عبد العزيز المقالح
(اليمن)

(1)

لتكن ليلة مقمرةْ
لتكن موسما للطفولة في دمنا
ولتكن مقلتانا لها محبرةْ
نغني لها...
فترقص في الظِّلِّ من دمنا القُبَّرَةْ

وضع الشاعر حسين السماهيجي (من البحرين) هذه اللوحة المسماة بطاقة للألفية الجديدة على ظهر ورقة بريد وبعث بها إلى أصدقائه في تلك المناسبة الفاتحة لشهية الشعر بخاصة والكلام بعامة. ومن حسن حظي أن تصلني مجموعته التي تحمل هذه البطاقة في الأيام الأولى من عام جديد هو عام 2003م, وأن تخرجني (نزواته الشرقية) من حالة الإحباط والقلق التي يصنعها الانتقال غير المرئي من عام إلى آخر ومن عتبة في الزمن المعلوم إلى عتبة في زمن مجهول.

قبل مجموعته التي بين يدي الآن والتي تحمل عنوانا غريبا بعض الشيء (نزوات شرقية) صدر للشاعر حسين السماهيجي ثلاث مجموعات شعرية هي حسب الظهور (ما لم يقله أبو طاهر القرمطي) في 1996م, و(الغربان) في 1999م, و(امرأة أخرى) في 1999م. وحزنت كثيرا لأنني لم أسعد بقراءة أي من المجموعات الثلاث بعد أن غمرني ما في هذه المجموعة التي بين يدي من دفء الشعر وبراعة التقنية الشعرية البريئة من التصنع والافتعال. يبدأ الشاعر مجموعته الجديدة بثلاث قصائد طويلة تحت ثلاثة عناوين هي (التوقيعات) و(فضاء التجليات) ثم, (احتمالات الدم والمرآة) وفي كل قصائد المجموعة ومقطوعاتها المتعددة الأوزان يقتصد الشاعر في المعنى اقتصاده في التركيب اللغوي, وهو في قصائده المطولة الثلاث يأخذ نظام المقاطع ويتعامل معها على شكل وحدات مستقلة تتناول كل واحدة منها موضوعا قائما بذاته ولا يربطها جميعها سوى خيط رفيع من الفكرة الأساسية للقصيدة. وحين نأتي إلى (كتاب السِّيَر) وهو أوسع أبواب المجموعة وأحفلها بالإشراقات المتعددة سنجد أن كل مقطع يشكل قصيدة مستقلة بعنوانها وبموضوعها. وفي الجزء الأول من هذه القراءة محاولة للاقتراب من التوجهات الرئيسية للقصائد الأولى المطولة عبر عناوينها ذات الإضاءة الدالة, وكأنها الأجدر بعنوان المجموعة وهو (نزوات شرقية) حيث يرتفع صوت الاحتجاج وتعلو نبرة النقد الاجتماعي والسياسي في غير مباشرة أو تسطيح, شأن الشعر الجيد الذي يلمح ولا يصرح:

أرى دابةَ الأرض
تقضم أطرافهم
والبيوت بلا ساكنيها
أرى جسدًا يجلد الصمتَ
لا الصوتُ رَدَّ الصَّدَى
لا العيونُ تباغتها امرأةٌ
مَنْ يَرُدُّ إلى العَرْشِ سَيَّافَهُ

وكما تتعدد المقاطع في القصائد المطولة الثلاث ويشتد التكثيف في بنائها نجد أن الإيقاع يتعدد في هذه المقاطع أيضا, وأن بعضها يأخذ بنظام البنية الكامل كما في المقطع, وهو كسابقه مجتزأ من القصيدة المطولة الأولى:

ما نطقنا إلا وخمرٌ تسيلُ
بين أشداقنا وجفَّ الهديلُ
نتسلى بأن تقود خطانا
هينماتٌ يجن فيها العويلُ
يعترينا ليلٌ.. ويفغر فاه
فكأنا في جوفه مستحيلُ

والشاعر يجيد "التغميض" كما يجيد اللعب بالألفاظ في محاولة للهروب من المباشرة وما تلقيه على عاتق الشعر من تبعات تبعده عن دائرة القول الفني وتحيله إلى بند المقالات والمنشورات السياسية. وليس في هذا الاتجاه ما يثبت الخصوصية والتمايز وحسب بل وما يعطي للصياغة الجديدة إمكانية تعدد الدلالات:

تغور الجذورُ
فتهتز نخلتُنا
قلت لي: إنها سنبلةْ
في جريرتنا المسدلةْ
خلف غيماتنا المثقلةْ
بوريقات أبنائنا
وسويعاتنا المقبلةْ

"جريرتنا" هنا, في هذا المقطع هي "جزيرتنا" حيث ينمو النخيل والهموم, ولكنها تحولت إلى جريرة بكل ما تحمله المفردة, من إيحاء قاس ودلالة عميقة مترعة بالحضور والحسرة.

(2)

تسعى بعض الأعمال الشعرية الجديدة - وبطريقة غير مباشرة - إلى أن ترد على الافتراءات التي تحاول النيل من هذا الجديد الشعري. وفي هذه المجموعة الجديدة للشاعر حسين السماهيجي (نزوات شرقية) رد صارخ وعنيف على أولئك الذين يقولون إن القصيدة الجديدة القائمة على نظام التفعيلة تفتقد إلى الإيقاع أو أن موسيقى البحور تبدو خافتة في هذا النوع من القصائد، وهذا الزعم يتلاشى عند قراءة القصائد الجديدة بعامة وفي هذه المجموعة الشعرية التي تحظى بمستوى من الموسيقى العالية يؤهلها لأن تكون نموذجاً للشعر العربي الجديد المحافظ على أكبر قدر من الإيقاع يستوي في ذلك القصائد الطويلة أو القصيرة التي يمكن تسميتها بالمقطوعات، كما هو الحال في قصيدة (نداء) التي تتألف من أربعة سطور فقط ولا تزيد مفرداتها عن تسع كلمات:

يا صوتْ!
يا صوتْ...!
غريق في حنجرتي
حتى الموتْ

أي كم هائل من الموسيقى يصدر عن هذه السطور الأربعة وأي إيقاع عذب جميل يزيد من فاعليته هذا النداء الذي يتكرر مرتين وكلمة الصوت التي تتكرر مرتين أيضاً. وإذا كانت هذه الملاحظات السريعة على المجموعة قد اقتربت في جزئها الأول من القصائد المطولة الثلاث فإن موعدنا في هذا الجزء مع ما سماه الشاعر بـ"كتاب السِّيَر" الذي يضم ثلاثة أرباع قصائد المجموعة كما سبقت الإشارة. وأغلبها إن لم تكن كلها لوحات تحكي أو ترسم شخوصاً من الماضي والحاضر وتتفاوت طولا وقصراً ولكنها لا تتفاوت أو تتباين في مستوى التعبير الشعري، والكتاب يبدأ بصورة لمجنون ليلى من خلال حوار طويل يقيمه الشاعر مع قيس الخائف والتائه في البرية بحثاً عن حبه الضائع. وأحلامه التي ذهبت - بسبب التقاليد - أدراج الرياح.

ولعل أكثر اللوحات عذوبة وانسياباً في هذه السِّيَر هي تلك اللوحة التي رسمها الشاعر للحسين بن علي وهي بعنوان (سيد الخروج) ومنها:

تخرج الآن من زمنٍ سَادِرٍ
في اليبابْ
تتأبط ألواحَكَ الواجفةْ
تتلفتُ
هل كنتَ في ظِلِّ سدرةِ آبائك الوالهين إلى الله
أم كنتَ تركضُ في الجمر
...
مرحى لبوحك
مرحى لنوحك
مرحى لأوراقِكَ العبقاتِ
برائحة البحرِ
والنخلةِ الواقفةْ.

لقد طوَّف الشاعر في (كتاب السير) عبر العصور، ونجح بشاعرية فذة في تحطيم الفواصل بين الأزمان، وأكد على أن للإبداع زمناً خاصاً وديمومة مختلفة وأنه يشبه النهر الذي لا تنفصل قطراته عن أمواجه. فالشاعر يقدم تحت عنوان (تقاسيم) عدداً من المبدعين من دون ترتيب يتقدمهم ابن عربي، يليه أبو نواس، فأبو العلاء، وأيوب، والمتنبي، والحلاج. سلسلة من المعذبين بالكلمة يتوسطهم "قابيل" الذي أسال دم أخيه بحجر وكتب على البشرية القتل والبكاء.

تبقى في هذه الملاحظات السريعة إشارة إلى أن الشاعر حسين السماهيجي الذي أمعن في السيطرة على الإيقاع إلى حد المبالغة أحياناً لم يسلم من عثرات وزنية بدت لي مقصودة ومتعمدة في نصين أو ثلاثة ربما لتكون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة في خطاب شعري يقوم - بوعي أو بلا وعي - على إثبات قدرة الأوزان العربية في الانتقال من المستوى السطحي إلى المستوى العميق دون أن تكسر جمالية الصياغة أو انسياب حركة التوتر.

جريدة "الوطن" السعودية
السبت 18/1/2003م- العدد 841
السبت 25/1/2003م- العدد 848