عبد الأمير علي مهنا

هو الحجر المثبت والمغروس في الركن الجنوبي للكعبة على ارتفاع 10،1م من أرض المطاف. قيل إن ياقوته من ياقوت الجنة أحضر لإبراهيم عليه السلام ليضعه في ركن الكعبة عندما أمر ببنائها، ثم أخذه النبي بيده الشريفة ووضعه في مكانه أثناء بناء قريش للكعبة قبل الإسلام بخمسة أعوام في قصة التحكيم المشهورة. وزاد هذا الحجر شرفا وفضلا تقبيل النبي (ص) له والأنبياء من قبله، والصحابة وآل الرسول والسلف الصالح من بعده، وهو الآن مبدأ الطواف ومنتهاه، وملتقى شفاه الصالحين والحجاج والمعتمرين على مر التاريخ، تسكب عنده العبرات وتجاب الدعوات. ولهذا الحجر علاقة بميثاق التوحيد، فقد ورد في روايات أهل العصمة وغيرهم من الثقات ان الله تبارك وتعالى بعد ان أخذ مواثيق العباد أودع الميثاق عند هذا الحجر ليأتي الخلق في كل عام يجددون الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذه الله عز وجل عليهم. من هنا كان الإمام محمد الباقر عليه السلام يقول حين يستلم (1) الحجر الأسود: ((أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة (2)). وقال النبي (ص): ((طوفوا بالبيت واستلموا الركن (3) فإنه يمين الله في أرضه يصافح بها خلقه ويشهد لمن وافاه (4). وقال (ص): ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسوّدته خطايا بني آدم (5)). وروي عن مجاهد انه قال: ((نظرت الى الركن حين أعاد ابن الزبير بناء الكعبة فإذا كل شيء منه داخل البيت أبيض، فعلمت ان الذي اسودّ منه بسبب الخطايا (6) هو الجزء الظاهر منه فقط، فلعله سمي من أجل ذلك الحجر الأسود). وقال الحلبي في سيرته (1:175): ((وقد اشتد سواد الحجر الذي سوّدته خطايا المشركين بسبب الحريق الذي حصل، أولا زمن قريش وثانيا زمن ابن الزبير).

كان الحجر الأسود قطعة واحدة، لكن بسبب الأحداث التي مرت عليه والتي سنذكرها لاحقا تكسر رأسه الظاهر وتهشم وتشظى، وقد أزيل عن مكانه غير مرة:

أزالته إياد في خبر يقول: كان الأصل في انتقال ولاية البيت من مضر الى خزاعة ان الحرم حين ضاق عن ولد نزار وبغت فيه إياد أخرجهم بنو مضر بن نزار وأجلوهم عن مكة فاقتلعوا الحجر الأسود في الليل واحتملوه على بعير، فرزح البعير وسقط الى الأرض، فجعلوه على آخر فرزح ايضا وعلى الثالث ففعل مثل ذلك. فلما رأوا ما حصل دفنوه سرا وذهبوا. فلما أصبح أهل مكة ولم يروه وقعوا في كرب عظيم. وكانت امرأة من خزاعة قد بصرت بالحجر حين دفن فأعلمت قومها بذلك. حينئذ طلبت خزاعة من ولاة البيت ان يتخلوا لهم عن ولايته حتى يدلوهم على الحجر فكان لهم ما أرادوا. فمن هناك صارت ولاية البيت لخزاعة الى ان صارت الى بني عبد مناف... (راجع الروض الآنف والسيرة لابن هشام 1:118)

وفي أيام يزيد بن معاوية قام قائد عسكره الحصين بن نمير بحملة لمحاربة عبد الله بن الزبير الذي تحصن داخل المسجد الحرام وحول الكعبة، حيث ضربها الحصين بالمنجنيق والنفط فاحترقت وتهدمت واحترق الحجر الأسود، فكان ثاني حريق أصابه بعد حريقه الأول قبل الإسلام في عهد قريش. وبعد موت يزيد وارتداد الحصين أعاد ابن الزبير بناء الكعبة على أساسها القديم ورمم الحجر الأسود الذي كان تشظى وتفلق الى ثلاث شظايا، فشد شعبه وربطه بالفضة فكان أول من قام بهذا العمل، ثم تتابع الخلفاء والمسؤولون في عمل الأطواق الفضية له كلما اقتضت الضرورة. ومع الأيام رقت الفضة ونزعت عن الحجر الأسود حتى خاف الناس ان يتصدع فثقبوا الحجارة التي بينها الحجر الأسود بالماس من فوقها وتحتها ثم أفرغوا الفضة فيها.

القرامطة سرقوا الحجر الأسود وكان ممن أزال الحجر الأسود عن موضعه أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد القرمطي (7) يوم التروية سنة 317ه/ 929م. الذي تأكد من ضعف الخلافة العباسية وعجزها عن حماية الحجاج والعتبات المقدسة فهاجم مكة في هذه السنة وقتل أميرها ابن محارب (وقيل محلب) وقتل المسلمين بالمسجد الحرام وهم متعلقون بأستار الكعبة وطرحهم في بئر زمزم وأصعد رجلا ليقلع الميزاب فسقط فمات. وقيل ان الذين قتلهم بفجاج مكة وظاهرها بلغ زهاء ثلاثين ألفا بعد ان اقتلع قبة زمزم وأبواب الكعبة وجردها من كسوتها وضرب الحجر الأسود فكسر منه ثم قلعه وأراد أخذ حجر المقام (8) فلم يظفر به لأن سدنة الكعبة غيبوه في بعض شعابها (9) وأخذ جميع ما كان في الكعبة من آثار الخلفاء، وذهب بدرّة اليتيم التي كانت تزن أربعة عشر مثقالا وبقرطي مارية وقرن كبش إبراهيم وعصا موسى ملبسين بالذهب مرصعين بالجوهر... وأقام بمكة أحد عشر يوما نهب خلالها دور سكانها الذين نزحوا عنها وانقطع الحج في تلك الأيام خوفا من القرامطة، ثم عاد الى البحرين حاملا معه الحجر الأسود. قيل انه لما حمله الى بلده هجر هلك تحته أكثر من أربعين جمل، ا فلما أعيد سنة 339ه/ 950م حمل على جمل هزيل فسمنَ.

في سنة 332ه/ 943م وأثناء زيارة أبي طاهر القرمطي للكوفة لتفقد أحوالها أصيب بمرض الجدري، مما أجبره على قطع رحلته والعودة الى هجر حيث أدركته الوفاة في شهر رمضان من العام نفسه، فاستغل أخواه أبو القاسم سعيد وأبو العباس احمد غيابه عن الساحة وشكلا مجلسا للقيادة تمت الموافقة في أول جلسة له على إعادة الحجر الأسود الى مكانه في البيت الحرام بعد ان بقي عندهم بهجر أكثر من عشرين سنة، ودُفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى قيل انه أعيد في خلافة المطيع (راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 383) وقيل إن الذي أعاده سنفر بن الحسين بن سنبر، وهو من خواص أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي كبير القرامطة في سنة 339ه. حمله مع جماعة الى الكوفة وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه الى مكة ووضعوه في مكانه يوم النحر وقالوا: أخذناه بأمر وأعدناه بأمر. فكانت مدة غيبته 22 سنة إلا أربعة أيام (10). قال المؤرخ محمد بن عبيد الله بن احمد المسبّحي: ان نافع بن محمد الخزاعي دخل الكعبة فيمن دخلها للنظر الى الحجر الأسود لما كان في الكعبة بعد رد القرامطة له، وأنه تأمله فإذا السواد في رأسه دون سائره، وسائره أبيض. قال: وكان مقدار طوله مقدار عظم الذراع او الذراع المقبوضة الأصابع والسواد في وجهه غير ماض في سائره جميعه (11). وقال المسبحي: إنه في سنة 340ه/ 951م قلع الحجبة الحجر الأسود وجعلوه في الكعبة خوفا عليه، وأحبوا ان يجعلوا له طوقا من فضة يشد به كما كان قديما في عهد ابن الزبير، فأصلحه صائغان حاذقان وعملا له طوقا من فضة وأحكماه. وعن محمد بن نافع الخزاعي: ان مبلغ ما على الحجر الأسود من الطوق وغيره 3099 درهما.

وقد ذكر ابن فهد المكي (12) انه في حوادث سنة 363ه/ 973م جاء رجل من أهل الروم فضرب الحجر الأسود ضربة شديدة بمعول صلب لقاء مال كثير أعطي له فقتل في الحال. كما ذكر ايضا انه في حوادث سنة 413ه/ 1022م عمد بعض الملحدة الذين استغواهم الحاكم العبيدي في مصر وأفسد ديانتهم الى ضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بدبوس فتخشّن وجه الحجر في وسطه وتقشّر وتساقطت منه ثلاث شظايا وتشقّق يمينا وشمالا وخرج مكسره أسمر يضرب الى صفرة محببا مثل الخشخاش وقال: الى متى يعبد هذا الحجر؟ لا محمد ولا علي يمنعاني عما أفعله، فقتله الناس في الحال، فأقام الحجر على ذلك يومين، ثم إن بني شيبة جمعوا الفتات وعجنوه بالمسك واللّك (صبغ احمر، وقيل: دهان للخشب) وحشوا الشقوق وطلوها بطلاء من ذلك (13). ومثل هاتين الحادثتين ذكر الإمام ابن علاَّن في حوادث سنة 990ه/ 1582م ان رجلا أعجميا من العراق ضرب الحجر الأسود بدبوس فقتل في الحال، وكذلك قال الشيخ حسين باسلامة المتوفى سنة 1356 ان رجلا من بلاد الأفغان اقتلع قطعة من الحجر الأسود سنة 1351ه/ 1932م وسرق قطعة من ستارة الكعبة فاعتقل وأعدم.

والمعروف ان الحلية الفضية التي على الحجر الأسود اليوم هي غير الحلية المتقدمة، لأن داود بن عيسى بن فليتة الحسني أمير مكة قديما أخذ طوق الحجر الأسود قبيل عزله عن مكة في سنة 585ه/ 1189م أوفي التي بعدها على ما ذكر غير واحد من أهل التواريخ، وهذا يقتضي ان يكون قلع الحجر الأسود ليعمل له طوقا فضيا يصونه من السرقة وغير ذلك، ثم لأن الإطار الفضي قد رمم في عهد الملك سعود بن عبد العزيز وأعيد ترميمه في عهد خادم الحرمين الشريفين (14) في ربيع الأول سنة 1422ه.

أبيض أسود أما قياس الحجر فالمعروف ان الكعبة هُدمت سنة 1039ه/ 1629م بسبب سيل عظيم، وعندما قاموا بعمارتها كان ممن حضرها الشيخ ابن علان المكي الذي سجل مراحل عمارتها بالتفصيل، ومما قاله عن الحجر الأسود وقد شاهده بالمعاينة:

((ولون ما يستتر من الحجر الأسود بالعمارة في قدر الكعبة أبيض بياض حجر المقام، وذرع طوله نصف ذراع وذلك شبر ونصف وهو طول ذراع غالب الناس، وعرضه ثلث ذراع، ونقص منه قيراط في بعضه، وسمكه أربعة قراريط، وعليه سيور (15) من فضة. وقال ابن علان ايضا: إن عدة فِلق الحجر نحو ثلاث عشرة فلقة. الكبار منها أربع والباقيات صغار بالنسبة إليها، وقد عُمل له مركب يلصق به ما تفرق عنه من أجزائه (16) وقال المؤرخ محمد طاهر الكردي المتوفى سنة 1400ه: ((والذي يظهر من الحجر الأسود الآن في زماننا (منتصف القرن الرابع عشر الهجري) ونستلمه ونقبله ثماني قطع صغار مختلفة الحجم أكبرها بقدر التمرة الواحدة، كانت قد تساقطت منه حين الاعتداءات عليه من بعض الجهال والمعتدين في الأزمان السابقة. وقد كان عدد القطع الظاهرة منه خمس عشرة قطعة وذلك منذ خمسين سنة، أي أوائل القرن الرابع عشر للهجرة، ثم نقصت هذه القطع بسبب الإصلاحات التي حدثت في إطار الحجر الأسود، فما صغر ورق عجن بالشمع والمسك والعنبر ووضع ايضا على الحجر الكريم نفسه (17).
وعلى هذا فما هو داخل الإطار الفضي للحجر الأسود الآن غالبه ليس من الحجر الأسود، إنما الحجر بطول ذراع مغروس في بناء الكعبة المشرفة كما تقدم، ورأسه أسود تفتت خلال هذه الأزمنة التي تحدثنا عنها، فما بقي من رأسه وهي القطع الثماني التي ذكرها المؤرخ الشيخ محمد طاهر الكردي (18) عُجن لها معجون أسود ووضعت هذه القطع الثماني في وسط المعجون داخل الإطار الفضي. لذا فمن أراد تقبيل الحجر الأسود فليلحظ هذه القطع في وسط ذاك المعجون، وهذا ما غاب عن كثير من الحجاج والمعتمرين. حيث يظنون ان ما هو داخل الإطار الفضي كله من الحجر الأسود وحقيقة الأمر غير ذلك.

السفير -23 أغسطس 2002