عبد الرضا علي
(العراق)

نازك الملائكة* ترقد الشاعرة العراقية نازك الملائكة منذ اشهر عديدة في احد مستشفيات العاصمة المصرية التي تعيش فيها منذ عام 1992، وهي في شبه غيبوبة. وقبل ذلك اعتزلت هذه الرائدة الكبيرة الحياة الثقافية والاجتماعية منذ ما يقرب من عشر سنوات وسط تجاهل إعلامي وثقافي كعادتنا مع كبارنا الأحياء. لكن من حسن الحظ ان المجلس الأعلى للثقافة في مصر تنبه لذلك، فأصدر قبل أيام أعمالها الكاملة في خمسة مجلدات، كما كرسها اتحاد كتاب المغرب في ندوته حول الكتابة النسائية والذاكرة والمكان التي نظمت في مدينة أسفي المغربية قبل حوالي شهرين.

هذه حلقات حول دور نازك الملائكة الريادي في الشعر العربي الحديث، ومواقفها النقدية اللاحقة من هذا الشعر، وتجربتها الشعرية ومكانتها في المشهد الثقافي العربي.

في أسرة "الملائكة" البغدادية ولدت "نازك"، وكانت أول عقب لأبويها. وأسرة الملائكة أسرة شاعرة تقرض الشعر وتتبارى فيه، وتعنى بالأدب، فرب الأسرة "صادق الملائكة" والد نازك كان ينظم الشعر، وله قصائد كثيرة، وأرجوزة في أكثر من ثلاثة آلاف بيت.

إما والدة نازك فهي "سليمة الملائكة" التي عرفت باسمها الأدبي "أم نزار الملائكة" وكانت تنظم الشعر وتنشره في المجلات والصحف العراقية وقد صدر لها بعد وفاتها ديوان أنشودة المجد.

وأخت نازك "إحسان" وأخوها "نزار" نظما الشعر أيضا.

ولعل من المفيد ان نذكر هنا ان خالي نازك وهما: الدكتور "جميل الملائكة" وعبد الصاحب الملائكة" شاعران لهما آثار مطبوعة.

في هذه الأسرة نشأت نازك وترعرعت، وكان لها ميل قوي عميق الى الشعر والأدب، ظهرت بوادره منذ الطفولة، وقد سمعت أبويها وجدها يقولون عنها إنها شاعرة قبل ان تفهم معنى هذه الكلمة، لأنهم لاحظوا عليها التقفية، وإذنا حساسة تميز النظم الشعري تمييزا مبكرا وبدأت بنظم الشعر العامي قبل ان تبلغ سبع سنوات، وكانت تحفظ إخوتها الأصغر منها أغاني بالعامية موزونة ومقفاة.. وفي سن العاشرة نظمت أول قصيدة فصيحة ارتكبت في قافيتها غلطة نحوية.. ثم اشتد حبها للشعر حين بلغت الثانية عشرة من العمر، وأصبح ينمو، ويتزايد مع السنين.

وكانت منذ صغرها تحب اللغة العربية والإنجليزية والتاريخ، ودروس الموسيقى، وتجد لذة في دراسة العلوم، ولا سيما علم الفلك وقوانين الوراثة والكيمياء، لكنها في الوقت نفسه كانت تمقت الرياضيات مقتا شديدا.
إما التفكير الفلسفي فقد تملكها منذ الصبا حتى غدا عادة من عاداتها تقول: "كنت دائما أحب ان أفلسف كل شيء، وأغوص في جنباته وأسبابه. وفي سنوات النضج أقبلت على قراءة الفلسفة".
ويبدو ان إحساسها الدائم بأنها تختلف عن سائر البنات اللواتي كن في سنها أيام الطفولة كان نوعا من التفكير الفلسفي الذي قادها الى الانعزال عنهن، لأننا وجدناها تقول: "فأنا كثيرة المطالعة، محبة للشعر والغناء، جادة.. قليلة الكلام، بينما هن لا يطالعن ولا يعبأن بالفن وليس لهن من الجد في الحياة إلا اليسير".

وعندما بلغت السادسة عشرة أصبحت اعد العزلة فصيلة الشاعر وحرية المفكر ونبذت المجتمع وانطويت على نفسي.. ولكنني بعد الثلاثين أصبحت أجد سعادة في الصداقة ومعرفة الناس وتذوق ما في شخصياتهم من جوانب جميلة.

كان لأبوي نازك تأثير عميق في بدء حياتها الفكرية، فقد بقي والدها أستاذها في النحو حتى أنهت دراستها الجامعية الأولى، إما والدتها فقد كان لها اثر واضح في حياتها الشعرية، لأنها كانت تعرض عليها قصائدها الأولى، فتوجه إليها النقد وتحاول إرشادها.

وفي مرحلة الثانوية لاح عليها شغفها بالشعر الحديث، فتأثرت بشعر علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل وبدوي الجبل وامجد الطرابلسي وعمر أبي ريشة وبشارة الخوري.

وقد بلغ نشاطها الفني أوجه في سنة 1942م، حينما كانت طالبة في السنة الثانية من دار المعلمين العالية، فانتظمت طالبة في فرع العود بمعهد الفنون الجميلة، ودخلت طالبة في فرع التمثيل، ولم تكتف بذلك، وإنما انتمت الى صف لدراسة اللغة اللاتينية فوهبت نفسها لهذه الدراسات كلها في اندفاع لا مثيل له وكانت تحبها اشد الحب.

إما تأثرها بالأدب الإنجليزي فقد بدأ وهي طالبة في دار المعلمين العالية حينما قرأت "شكسبير" وترجمت الى الشعر العربي إحدى سونيتاته آنذاك، هي "الزمن والحب".. ثم أقبلت بعد ذلك على قراءة شعر "بايرون" و"شلي" ثم سافرت الى الولايات المتحدة لدراسة النقد الأدبي في جامعة "برنستون" في نيوجرسي، فاتيحت لها الدراسة على أيدي نقاد الأدب، مثل "ريتشرد بلاكمور" و"آلن داونر" و"آلن تيت" و"دونالد ستاوفر" و"ديلمور شورتز" وكلهم أساتذة لهم مؤلفات معروفة في النقد الأدبي على ما تقول.

ثم عادت الى العراق سنة 1951م، وبدأت تتجه الى كتابة النثر عامة، والنقد الأدبي خاصة.

وفي عام 1954م، هيأت لها مديرية البعثات العراقية دراسة الأدب المقارن في الولايات المتحدة الاميركية في جامعة "وسكنسون" للحصول على الماجستير، فاستغرق إعداد الرسالة سنتين كتبت خلالهما مذكرات أدبية كثيرة على الكتب التي قرأتها والأشخاص الذين تعرفت إليهم وعاشت معهم في تلك الحقبة. ولاتساع حجم تلك الملاحظات نشير فقط الى الأسماء التي سجلت عنها ملاحظاتها النقدية، وهم:

الفيلسوف الفرنسي "جان ماري غويو"، الفيلسوف الألماني "نيتشه"، الفيلسوف القديس "أوغسطين"، الكاتب الفرنسي "أندريه مارلو"، الأديب الفرنسي "البير كامو"، الفيلسوف الفرنسي "سارتر"، الكاتب المسرحي الإيطالي "لويجي بيرانديلو"، الكاتب المسرحي الإنجليزي "ج. ب. بريستلي"، الكاتب المسرحي "بوجين اونيل"، الكاتبان المسرحيان الاميركيان "آرثر ميلر"، و"تينسي وليامز"، والإيطالي "البرتو مورافيا".

وقد ذكرت نازك في إحدى رسائلها أسماء الشعراء الإنجليز الذين أحبتهم، مما جعلنا نعد تلك الرسالة وثيقة مهمة ـ في الكشف عما كان في ثقافتها من اثر غربي ـ تبيح لنا الاستشهاد بجزء منها، وان كانت الرسالة شخصية، فهي تقول فيها: "وأولهم عندي شكسبير في مسرحياته وسونيتاته وقصائده الطويلة، فقد أحببته اشد الحب، وما زلت أجد النشوة في قراءة شعره، فهو شاعر الذروة يليه جون كيتس الذي درسته دراسة موسعة، وحفظت كثيرا من شعره، يليه فرانسس تومسن وروبرت بروك وت. س ايليوت وييتس وولسن توماس. ومن الشعراء الذين أحببت شعرهم جون دون، فشعره يبدو لي رائع الأعماق بحيث أجد دائما لذة في قراءته. وهناك شعراء اقل شهرة اسعد بقراءة شعرهم مثل: ادخار ألن بو وتشيسترتن واوسكار وايلد ولونغفلو، وشعراء آخرين قد أكون أحببت لكل منهم قصيدة أو قصيدتين إما كولرج ووردزورث وشلي وبايرون فقد قرأت لهم كثيرا وأحببتهم أحيانا ولم أتحمس لهم أحيانا اخرى.

وكثيرا ما راق لي شعر المجهولين الذين يختصرون اسمهم بكلمة Anon، كما أحببت الشعر الإنجليزي الشعبي، وحفظت كثيرا من الأغاني الاميركية الفولكلورية. فكل هذا الذي أقوله مختصر، فالشعر الإنجليزي واسع وأنا لا اكف عن القراءة فيه.

إما ما نشرته من شعر "مترجم" فقد كانت بدايته سنة 1945م، حين ترجمت قصيدة "مرثية في مقبرة رينيه" للشاعر الإنجليزي "توماس غري" ترجمة شعرية في ثلاثة وثلاثين مقطعا.. بلغ عدد أبياتها اثنين وثلاثين ومائة بيت اختارت لها بحر الخفيف إيقاعا، وكانت القصيدة مدورة في اغلب أبياتها. أما ثاني قصيدة ترجمتها فقد كانت قصيدة "البحر" للشاعر الإنجليزي "جورج غوردن بايرون" وذلك في 1946/6/18م، وتقع الترجمة في احد عشر مقطعا، عدد أبياتها أربعة وأربعون بيتا، اختارت لها بحر الخفيف الصحيح إيقاعا كذلك، غير ان هذه الترجمة لم تكن كاملة.

وفي سنة 1952م، ترجمت قصيدتين: كانت الأولى "الشيخ ربيع" وهي "ترجمة تعرف عن الشاعر الفرنسي بروسبير بلانشمين" وتقع في سبعة مقاطع، عدد أبياتها ثلاثة وخمسون بيتا من الشعر الحر.

اختارت لها مجزوء الرمل المذال إيقاعا. والثانية "النهر الغني" للشاعر الإنجليزي "كرسمس همغريس" وتقع في ثلاثة مقاطع، عدد أبياتها احد عشر بيتا من شعر السطرين، اختارت لها بحر المتقارب إيقاعا.

وترجمت في سنة 1965م، قصيدتين للشاعر الإنجليزي "روبرت بروك" وضمهما ديوانها "شجرة القمر" كانت الأولى بعنوان "ولكنها ستكون الأخيرة" أدارت ترجمتها لها في مقطعين، كان عدد أبياتها ستة عشر بيتا، اختارت لها المتقارب المقصور إيقاعا. وهي من الشعر الحر. والثانية كانت "إسفار" جعلت ترجمتها في أربعة مقاطع صغيرة، عدد أبياتها ثمانية متخذة من الرجز المشطور إيقاعا لها

لماذا ظلت تهمة الارتداد عن الشعر الحديث تلاحق نازك الملائكة

نازك الملائكةنشت أمس حلقة عن بدايات الشاعرة نازك الملائكة وتأثرها بالشعر الإنجليزي. وفي هذه الحلقة، يتناول الكاتب مواقفها النقدية اللاحقة وآراءها في الشعر الحديث، والسمات الشعرية التي ميزتها عن تجارب زملائها. ليس سهلا على شاعرة "مجددة" ان يحكم عليها بالارتداد عن الحركة التي كانت هي من روادها الأوائل، لأن ذلك يعني في محصلته النهائية ان ما جاءت به من إبداع شعري، وما كان قد تلاه من تنظير نقدي، لم يكن غير صرعة أو فورة مرحلية بنيت على خطأ في التقدير، فقادت الى نتائج موهومة وليست الحال كذلك لأسباب كثيرة، منها:

1 ـ ان الشاعرة كانت مؤمنة بقضية التجديد التي دعت إليها، وظلت تؤكدها في كل المناسبات واللقاءات. ولعل في ردودها الصارمة على ما تناقله الكتاب، ووصفها لما رددوه بـ "الإشاعات والتقولات الاعتباطية التي هي أحد أسباب تخلفنا في العالم العربي" ما يفصح عن موقف ثابت من التجديد والدفاع عنه، على الرغم من كل ملابسات الاتهام وأسبابه ودواعيه.

 2 ـ ان خطأ نازك الكبير الذي قادها الى تغيير موقفها من الشعر الحر كان بسبب تعنت مزاجي لمخالفة المهاجمين ومنا كدتهم. ولعل ما يؤكد ذلك تراجعها عنه، ومحاولة تفسيره فلسفيا بالقول "ان لفتات الذوق تتبدل تبدلا محتوما من عصر الى عصر" حين توقف المهاجمون.
ولتوضيح ذلك نقول: ان الناقدة حينما درست عيوب الشعر الحديث لم تستشهد إلا بشعر المتضامنين معها من الرواد، فأظهرت عيوبا في شعر: السياب والبياتي وبلند الحيدري وشاذل طاقة. ففسر ذلك على انه ارتداد عن الحركة وتنصل منها، فهوجمت هجوما عنيفا، وعدت محاولتها في تقعيد الشعر وضبطه على وفق آرائها التنظيرية محاولة رجعية للعودة الى قيود شعر السطرين، وإفراغ الحركة من محتواها الأصيل المتمثل بالخرق المفضي الى الإبداع، فكان ان قادها هذا الهجوم الى التمسك المتعنت بآرائها، فلجأت الى الدعوة الى الأوزان الشطية إمعانا في مخالفة المهاجمين لها، واغاظتهم ليس غير. لأننا وجدناها تعود الى موقفها الأول في آخر دواوينها الشعرية "للصلاة والثورة" 1978م، محتضنة الشعر الحر، مدافعة عنه، داعية إليه بقولها: "إنني منذ ثلاث سنوات كاملة ملتصقة اشد الالتصاق بالشعر الحر، غير راغبة في تخطيه والعودة الى شيء من السطرين".

 3 ـ إذا كانت عشر قصائد حرة في (شظايا ورماد) سنة 1949م من مجموع اثنتين وثلاثين قصيدة قد جعلت نازك من أوائل رواد حركة الشعر الحديث في العراق، وتسع قصائد حرة في (قراءة الموجة) 1957م، من مجموع اثنتين وأربعين قصيدة قد أوضحت أسلوب نازك الشعري، وبحثها عن الجديد، فليس من المعقول ان تظل تهمة الارتداد عن الحركة، والتنصل منها تلاحقها حتى بعد مرحلة "شجرة القمر" 1968م، لأن موقف الشاعرة قد تغير، فقد أصدرت مجموعتين شعريتين لا تكاد قصائد السطرين تذكرها فيهما إذا قيست بالقصائد الحرة. ففي "يغير ألوانه البحرُ" 1978م، لا تجد قصيدة واحدة من شعر السطرين، وفي "للصلاة والثورة" بيروت 1978م، لا تجد غير قصيدة يتيمة من شعر السطرين هي "الخروج من المتاهة" إذا استثنينا قصيدة "تحية للطفلة دالية" لكونها قصيدة تجريبية تطرح أول مرة، فكيف ظلت تهمة الارتداد تلاحق نازك؟ اغلب الظن ان خصومها استطاعوا ان يزعزعوا الثقة بتجديدها، فانحسر النقد العلمي عنها، وبات مكتفيا بما قاله الخصوم، ولولا جهود عبد الله احمد المهنا واستجابة نخبة من أساتذة الجامعات، لما صحا النقد الجامعي من غفوته، وتنبه قبل فوات الأوان، وانصف الشاعرة، وأعاد ثقة القراء بها.

 4 ـ في شعرها الحر ظواهر فنية لا يمتلك القارئ الفاحص إزاءها، إلا ان يشيد بجرأتها، ريادة واصالة، فقد كانت فيها من اسبق شعراء الحركة محاولة في الجدة والجودة، شكلا ومضمونا، ومن هذه الظواهر:
أ ـ القصة الشعرية: ففي "الخيط المشدود في شجرة السرو" قدمت نازك حكاية حب مأساوية رسمت صورا لانفعالات محب كان قد ترك حبيبته من غير سبب، وعندما أحس انه أضاعها ظن ان مجرد زيارتها كفيل بأن يذيب الثلج، ويمحو ما علق في قلبها من أسى، فكان ان أقدم على التوجه الى دارها بكل جرأة، هازئا انه سيقول لها كذبا إنه ندم على ما اقترفه من ذنب تجاهها. وما هي إلا لحظات حتى يصر الباب، وتخرج أختها شاحبة الوجه، فيحدس من خلال نظراتها ان الفاجعة قد وقعت، فلا يستطيع ان ينطق إلا بكلمة "هل" إذ يتوقف لسانه بعدها عن الحركة، لأن أختها تجيبه: "إنها ماتت" إذ ذاك يصاب بشرود عميق، فتعتريه حالة من الهذيان الداخلي، ويبدو انه لم يسمع النبأ، فيلتفت حوله فتعلق عيناه بأول شيء تصادفانه، فيغرق في التفكير فيه، وهذا الشيء هو خيط مشدود في شجرة سرو تقوم عند الباب، فينشغل العقل المصدوم فيه، فيمد إليه يده، ويقوم بلفه على إبهامه من غير وعي، لان لفظة "ماتت" كانت بمثابة مطرقة جوفاء ظلت تتردد في أذنيه حتى جعلته يحسها افعوانا خانقا قد التف على رقبته، فيقف مذعورا من غير حراك: ثم ها أنت هنا، دون حراك متعبا، توشك ان تنهار في ارض الممر طرفك الحائر مشدود هناك عند خيط شد في السروة، يطوي ألف سر ذلك الخيط الغريب ذلك اللغز المريب انه كل بقايا حبك الذاوي الكئيب ان الخيط في القصيدة رمز للحب، لذلك كانت الشاعرة موفقة حين جعلت الحبيب يقطعه ويلفه على إبهامه، ويعود به من غير وعي منه، لأن قيامه بذلك تلميح الى تحمله مسؤولية ما حدث، فكان ان عاد به مقطوعا، وهو تلميح آخر الى الانفصام الذي لم يعد بعده يمتلك غير الذكرى التي حاول الاحتفاظ بها: ويراك الليل تمشي عائدا في يديك الخيط، والرعشة، والعرق المدوي "إنها ماتت.." وتمضي شاردا عابثا بالخيط تطويه وتلوي حول إبهامك أخراه فلا شيء سواه، كل ما أبقى لك الحب العميق هو هذا الخيط واللفظ الصفيق لفظ "ماتت" وانطوى كل هُتاف ما عداه ان هذه القصة من نتاج سنة 1948م، فهي بذلك تعد من بواكير الشعر الذي اعتمد الأسلوب الدرامي، ان لم تكن الباكورة الأولى فيه، لذلك فهي تؤرخ لبداية هذه الظاهرة التي شاعت بعد حين. ب ـ الرمز: في شعر نازك كثير من التجارب، التي عالجت فيها حالات تتعلق بأعماق الذات الإنسانية، وداخلها على نحو رمزي. ويبدو ان استخدام الرمز كان ضرورة فنية ألجأتها إليها تلك الحالات التي لا يمكن التعبير عنها مباشرة. لأن المباشرة تغدو عاملا محبطا لدى التعبير عن الذات الباطنية، ومناطق اللاوعي فيها. ففي قصيدة "الافعوان" عبرت الشاعرة عن الإحساس الخفي الذي يعتري النفس الإنسانية أحيانا بأن قوة مجهولة تطاردها مطاردة نفسية ملحة، حتى لا تجد مهربا للخلاص منها: أين امشي؟ مللت الدروب وسئمت المروج والعدو الخفي اللجوج لم يزل يقتفي خطواتي، فأين الهروب؟ ان هذا الخوف الذي يطارد الذات الإنسانية "خوف مبالغ فيه، ومرضي من نوع المثيرات والأوضاع، وأنواعه كثيرة" وهو يختلف من إنسان لآخر، لذلك عبرت عنه الشاعرة ترميزا بـ "الافعوان" وحاولت الخلاص منه باللجوء الى (متاهة) سحيقة، واستعلمت طريقة الإيحاء الذاتي بتطمين نفسها بأنه لن يلحق بها ما دامت قد دخلت هذه المتاهة: انه لن يجيء لن يجيء وان عبر المستحيل أبدا لن يجيء لن يراه فؤادي البريء غير انه سرعان ما لحق بها، وسدى كان ذلك التهرب بالإيحاء: واسمع قهقهة حاقدة انه جاء.. بالضياع رجائي الكسير وهو تعبير رمزي يكشف عن تحكم هذه القوة الخفية في نفسية من يعتريه هذا الإحساس، وحتمية معاودتها، وان ظن إنها فارقته. وإذا ما علمنا ان تاريخ نظم القصيدة يعود الى سنة 1948م، أيضا، فإننا نستطيع ان نشير مطمئنين الى ان نازك كانت من اسبق شعراء جيلها ارتهانا بظاهرة التعبير الرمزي في حركة الحداثة الأولى. توظيف أسلوب الحكاية الشعبية: في أعماق نازك صور من حكايات شعبية عاشتها في مرحلة الطفولة على نحو من الإدهاش جعلها تستقر حية حتى بعد مرحلة النضج والاكتمال، حين بزغت ثانية على شكل قصائد ذاتية تذكرية. غير ان إحدى تلك الصور كانت حكاية شعبية اتخذت شكل الأغنية المتسلسلة طريقا للتأثير. ولما كانت هذه السلسلة الغنائية مثيرة لدهشة الطفل، فان الشاعرة حين أرادت ان تغني لطفلها لم تجد أفضل من توظيف أسلوب هذه الحكاية القائم على التكرار والموسيقى اللفظية ـ الظاهرية.

فكانت قصيدتها "أغنية لطفلي" قائمة على الأسلوب الشعبي عينه، تكرارا وموسيقية: براق الحلو اللثغة ينوي النوما والنوم وراء الربوة هيأ حلما والحلم له أجنحة ترقى النجما والنجم له شفة ويحب اللثما واللثم سيوقظ طفلي.. فقد بدأ كل شطر بالكلمة عينها التي جاءت في آخر الشطر السابق، فلفظة "النوم" التي ابتدأ بها الشطر الثاني كانت تكرارا للفظة عينها في نهاية الشطر الأول. ولفظة "الحلم" التي ابتدأ بها الشطر الثالث كانت تكرارا للفظة عينها في نهاية الشطر الثاني.. وهكذا. وهو توظيف لأسلوب الحكاية الشعبية المتسلسلة: يا خشيبة نودي نودي وديني على جدودي وجدودي بطارف عكا يعطوني ثوب وكعكة والكعكة وين أضمها؟ أضمها بصنديكي وصنديكي يريد مفتاح والمفتاح عند الحداد والحداد يريد فلوس والفلوس عند العروس والعروس بالحمام والحمام يريد قنديل... الخ وليس يهمنا هنا ما انتهت إليه القصيدة، ولا الحكاية الشعبية، فتلك أمور لها مجالها الخاص، إنما المهم هنا هو تذكير القارئ بتوظيف نازك لهذا الأسلوب الشعبي الذي تفردت به شكلا، والتقت فيه مع غيرها من الرواد مضمونا حين ادخلوا بعضا من ألاغاني الشعبية، والحكايات في شعرهم. د ـ توظيف التراث العربي الإسلامي: على الرغم من ان قصيدة "الماء والبارود" اقرب الى الترهل منها الى التماسك لكثرة ما فيها من تكرار معنوي ممل أوصلتها الى طول غير مبرر، فإن محاولة توظيف التراث فيها تجعلنا نقف عندها وقفة فاحصة. فكرة هذه القصيدة تقوم على رواية سمعتها الشاعرة أيام حرب (أكتوبر) رمضان 1973م. وملخصها ان جماعة من الجنود المصريين كانوا صائمين وحان موعد الإفطار، وقد نفد الماء عندهم، فراحوا يتضرعون الى الله، فجاءت طائرات صهيونية، وقصفت المعسكر، فتفجر الماء من الأرض حيث كانت مواسير مياه الصهاينة مدفونة. غير ان الشاعرة وهي تعبر عن هذا الحدث الذي تلبسها لم يفتها ان تستلهم ما كان في الموروث العربي الإسلامي من حالات تخدم هذا الحدث لقربها منه في المحصلة النهائية، فكان ان وحدت بين عطشى أولئك الجنود، وعطشى الطفل ـ النبي إسماعيل (عليه السلام) حتى فجر الله تعالى له ماء زمزم. وصولا الى تحقيق غاية الري أخيرا بعد عذاب العطش: وانبس الماء النمير حيث عسكروا ونام طفل الضوء إسماعيل: حول وجهه يضوع عنبر وأشرق العالم بالضياء سبحان معطي الماء مفجر الندى من الصحراء ومنبت الزنبق، معطينا تهور الشعر والغناء ان هذا التوظيف الفني هو الذي أنقذ القصيدة في ظننا من الاخبارية التي أزرت بها، فلولاه لظل الأداء سطحيا في تقديم الحدث، سرديا تقريريا في رسم الصورة. ولعل في هذه الظواهر الفنية ما يؤكد اقتدار نازك، ودورها في الجدة والجديد.

نموذج من رسائل الملائكة إلى الناعوري

* الرسالة الأولى
* أيها الأخ: إني لا أسألك ان تكون مندفعا فتصدق كل حرف في رسالتي دون تمحيص (كما صدقت كل حرف في أقوال سواي دون تمحيص) فهذه قضايا جدية والضمير الأدبي يقضي عليك بأن تتثبت قبل الحكم وأنا أدعوك إلى ان تطلع على الصحف والتواريخ كلها قبل ان تحكم وان كان لي ان اطلب إليك شيئا آخر فسألتمس ألا تنشر رسالتي هذه على أية صورة على ان لك الحق ان تبدي رأيك متى شئت استنادا إلى النصوص المطبوعة.

ما إذا كنت رقيقا كعادتك وسمحت لي ان أعاتبك على الإدلاء برأي في قضية لا تعرف شيئا عن تفاصيلها فسيكون عتابي مريرا تخيل كيف يشعر عيسى الناعوري لو كان في مكاني؟ آه لو كنت تدري كيف يشعر المخترع الذي يتهمونه بأنه سرق اختراعه من مخترع آخر. يا إلهي، ماذا يقول السيد المسيح: "أبتاه.. اغفر لهم.. فإنهم لا يدرون ما يصنعون" وأنا اعلم انك لا تدري وكيف تدري؟

دعني إذن أحييك وأعذرك من أعماق نفسي
* المخلصة نازك الملائكة
* الرسالة الثانية (بغداد في 1 ـ 12 ـ 1953)
* الأخ الكريم الأستاذ عيسى الناعوري:
* تحية جميلة
* إني اقدر كثيرا رسالتك الطويلة التي بعثت بها الى هذا الأسبوع وشغلت نفسك فيها بقضية الشعر الحر، ويزيد تقديري علمي بأنك لا تحب هذا الموضوع الذي أعلنت في مقالات عديدة رأيك فيه وأنا ما زلت أثق من ان السماحة في معالجة قضايا الأدب شرط أساسي في مؤرخ الأدب وناقده.

أما كون رأيك في الموضوع يخالف رأيي فلعله انفع لك ولي وللأدب عموما. ماذا يقول الفيلسوف الفرنسي: "ان خير طريقة يرى فيها جماعة من الناس منظرا ان يقفوا ظهرا بظهر يحدق كل إلى جهة من الجهات" ان هذا هو عينه ما يحدث في حالة اختلاف الآراء بيننا، فأنا أرى من نقطة وأنت ترى من نقطة غيرها ومن ثم فإن كلا منا يرى جزءا من الحقيقة لعل الآخر لا يراها، وقد أكون أنا على خطأ كامل أليس كذلك؟ والمهم قبل كل شيء ان يستفيد كل منا من هذا الاختلاف والأديب إذا لم ينتفع بآراء معارضيه كان أديبا ضيق النظر. ان المعارضة هي المدرسة الكبرى في نظري وأنا شخصيا قد انتفعت طيلة حياتي بأحكام الذين يهاجمونني وكثيرا ما تعلمت دروسا حتى من ابنة عمتي الصغيرة التي تبلغ العاشرة من العمر وعلى هذا فإن الصلة الأدبية بيني وبينك باقية على خير والخلاف انفع لها وللأدب المعاصر الذي نسعى كلنا إلى ان نكسبه العمق والخصوبة والجمال.

إني أرجو ألا أكون قد "وقعت" في رسالتي السابقة في أحكام "قطعية" حول أي شيء فأنا عادة أتحاشى هذه القطعية في آرائي علما بسعة الحقيقة وتعاليها عن "الانضغاط" الصارم في أحكام قصيرة مباشرة والذي اذكره أنني رجوتك في إخلاص ألا تعتبر "أقوالي" نصوصا لا تقبل الشك وأشرت عليك في غير قليل من الإلحاح ان تراجع الصحف، ألم افعل هذا؟ كل ما صنعت أنني دعوتك إلى التحقق.

انك تتساءل في رسالتك ان كان السيد بدر شاكر السياب ـ و أنا احترم شاعرته كثيرا ـ قد نشر قصيدته (هل كان حبا) قبل صدورها في ديوانه الأول، والذي اعرفه أنا انه لم ينشر شيئا في الصحف قبل هذا الديوان على ان معرفتي هذه قد لا تكون هي الحقيقة كلها فلعله كان ينشر في صحف لا تصلني وأنا أود كثيرا لو عرفت جواب هذا السؤال.

ما رغبتك في نشر رسالتي فيؤسفني ألا أستطيع إجابتك إليها ذلك أنها رسالة كتبت كما تكتب الرسائل واحتوت على ما تحتوي عليه أية رسالة مثلها من مشاعر وأراء عابرة غير منسقة إنها كلام أو جزء من حوار بيني وبينك وليست مقالا لتستأهل النشر.

هذا فضلا عن أنني لو كنت اعتقد ان الموضوع يستأهل العناية ويهم القراء لكتبت مقالا رصينا ينال حظه من المراجعة والصياغة بحيث يستأهل ان يشرفه القراء بالمطالعة، ثم إنني لا املك شيئا أقوله غير الإشارة إلى النصوص المطبوعة المحفوظة فما الداعي إلى الكتابة في الموضوع؟ ان مؤرخي هذه الفترة سيحكمون بأنفسهم وكل ما اعرفه أنا أنني يوم كتبت قصيدة (الكوليرا) كنت لم اقرأ شيئا يماثل أسلوبها في الوزن في اللغة العربية وقد تبعت فيها أسلوب الشعر الإنكليزي مباشرة وإذا أردت ان تحتفظ برسالتي تلك وبهذه فافعل فقد يتاح لك نشرها بعد عشرين سنة (ان كان الجمهور إذ ذاك سيهتم بشيء مثلهما) ان انعدام الزمن هو وحده الذي يجعل للرسائل الشخصية قيمة وهذا هو السبب في أننا نقرأ اليوم باستمتاع رسائل فولتير وكيتس.

اكتب هذا وبغداد تعاني موجة شديدة من البرد وتكاد يدي تجمد على القلم وتجره يمينا وشمالا.

لقد سرني كثيرا ان اسمع انك ستعود إلى نشاطك الصحفي بالإشراف على إصدار مجلة جديدة، انه نبأ جميل فلتكن مجلتك ذراعا من الأذرع القليلة التي تبني بالقلم ثقافة جيل كامل بارك الله فيك ووفقك إلى إعلاء شأن الأدب. أما مساهمتي في المجلة فلعلك تعلم انه مما يسرني ان امنحها وأرجو ان تكون ظروفي انسب للمؤازرة العقلية.

وأرجو أكثر ان تثق دائما من مودتي ومن ان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية كما يقول شاعرنا.
ولك ختاما أجمل التحيات والتمنيات،

  * المخلصة نازك الملائكة
  * نازك ليست مسؤولة عما صار إليه الشعر الحر
  * في حاشية هذه الرسالة كتبت نازك:

لو علمت مدى ابتعاد موجة الشعر الحر عن الغاية التي كنت أنا أهدف إليها يوم ناديت به أول مرة سنة 1949 في (شظايا ورماد) لاكتشفت ان رأيك القاسي ليس بعيدا بعدا شاسعا عن رأيي. دعني أخبرك مثلا أنني منذ سنتين قد كتبت مقدمة لديوان ثالث من شعري لم يتح لي بعد إصداره وقد درست فيها موضوع الشعر الحر منذ صدور ديواني الثاني وأشرت إلى طائفة من الشروط والمزالق التي يتضمنها هذا التحرر وهي شروط لم يعبأ بها أكثر الشعراء ومزالق لم يدركوا وجودها فسقطوا فيها. وقد بعثت منذ أكثر من سنة بمقال حول الموضوع إلى مجلة (الأديب) لينشر في العدد الممتاز الذي اجل إصداره شهرا بعد شهر حتى هذه اللحظة وان انوي الكتابة إلى (الأديب) والإيعاز بنشر المقال قريبا.

واغلب الظن ان المقال سيرضيك أو دعني اقل "إلى حد ما" فلا شيء مما يتعلق بالشعر الحر يرضيك فيما يبدو يا أخي، ومن هنا يفترق طريقي عن طريقك، انه شعر موزون جاء على أوزان العرب تماما هذا في الأصل ولست مسؤولة عما صار إليه الشعر الحر اليوم فأنا اقرأ منه نماذج فظيعة في الصحف يضطرب وزنها و ينشز ويدور. سامح الله هؤلاء الشعراء.

المصدر: جريدة الشرق الأوسط
نوفمبر 2002