أحلام مستغانمي
(الجزائر)

ألأنه مَن قال: "في محطات السفر والمطارات، مكبّرات الصوت تقول "على السادة المسافرين أن يتوجّهوا إلى. ."، ذلك أن السيدات لا يغادرن أبداً، كان أول من أخذ القطار وغادرنا؟
وكنت سأقيس لقائي به، ببضع ثوانٍ مرّت على عجل، لولا أنّه القائل "يجب ألاّ تضيع شيئاً. العشّاق بخلاء. . الثانية والثانية، لا تُساويان ثانيتين. . بل تساويان قبلتين".
فصاحب "سأهبك غزالة" كان بخيلاً عن خجل، لكن كان في إمكانه أن يعطيك في كلمتين يلفظهما بلهجة قسنطينية. . ما يعادلهما من قُبل.

لا أظنّ مالك حدّاد، الذي لم ألتق به سوى مرتين لقاءً عابراً، توقّع أن تلك الفتاة التي تقاطعت خطاه معها في اتحاد الكتّاب الجزائريين، ستظلّ وفيّة لذكراه بعد ربع قرن من وفاته، أي زمناً أكبر من عمرها آنذاك. ولكن لا أظنّه سيعجب؛ بأنها هي التي أخذها مأخذ الشعر، والتي كانت أصغر من أن تهبه غزالة، ما انفكّت تهديه بعد موته قطيعاً من الغزلان، عساها كلّما باغتته سخاء تضاهيه شاعرية.

كلّ ذلك السخاء، لاقتناعها بأنّ مع الشعراء، أجمل من الوفاء لِعشرة، الوفاء للحظة، وأجمل من الوفاء لِمَا حدث، الوفاء لِمَا يحدث، وأنّ مالك حدّاد بالذات، سيفهم هذا. فمَن غيرُ الأموات في إمكانهم فهم ما نهديهم حق فهمه؟

يوم التقيته في السبعينات، عابراً في ذلك المقر، أذكر، كان أكبر حزناً من أن يكون في متناول فرحتي به، وكنتُ أنا أكثر خجلاً، وأقلّ خبرة من أرد على طلبه المتواضع بترجمة بعض قصائده للعربية، التي كان يتمنّى أن يسمعها بصوتي في ذلك البرنامج الليلي الذي كنت أُقدّمه، والذي كان يستمع له بشغف مَن يحبُّ موسيقى اللغة العربية التي حُرم من تعلُّمها.

كنت بالنسبة إليه رمزاً للجزائر الفتية، التي صمت ليستمع لصوتها العربي.
وكان بالنسبة إليًّ اسماً كبيرا لم أقرأ له شيئاً، ولكن أدري أن فيه الكثير من فجيعة أبي وحرقة حرمانه من تعلُّم اللغة العربية.

لم يبقَ من لقائي به شيئ، عدا ذكرى وسامته الأندلسية، وارتباكي في حضرة تواضعه. فقد كان شاعراً يتكلّم بصوت منخفض، كمَن يعتذر على وجوده خطأ في زمن تُهيمن عليه كلّ تلك الضوضاء، وتحكم ساحته ضفادع الشعر.

لقائي الحقيقي بمالك حدّاد، حدث بعد موته، عندما كنتُ أُعدّ أطروحة في الثمانينات، في السوربون، عن الأدب الجزائري. وصادفت كُتبه زمن غربتي، فأيقظت حنيني إلى قسنطينة، المدينة التي كان مالك مهووساً بها، والتي لم أكن قد عرفتها حقاً.

وبرغم هذا، ولعي بمالك حداد، هو إعجاب أيضاً بنصّه الأجمل. . حياته، التي كروائي كبير أبدع في كتابة خاتمتها، عندما قال: "أنا نقطة النهاية في رواية تبدأ"، وقرّر ان يتوقف عن الكتابة مصرّحاً بجملته الشهيرة "اللغة الفرنسية منفاي، ولذا قررت أن أصمت". وهكذا مات مالك حداد بسرطان صمته، ليكون أول شهيد يموت عشقاً للغة العربية. فهل عرف تاريخ العرب قبل مالك حداد. . كاتباً أقدم على عملية استشهادية كهذه؟
منذ اثنتي عشرة سنة بالضبط، وبمناسبة مرور 10 سنوات على وفاته، كتبت مقالاً آنذاك، عنوانه "سأهبه غزالة"، أُعلن فيه أنني سأكتب إكراماً لمالك حداد ولقسنطينة أول عمل. . روائي لي.

وإن كانت "ذاكرة الجسد" قد أخذت مني أربع سنوات من الكتابة، فجائزة مالك حداد التي ما فتئت أُطالب بإنشائها، انتظرت 12 سنة، حتى تكفلتُ بدوري بمبادرة إنشائها. . لا تكريماً لمالك حداد، الذي لا يُكرّم إلاّ بترجمة أعماله ووضعها في متناول قرائه العرب. إنما تكريماً للغة العربية ومساندة لكتّابها الصامدين في الجزائر، ولردّ الغُبن المادي والمعنوي عنهم. . بنشر أهم عمل روائي يُكتب بالعربية في كبرى دُور النشر في المشرق، ومنح صاحبه مبلغاً يحميه من الحاجة، ويمكّنه من التفرّغ للكتابة مدّة سنتين. في إمكاني بعد الآن أن أرتاح. كلّ عامين سيخرج إلى الوجود عمل إبداعي كبير، يثبت أن الجزائر ما زالت قادرة على إنجاب الغزلان العربية. . ذلك أنّ الغزلان كالأرض "بتتكلّم عربي"!

http://www.alarweqa.net/eb/ stories.php
عن مجلة (إبداع) الالكترونية