عبد الله جناحي
(البحرين)

قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، عبَر المصري الفصيح في العهد الفرعوني عن رغبة جامحة وقلقة لدى أي مبدع أصيل يتأصل في كينونته بوعي كما هو عند الحداثيين أو دون وعي كما هو عند كل مشتغل على النص منذ القدم بأن سر (المهنة) ولب المبدع وسحره وإبداعه يأتي من تمكنه الحقيقي في إستخدام أدواته الخاصة به والمتمثلة باللغة ...منذ ذلك التاريخ السحيق، حيث لم يكن هناك تنظير في الأدب نجد المصري قلق على جمود أدواته اللغوية ويرغب في تجديد الكلام وابتكار صيغ أدبية لم يسبقه إليها الأولون من المبدعين.
"ليتني أعرف صيغاً للكلام لا يعرفها أحد
أو مثالاً غير معروف أو أحاديث جديدة
لم تذكر من قبل، خالية من التكرار،
لا ذلك الكلام الذي جرت به الألسن منذ زمن بعيد،
وهو ما تكلم به الأجداد"
نص فرعوني ينجلى فيه تنظيرات الحداثة الشعرية أو الأدبية
ـ كلام جديد خالي من التكرار.
ـ كلام يقفز عن ماقاله الأجداد,
ـ كلام يحتضن مثالاً (صوراً) جديدة.
ـ كلام يحتضن أحاديث (حكم ومضامين) جديدة.
ـ كلام ليس كما هو متداول على الألسن أو الكتابة الطيارة.
وحينما يتأمل المرء جوهر نظريات الابداع الأدبي فأنه يستشف بأنه لم يخرج عن ما هو مرغوب به لدى ذلك الفرعوني الذي أحس بفطرته ونقاوة حسه بأن الابداع الحق في الكلام (الشعر) هو أن أقول شيئاً جديداً ينبهر به الناس، وأسحرهم من قدرتي على التلاعب بالحروف والكلمات والجمل وأحولها إلى صوراً ومضمون خالِِِ من التكرار أو تقليداً للأجداد أو تواصلاً مع من سبقه في الإيقاع أو الموسيقى أو السياق أو البلاغة أو .. أو ..
وهاهو محمد بن عبد الجبار النفري في عام (965) ميلادية يعبَر عن نفس أحاسيس ورغبات شقيقه الفرعوني "كلما إتسعت الرؤية ضاقت العبارة".
إحساس مرهف لمبدع واع لأهمية تثوير اللغة ورغبة فاضحة لقيد العبارة السائدة لرؤية لا تحتمل الكلمات المتداولات أو العبارات المقيدات بشروط وتقاليد البلاغيين والنحاة ومؤسسي القواعد وغيرهم ممن دخلوا حلبة تأسيس أصول اللغة كما دخل الآخرون في تأسيس أصول الفقه أو الأخلاق أو القانون أو السياسة .. الخ فإذا بهم يؤسسون القيود المحكمة على حرية الخيال وأداة التعبير عنه (اللغة).
وهاهو النفري مرة أخرى يتأمل الحرف العربي، نواة اللغة فيحس بعجزه التعبير عن مكنوناته الإبداعية "الحرف يعجز عن نفسه ... فكيف يخبر عني".
المبدع وحده القادر على خلق الحياة والجمال واللذة والحكمة في هذه الحروف المتناثرة وتحويلها إلى كائنات سريالية أو واقعية صادقة وحارة أو ومضات معبَره ما تلبث وتتحول بحروفها وكلماتها القليلات إلى لوحة أو عالم بأكمله، تستطيع من خلالها أن تشرحها بآلاف الكلمات الشارحات العاديات المتداولة على الألسن والمكررة لدى الأولين والمقلدين والمتحجرين !
هو المبدع إذن يستطيع أن يوصل لك آلام الذات وأفراحها ومآسي الدنيا وسلامها وقسوة البشر وخيره والحق والجمال والحكمة والقبح والخوف عبر كثافة الصورة بعدد قليل من حروف عاجزة لذاتها أن تكون الخالقة لهذه الأحاسيس والحاجات.
وبعد أكثر من ألف عام من عمر النفري يأتي أدونيس، شاعر عربي حداثي متجدد واع تماماً لأدواته مثلما سلالته السابقون من الشعراء المبدعين ليؤكد في بيانه المشهور بأنه لايمكن "الشاعر أن يحدد إذا لم يكن متأصلاً في عبقرية لغته" ورغم قناعته بأن (العناصر)، أي الوزن والأفكار والنشر ...الخ ليست ابتكاراً لشاعر محدد، وإنما هي موجودة موضوعياً وجود الأشياء، ولهذا فإن استخدامها ابداعياً إلا إذا خلق بنية جديدة ونظاماً من العلاقات.

وفي سياق نفس الزمن التاريخي لأدونيس يخرج علينا الشاعر قاسم حداد والأديب أمين صالح ببيانهم الحداثي وهما يؤكدان فيه أن النص هو الذي يكتب اللغة، وأن اللغة لا تقول لنا شيئاً وأنما "نقول لها الأشياء، نعلمها المعنى"، ولهذا فهما يلجئان إلى اللغة المأخوذة بترف الهذيان، وهما القادران على إجادة مخاطبة الطفل الكامن في اللغة، وهل هناك كائن لساني كالطفل متحرر من كافة قيود ومطلقيات السلف والخلف؟

إن النفري والجرجاني وأبن عربي وأدونيس وقاسم وأمين وغيرهم الكثير يعيشون ويموتون ويستيقظون وينامون وهم في ذات الحالة القلقة التي كان الفرعوني الفصيح يعيشها، ولو كان هذا الفصيح يعيش في مرحلة ثقافة الكتابة وليست ثقافة الأذن والمرحلة الشفافية لما نطق بمصطلح الكلام وإنما أكد على الكتابة ولأتفق مع قاسم وأمين بأن الكتابة نقيض الكلام، فالكلام لسان الواقع والكتابة هذيان الحلم وتجليه في آن، ودافع عن مقولة أن الكتابة رعشة الجسد في حين الكلام سيظل أبداً علفاً للأذن.
إن الكلام قبل خمسة آلاف سنة هو ذاته الكتابة بعد هذه السنوات الطويلات بشرط أن يكون ناطقة وكاتبة هو المبدع القلق الباحث عن لغة جديدة كتجديد الحياة وتغير الوجود، وهو القادر على التقاط نسبية الأشياء كلها ومطلقية التغيير فقط.