عبد الله عبد الرحمن يتيم
(البحرين)
ayateem@batelco.com.bh

عبد الله عبد الرحمن يتيم;المقدمة
في أتون مقالة عنيفة كتبها المفكر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد قبل سنوات قليلة لجريدة "الحياة" الصادرة في لندن رداً على مقالة المراجعة التي قام بها الفيلسوف والأنثروبولوجي البريطاني إرنست غيلنر لكتابه "الثقافة والإمبريالية"، والمنشورة في ملحق التايمز الأدبي، (1) وصف سعيد غيلنر بالتالي: ''أول نقطة في مراجعة غيلنر لكتابي "الثقافة والامبرالية" كانت مهاجمة "بعبع الإمبريالية" وأصحاب المنطق الجدلي مثل غيلنر يعرفون العالم الإسلامي، أساساً، من خلال النصوص المأخوذة من الإمبريالية وأتباعها الثقافيين، وكذلك من ورثتهم في الزمن الحاضر''. ويستطرد سعيد في وصفه لغيلنر قائلا: ''في عام 1981 نشر غيلنر كتاباً عنوانه "المجتمع الإسلامي" (2) أظهر فيه إهمالا غريبا لكل اللغات في العالم الإسلامي دون استثناء... ويعتمد ذلك الكتاب على عمل ميداني (من دون العربية أو البربرية) في جزء من المغرب، ولا يتضمن أي نقاش لأي مكان آخر في العالم الإسلامي '' ثم يذهب سعيد لينهي هجومه على غيلنر بالعبارات التالية: '' إن أي صفحة في أعمال هودجكين عن أفريقيا وعن الإمبريالية لهي أكثر قيمة بكثير مما كتبه غيلنر عن الإسلام... [ إن ] معظم مراجعة غيلنر (لكتابي) على هذا الطراز: أداء بال. ولكن هذه هي أساليب الاستشراف! ''. (3) بعد مضي أسابيع قليلة من نشر سعيد لمقالته تلك ألمح أحد الأصدقاء في حديثه معي إلى مصيبـة العِلم الـذي أنتمي إليـه "أي الانثروبولوجيا"، نظـراً لوجود ما وصفه صديقي بـ "نماذج إرنست غيلنر ". وفي أسابيع قليلة تلقيت أيضا رسالة من صديق بريطاني يظهر هو الآخر تعاطفه مع إدوارد سعيد ومقالته المشار إليها قبل قليل وخصوصا ما كان يراه صديقي من "تصدي سعيد الشرس لعدو فلاسفة ما بعد الحداثة" ! بعدها بأيام حاولت أن أبدي تعاطفاً مع سعيد ومع صديقي البريطاني، بيني وبين نفسي على الأقل، فوجدت أن هذا التعاطف لا يملك من الدعائم المنطقية سوى أنني وسعيد من الناحية العصبية عربيان، وأما الصديق البريطاني فهو عزيز على نفسي بحكم الصداقة والعشرة. أما من الناحية الموضوعية المجردة فكنت أتساءل: كيف تحول غيلنر الفيلسوف والانثروبولوجي البريطاني المعاصر أمام القارئ العربي وعبر مقالة سعيد اللاذعة، إلى فزّاعة أمبريالية ومستشرق بال، هذا القارئ الذي لم تتح له الفرصة كافية للتعرف عليه أو حتى قراءة أعماله. (4) ووجدت أنه من انسب السبل لإنصاف إرنست غيلنر محاولة التعريف به من خلال إطلاع القارئ على إنجازاته وأعماله العلمية، وكذلك توفير بعض النصوص التي تكشف عن سيرته الذاتية. (5)

المفارقة العجيبة

أن ذلك برأيي يحتوي على مفارقة عجيبة إذ إن قائمة ما نشره غيلنر في مجال الانثروبولوجيا والفلسفة طويلة جداً، وقد كان لهذا الإسهام مردوده ليس الايجابي فقط وإنما البالغ الأهمية في تطوير النظرية الانثروبولوجية وخصوصا نظريات القرابة والبناء الاجتماعي والدولة والقومية والسلطة وموضوعات أخرى عديدة. أما في مجال الفلسفة فعدى عن إسهامه الحيوي في مجال الفلسفة السياسة وفلسفة اللغة، فقد كان لغيلنر دوراً بارزاً خلال الثلاثين سنة الماضية في تجديد النظر لقضايا فلسفية هامة مثل: العقلانية، والعقل، والمفهوم، وكذلك مساهماته الفلسفية في نقد مفاهيم مثل النسبية والتأويلية في العلوم الاجتماعية.(6) وقد انعكست هذه الاهتمامات الفلسفية والانثروبولوجية على مجال آخر من الدراسات الانثروبولوجية وهي تلك التي تمثلت في أعماله الاثنوغرافية. فقد كان لاهتمامات غيلنر الانثروبولوجية بشمال أفريقيا منذ منتصف الخمسينيات تأثيراً بالغاً في مجال استيعاب وفهم النظرية الانثروبولوجية لتفاعل عناصر مثل الإسلام والقبلية والايكولوجيا في هذا المكان من العالم. وقد توج عمل غيلنر الاثنوغرافي في شمال أفريقيا كتابه المعروف بـ "أولياء جبال الأطلس" (7) وكذلك سلسلة أخرى من المقالات والمراجعات التي عالجت جميعها جدلية العلاقة بين نسقي القرابة والسياسة (الممثلين في القبلية) وبين نسق المعتقدات (الممثل في الإسلام ) وبين النسق الايكولوجي (المجسد في الهضاب والصحاري العربية هذه المرة). وكان أن رأى في نظام البدنة الانقسامي (segmentary lineage system) نموذجا فرض نفسه على طبيعة العلاقة القائمة بين تلك الأنساق الثلاثة المشار إليها، وبالتالي على طبيعة البنى الاجتماعية العائدة لتلك البيئات العربية. ثم انتقل غيلنر وبجسارة أكثر صلابة بعد سنوات لتتبع دور المعتقدات كنسق في مجتمعات وثقافات أخرى، فـإذا كان هذا النسق مجسداً في الإسلام والمعتقدات السياسية الخاصة بالتنظيم القبلي عند العرب والبربر، فإن غيلنر أراد هذه المرة ملاحظة تجليات هذه المعتقـدات باعتبارها أيديولوجيا في بيئات ثقافيـة مغايـرة. وعلى هـذا الأساس انتقل غيلنر، محملا بعدته الانثروبولوجية وتساؤلاته الفلسفية، إلى النيبال في السبعينيات ثم إلى مجتمع الأكاديمية العلمية السوفياتية في موسكو في الثمانينات. في الحالة الأولى أراد غيلنر ملاحظة دور البوذية، في نسختها الهندوسية، وفي صياغة الحياة اليومية للنيباليين، أما في الحالة الثانية فكان غيلنر يريد أن يرى دور الايدولوجيا الهام - حتى في لحظة غيابها كمعتقد ديني كما في حالة الأكاديمية العلمية السوفياتية - في توجيه وتحديد سلوك ومواقف الأفراد والمؤسسات. وقـد نشر غيلنر عدداً من الدراسات والمقالات عن الحالة الثانية ولعل أبرزها "السوفيات والانثروبولوجيا الغربية". وكان أن أراد من خلال هذه الأعمال معالجة علاقة العلماء والمؤسسات السوفياتية (خلال فترة الحكم الشيوعي) مع الانثروبولوجيا بوصفها علماً وأيديولوجيا، كما كان ينظر إليها العلماء والمؤسسة الأكاديمية السوفياتية. (8)

الأعمال بالنيات

ومع ذلك لندع مساهمة إرنست غيلنر هذه في جهة وننظر إلى مساهمته فيما تم تسميته "القضايا الكبرى" في مجال الانثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية والفلسفة المعاصرة وذلك من خلال استعراض سريع لأهم أعماله المنشورة في السنين العشر الأخيرة، وسنختار أبرزها بطبيعة الحال:
"القومية والقوميات" يقوم جدل غيلنر في هذا المؤلف أساساً على رؤيته للظاهرة القومية باعتبارها خاصية تعود في جذورها أصلاً إلى المجتمع الصناعي، (9) وهذا بحد ذاته كما يرى غيلنر لا يعود حصراً إلى الاقتصاد كسبب فقط، ولكن أيضاً إلى التفاعل القائم بين التعليم والسلطة والثقافة. وهو يرى أن هذه العوامل قد غُيبت تماماً عند مناقشة نشأة الدولة القومية في الغرب. يعود غيلنر بعد ذلك، أي بعد مرور أربع أعوام على صدور "القومية والقوميات" ليعالج من خلال مؤلف آخر أسماه "الثقافة والهوية والسياسة" (10) علاقة الثقافة والسياسة في العالم المعاصر، و تستند الأطروحة العامة لغيلنر في هذا العمل على التعامل مع الدولة القومية المعاصرة باعتبارها ظاهرة سياسة واجتماعية قد حلت مكان البنى التقليدية كمرجعية للهوية الثقافية والشخصية. وفي سبيل تأكيد ه لهذه الأطروحة انطلق غيلنر للتصدي لمعالجة هذه الظاهرة عبر فترة زمنية تمتد منذ القرن التاسع عشر، وعبر تناوله كذلك لأوضاع عملية في بلدان متعددة مثل: إيران والجزائر وشرق أووربا وأمريكا * ويظهر غيلنر، في معالجته لتلك الأطروحـة في خـلال هذين القرنيين والأمـاكن المتعـددة من العالم، انشغاله بمحاولة التعرف على طبيعة النظام الاجتماعي الجديد الذي بدأ يأخذ طريقه إلى الوجود منذ القرن التاسع عشر كما يرى غيلنر، وكذلك اهتمامه بالشرعية الأخلاقية والسياسية التي يحتاج إليها هذا النظام وتلك التي يوفرها. كتاب غيلنر الثالث يحمل اسم "المحراث والسيف والكتاب" (11) وهو مؤلف وضعه غيلنر ليعكس من خلاله تصوره الخاص لفلسفة التاريخ، ثم يتولى غيلنر عرض هذه الفلسفة ابتداء من العصر البرونزي وحتى العصر الراهن. ونحن هنا إزاء سعي غيلنر في هذا العمل إلى التعامل مع النشاط الإنساني وذلك من خلال تصنيفه إلى ثلاثة أنشطة رئيسة هي: الإنتاج، والإكراه، والمعرفة. ويرمز غيلنر لهذه الأنشطة في عنوان كتابه بالمحراث والسيف والكتاب. ويرى غيلنر أن هذه الأنشطة قد تم التحول إليها عبر انتقالين مهمين تم إنجازيهما في مسيرة التاريخ البشرى، وهما: الثورة الزراعية والثورة الصناعية.
ثم يعود غيلنر في بداية هذا العقد ومن خلال مؤلفين آخرين ليواصل طريقته في مزج الفلسفي بالانثروبولوجي وذلك عبر تعاطيه لموضوعات هذين الميدانيين من المعرفة. ففي مؤلفه الأول "العقل والثقافة" يحاول غيلنر معالجة التشعبات الناتجة عن مقابلة العقلانية مع المفاهيم التقليدية للثقافة. (12) يبدأ غيلنر "العقل والثقافة" من خلال تناول محاولات ديكارت لتحرير نفسه من إنحيازات الثقافة ثم ينطلق إلى مقارنة المشروع الديكارتي مع مشروع أميل دوركايم الذي ينظر إلى الثقافة باعتبارها أرضية للعقلانية؛ وبنفس الطريقة يذهب غيلنر إلى معالجة ماكس فيبر. ثم ينتقل غيلنر ثانياً إلى تتبع الإرث الفلسفي لفلاسفة مثل: كانط، وهيوم، وهيجل في مقابل آخرين أمثال: شوبينهاور، ونيتشه، وفرويد. وأخيراً يعرج غيلنر على معالجة أطروحات عدد من فلاسفة العقلانية المعاصرين من بينهم: فيتجنستاين، وتوماس كان، وكارل بوبر، ودانيال ييل * أما في كتابه الثاني "العقل والدين وما بعد الحداثة"، و هو عبارة عن سلسة من المقالات التي سبق أن قام بنشرها في دوريات مختلفة، (13) فهو يعالج من خلالها وفي أماكن متفرقة منها موضوعات مثل: الأصولية الدينية، وخصوصاً الإسلامية منها، وكذلك الاتجاهات الفكرية لما بعد الحداثة وخاصة ما كان يراه غيلنر من أثر سلبي قـد يترتب على سـيادة الاتجـاهات النسبية والتأويلية في فلسفة العلوم الاجتماعية. في "العقل والدين وما بعد الحداثة" وقد أراد غيلنر التصدي لأصحاب هذه الاتجاهات في مجال الانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية وخاصة الانثروبولوجيين الأمريكيين مثل: كليفرد غيرتز، وبول رابينو، وجورج ماركوس، وجيمس كليفرد.

تمثيلات إثنواغرفية

لننتقل الآن ونلقي نظرة على واحدة من التمثيلات الإثنوغرافية التي قام بها غيلنر للإسلام والقبلية في المغرب العربي وسنحاول أن ننطلق في هذه المحاولة التمثيلية نحو معالجة الدلالات السياقية لتجربة إرنست غيلنر الانثروبولوجية. يقول غيلنر:
''اعتاد الفقهاء وكذا عامة الناس إدراج كل من الصوفيين الحقيقيين وصلحاء القبائل في صنف واحد، وتشير المصطلحات المستعملة إلى هذا التعميم الذي قد نلمس فيه نوعاً من الخلط. والواقع أنه ليس هناك تجانسّ بين الصنفين المذكورين يسمح بدمجهما سواء في مستوي المدلول الاجتماعي أو من زاوية الفينومينولوجيا الدينية. وبصفة عامة يمكن القول إن التصوف في الحواضر يشكل بديلاً " لإسلام الفقهاء " الذي يُنعت بالتشدد والجفاف بينما التصوف في البوادي يقوم مقامة. ففي الحالة الأولى، يُبحث عند الصوفية عما لا يوجد عند الفقهاء من الإشباع الروحي الكامل. وفي الحالة الثانية، يُتبع الصلحاء لأن التصور الحرفي الذي يحمله فقهاء المدن غير قابل للتطبيق''(14) هكذا يعرض لنا إرنست غيلنر واحدة من تمثيلاته (representations) الاثنوغرافية عن الإسلام والقبلية بين بربر جبال الأطلس في المغرب. وغيلنر في عمله هذا إنما شأنه في ذلك شأن كل أنثروبولوجي - وربما كل مؤرخ و رحّالة و روائي أيضاً - أي أن عمله في محصلته الأخيرة ما هـو إلا إنتاج لنصوص يتم من خلالها تمثيل ثقافة أو مجتمع آخر. أي أن الانثروبولوجي، إذا ما استخدمنا لغة أنثروبولوجيي ما بعد الحداثة، ما هو إلا كاتب يقوم بإنتاج نص، هذا النص الذي يراد له ترجمة وإيصال تمثيل ما عن ثقافة أو مجتمع معين. (15) ووفق مفهوم هذا الاتجاه، أي أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة، يكاد يكون الفرق إذاً معدومـاً بين الانثروبولوجي، الذي يقوم عمله أساساً على تجربة العمل الحقلي الاثنوغرافي، وبين المؤرخ الذي ترتكز تجربته على قراءة شواهد الماضي من وثائق ومخطوطات وأقوال شفاهية، وكذلك أيضا الروائي الذي تتأسس تجربته على تأسيس الاتصال بواقع - أو مجتمع مهما صغر أو كبر- ليقوم بعد ذلك بتكييفها مع ما هو خيالي. ففي كل حالة من هذه الحالات الثلاث، وكذلك في حالة الرحالة، فإن ما يتم إنتاجه هنا هو: تمثيل معين لمجتمع أو ثقافة معينة.
إن البحث في جانب مهم في الفكر الانثروبولوجي كموضوع كيفية قيام الأنثروبولوجي ببناء تمثيلاته عن الثقافات الأخرى، والتي تترتب عادة على علاقته الحقلية الاثنوغرافية بهذه الثقافات ( كالتمثيل الخاص بإرنست غيلنر عن الإسلام والقبيلة في جبال الأطلس والمشار إلى شيء منه وبصورة حرفية أعلاه )، يعد أمراً هاماً في تقييم بعض مصادر نظرية المعرفة بصفة عامة وتلك المتعلقة بعلم الانثروبولوجيا بصفة خاصة . (16) إن التوقف قليلاً عند التمثيـلات التي تم تشّـيدها مثـلاً عن الثقافـة والمجتمع العـربي في الفكـر الانثروبولوجي، وخصوصاً تلك التمثيلات الناتجة عن علاقة الأنثروبولوجي بالمجتمعات العربية لهو أمر على غاية من الأهمية. (17) إن التمثيلات الانثروبولوجية الغربية تستمد أهميتها، على سبيل المثال، من العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب، وكذلك من الدلالات السياقية لهذه العلاقة.
لذلك فإننا إذا أردنا القيام بمحاولة تأريخ لعلاقة الفكر الانثروبولوجي الغربي بالمجتمع والثقافة في العالم العربي، فإن إيفانز بريتشارد وإرنست غيلنر سيتصدران ليس فقط قائمة عدد من الانثروبولوجيين الذين تعاملوا مع ثقافات ومجتمعات العالم العربي والإسلامي، وإنما أيضاً لأن تجربة الاثنين معاً تعبر عن إحدى أشكال تجليات هذه العلاقة في جانبها الأوروبي على الأقل. (18) فإيفا نز بريتشارد من جهة، وغيلنر من جهة أخري، قد حاولا من واقع انتمائهما للثقافة الأوروبية المعاصرة، أي باعتبارهما مثقفين قبل أن يكونا أكاديميين، فهم هذا الواقع الاجتماعي والثقافي ذي الخاصية العربية الإسلامية، أي هذا الواقع الذي يقع في مقابل الغرب الثقافي والاجتماعي. إن الهاجس الأهم الذي كان، ولا يشكل صلب اهتمام غيلنر في هذا الجانب مثلاً، ليس هو التفاصيل الإثنوغرافية الممـيزة للثقافـة وللمجتمع العربي الإسلامي، وإنما البحث في الآليات والقوانين المنطقية التي يعمل وفقها النظام الاجتماعي في هذه البقعة من العالم. إن أعمـال إرنست غيلنر الهادفة إلى محاولـة فهم هـذا النظام وثنائياته المتعـددة (كثنائية البداوة/الحضر، الانقسام /الوحدة، الشعبي / الرسمي وغيرها من الثنائيات) قد تكون واضحة وجلية في أعماله العديدة التي أخذته إلى ضفاف مشكلات عربية وإسلامية معاصرة. (19)

إيكولوجيا الانقسام

ها نحن إزاء هذا الانثروبولوجي والفيلسوف " إرنست غيلنر " الذي عبر دراساته الاثنوغرافية أولاً والانثروبولوجية ثانياً، قد أتى على ذكر وتحليل جانبين على غاية من الأهمية، إن لم يكونا إحدى الثوابت الرئيسة البارزة في البنى الاجتماعية العربية، ألا وهما: الإسلام والقبلية. فإرنست غيلنر قد غادر مقاعد دراسة الفلسفة والاقتصاد والسياسة في أكسفورد ولندن في خمسينيات هذا القرن ليذهب إلى جبال الأطلس في المغرب محاولاً الاستقراء، أي كما يقول هو: ''أريد رؤية واقعية لكيفية عمل النظم العقلية والايدولوجية في الواقع''. (20) وهكذا قادته محاولته الاستقرائية، أي عمله الحقلي الاثنوغرافي، إلى اختبار ثان من جانبه لمفهوم "الانقسامية"، وذلك على اعتبار أن الانقسامية هي السمة البنيوية البارزة للنظم القرابية والسياسة في المجتمعات العربية القبلية. وقد رأى غيلنر في هذه الانقسامية باعتبارها إحدى نتاجات تفاعل البداوة العربية (أي البداوة حسب المفهوم الخلدوني والذي استهوى غيلنر كثيراً إلى الحد الذي يشيد به في أعماله) مع النظام الايكولوجي في الصحاري والجبال والوديان العربية. فبذهاب غيلنر إلى جبال الأطلس إنما كان يريد أن يجعل أطروحة معلمة "إيفانز بريتشارد" بارزة للعيان، وعلى أنه مثلما قام المعلم باختبارها بين قبائل برقة في الصحراء الليبية، فإنه ها هنا يأتي هو بصحبة قبائل البربر ليثبت كيف أن الانقسامية لا تعد سوى تجربة إبداعية في تكيف الإنسان أيكولوجياً في هذه البقاع من العالم.
ومثلما ذهب المعلم "إيفانز بريتشارد" إلى البحث في العوامل المحلية المساعدة على إعادة التوازن في الانقسامية القبلية، أي فيما رآّه المعلم من دور للإسلام باعتباره نظاماً أيديولوجياً تجسد في التنظيم الاجتماعي لأبناء برقة و في الحركة الصوفية السنوسية، هكذا أيضا سعي غيلنر. ففي كتابة "أولياء جبال الأطلس" حاول غيلنر إيضاح كيف كان يؤدي التصوف الإسلامي، عبر نظام الزوايا والأولياء، أدوراً تعتبر مفصلية في إعادة التوزان إلى بنى اجتماعية يدفع بها نظامها الايكولوجي نحو الانقسام المتتالي.
وهكذا دخل إرنست غيلنر بصحبة المعلم "إيفانز بريتشارد" إلى معترك النظرية الأنثروبولوجية، أي إلى حيث كان السجال قائماً على أشـده منذ الخمسينات حول نسق القرابة. فالسجال الأنثروبولوجي الذي امتد حتى نهاية السبعينيات - والذي دخل غيلنر فيه مسلحاً بإثنوغرافياته المستمدة من مجتمع وثقافة تنتمي حسب المفهوم الانثروبولوجي إلى المجتمعات المعقدة - قد قطعت الصلة بالنظريات الانثروبولوجية الأولى التي كانت تبحث في الجانب التطوري للقرابة كنسق، وكذلك بمحاولة إعادة الإنتاج التي قامت بها الماركسية لأطروحات لويس مورغان ويوهان باخوفن والتي تجلت في كتاب فريدريك أنجلز "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة". فالنظرية الأنثروبولوجية، سواء تلك المتمثلة في البنائية -الوظيفية البريطانية أو البنيوية الفرنسية، لم يكن يعنيهما أمر ما كانت تتحاور فيه الماركسية من أولوية للبنى التحتية في عمليات صياغة التشكيلات الاجتماعية. الشيء الأهم بالنسبة للنظرية الأنثروبولوجية هو: كيف يمكن لنسق القرابة أن يحتل هذه الأولوية في البنى الاجتماعية للمجتمعات غير الصناعية، ليصبح النسق الأكثر أهمية وبالتالي الأعظم هيمنة بين جميع الأنساق الاجتماعية (كالنسق الديني، والسياسي، والاقتصادي،... الخ) ؟
لقد أظهر غيلنر في كل هذه السجالات مقدرته التنظيرية في مجال "الفلسفة السياسية"، هذا المجال الذي سيظل غيلنر يتردد عليه رغم انشغاله بعد "أولياء جبال الأطلس" بالبحث في مجالات فلسفية أخرى، أخذته مثلاً إلى نقد فلسفة اللغة عند فيتجنشتاين وكذلك إلى نقد مدرسة التحليل النفسي، ولكن مع ذلك ظل غيلنر أنثروبولوجياً في الصميم. فهو رغم اعتلائه الأكاديمي مثلا لكرسي الفلسفة إلا أن اهتماماته الانثروبولوجية قد ظلت باقية، لتشكل كذلك الرافد الرئيس لمواصلة انشغاله بالفلسفة. (21) فهكذا تقوده اهتماماته الأنثروبولوجية مثلاً إلى مواصلة أعمال حقلية أثنوغرافية أخرى، فتأخذه اهتماماته هذه المرة إلى الهملايا ثم إلى موسكو في الثمانينات. كان غيلنر يريد من الهملايا، حيث البوذية في شكلها الهندوسي، ومن موسكو، حيث الأكاديمية السوفيتية للعلوم المشيدة على نظام من المعتقدات غير الدينية، أن يري مرة أخرى، ومن مواقع زوايا مختلفة عن جبال الأطلس: كيف يمكن لنسق المعتقدات، باعتباره أيديولوجيا، أن يؤدي دوراً في صياغة الحياة الاجتماعية.
(الايدولوجيا الجمعية)، (التصورات الجمعية)، (الروح الجمعية)، هذه هي بعض من أحجار الزاوية لما كان ينشغل به السوسيولوجي الفرنسي: أميل دوركايم. ولقد دفعت تلك المفاهيم بالمعلم أولاً، أي بإيفا نز بريتشارد، إلى البحث عنها، ثم ليأتي بعده إرنست غيلنر، المريد. إن مريدية غيلنر لم تبق عليه معزولاً في حضرة علم الأستاذ المفضل: أي الانثروبولوجيا، وإنما أخذته، وبخلاف شيخه، إلى الفلسفة. أي إن المريد إذا صح القول قد تجاوز شيخه. وربما كانت هذه العلاقة المريدية بين إرنست غيلنر وإيفانز بريتشارد من بين أهم الجوانب غير المضاءة في الحوار الذي أجراه جون ديفيز مع غيلنر عندما بحث معه جوانب من سيرته الذاتية. (22) ذلك لكون الاثنين معاً، أي غيلنر وجون ديفيز، قد ذهب كل منهما في زاوية معينة بحثاً عما تحـدث عنه الشيخ. فـإذا كانت تعاليم الشيخ، إيفانز بريتشارد، قد أخذت إرنست غيلنر إلى بربر جبال الأطلس فإن تعاليم الشيخ قد ذهبت بجون ديفيز أيضا إلى فلاحي إيطاليا أولا ثم إلى القبائل العربية في ليبيا. (23) وكان سفره هذا محاولة لتتبع ما قد بدأ يتضح لإيفانز بريتشارد من معالم مميزة لثقافة البحر المتوسط، جديرة بالبحث الأنثروبولوجي. (24)
ولنا أن نقول إنه إذا كان غيلنر لا يؤمن بالتأويلية، بل يحاربها، فهذا شأنه. ولكنه إذا قال إن التمثيلات الإثنوغرافية ما هي إلا وقـائع اجتماعية قائمة ومسـتقلة موضوعياً عن ذواتنا، ففي هذا يكون غير موضوعي. حيث أن عملية تمثيله لهذا الوقائع لها شروطها التاريخية التي تم بموجبها التمثيل، والذي يعد غيلنر طرفاً، إن لم يكن نتاجاً لهذه الشروط. فشروط تلك المرحلة قد أدت فيها البنائية-الوظيفية البريطانية ونظريتها الانقسامية دوراً في فهم واقع البنى الاجتماعية للمجتمعات العربية الإسلامية. وكان للانثروبولوجي البريطاني، إيفانز بريتشارد، دوراً أساسياً لا يستهان به في محاولة فهم هذا الواقع وربما حتى التنظير له.
إننا نرى أنه في ضوء شروط هذه العلاقة التي كانت قائمة بين غيلنر والبنائية-الوظيفية وإيفانز بريتشارد خاصة، يتحتم علينا الاقتراب من تجربة غيلنر مع المجتمع العربي الإسلامي.(25) هذا لا يعني طبعاً أنه في ضوء نفس تلك الشروط يجب النظر إلى بقية التمثيلات الاثنوغرافية والتنظيرات الانثروبولوجية التي قام بها غيلنر لمجتمعات وثقافات وربما حتى مجالات نظرية أخرى. فلكل تجربة من تجاربه شروطها التاريخية الخاصة بها والتي يجب إمعان النظر فيها حتى يتسنى لنا القيام بعد ذلك بعملية النقد الشاملة لمساهمة غيلنر الانثروبولوجية والفلسفية.

رجم الاستشراق

تلك جردة سريعة وضعت بشكل متعمد في مقابل رؤية إدوارد سعيد الخاصة بإرنست غيلنر. وهو أمر لا أعتقد معه أن أعمال مثل "الاستشراق" و "الثقافة والإمبريالية" تشكل وحدها مصدراً كافيا للشرعية والسلطة في مجال المعرفة لإزاحة وتهميش ما أسهم به غيلنر. (26) إنني أرى بـأن إرنست غيلنر قد وقع ضحية لأسلوب من النقد الكاسح والعنيف، والذي عـادة ما يميل سعيد إلى التسلح به في تصديه لخصومه وخصوصا النقاد منهم. وفي هذا النوع من المعارك عادة ما يلجأ سعيد إلى وضع أسلوبه النقدي في أطار سياق سياسي. إنه السـلاح الذي لجأ إليه سعيد في معالجته مثـلاً لموضـوع الاستشراق في كتابه " الاستشراق "، وهو الأسلوب الذي كثيراً ما يلجأ إليه أيضا كّتاب ما بعد الحداثة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية تأثراً بطريقة تناول المفكر الفرنسي ميشيل فوكو لعدد من المواضيع من بينها: المعرفة، والجنس، والمؤسسات العقابية، والكتابة . ولذلك من يقرأ كتاب "الاستشراق" يعاين على الفور البراعة والحماسة الشديدة التي تناول من خلالها سعيد مفهوم نسق علاقات السلطة بين الغرب والشرق التي في ضوئها تم للمستشرقين، كما يري سعيد، إنتاج نصوصهم حول الشرق. وهكذا تعامل سعيد مع الاستشراق باعتباره مؤسسة قد تم إنتاج أعرافها وتقاليدها عبر سياق علاقات السلطة، سواء السلطة السياسية الفعلية أو المعرفية، بين الغرب والشرق.
برأيي إن هذه هي واحدة من إشكاليات سعيد التي كان يتعامل عبرها مع شئون الأدب والثقافة والفن عامة، وهي إشكالية ظلت ترافقه حتى في كتاباته الأخيرة، وربما يكون كتابه الأخير "الثقافة و الإمبريالية" هو من أكثر تجلياتها. أما الإشكالية الثانية برأينا، والتي على النقاد المعنيين بكتابات سعيد أن يسعوا إلى إدراكها وأخذها بعين الاعتبار: فهي تلك المتمثلة في موقع سعيد السياقي وتجربته في التعامل مع الثقافة والمجتمع في الغرب، أي من حيث كونه عربيا من فلسطين قد أُلحق الضرر بوطنه على أيدي المستعمرين البريطانيين ثم الصهاينة، وهذا أمر لا ينبغي التقليل من أهميته عند قراءة تعامل سعيد مع الشأن الأوروبي أو الغربي عامةً. فكان من نتيجة هذا النوع من التعامل أن تخلى سعيد عن المستشرقين باعتبارهم أفراداً وعوضا عن ذلك ذهب ليتعامل معهم كما لو كانوا نتاج مؤسسة، وبالتالي فإن ما ينطبق على المؤسسة (باعتبارها نسقاً) ينطبق على الأفراد كذلك، هذا رغم ما يوجد بين الأفراد من تمايز. وهكذا وقع سعيد نتيجة إستنباطيتهِ، من جهة، وإختزاليته للأمور من جهة أخـرى في مغبة التعامـل مع الاستشراق كمؤسسة، وهـو أسلوب يعود إلى المعلم فوكو (أي ميشيل فوكو) حيث استخدمه سعيد وبنجاح باهر في معالجة ظواهر كثيرة باعتبارها مؤسسات وأنساقاً، وهكذا تعامل سعيد من جهته مع المستشرقين باعتبارهم أما مساهمين في مشاريع هيمنة الغرب على الشرق وذلك فيما كان يراه من ضلوع مباشر لهم في هذه المشاريع، وكذلك بشكل غير مباشر عبر ما كانت تكرسه كتاباتهم عن الشرق وذلك من خلال التمثيلات التي كانوا يقومون بإنتاجها. (27)
وضمن هذا الإطار النقدي المحمل بمسؤلية الدور الرسالوي تعامل سعيد بهذا الشكل غير المنصف مع عدد كبير من المستشرقين أولاً، ثم ذهب ليتناول وبنفس الأدوات كل من حاول من الغربيين الاقتراب والتعامل أو إقامة علاقة مع ثقافات أخري غير غربية، ومن مثل هذا المنطلق تعامل سعيد مع الأنثروبولوجيا وكتابات الرحالة والأعمال الأدبية كالقصص والروايات. (28)
برأينا إن ما قام به سعيد في الدوائر والساحات الثقافية في الغرب كان يتوفر فيه نوع من الشروط الموضوعية للأطراف التي يدخل سعيد في سجال ومعارك معها أما للمحاورة أو التطاحن، ولكن في العالم العربي أو الشرق الذي ينتمي إليه سعيد لا تتوفر لهؤلاء تلك الشروط المتعادلة. وهكذا ترتب على غياب تلك الشروط أن يقوم أبناء الشرق والعالم العربي بالإمساك بمقولات سعيد النقدية وخصوصا تلك ذات النكهة السياسة العالية. وما يقع نتيجة كل ذلك هو قيام بعض النقاد والقراء بالتعصب لتلك المقولات والمواقف التي يبديها سعيد من المستشرق أو المفكر الغربي الفلاني، دون أدني عناء من قبلهم للعودة إلى تلك النصوص الأصلية التي كتبها هؤلاء المستشرقون أو المفكرون الغربيون. إن إدوارد سعيد قد قام، ومن واقع عمله كمفكر وناقد وأستاذ جامعي، بواجب قراءة تلك النصوص وبالتالي التوصل إلى تلك الاستنتاجات التي توصل إليها. وعلى الآخرين برأينا، وخصوصا النقاد العرب، أن يعملوا أيضا قراءاتهم قبل أن يصدروا أحكامهم.

الأحكام المسبقة

نخلص من كل ذلك إلى القول إن الخـبرة التاريخية للاستعمار قد تركت عند طرفيها (أي الشعوب المستعمِرة والمُستعمرة) آثاراً متعددة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وحتى النفسي، لدرجة أن هذه الخبرة التاريخية ما زالت تؤثر إلى حد بعيد في طبيعة العلاقات اليومية القائمة بين طرفي التجربة. ولقد تأثرت العديد من المؤسسات الاجتماعية والأفراد وجوانب هامة من الحياة الثقافية بنتائج هذه الخبرة، وكانت للعلوم الطبيعية والإنسانية والمعارف و المؤسسات الأكاديمية العائدة لها نصيب من هذه الخبرة التاريخية. فقد نتج عن هذه الخبرة في مجال المؤسسات الأكاديمية في الغرب أن برزت علوم ومعارف ساعدت الخبرة الاستعمارية في تطورها وربما حتى دعم مشاريعها البحثية، فكان لعلوم إنسانية مثل الجغرافيا والانثروبولوجيا والاستشراق نصيب الأسد في هذا المجال. فقد ارتبطت الجغرافيا مثلا بمشاريع علمية كانت تهدف إلى تحقيق كشوفات جديدة تتعلق بتحديد طبيعة الكرة الأرضية، أي التخوم اليابسة منها وأقاليمها وبيئاتها الجغـرافية وكذلك توزيع البحار والمحيطات. كما ارتبطت الانثروبولوجيا واهتماماتها (البيولوجية والثقافية - الاجتماعية) بمشاريع استكمال معارفها حول الإنسان وبيئاته الاجتماعية وثقافته، أي بتلك المشاريع الأنثروبولوجيه التي بدأت في الغرب والتي آن الأوان لاستكمالها خارج أوروبا، وها قد أتت ظروف الاستعمار في القرن التاسع عشر لتمهد الطريق لتلك المشاريع العلمية. ومثلما أدت الخبرة الاستعمارية في حالة الجغرافيا والانثروبولوجيا فإن الخبرة الاستعمارية قد أدت دورها في حالة الاستشراق. فإذا كان تاريخ الفكر الجغرافي والانثروبولوجي الغربي قد ارتبط في مرحلة من مراحله بأقاليم ومجتمعات وثقافات غير غربية، فإن الاستشراق، كحالة ثالثة، قد تأسس منذ البداية في الأكاديميات الغربية على بروز الاهتمام العلمي بالشرق كموضوع. فإذا كان الشرق أو العالم غير الغربي قد شكل ولا يزال يشكل جزءا من موضوع الجغرافيا والانثروبولوجيا، فإن الاستشراق والدراسات الشرقية ما زال يشكل الشرق موضوعها الأول والأخير.
لاشك أن البحث في طبيعة العلاقة التي قامت بين هذه العلوم في أوروبا وبين العالم غير الأوروبي باعتباره موضوعاً للبحث (كما في حالة الجغرافيا والانثروبولوجيا في فترة تاريخية معينة، والاستشراق الذي لا يزال يشكل الشرق بالنسبة له موضوع دراسة) قد تم بحثها والكتابة في موضوعها وحتى عقد الندوات والمؤتمرات العلمية حولها بصورة متتالية في العقود الثلاثة الماضية. وقد كان لأبناء الغرب ومؤسساته الأكاديمية نصيب الأسد في هذا النشاط وذلك مقارنة بنصيب الدول التي كانت يوماً ما مُستعمرة من قبل الغرب. (29)
إن موضوع هذه المقالة ليس البحث في العلاقات التاريخية بين الغرب والشرق أو الخبرة الناتجة عن الاستعمار كما ورد في السطور السابقة، إن كاتب هذه المقالة يعتقد أن الاستغراق في دراسة الخبرة التاريخية لهذه العلاقات قد ترتب عليه حالة من جلد الذات ونقدها بصورة مبالغ فيها بين عـدد من المفكرين واختصاصي العلوم الإنسانية والاجتماعية في الغرب، لدرجة أن الغرب (ونتائج تجربته الاستعمارية) أصبح ليس فقط هو المسئول عن حاضر مشكلات التخلف في العالم النامي وإنما حتى عن مستقبل هذا العالم. وظهر بين أبناء العالم النامي من وجد في اطروحات هذا الفريق من المفكرين والاختصاصين التبرير الكافي لنسب كل مشكلات التخلف التي تعاني منها أوطانهم إلى الغرب المستعمر، أي أن معوقات التنمية ذات الطابع البنيوي في التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية لمجتمعات العالم النامي إنما تعود أساسا لما أصبح متعارف عليه بـ "العوامل الخارجية" أي إلى الاختراق الرأسمالي الكولونيالي للبنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه التشكيلات.
أن هذه الأطروحة، في رأينا المتواضع، وإن كانت تحمل جانباً من الصحة إلا أن العامل الخارجي هذا لا يمكن تحميله وحـده مسؤلية الإعاقة التي تعـاني منها هـذه التشكيلات، فالمبالغة في هذا الأمر قد ترتب عليه إلغاء كامل لدور العوامل الداخلية أو المحلية الخاصة بهذه المجتمعات ذاتها، وبالتالي آلت الأمور إلى تهميش دور شعوب هذه المجتمعات في صناعة تاريخها ومستقبلها. وكان أن أدت هذه العقلية المتحاملة إلى سيادة نهج من التفكير السطحي والاختزالي الطابع، فبإلقاء مسئولية الأوضاع التي يعاني منها حاضر المجتمعات النامية على الاستعمار استطاعت قوى سياسية نشطة من الأحزاب السياسة في العالم العربي (ذات هويات قومية وشيوعية ودينية الطابع) أن تجد في الغرب الجهة التي تجمع عليها منذ استقلال دولها باعتبارها المسئول الأول والأخير عن نكباتها.
وكان أن أدت هذه العقلية الاختزالية والروح المتحاملة إلى سيادة ميل هائل نحو تسييس المعارف والعلوم وكذلك المؤسسات والعلاقات الناتجة عنها. وكان من أبرز ضحايا تلك العلوم: الانثروبولوجيا والجغرافيا والاستشراق. وإذا كانت الجغرافيا قد نفذت بجلدها لأسباب تعود مثلا إلى ترسخ هذا العلم في الأكاديميات العربية منذ أربعينيات القرن الماضي، وإلى إسهام الجغرافيين المسلمين البارز في هذا العلم منذ القدم، الأمر الذي جعل العرب أكثر ألفة مع هذا العلم مقارنة بالانثروبولوجيا، حيث نصيب العرب والمسلمين الأوائل في الانثروبولوجيا أقل بكثير إن لم يكن معدوماً عند مجاراتهم بالاوروبين. وهكذا تم التعاطي مع أي اهتمام أوروبي أو غربي بالمجتمعات والثقافة العربية أو الإسلامية على أنه يقع في دائرة الأطماع الاستعمارية أو التآمر على العرب أو الإسلام. وأصبح كل إنسان غربي (يُبدي شيئاً من الاهتمام بهذه الموضوعات) موضع شبهه وريبة في العالم العربي. (30)
إن هذا الأمر لا يحتاج إلى مستوى متفوق من العلم والدراية لكي يصنف هذا النوع من العلاقات الإنسانية بين المجتمعات أو الثقافات على أنها علاقات مريضة، وإن في استمرار هذه العلاقات أمراً لا يجلب التقدم للبشرية جمعاء. إن استمرار الجهل بأهمية هذه العلوم والمعارف، وخاصة الانثروبولوجيا، لازال يكرس بين العرب غياب الفضول لمعرفة الثقافات غير العربية أو الإسلامية وإلى انعدام النظرة الموضوعية لطبيعة إسهام الثقافات الإنسانية الأخرى المؤدية إلى فهم واقعي لطبيعـة وحجم المساهمة العربية والإسلامية في الثقافة الإنسانية. وبرأينا إن من بين إحدى السبل الموصلة إلى هذه الغاية هي المساهمة في نقد طبيعة هذه العلاقة، ومن زوايا مختلفة، ولهذا يجب أن يوجه النقد بنظرنا من هذا الإطار إلى الأحكام المسبقة والقيمية الطابع، والتي ما زالت تهيمن على أوساط المتعاطين مع الثقافات غير العربية أو الإسلامية. كما يجب أن تصب المساهمة (في جانبها العربي) على نقل الفكر الانثروبولوجي وترجمته ونقله من مصادره الغربية إلى العربية، وكذلك التعريف النقدي بأصحاب هذا العلم من المسهمين البارزين في نظريات الانثروبولوجيا والأعمال الإثنوغرافية.

المراجع:

إقرار:كتب الجزء الأكبر من هذه المقالة قبل وفاة إرنست غيلنر بعامين، إذ توفى غيلنر في ديسمبر 1996، وبمناسبة وفاته نشر كاتب هذه الدراسة مقالتين عالج من خلالهما، وبشكل تفصيلي، بعض من الأفكار الواردة في هذه الدراسة وكذلك جوانب من السيرة الذاتية لإرنست غيلنر، راجع:
(عبدالله عبدا لرحمن يتيم، التصوير الإثنوغرافي عند إرنست غيلنر:
(1925-1995)، مجلة (البحرين الثقافية)، 1997، العدد 12، ص118 - 112؛ عبدالله عبدالرحمن يتيم، إرنست غيلنر لن يأتي إلى " حير" الامارات، مجلة (دراسات)، 1997، العدد10، ص 238-247. ) كما أود بمناسبة نإلهامي.لمقالة أن أسدي شكري الخاص للكاتب العربي: حازم صاغية، وذلك لما لكتابه ( ثقافات الخيمنينة: موقف من الاستشراق أم حرب على طيف؟) من أثر بالغ في إلهامي. كما أنوه بالملاحظات والأفكار التي وردتني من الصديق والكاتب البحريني:
محمد البنكي، وذلك عند قراءته للمقالة في مراحلها الأولى. سبق للكاتب نشر الورقة الحالية في مجلتي " البحرين الثقافية" و " الاجتهاد "، وقد أجرى عليها بعض التعديلات والإضافات اللازمة بمناسبة الندوة الحالية المنعقدة في جامعة البحرين حول المفكر والناقد إدوارد سعيد، نوفمبر 2003م، راجع:
عبدالله عبدالرحمن يتيم، من المحراث إلى الكتاب:
في حوارية إرنست غيلنر مع العرب والإسلام، مجلة البحرين الثقافية (البحرين)، المجلد6، العدد 21، يوليو 1999. مجلة الاجتهاد (بيروت)، المجلد13، العدد 5051، يوليو 2001.


أقرأ أيضاً: