أحمد عثمان

ايف بونفوا لدى شاعر في قامة وقيمة ايف بونفوا، لا يسلك البحث عن الذات طرقا عادية ليصل الى تأسيس اللحظة، الى صورته وهذا لا يعد من قبيل الملاحظة النفسانية لاننا لانتكلم عن تواضع او عجرفة الكاتب اذ نستطيع بشيء من الصعوبة معرفة نتاجه اذ انه في جميع فصوله وغزارته التي كست اكثر من خمسين عاما، يلاحظ الخطوة التي تلتمس انتباهنا وتوقيرنا،
فيما ان الانعطافات البيوغرافية، التي يعدها البحث ضرورية لا تعول انتباهنا الى فضول قاس، فضلا عن ذلك يعد تصور البحث عن الذات، هنا غير كاف. اكثر دقة، هذا البحث ليس الا لحظة من لحظات عدة، مظهر من مظاهر الهم الرحبة التي تحتويها قصائده.

في عام 1945 كان ايف بونفوا شابا يبلغ من العمر الثانية والعشرين امه معلمة، والده سائق قطارات ولم ترسخ نهاية الحرب، في العقول، غبطة متينة، وانما رغبة عميقة بالمستقبل من مدينة تور، التي ولد بها، اتجه الى باريس واخذ يبحث كطالب فلسفة وتاريخ الفن مثل اغلب ابناء جيله، عن معنى وجوده، وهكذا، اصبحت السوريالية المغامرة الجمعية التي تنفي او تدمر هذه الرغبة، على العكس اكد تحمسه دوما مثلما جرى ما بين الحربين العالميتين على ان المتمردين منطقيون وان الحياة تطلب ابدا التغيير، اذ ان الشعر، وحده وعلى وجه الخصوص وبطريقة خفية، هو هذا التغيير المحقق.

بونفوا، حتى عام 1947 العام الذي انفصل فيه عن السورياليين تبعا لرفضه التوقيع على بيان: "القطيعة التدشينية" ـ خالط بروتون معجبا بارستقراطيته العنيدة "ولطفه المتحفظ" شارك في اجتماعات الجماعة دون ان يكون مناضلا في "سبب" لقد شرح، سلفا، هذه المرحلة، مرحلة "التدشينية" في كتابه "حوارات حول الشعر" 1990 لكنها لم تزل نظرة محمولة الى ظرف داخلي، الى حكاية فترة من فترات حياته السابقة.

في كتابيه "بروتون امام الذات" و "القلب ـ الفضاء" اتجه الى ملاحظة تواصل سري، لكن يقيس مدى وسعة الحدس، هذه الارادة، ارادة الادراك، تجعل من حركة بونفوا بليغة الاثر، بليغة الاثر للغاية، اذ ان هذه المسيرة الفردية غير منغلقة على ذاتها وانما تنفد نفسها بنفسها، تحت العنوان الجميل: "بروتون امام الذات"، استعار نص المحاضرة التي القاها في السوربون عام 1996 وهناك نصان، نشر احدهما في مئوية ميلاد بروتون بصحيفة "لوموند" فيما يحتوي "القلب ـ الفضاء" على ترجمتين لنص واحد كتبهما في فترتين الاولى عام 1945 والثانية عام 1961 وقد صدر في طبعة جد محدودة.

الحقيقة، فقط تلاحق بونفوا وعليها اسس ما اسماه اواخر الخمسينيات "الامل الجديد" الحلم او المخيلة، الشعر والفن، بودلير، كيتس، ليوباردي اوبوسان، لم يقودوه بعيدا،
وانما اقتربوا منه، ليس هناك اي دعوة سرية تحقق العدالة في عينيه، في العالم الذي نسكنه وفي هذا الوجود، لذلك لم يحتجز مفهوم "التجاوز للواقع" الذي فكر بروتون فيه "حتى نعرف بصورة فضلى ان الحقيقة ابنة الرغبة ليست جملة من الموضوعات توصف نوعا ما بدقة، ولكن بجملة من اشكال الوجود، والحقيقة ليست شبكة من المظاهر وانما جملة من الندوات.

يستطيع شراح نتاج بونفوا العديدون، الذين انكبوا عليه، قراءة اخر دواوينه: الالواح المقوسة "2001" ـ اجمل دواوينه قاطبة منذ ديوانه: "في خديعة العتبة" ـ 1975 في الضوء او بالنظر الى هذا النص الذي ينتمي الى مرحلة الشباب لكن القراء العاديين ليسوا في حاجة لانجاز هذا الجهد اذ ان كل ديوان من دواوينه وحدة بذاتها، لسنا ـ على الاقل ـ في مجال التعمق "لكن يتبدى لي ايضا انه غير حقيقي ـ سوى الصوت الذي اتمناه، سوف يكون لاواعيا من القوانين التي تنكره، واقع، وحدها رعشة اليد التي تلمسه، وعد الصوت الاخر".

هذا الصوت الذي يتمناه، الذي يعد "هو" نفسه في بداية النتاج، يخضع مع ذلك لاختبار الزمن، والشيخوخة، غير ان نبرة بونفوا ليست نبرة السوراوية، في داخله، حدة التساؤل الرغبة، الايمان شبه الصوفي المرتبط بالذات و "المكان الحقيقي" وهذا الوجود المحتفى به، هكذا، لا يمتلك طفل هذا المقطع النثري ذاكرة ولا اسماً، لا يحتوي على شيء، ولا حتى على ذكرى الالم التي جعلته يتيما، يتملك الرغبة البسيطة في ان يرجع الى الاخرين، الى البالغ الى العملاق، الى من من يقوده لكي يبلغ الضفة الاخرى، تلك هي رغبته في ان يضع ثقته في الموجود هناك و"في خديعة الكلمات" التي لم تفسده.

اذا كان ايف بونفوا كتب ونشر كثيرا، وترجماته متماسكة، واختلط بالجمهور "في امسياته وندواته" فهذا لايعد من قبيل تأسيس جملة، سواء شعرية او فكرية.

كل الصفحات، صفحات نتاجه، التي نستطيع قراءتها اليوم تشير الى الطريق كما الى المسيرة ـ المسعى في آن معا: انها تبدع القيمة والجمال، الحرية ايضا في هذه الازمنة، ازمنة النزاعات والحزبيات.

بيان الثقافة - الامارات