عبد الرحيم الخصار
(المغرب)

عبد الرحيم الخصار ما هي لغة الأدب؟
وهل للأدب لغة؟
يبدو هذان السؤالان غريبين وبلا جدوي، إنهما شبيهان بالأسئلة المدرسية، ولكنهما يبحثان في المنطقة الأكثر عمقا، إنهما ينقّبان عن معدن ما في منجم ما، ذلك أن الأمر يرتبط بعملية خلق تعتبر اللغة وسيلتها الأولي.

إنني استعيد الآن صورة الخزّاف الذي يجلس طويلا وبكامل تركيزه من أجل إبداع قطعة فنية، وإذا كنت أتساءل عن السر الذي يجعل من حفنة طين تحفة رائعة فإنني أتساءل في العمق عن السر الذي يجعل من حفنة كلمات نصا أدبيا عظيما؟

ما هي اللغة؟ إنها الطين وشكله.
إنني أتحدث هنا عن اللغة بوصفها المرادف الأقرب إلي الأدب، اللغة كمفهوم شامل يكاد يستغرق العمل الأدبي برمته، اللغة كمادة خام للرواية مثلا وكحامل ليس فقط لتصور الكاتب لشخصياته وسلوكاتها ولسيرورة الزمن وتحولات الأحداث والأمكنة، بل كمؤثر كبير علي مدي تلقي القارئ لعمل ما ومدي تفاعله معه، إن درجة تعاطفنا مع كائن روائي ـ أريد له أن يكون موضع عطف ـ تختلف حسب عامل أساسي هو شكل اللغة الواصفة لوضعه، فشكل النعوت المفردة او الجمل الناعتة هو الذي يتحكم بطريقة حاسمة في شكل الشعور الذي يتم تصريفه نحو شخصية أو حدث ما داخل الرواية.

إنني اتحدث هنا عن اللغة كمفهوم يقترب إلي حد كبير من مفهوم الأسلوب style عند سيلين، فإميل سيوران مثلا يري أن الأدب هو النثر منتصرا بذلك لجنس أو أجناس متقاربة، وقد تستمد هذه الفكرة مشروعيتها من كون النثر هو المجال الذي يختبر ادبية الكاتب، حتي لا يتاح للكلام غير الممكن استيعابه أو علي الأقل غير الممكن تخيله أن ينتمي إلي حقل الأدب، لكن سيلين يري أن الأسلوب هو الأدب، وأن الكاتب هو أسلوبه ، وما لم يمتلك المؤلف أسلوبا فإنه يظل يجدف في السطح بعيدا عن حقيقة الأدب.

ما هي لغة الأدب؟
يقول موريس بلانشو: اللغة العامة في متناولنا، هي تقول الأشياء، تعطينا الأشياء بإبعادها وتتلاشي هي نفسها في هذا الاستعمال الذي هو دائما لاغ وخفي، ولكن عندما تصبح اللغة لغة حكي تصبح خارج نطاق الاستعمال ، إنها لغة غير مستعملة، أو بالأحري لغة فوق اللغة المستعملة، فمهما تنامت تيارات الواقعية والحداثة وما بعدها تظل لغة الأدب لغة أخري، ذلك ان بداية الحديث بها تحيل بالضرورة إلي النوع: أدب ، فحين يقول رجل لمحبوبته كلمة غزل ترد عليه: أنت تقول شعرا ، حتي لو كانت تلك الكلمة رديئة فهي تلتصق باللغة الأخري، لغة الأدب، الأدب الرديء في أسوأ الحالات.

إن ما أريد ان أقوله وأريد ان أرفعه إلي الحدود المتاخمة لكلمة سيلين أجده أيضا عند رولان بارث الذي يعتبر الأسلوب هو اللغة الغريزية النابعة من الأحشاء والملتحمة بحميمنا السري.
إن عددا من الروائيين حظوا بشهرة واسعة بل وأحيانا جماهيرية إلا انهم لم يستطيعوا أن يمارسوا أي نوع من السحر علي نخبة الكتاب انفسهم، إن الروائي الأثير عند المثقفين والكتاب والقراء الكبار قد يكون مثلا هو ميلان كونديرا، إن لغة كونديرا مميزة ومؤثرة بشكل يصعب معه التخلص من تداعيات القراءة، فكل الكتاب يمكنهم مثلا أن يصفوا لحظة حب او لحظة ألم، لكن قليلون جدا أولئك الخزافون الذين سيصعدون باللحظة إلي ذروتها عبر اللغة، إن رواية عن الألم قد تكون أكثر متعة ولذة من رواية عن الحب، إذ ليس الأساسي هو الحب او الالم لذاتيهما ولكن الأهم هو الشكل الذي يظهران به في الرواية.

فلنعد إلي عالمنا العربي ولنسأل عن اللغة التي يكتب بها روائيونا وشعراؤنا اليوم، سأقف عند أمثلة محدودة في الشعر لأنه مجال اشتغالي ، إن الذي يجعل القراء عشاقا كبارا للماغوط هو لغته، اللغة المشحونة بالدفق الإنساني القادرة علي أن تنوب عن الجميع لأنها تحمل في أحشائها قلقهم وحزنهم وريبتهم، إن ما يجعل شعر وديع سعادة مميزا هو لغته الواثقة والصارمة، وما يجعل نصوص بسام حجار قريبة من قلوب القراء هو لغتها الدافئة والهادئة التي تنقل الإحساس كما هو دون زوائد غير شعرية، وما يجعل قصائد مبارك وساط قوية هو لغتها الغرائبية التي تستمد صورها ومكوناتها من عوالم عجيبة، وما يجعل من عباس بيضون اليوم شاعرا مميزا هو لغته المحكمة والمبنية علي علاقات غاية في الدقة، وما يميز نصوص مرام المصري ويجعلها متفردة هو تلك اللغة الملتاعة أو الناعمة المفتونة بنعومتها .

ولهذه الأسباب نفهم لماذا يبدو باهتا كل شاعر يتبع هؤلاء في طريقهم أو طرقاتهم، إنه يحاول أن يسرق منهم لغتهم غير المستعملة علي حد تعبير بلانشو أو أسلوبهم علي حد تعبير سيلين.
لغة الأدب هي لغة إعمال الجهد، لا تنفتح لك مغاليقها ولا تهبك لذتها الكاملة إلا بالحضور الكلي والتركيز، إنها تفرض عليك هيبتها، بل إنها تملك من التسلط ما يسبي الكائن لمدة زمنية قد تقصر او تطول حسب طبيعة العلاقة المؤسسة بينهما.

إن لغة الأدب قد تصل أحيانا أوج استبدادها حين تتمكن من تحويل كلي لطريقة التفكير في الذات وفي الأشياء المحيطة بها، إنها تملك من المكر والخطورة ما يحول وجهة الكائن، فقد تخرجه من الكآبة وقد تقوده إلي الانتحار.

ما هي لغة الأدب؟
إنها الطين وشكله، الطين الذي قد يصير بلمسة يد ذلك التمثال المقدس الذي يعبده البوذي في محرابه، وقد يصير بلمسة يد أخري مجرد إناء فارغ يتكسر علي جمجمته.

القدس العربي
24/01/2008