والكتابة.
أخيراً، من المعروف أن الرقابة ترتكب فعل غباء حين تمنع، إذ تتحول أداة ترويج فاعلة للكتاب الممنوع. وهي الآن تضيف غباء آخر إليها حين تمارس المنع في عصر الفضائيات والانترنت.
مفارقات الممكن والممنوع في مصر
تعكس قضايا مصادرة الكتب والرقابة في مصر جزءا من مناخ عام يمور بالتناقضات في مرحلة يبدو المجتمع المصري يتخبط باحثا عن هويته، ما يجعل المشهد مزيجا من مفارقات، حيث الحجاب والنقاب والحجاب العصري والبطون العارية في كل مكان مثال نموذجي على ذلك. لكن مفارقة الرقابة لا تخلو من لمسة عجائبية. فالحقيقة أنه لا يوجد كيان محدد، ملموس يعرف بمسؤوليته عن الرقابة وخصوصاً بالنسبة الى الكتب الصادرة في مصر، إذ لا رقابة مسبقة قبل نشر الكتاب. لكن هناك في المقابل جهات عدة تمارس هذا الدور، بلا معايير واضحة، منها مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، والرقابة على المصنفات الفنية (وهذه مختصة بالأعمال الفنية المسموعة والمرئية)، وأحيانا يتدخل مجلس الشعب حين يطالب بعض أعضائه بمصادرة كتاب أو عمل فني. وجه المفارقة أن القانون يؤكد عدم أحقية أي جهة في مصادرة أي كتاب إلا بموجب حكم قضائي، ومع ذلك فبين فترة وأخرى يفاجئنا مجمع البحوث بمصادرة مرجع أو كتاب، أو بمنع نشره.
خير مثال على هذا التناقض إحدى التعليمات المنشورة في الموقع الإلكتروني لمعرض القاهرة للكتاب وفيها: "إلى السادة العارضين: نحيط علم سيادتكم بأن إدارة المعارض لا تمارس أي نوع من الرقابة على المعروضات إلا أنه لا بد من مراعاة المبادئ التي يفرضها القانون والأخلاق ولا يسمح بعرض الكتب المصورة أو المزورة. في حالة رغبتكم في عرض أو بيع أي كتب أو مطبوعات دينية تتعلق بالعقيدة الإسلامية سواء من داخل جمهورية مصر العربية أو من خارجها، يرجى موافاتنا ببيان تفصيلي عن هذه الكتب والمطبوعات لعرضها على الأزهر الشريف لأخذ موافقته عليها مسبقا".
آخر وقائع المصادرة هي منع الأزهر إدخال كتاب بالإنكليزية عنوانه "الإسلام الوهابي من الثورة والإصلاح إلى الجهاد العالمي"، تأليف الأميركية ناتانا ديلونج الباحثة في مركز التفاهم الإسلامي المسيحي في جورج تاون. وأرسل مجمع البحوث الإسلامية تقريرا إلى ميناء بورسعيد بمنع تسليم نسخ الكتاب، وهي ألف نسخة كانت قد طلبتها مكتبة الجامعة الأميركية في القاهرة للبيع العام. وفي تقرير المجمع إشارة الى أن "الكتاب يتضمن معلومات لا تتفق ومبادئ الإسلام"، إلا أن نائب مدير قسم النشر في الجامعة الأميركية نيل هيوسن، أوضح لي أن الجامعة لم تتلق سوى صورة من التقرير الذي أرسله الأزهر إلى ميناء بور سعيد، وحتى الآن ما زالت الكتب محجوزة. أضاف: "أرسلنا إليهم خطابا نناشدهم فيه تحديد الفقرات التي رأوا فيها ما يتعارض مع تعاليم الإسلام لبحثها، لكننا لم نتلق ردا. كما ناشدناهم باسم الحرية الأكاديمية وحرية البحث العلمي أن يفرجوا عن الكتاب".
المفارقة أن المؤلفة قد تلقت اتصالات ذات طابع إيجابي من باحثين سعوديين، كما ألقت محاضرة عن الكتاب في السعودية وفقا لما صرح به مدير مركز التفاهم الإسلامي المسيحي جون اسبيسيتو لصحيفة "الأهرام ويكلي". اللافت أن مصادرات الأزهر للكتب لا تتوقف على الدينية منها، إنما تمتد حتى الى الأعمال الأدبية حيث أقر بمصادرة رواية "سقوط الإمام" لنوال السعداوي في صيف العام الماضي. كما طالب بمصادرة ديوان "وصايا في عشق النساء" للشاعر أحمد الشهاوي، لافتا الى أن في الكتاب "تمجيدا للذة الجسدية، ويسوق آيات القرآن في غير موضعها". الحقيقة أن هناك قائمة طويلة من توصيات المجمع بالمصادرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، منها كتاب "الإجهاض ضرورة قومية والاعتقاد ضرورة علمية" للدكتور محمد عبد المعطي، وكتاب "الخطاب والتأويل" لنصر حامد أبو زيد، و"سينمائية المشهد القرآني" لياسر أنور، وهذه وغيرها مُنعت، وهو ما يشير إليه تقرير موسع للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان. بالإضافة إلى مفاجآت المصادرة السنوية في معرض القاهرة للكتاب والتي لا يعرف أحد على وجه اليقين طبيعة الجهة المصادرة أو الأسباب الحقيقية لتلك المصادرات.
صحيح أن توصيات الأزهر بالمصادرة لم تتوقف منذ سنوات طويلة تعود إلى مصادرة رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ في الستينات وما قبلها، لكن قرار وزير العدل المصري بمنح الضبطية القضائية لمفتشي الأزهر، في العام الماضي، أعطى المرجعية الدينية صلاحيات أكبر في مواجهة الأعمال الفكرية والخلاقة، وشدّد قبضة رجال الدين على الفكر والأدب والفن في مصر. لكن الرقابة تتعدى الكتب الى السينما، فقد تعرّض فيلم "باحب السينما" للمخرج أسامة فوزي لهجوم شديد من رجال الكنيسة وبعض رموز الدين المسيحي، إذ دعا هؤلاء لوقف عرض الفيلم في وصفه مسيئا للكنيسة، وهذا ما أثار جدلا واسعا، رغم أن التلفزيون المصري نفسه كان قد بث فيلم "لي لي" للمخرج الشاب مروان حامد قبل نحو عامين، وهو فيلم مأخوذ عن قصة يوسف إدريس "أكان لا بد أن تضيئي النور يا لي لي"، ويتناول إماماً شاباً يذهب الى مسجد في إحدى الضواحي التي يعرف أهلها بالفساد ويحاول أن يدعو السكان للصلاة، لكنه يشغف بحب فتاة لعوب تطل نافذتها على موقعه أعلى المئذنة فيتشتت، ويدور في أعماقه صراع عنيف، وينساق خلف نزوته تاركا المصلين في وضع السجود! ومنع عرض فيلم تسجيلي قصير عنوانه "المهنة امرأة" للمخرجة الشابة هبة يسري في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية في الصيف الماضي من دون إبداء الأسباب، رغم موافقة إدارة المهرجان على عرضه، وهو يتناول قصصاً لأربع فتيات ليل مصريات والواقع الذي يعشنه، وكيف يتعاملن مع الجنس في وصفه مهنة، ودور الحب في حياتهن والأحلام والإنكسارات.
هذه كلها شواهد على الدور الرقابي الذي تمارسه الجهات الدينية بدعوى الحفاظ على القيم الدينية والاجتماعية، مما يحدث خلطا بين دور هذه الجهات في بث القيم الروحية ودورها التعليمي (الأزهر جامعة في الأساس)، والدور الرقابي الذي يماثل في طبيعته دور محاكم التفتيش. ورغم الحراك السياسي الذي يضج به الواقع المصري الراهن ورغم المطالب المتصاعدة جماهيريا بالديموقراطية وما يقابلها من وعود حكومية، فإن شيئا لم يتغير في خصوص الدور الرقابي الذي تقوم به تلك الجهات. ولعل النشاط الذي يجب أن تضطلع به بعض الحركات الجديدة، ومنها "أدباء وفنانون من أجل التغيير" والجمعيات الأهلية المهتمة بحقوق الإنسان والمثقفين والفنانين إجمالا، هو التركيز على قضايا المصادرة والضغط من أجل استعادة كل ما اغتصب من مساحات حرية الرأي والتعبير المكفولة نصا في بنود الدستور المصري.
فانتازيا الرقابة في سوريا
لا شيء ينمو ويستمر بشكل طبيعي في ظل سيطرة الحس الأمني والرقابي، فكيف إذا كان الموضوع يتعلق بالرقابة على الثقافة وأعمال الأدب والفن؟ في سوريا لا يمكن القيام بأي عمل من دون اللجوء إلى المؤسسة الرسمية، بكل تشعباتها وتمثيلاتها المعقدة. نشر صفحة واحدة وطرحها في الشارع، يستلزم الحصول على إذن من دائرة الرقابة في وزارة الإعلام أو اتحاد الكتاب العرب أو وزارة الثقافة أو القيادة القطرية لحزب البعث، التي تتولى الإشراف على درس الكتب والمخطوطات في مجال الدراسات السياسية أو الدينية أو اللغوية أو التاريخية ومراقبتها... الخ. الآن، وبعد مضي سنوات طويلة من التعامل مع الكتاب أو المادة الخلاقة (فيلم، مسرحية، أغنية، قرص مضغوط، مجلة، جريدة...) وفق هذا النظام، تراكم عدد هائل من تلك الأعمال المحجوبة والممنوعة والمصادرة.
يقول الروائي ممدوح عزام الذي تسببت روايته "قصر المطر" بالكثير من الإشكالات الرقابية، سواء في المنع الذي تعرضت له أو في احتجاجات المشايخ والأفراد من الطائفة الدرزية في سوريا: "ربما لا تسمح الذهنية الرسمية لأي كاتب بأن يشكل هوية خاصة لنصه، لكن التعبير الخلاّق في العموم ظلّ محدوداً طوال الأعوام الماضية، لأن القيود والعواقب كان يمكن أن تهدد كل كاتب يدخل في نسيج الحياة والعلاقات بين الناس والسلطة، وخصوصاً أن الكيان الاجتماعي لدينا فيه تعالق كبير مع أجهزة السلطات المختلفة، مما ساهم بشكل غير اعتيادي في خلق المزيد من الممنوعات. وعندما سعت السلطة إلى كسب التنظيمات الاجتماعية إلى جانبها، زاد أيضاً حجم المحرّم وانضم المجتمع إلى جوار السلطة في قمع النص الروائي السوري الذي لم يعد قادراً على التخلص من كل تلك المعوقات".
نكلت رقابة اتحاد الكتاب بعدد كبير من المؤلفين السوريين بفضل السطوة التي حظيت بها، من دون أن يكون هناك من يراقب أداء هذه المؤسسات التي تشطب وتلغي وفق معايير لا معايير لها. من المرات التي "أبدعت" فيها تلك الرقابة، حين تقدم الروائي السوري علي عبدالله سعيد، الفائز بجائزة رياض الريس عن روايته "اختبار الحواس"، بمخطوط روايته الجديدة "الخراب" ليحصل على إذن بطباعتها. لم يكتف "القرّاء" في اتحاد الكتاب بمنع المخطوط بل عمدوا أيضاً الى الكتابة فوق حواشي المخطوط وكيل الشتائم للمؤلف ولعائلته وأصوله وأخلاقه! علما أن دور الرقيب هو فقط تقرير الموافقة أو الرفض، وليس تأديب المؤلف. أما الروائية السورية الشابة روزا ياسين، التي تدخل الرقيب في إعادة كتابة روايتها "أبنوس" ونشرها من دون الرجوع إليها، فتقول: "إن الكتابة في هذا المناخ تصبح مستحيلة، لكن أهم ما يميّز جيلنا هو تخطي كل تلك العقبات والتحرر تماماً من الذهن الذي يرافقك وأنت تكتب. لم تعد الرقابة مهمة ما دامت هناك حلول أخرى".
يتدخل الرقيب في سوريا، في جوانب المادة كلها التي بين يديه. فهو يمارس رقابة قومية مع التشديد: على سبيل المثال، منعت مجموعة شعرية لطه خليل لأن عنوانها "شلّير" غير عربي، وربما يكون كردياً أو فارسياً. يمارس الرقيب أيضاَ رقابة لغوية ودينية وسياسية وأخلاقية، وحتى جمالية. ومن مفارقات التشويه الذي أصاب العلاقة بين الكاتب والرقابة، السعي الذي لوحظ في السنوات الماضية للحصول على ورقة "ممنوع طباعته" التي تمهر بالخاتم الأحمر، وذلك لاستفزاز أكبر قدر ممكن من الشهية لدى القراء: الجميع بات يعرف أن نظام الرقابة لا يمنع إلا الكتب المهمة، وتالياً فقد أصبح بعض الكتّاب يتعمدون تضمين أعمالهم محرّمات لا يمكن الرقيب تجاوزها. لكن الخيبة أصابت بعض هؤلاء عندما اكتشفوا أن الهامش الرقابي يتوسع، وأن أعمالهم مسموحة، ومن الممكن طباعتها، كما حدث مع عدد من المجلات التي تناولت الواقع الإعلامي في سوريا وتوقع ناشروها أن يتم حجبها فروّجوا لها قبل أن ينجزوها، لكنهم فوجئوا بأنها في الأسواق. في المقابل هناك المزيد من المطبوعات التي حاولت العمل في المناخ الرقابي السوري، لكن وفق قاعدة السير في حقل ألغام. وهناك العديد من الصحف والمجلات الممنوعة من دخول الأراضي السورية (على غرار "المحرّر العربي"، "القدس العربي"، "السياسة" الكويتية... وغيرها).
حاول رئيس الرقابة السابق الدكتور ممتاز الشيخ إدخال الكثير من التعديلات على أداء الرقابة على مدى ثلاث وزارات متعاقبة للإعلام. كانت فكرته تقول بإلغاء ما يسمّى "رقابة" وتحويلها لجنة مختصة لدراسة الاحتجاجات التي من المحتمل أن يتقدّم بها أفراد أو جهات بعد صدور أي مطبوعة وتوزيعها، لكن اقتراحه لم يلق أذناً صاغية.
الآن دخلت سوق الممنوعات أنماط جديدة من المواد كمواقع الانترنت التي تعوّدت الرقابة الإلكترونية اصطيادها وحجبها بشكل يومي (موقع القدس، موقع أخبار الشرق، موقع عامودا، موقع حجلنامه، وسواها). أغرب حالات المنع حجب موقع "كلنا شركاء" الذي يديره الكاتب أيمن عبد النور، البعثي المقرب من القيادة السورية وأحد المطلعين على خفايا الأمور. حالة أخرى غريبة ايضا هي قيام وكالة الأنباء السورية بممارسة الرقابة على مقابلة أجريت مع رئيس الجمهورية بشار الأسد، فحذفت ألفي كلمة من كلامه عندما قررت نشر المقابلة في الصحف السورية، مع أن المقابلة منشورة في أنحاء العالم وبلغات مختلفة!
أما جريدة "النهار" فتدخل إلى سوريا لكنها لا توزّع إلا في مكاتب الوزراء والمسؤولين الذين يحرصون على قراءتها، فيما هي ممنوعة من التوزيع في الشارع والمكتبات والأكشاك، وهو المصير الذي آلت إليه جريدة "المستقبل" اللبنانية أيضاً في الشهور الأخيرة.
العيون حمراء في السعودية
تستطيع في المملكة العربية السعودية أن تكتب بحرية كبيرة، ويستطيع الرقيب الإعلامي أن يضع خطوطاً حمراء على ما كتبته بحرية كبيرة أيضا، لكن لا تنس أن كتابك في النهاية هو الخاسر: هذه هي خلاصة الموضوع مع نُظُم إجازة المطبوعات في المملكة. التابو المعروف، بعيونه الثلاث المفتوحة، لا يمر من تحت يده كتاب أدبي إلا ويحدّق بتمعن شديد في مفرداته وجمله ومقاطعه وفصوله بحثاً عن مفردة شاذة بحسب رأيه، أو عن جملة تخوض في ماء الريبة ولا يوجد في الكتاب ما يزكّيها. مفردة "كأس"، مثلاً، عندما تختال في جملة شعرية، يتم التركيز عليها ليس لأنها تدل على محذور واضح في العبارة وإنما لأنها محل شبهة في الأدب الحديث. فالكأس ذات تاريخ سيىء حينما تأتي في نص حداثي، وكذلك كل ما يتعلق بالجسد من كلمات مثل نهد، بطن، عانة. ويصبح الأمر أشد إذا تطرق الكتاب إلى ممنوع سياسي ذي خصوصية مقدسة.
أمام هذا النمط من المحاسبة الشديدة للكتاب، يضطر الكاتب السعودي إلى اتخاذ واحد من خيارات ثلاثة: أن يتوقف نهائياً عن النشر ويكتب لنفسه فحسب. أن يقبل بالأمر الواقع ويسلّم بما تفرضه قوانين النشر مع أمل أن تتطور إلى حال أفضل في المستقبل. أو أن يلغي الخيارين السابقين من قائمته ويعتنق الخيار الثالث وهو النشر خارج البلاد. هذا الأخير هو الذي يعمل به حالياً عدد غير قليل من الكتّاب والكاتبات، بيد أن معضلته الرئيسية تكمن في أن الكتب المنشورة تحت هذا المعيار لا يُسمح لها بالدخول إلا نادراً ومن طريق استخدام الواسطة. وتالياً يظل القارئ المحلي يسمع بعناوين شعرية وروائية لكتّاب من بلده لكنه لا يجدها، وقد يطول به الأمد من دون أن يجد بعضها. كمثال، يتحدث القارئ المحلي عن روايات راجت في الإعلام خلال الآونة الأخيرة، منها "بنات الرياض" لرجاء الصانع، "العصفورية" لغازي القصيبي، "سقف الكفاية" لمحمد حسن علوان، "ميمونة" لمحمود تراوري...، لكن هذا القارئ حين يبحث عنها في المكتبات لا يراها في أجنحة الروايات المعروضة. وعندما يسأل عنها قيّم المكتبة يكتفي القيّم بقوله المعتاد: "ليست عندي". في الحقيقة، كان يفترض توجيه هذا السؤال إلى القيّمين على شؤون فسح الكتاب الأدبي مع إضافة صغيرة طبعاً، وهي: إلى متى تظل الحدود مغلقة في وجه الكتاب الأدبي السعودي رغم أنه يقدّم في الخارج صورة طيبة عن أدب البلد وثقافته؟
مثل هذا الواقع الرقابي، كثيراً ما يحمل الكاتب المحلي على التساؤل: أيهما يفترض أن يعرفني أولاً، ابن بلدي أم القارئ العربي؟. في معظم دول العالم، أول من يعرف الكاتب ويقرأ له هو ابن بلده ثم يجيء القارئ الآخر بعد ذلك. ليس في ذلك تعصب ولا عنصرية، وإنما هو منطق مقروئية الكتاب وتأثيره داخل دائرته المحلية أولاً. بل إن كثيراً من الكتب الأدبية العالم لم يُعرف في الخارج إلا بعدما اشتهر في الداخل. عليه، يصبح من المسلّمات في منطق انتشار الكتاب أن يتعزز حضوره في موطنه قبل أن يتجاوز الحدود إلى القراء في الدول المجاورة والبعيدة.
متى تنتهي إلى الأبد مشكلة رقيب من هذا النوع المخيف في واقعنا العربي؟ لا أدري، لكن هل مهمة الكاتب الأساسية أن يطرح على نفسه هذا السؤال وسواه من الأسئلة التي تملك أجوبتها مؤسسات رسمية ضخمة تتمتع بموازنات سنوية هائلة وعندها موظفون بالآلاف، وتقول إنها تخدم الإعلام والثقافة والفنون كافة، أم أن مهمته أن يكتب وينتج ويترك لغيره مهمة تفسير لماذا "الكأس" في جملة شعرية معاصرة أخطر من الكأس التي على الطاولة؟ في الختام، لا بد من الأمل رغم ما يحدق بالكتابة الخلاّقة من خطوط حمر وعيون أشدّ احمرارا.
رقابة ذاتية في فلسطين
بناءً على أمر الاستيراد والتصدير الإسرائيلي من سنة 1979، لا يمكن مواطنا فلسطينيا في إسرائيل أن يستورد كتابا صادرا عن "دار الآداب" في بيروت مثلا، لأن هذا الأمر الإسرائيلي يمنع استيراد منتجات من "دولة عدو"، بحسب التعريف الإسرائيلي. لا ينفع مع إسرائيل أن تقول لها إن لبنان ليس دولة عدوة، بل وطن شقيق.
هذا ما يحدث هنا في إسرائيل منذ سنوات، حيث يُمنع استيراد أي كتاب من سوريا أو لبنان بموجب ما تقدم، وتالياً فإنّ القراء العرب الفلسطينيين في داخل الكيان الإسرائيلي لا يمكنهم أن يقرأوا أهم إنتاجات العالم العربي! هذا الأمر صدر كالتفاف على الوضع القائم في إسرائيل في مجال الرقابة على الكتب، حيث تنعدم الرقابة الرسمية على الكتب والمسرح منذ أكثر من ثلاثين سنة، وتنحصر الرقابة الحالية في مجال السينما فقط. ومع أن الرقابة الفعلية المؤسساتية رُفعت، ولا يُطلب من أي كاتب دفع مخطوطته إلى الرقيب العسكري الإسرائيلي قبل نشرها، إلا أن هذه، ووسائل أخرى، تحول فعليًا دون تسيير حرية قراءة ونشر كاملين، في ما يخصّ الكتب العربية. من الوسائل الأخرى "غير الرسمية" للرقابة على الكتب يمكن ذكر نظام المراقبة والتصديق على الكتب التي تُدرس في المدارس العربية، والذي يعمل وفق تحديد مناهج تعليمية تدجينية تحرص على تذويب الهوية الفلسطينية للعرب في إسرائيل. فالمناهج المذكورة لا تطلب من الطلاب قراءة أيّ أدب فلسطيني حقيقي يُذكر، كما أن الكتب التدريسية تؤلَّف بحسب مقاييس ومواصفات صارمة يشرف عليها المفتشون في جهاز التعليم العربي في الدولة.
من جهة أخرى، تعمل وزارة المعارف والتربية الإسرائيلية على دعم إصدارات كتب سنوية بالعربية تتعدى المئتي كتاب، يتم تحديد هوية كتّابها ومضامينها من دون ضوابط مهنية، ولا تعبّر في الغالب عن واقع الأفكار والآراء الشائعة والدارجة في المشهد الثقافي الفلسطيني في إسرائيل، وهي أفكار لا تعجب المؤسسة الإسرائيلية.
في المناطق الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) يكاد الأمر أن يكون مشابها، مع بعض الفوارق العريضة. فقبل اتفاقات أوسلو وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية كان كل ما يُنشر في المناطق الفلسطينية يمرّ تحت عين الرقيب العسكري، وهناك كتابات فلسطينية عديدة - بعضها مثير ومليء بالمفارقات السوداء - تستعرض الآليات والطرق التي كان يتبعها بعض الكتّاب الفلسطينيين في التحايل على الرقيب الإسرائيلي، من طريق الكتابة بالرموز والشيفرة الملغمة. عبد الرحمن أبو شاملة، المحرر في صحيفة "الأيام" الفلسطينية، يقول إن الوضع اليوم يختلف كلية: "لا توجد رقابة رسمية على المطبوعات أياً تكن. توجد فقط رقابة ذاتية داخلية". أبو شاملة يرى في الرقابة الذاتية أمرا أشدّ خطورة من الرقابة الرسمية العلنية، لأنها تدفع نحو التدجين والتهجين: "لا توجد رقابة مثلاً في الجريدة التي أعمل فيها، لكن هناك توجيهات تأتي من "فوق" تحدّد خط الصحيفة وطريقة معالجة الموضوعات المختلفة. هذه رقابة طوعية وهي أخطر من الرقابة الإجرائية." طبعًا لا يمكن التبرّم من انعدام الرقابة على المطبوعات، فهذا شأن ممتاز؛ إلا أن كون هذا نابعا من الفوضى وليس من الالتزام والتفاهم يؤدي إلى حالات مريبة، مثل التي تمّ فيها الاعتداء على صحافيين فلسطينيين كتبوا ما لم يعجب "الرقيب الحقيقيّ".
عودة الى الكتب: منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية درجت إسرائيل على منع إدخال مؤلفات لكتّاب وشعراء فلسطينيين إلى داخل المناطق الفلسطينية، وخصوصًا الشاعر محمود درويش. أحد الأصدقاء في رام الله والضالع في الحياة الثقافية والصحافية فيها، روى لنا قبل أكثر من سنتيْن كيف تطوّرت "صناعة تهريب" على طرفي الجدار أو الحاجز: سيارة تأتي من داخل رام الله بكميات من صحيفة "الأيام"، ترمي بها إلى الجانب الآخر ليتم توزيعها خارج رام الله، والذي يتلقى أعداد الجريدة في الجهة الأخرى يرمي برُزم من الكتب الممنوعة ليتم تسويقها في رام الله وفلسطين!
أقل ما يقال إن وضع الكتاب في جميع أرجاء فلسطين لا يسرّ، ولإسرائيل قسط كبير في هذا. لكن الرقابة الذاتية هي المعوق الأكبر أمام حرية نشر كاملة وجريئة، في المجال الاجتماعي والسياسي. نحن لا نعاني رقابة رسمية واضحة، إلا أننا نعاني في الأساس من الطرق الخلاقة للالتفاف على انعدام هذه الرقابة!
"معجزات" الرقابة الأردنية
يكفل الدستور الأردني حرية التعبير، وتنص المادة 3 من قانون المطبوعات والنشر على أن "الصحافة والطباعة حرّتان، وحرية الرأي مكفولة لكل أردني، وله أن يعرب عن رأيه بحرية بالقول والكتابة والتصوير والرسم وغيرها من وسائل التعبير والإعلام"، غير أن المفارق في الوقت نفسه أن المادتين 31 و35 من هذا القانون تفرضان الرقابة المسبقة على كل مطبوعة تستورد من الخارج أو تنتج في الأردن، وهذا شأن يرى فيه البعض تناقضا من حيث المبدأ. لكن واقع الرقابة في الأردن أكثر مفارقة من ذلك، فإذا صح أن الدستور ديموقراطي في نصه وروحه، فإن التجربة العملية للكتاب والناشرين مليئة بالفواجع على صعيد حرية الخلق والتعبير.
لا يخفي بعض الناشرين تخوفهم من أن الرقابة وقانون المطبوعات والنشر في صيغته الحالية، يدمران الصناعات الثقافية عبر تمترس الرقيب خلف محرمات السياسة والدين والجنس. من جهتها، تنطلق دائرة المطبوعات والنشر في ولايتها الرقابية من تطبيق القانون على قاعدة أن ثمة ثوابت راسخة لا يمكن تجاوزها، كالثوابت الدينية والأخلاقية والسياسية، والتي يجب عدم السماح لأحد بالسخرية منها أو الإساءة إليها، وخصوصا انه تقع تحت مظلتها المباشرة المؤسسات الصحافية والمطابع ودور النشر والتوزيع والمكتبات ودور الدراسات والبحوث ودور قياس الرأي العام ودور الترجمة ومكاتب الدعاية والإعلان. وتدافع دائرة المطبوعات عن عملها بالقول إن الإجازة هي الأصل والمنع هو الاستثناء.
شهد الأردن خلال الأعوام الماضية حالات لمنع كتب تعد نموذجا قويا لواقع الحال، تتصل بموضوعات سياسية ودينية وأدبية، أشهرها ما يمكن وصفه بـ"محنة موسى" التي كان بطلها الشاعر موسى حوامدة، صاحب ديوان "شجري أعلى"، والتي تجاوزت قضيته حدود منع الكتاب، إذ تواصلت محكمته طوال أربع سنوات بتهم أخطرها "الردة عن الدين" بما يتضمنه ذلك من مطالبة بتفريقه عن زوجته بدعوى الكفر. المفارق أن محنة الحوامدة تجاوزت حدود الرقابة القانونية لدائرة المطبوعات والنشر - التي كانت أجازت المخطوطة الأصلية "استحق اللعنة" بشرط تغيير العنوان مع شطب الجمل الإشكالية - إلى النظر في قضيته التي حركها أفراد لأسباب دينية بحسب ما جاء في ادعائهم.
من المفارقات الصارخة في "معجزات" الرقابة أنها كانت قد منعت رواية "سيرة الفتى العربي في أميركا" للروائية رفقة دودين التي حازت جائزة اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمان عاصمة للثقافة العربية 2002، لأسباب بدا أنها سياسية. ذلك أن الرواية تؤرخ لزمن انتفاضة الخبز والحرية عام 1989 والتي يسمّيها الأردنيون "هبة نيسان" وكانت بداية التحول نحو الحياة الديموقراطية آنذاك، وقد شكل منع الرواية نكتة سوداء في مدينة تحتفل بكونها عاصمة للثقافة العربية.
كتب أخرى مُنعت كانت ذات طبيعة سياسية من أهمها: "الهدأة" لوهدان عويس، ومذكرات بهجت أبو غربية "من النكبة إلى الانتفاضة" والذي تصفه أوساط قومية ويسارية بأنه "شيخ المناضلين"، وكذلك كتاب "الأردنيون والثورة الوطنية والديموقراطية" للأمين العام لحزب الشغيلة الشيوعي مازن حنا، حيث رفض طبع الكتاب جملة وتفصيلا، ليس فقط في الأردن، بل ورفضت الرقابة السورية طباعته أيضا. ولا يفرّق الرقيب في منعه بين حدود ما يسمّى "المعارضة" و"الموالاة"، فقد منع كتاب "الديموقراطية المقيدة" لعلي محافظة الذي يعتبر واحدا من ألمع الأكاديميين الأردنيين، بل هو ديبلوماسي سابق، وقد تولى رئاسة جامعة مؤتة العسكرية والتي تعد الأبرز في تخريج الكوادر العسكرية. ويعزى المنع السياسي عادة إلى "الافتراءات التي تمس السلطة والحكومات وتاريخ البلاد".
يحدث أن تشهد الحياة الثقافية أيضا حالات منع "جماعية" كما جرى إبان مصادرة عدد من الكتب في معرض الكتاب الأردني الثاني في مشاركة ثلاثين داراً أردنية وعربية والذي أقيم في قاعة المدينة التابعة لأمانة عمان الكبرى وهي المؤسسة شبه الرسمية الأكثر رعاية للثقافة والمثقفين من حيث حجم الإنفاق. وقد تزامن المنع مع إصدار الحكومة الأردنية آنذاك قانوناً معدلاً لقانون العقوبات يمنح الادعاء العام صلاحية وقف كل صحيفة تتجاوز القانون، وغلقها وملاحقتها. وأثار ذلك استياء واسعاً لدى أوساط إعلامية وثقافية، ووصفه كتّاب وصحافيون بأنه "يمثل تراجعا في المسار الديموقراطي في الأردن".
لا تقف حدود الرقابة عند الكتب الأردنية؛ بل تطاول الكتب والمنشورات من خارج الحدود، وتفيد بعض الدراسات انه تم منع نحو 1250 كتابا في الفترة ما بين 1955و1987 فقط بحسب ما ذكر الكاتب عبدالله حمودة في دراسة له نشرها في جريدة "الرأي" الأردنية. ويتسع منع الطباعة ليصل الى حدود منع الدخول والتداول بصور متعددة تشمل الكتاب الأردني والعربي والأجنبي. ومن أهم الكتب التي تم منع دخولها وتداولها: "حول التسوية السياسية" لرغيد الصلح، "الأدب الصهيوني بين حربين" لسيد البحراوي، "خزانة الأسف" لزياد العناني، "حوار مع أدونيس" لصقر أبو فخر، "الجورنالجي" لمحمد حسنين هيكل، "تفسير ابن عربي"، "المثاقيل" و"أنقاض الأزل الثاني" لسليم بركات، "يالو" لالياس خوري، "الحريم السياسي" لفاطمة المرنيسي... الخ.
جملة القول إن مسألة المطبوعات والنشر جزء من قضية الحريات العامة، ويبدي قانونيون وإعلاميون وكتّاب تفاؤلهم إزاء احتمال تعديل قوانين المطبوعات والنشر في مجلس النواب ضمن حزمة أخرى من القوانين تعنى بشؤون الصحافة والإعلام، والتي في حال إقرارها ودخولها حيز التطبيق قد تعطي دفعة حقيقية في اتجاه الحرية. ويحاجج المتفائلون بأن من الخطأ معالجة إساءة استخدام حرية الصحافة والمطبوعات بتضييق هامش الحرية أو تشديد العقوبات عليها، ذلك أن العلاج الأمثل هو التخلي عن المخاوف والهواجس من وجود كتّاب أحرار وصحافة مستقلة تتحمل مسؤوليتها بذاتها عبر وضع أسس تمكّن الكتّاب أنفسهم من ضمان محافظتهم على آداب المهنة ومبادئها وقيمها.
رقابة لا تستعرض العضلات في الإمارات
هل توجد رقابة على الكتب والمطبوعات في الإمارات، ومن هي الجهات التي تتولى دور الرقيب؟ هل قسم الرقابة في وزارة الإعلام والثقافة أم الجهات الأمنية والجمارك؟
لا يزال سجل الرقيب الإماراتي نظيفا، ولم تسجل حالات صارخة كتلك الموجودة في بلدان عربية كثيرة، والتي لا تطاول الجهات الناشرة والكتاب فحسب، بل تعرّض القراء كذلك للمساءلة القانونية تحت البند العريض المتعلق بحيازة "مطبوعات ممنوعة".
في معارض الكتب التي شهدتها الإمارات، سُجّل نوع من الإنفتاح على المكتبة العربية والأجنبية في مراجهعا الأدبية والفكرية كافة، ويمثل معرضا الشارقة الدولي للكتاب ومعرض أبو ظبي التجليين العمليين لسعة صدر الرقيب في هذا البلد الذي يخطو خطوات واسعة من أجل إرساء بنيات تحتية لصناعة الكتاب. ففي الدورة السابقة من معرض الشارقة الدولي للكتاب لم تسجل دور النشر المشاركة مثلا حالات اعتراض، وقد جاءت غالبية دور النشر اللبنانية والمصرية والأردنية بمنشوراتها وكتبها التي كانت قد أثارت لغطا في معارض عربية. كان الناشرون والمكتبيون والوكلاء "سعداء" إلى حد ما بهذه المساحة من الحرية، ثم أنهم - وهذا هو الأساسي - كانوا أكثر براغماتية، إذ يتعلق الأمر هنا بسوق للبيع لا لتسجيل المواقف.
يقول سكرتير معرض الشارقة الدولي للكتاب يوسف عيدابي، عن مسألة الرقابة على الكتب، إن الأمر طبيعي وروتيني، ليس بهاجس فرض نوع من الحجر على الأفكار وتقييد حرية الخلق، بل بجانب تنظيمي وبمراقبة تقوم أساسا على الثقة المتبادلة بين إدارة المعرض والجهة العارضة من دور نشر ومكتبات، وهي الثقة التي تجنّب الكثير من البالونات المنفوخة بالهواء.
شأن معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي ينظم في أوائل شهر كانون الأول من كل سنة، يمثل معرض كتاب أبو ظبي الذي ينتظم في آخر شهر آذار وبداية نيسان من كل عام، نوعا من الإنفتاح ومن الحرية التي تقع تحت طائلة رقابة أقل. في المقابل، تحاول الإمارات عبر المصادقة على الاتفاق الدولي لحماية الملكية الفكرية، ممارسة نوع جديد من الرقابة الإيجابية وذلك بحرص إدارة المعرض، سواء في الشارقة أو في أبو ظبي وبالتنسيق مع وزارة الثقافة والإعلام، على ضمان جميع حقوق التأليف وزجر كل قوانين الطبع والنشر وحقوق الملكية، وتعرّض دور النشر التي ترتكب مثل هذه المخالفات لعقوبات الحرمان من المشاركة في أي من المعارض في الإمارات وفي المعارض العربية الأخرى، وذلك عبر المنسقية ولجنة المعارض في الإتحاد العام للناشرين العرب. من جهة أخرى تشير مصادر الى أن قسم الرقابة على الكتب في وزارة الإعلام توقف عن العمل منذ أربعة أعوام بناء على قرار من وزير الإعلام والثقافة عبد الله بن زايد، وهو قرار كان له وقع إيجابي كبير. ومن النقاط المسجلة له أيضا، إتاحة حرية مطلقة للاتصال بالشبكة العالمية للإنترنت، وإلغاء نظام البروكسي، مطالبا بأن تكون الرقابة على محتوى الإنترنت أمرا اختياريا، من دون افتراض سوء النية بالمستخدم.
لا شك أن جهاز الرقابة اليوم أمام اختبار حقيقي، قوامه كيفية التغلب على خطاب المنع، وإحلال ثقافة التعدد والإختلاف والحوار البناء، والتي لا تتأسس إلا ديموقراطية العلاقات وشفافيتها بين الناشر والرقيب وجمهور القراء، بعيدا عن التهويش وصناعة حدث الساعة الأخيرة.
"عهد جديد" في المغرب؟
عملياً، ليس هناك رقابة مباشرة في المغرب وليس هناك قيود على حرية الطباعة والنشر. لا توجد مثلا رقابة في المعنى الشائع في الأدبيات العربية، تتمثل في جهاز قائم متحكم، له وحده صلاحيات الفصل في ما يجب أن ينشر على العموم. كان هذا النوع من الرقابة سائداً لفترة حتى نهاية الستينات. في مرحلة لاحقة، وخصوصاً في أوج الصراع والاحتقان السياسي والاجتماعي الذي عرفه المغرب من بداية السبعينات إلى حدود التسعينات، صار التقليد المتبع هو الرقابة الإدارية، وهي ربما الأسوأ. إذ لا تخضع في الواقع لأي ضابط قانوني، ولا تكلَّف الجهة المسؤولة عنها تبرير أي قرار من قرارات المنع والمصادرة الكثيرة التي طاولت عدداً كبيراً من الصحف والمجلات والكتب، لعل أشهرها رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري التي منعت من بداية الثمانينات حتى سنة 2000، ورواية "كان وأخواتها" للكاتب عبد القادر الشاوي، وهو أول كتاب عن تجربة الاعتقال السياسي صدر ومُنع في الثمانينات أيضا. كما تعرضت المجموعة القصصية المكتوبة بالفرنسية للكاتب والصحافي محمد البريني، "أغلال الماضي"، للمنع الكلي بسبب خوضها في "المقدس" السياسي، ورواية "مسعودة" للكاتب عبد الحق سرحان لكونها تضمنت ايحاءات جنسية مباشرة. لكن الطريف أن الراحل محمد شكري عندما ذهب للاستفسار عن سبب منع روايته لدى الجهات المسؤولة، قيل له أنهم لم يمنعوها، إنما أصدروا قراراً بجمع ما تبقّى من نسخ هذه الرواية مباشرة بعد تداولها في الأسواق! هذا يبيّن بوضوح أن الرقابة خلال تلك الفترة لم تكن أداة في يد السلطة وحسب، بل كان المنع أيضا "مطلباً جماهيرياً" دعمته القوى المحافظة وفقهاء الدين، وكرسته بشكل مخجل الجامعة المغربية حين لم تعمد إلى إدراج الرواية ضمن مقررات التدريس الجامعي.
في المغرب اليوم هامش كبير من حرية التعبير، لا يمكن نكرانه. الدولة في المغرب تقدم نفسها على أنها اختارت "بلا رجعة" طريق "الانتقال الديموقراطي" و"الانفتاح" و"الحداثة"، وغيرها من الشعارات التي تبشر بعهد جديد في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان. لكن هل هذا "العهد الجديد"، جديد كله فعلاً؟ الجواب يأتي بلا عناء من نظرة على حال التخبط والتردد وأحياناً الردة إلى عهود سابقة. الرقابة التي صارت "قانونية" أكثر، لم تغيّر شيئاً من عاداتها القديمة. بعد فترة قصيرة من التردد في بداية "العهد الجديد"، عادت القوانين نفسها لتأكيد الثالوث المحرّم أو الخطوط الحمراء: "الملك، الدين الإسلامي والوحدة الترابية". استمرار هذه التابوهات في المغرب يؤكد حقيقة أن الرقابة تتقنع من جديد وتنزع أكثر نحو "التقنين" بدل الزوال. طبعاً، مسألة التابوهات تتجاوز الإطار الضيق للرقابة، التي هي في التعريف البسيط مجرد تقييد على حرية التعبير، لأنها تمارس سلطتها تلقائياً بشكل مباشر أو غير مباشر على الجميع بلا استثناء (منع التظاهرات والأنشطة والتجمعات، منع المنشورات، التضييق والترهيب... إلخ).
في سنة 2003 صادق البرلمان المغربي على قانون جديد للصحافة والنشر ينسخ قانونا يعود تاريخه إلى فجر الاستقلال سنة 1958. أثار هذا القانون آنذاك جدلا واسعاً حول مسألة الرقابة في المغرب، فقد جاء مخيباً لآمال الصحافيين وانتظارات المنظمات النقابية والسياسية التي ناضلت لسنوات طويلة من أجل توسيع مساحة حرية الصحافة. كما ظل في مجمله محكوما بهواجس أمنية صرفة أفضت إلى تكثيف القيود بدل إلغائها. ومثل سابقه، تضمن عبارات فضفاضة من قبيل " النظام العام"، "الأمن العام"، "المصالح العليا للبلاد"، أو تعابير غامضة مثل "الدين الإسلامي"، "النظام الملكي"، "الوحدة الترابية"، وتعمد غياب التدقيق تاركاً الباب مفتوحاً لتأويلات الرقيب وتحكمه. ثم أنه لم يحذف العقوبة السالبة للحرية وإنما اكتفى بخفض مدتها في بعض الحالات، وغالى كثيراً في فرض الغرامات المالية ورفع مبالغها إلى حدود غير معقولة. في هذه السنة أيضاً، ومباشرة بعد أحداث 16 أيار الإرهابية في الدار البيضاء، صادق البرلمان على قانون لمكافحة الإرهاب، لقي بدوره استنكاراً واحتجاجاً كبيرين. وتكمن خطورة هذا القانون على الصحافة في نصه على أن "الدعاية، الإشهار والإشادة تعتبر عملاً إرهابياً"، مما يمنح الأجهزة الأمنية هامشاً واسعاً لتأويل ما ينشر بأنه نشاط إرهابي يجر تحقيقات ومتابعات وأحكاما قاسية.
لا شك في أن هذين النصين القانونيين، إلى جانب بعض مقتضيات في القانون الجنائي، يمثلان الترسانة الرقابية للمغرب الجديد. عدد الصحافيين الذين تعرضوا للملاحقة في ظل هذه القوانين، ومنهم من لا يزال قابعا في السجون، يبدو مخيفاً في بلد يمنح انطباعاً لزائريه بأنه على طريق المصالحة مع ماضيه المؤلم. لا يزال هناك الكثير ينبغي فعله في المغرب. إن "دولة الحق والقانون" لا تبنى فقط بالشعارات، أو بقوانين تمنع الحريات وتصادرها بدلاً من صيانتها.
لا رقابة الآن على الكتب في العراق
يمرّ العراق اليوم، بعد مرحلة طويلة من الاختناق والرقابة المشددة على أقل الكلمات، في فترة انعدام رقابة مطلقة على الكتب. ليس هناك جهاز رقابة يعمل على قوننة المنشورات ومنح التراخيص أو إصدار أوامر المنع. وليس من المبالغ القول انه لم يتم كذلك تحديد قوانين وتشريعات خاصة في العراق في مجال العمل الصحافي في وجه خاص لغاية هذه اللحظة. فرغم إصدار الحاكم المدني للعراق السيد بول برايمر في 8 نيسان 2004 قانونين لتنظيم وسائل الإعلام والاتصالات في العراق وإعلان مسوّدة الدستور التي لم تشر في فقراتها الى قانون إعلامي يحدد حريات العمل لوسائل الإعلام، فقد ركزا على حرية الرأي في عمل الوسائل من دون الإشارة الى ماهية الوسائل أو حدود الحرية فيها. ولنكون أكثر دقة سنلقي الضوء على قوانين عمل هيئة الإعلام وقانون إدارة الدولة لمجلس الحكم الموقت ومسودة الدستور العراقي في اعتبارها البذرة الاولى للتشريعات القانونية حتى الآن.
أول ما يمكن ملاحظته من قانوني السيد برايمر إنهما لم يحددا بالضبط كيفية تنظيم حرفية البث والإعلام وحماية مستهلكي خدمات الاتصالات، مع هذا نجد ان القانونين كانا أكثر تحديدا للعمل الاعلامي وتنظيمه وتركيزه على ان يكون مستقلا. في حين نجد ان قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية حدد مجال الحقوق والحريات عموماً من دون الإشارة الى العمل الاعلامي وحرياته خصوصاً. فقد جاء في الفقرة المخصصة لحقوق الشعب "حرية الفكر والضمير والكلام والتعبير، حرية التجمع السلمي والمشاركة والتنظيم بحرية".
يجد الباحث ان قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لم يستوف الحرية في مجال الحقوق والحريات بشكل تام، مثلما سيجد ان مسودة الدستور هي الأخرى لم تكن منصفة في مجال الحقوق والحريات، ولاسيما في مجال النشر والإعلام. فمن يطلع على المسودة يكتشف ان البنود المعنية بهذه المسألة لم تحدد وسائل التعبير وما نوع الحرية المتاحة للصحافة أو الطباعة والنشر في بلد يتجاوز عدد المطبوعات اليومية والأسبوعية فيه المئة مطبوع.
رغم ذلك، ما من شك في أن الصحافيين والكتّاب في عراق ما بعد حرب عام 2003 قد تنفسوا الصعداء وبدأت حرية التعبير تأخذ مجرى آخر يتناقض مع مجرى القمع الذي كان مألوفا في الفترة التي سبقت الحرب والتي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود. آنذاك كان القانون "مثاليا"، يكفل حرية التعبير في الظاهر، الا ان مجالات العقوبة التي تقيد الكتّاب كانت بسبب الرقابة التي تمارسها الدولة في العديد من النواحي، مما خلق قيودا غير مكتومة ورقابة ذاتية شبه غريزية سيحتاج العراقيون الى الوقت لتخطيها وكسر إرهابها.
www.annaharonline.com/htd/EDU051128.HTM
www.annaharonline.com/htd/EDU051129.HTM