علي أحمد الديري
(البحرين)

الإطار النظري: تجربة قاسم وحساسية المؤسسة التربوية

-1-

(hillslakegeorgelg)يطرح قاسم بتجربته أسئلة مرعبة في سياقنا الأدبي والشعري والثقافي، ولكنها تطرح - فيما أرى - سؤالاً واحداً ملحاً على سياق ذاكرتنا الوطنية الثقافية التي ينتجها وسطنا التربوي بخططه وسياساته ومناهجه وثقافته التي يصدر عنها في برمجته للذاكرة الثقافية التي تتجسد فيما بعد في شكل عقل جماعي.

ما هو السؤال ؟
السؤال في صيغه المتعددة هو: لماذا لم يصبح قاسم جزءاً من هذه الذاكرة؟ لماذا لم يستطع مبرمجو هذه الذاكرة استيعاب تجربة قاسم ضمن ثقافتهم وخططهم التفكيرنا،ن عبرها ذاكرتنا ؟ لماذا لم يستطع الوسط التربوي المسئول بصورة مباشرة عن صياغة ذاكرتنا وطريقة تفكيرنا، استيعاب قاسم ضمن مرجعيته الثقافية التي يستند إليها في أحكامه ويستدعي من معطياتها معايير تقييماته ؟

-2-

إن المكانة الأدبية والثقافية التي حققها قاسم تستدعي في اللحظة الراهنة مساءلة الأجهزة المسؤولة بصورة مباشرة عن برمجة تفكيرنا. فالفوز والتقدير الخارجي يمثلان الشرط الذي عبره تتحقق لذات المبدع مكانتها في أوساط ثقافته التي لا تعرفه. والوسط التربوي هو واحد من هذه الأوساط التي لم تمكنها طبيعتها الثقافية الساكنة من معرفته أو لنقل إنها عرفته ولكنها أساءت فهمه، لذا فهي مدعوة اليوم بعد هذا الإنجاز الذي لا يمكنها إزاءه المماراة أو التشكيك، إلى مراجعة ذاتها عبر تجربة ذات هذا المبدع.

إننا لا يمكن أن نكتشف أخطاءنا أو أن نعرف قصور ذاتنا إلا عبر الذوات الأخرى، فالإنسان كائن حواري لا يكف عن البحث عن ذات أخرى تغايره من أجل أن يعمق فهمه لذاته، وهذا ما دعا الأنثروبولوجي الفرنسي ( كلود ليفي شتراوس ) إلى أن يعرف الأنثروبولوجيا بأنها "رحلة سفر إلى ثقافاتك عبر ثقافة أخرى" إن الثقافة الواحدة تضم في داخلها ثقافات متعددة، فالثقافة ليست كلاً متجانساً بقدر ما هي كل مختلف ومتضاد ومتنوع. من هنا فإن الوسط التربوي ممثلاً في إدارة المناهج - على الأقل - مدعو إلى مراجعة ثقافته اليوم عبر الثقافة الأخرى التي يجسد قاسم بتجربته نموذجاً من نماذجها المتعددة.
ولكن، ما الذي نعنيه بثقافة الوسط التربوي ؟ وما الذي نعنيه بتجربة قاسم ؟

-3-

الوسط التربوي ومؤسسته الرمزية:
إن السؤال الذي نطرحه على الوسط التربوي يتجاوز الحديث عن هذا الوسط بما هو إدارة مناهج وخطط وأهداف وأنشطة ونصوص، يديرها مجموعة من الموظفين والعاملين ( الذين ربما لا حول لهم ولا قوة ) تحت مسميات وظيفية مختلفة، إنني أتجاوز ذلك، إلى الحديث عن الوسط التربوي بما هو برنامج تعمل من خلاله جميع هذه المكونات الإدارية والبشرية، أي الحديث عن الثقافة التي تصوغهم بآليات برمجتها، أي الحديث يتجاوز ما يتوهمون أنهم يصوغونه من خطط وأهداف، إلى ما يصوغهم ويصنعهم من مفاهيم وأفكار.

-4-

يمكننا أن نستعين بمفهوم "الحساسية الثقافية " لنوضح ما نعنيه بآليات البرمجة. لقد شهد مفهوم الحساسية (Sensibility ) انتعاشاً كبيراً في أوساط النقد الأدبي المعني بدراسة العلاقة بين التغيرات الثقافية والتغيرات الجمالية التي يتحدد من خلالها مفهوم الأدب أو أدبية الأدب حسب اصطلاح جاكبسون.

يعني مفهوم الحساسية المعاني التالية:
الوعي والإدراك عن طريق العقل أو الحس أو عن طريقهما معاً.
امتلاك المقدرة الثقافية على الحكم والتمييز والتمتع بذوق أدبي.
ترتبط الحساسية برؤية ما وبموضوع الذوق بكل دلالاته الاجتماعية والحضارية، وبكل ارتباطاته بالثقافة والقدرة على الحكم والتميز.
طريقة كاملة للتصور والتلقي.
إطار معرفي وجمالي عام يشمل الإبداع وطرائق تلقيه.
(راجع دراسة صبري حافظ "جماليات الحساسية والتغير الثقافي" في مجلة فصول العدد 4 /1986م)

-5-

إن معايير حكمنا عل القصائد والشعراء واللوحات الفنية والمقطوعات الموسيقية والأحداث الاجتماعية والسياسية والكتابات الصحفية والمقالات الفكرية والأزياء والموديلات والموضات، إن معايير حكمنا على كل ذلك وطريقة استقبالنا له وتفاعلنا معه وتذوقنا له، تتم وفق حساسيتنا الثقافية، وإذا ما طرأ تغيير على هذه الحساسية فإن طريقة تلقينا وحكمنا على هذه الأشياء تتغير حتى لو لم تتغير هذه الأشياء نفسها.
إننا لا نولد بحساسية معينة، ولكن الثقافة التي تربينا هي التي تبرمجنا وفق حساسيتها، فنتذوق الأشياء وفقها، لذا فالثقافة حسب ما يعرفها (كيلفرد غيرتز) من خلال دراساته الأنثروبولوجية للشعوب المختلفة هي "هي آليات الهيمنة من خطط وقوانين وتعليمات كالطبخة الجاهزة التي تشبه ما يسمى بالبرامج في علم الحاسوب ومهمتها هي التحكم بالسلوك ". (انظر عبدالله الغذامي" النقد الثقافي "، وعبدالله يتيم " دفاتر أنثروبولوجية ")

-6-

وفق هذين المفهومين للثقافة والحساسية الثقافية، يمكننا أن نسائل مؤسسة وسطنا التربوي، والمؤسسة هنا، حسب تعريف ويليامز، مجموعة من الأعراف والقوانين، من هنا فالثقافة مؤسسة رمزية، والوسط التربوي هو أيضاً مؤسسة رمزية، لها قوانينها الثقافية التي تصيغ من خلالها حساسية عقولنا.
يمكننا نسائل مؤسسة وسطنا التربوي عبر الأسئلة التالية:
لماذا لا تستطيع هذه الحساسية أن تستوعب ما جرى في الثقافة العربية خلال الخمسين سنة الماضية؟
هل يمكن لهذه المؤسسة أن تراجع ذاتها (أو تقيم حسب التعبير التربوي) بذاتها ؟ أي هل يمكنها أن تكشف ذاتها من غير الرجوع إلى ذات أخرى مختلفة عنها ؟ هل يمكن أن تكون هناك تغيرات أو تطويرات نوعية في هذه المؤسسة من غير إحداث تغيير في حساسيتها الثقافية؟ هل من المجدي أن تكتفي هذه المؤسسة بتعديل أهدافها أو تغيير موضوعاتها من غير أن تراجع سياستها المعرفية التي تقول عبرها؟ لماذا تبقي حساسية هذه المؤسسة تعاني من حساسية مفرطة من أي نقد يوجه لها ؟ إذا كانت هذه الحساسية قد درجت على إقصاء واحتقار وتغيب كل ما لا يتماثل معها من تجارب شعرية وروائية ونقدية وفكرية وثقافية، فهل يمكنها أن تخلق حساسية حوارية تؤمن بالتعدد في عقول الأجيال التي تبرمجها؟ هل يمكن أن تكون هناك حساسية جديدة من غير أخذ هذه التجارب في الاعتبار؟ لماذا تختزل هذه الحساسية هذه التجارب التي لا تستطيع فهمها إلى مجموعة من الأحكام السلبية؟ كيف صاغت هذه المؤسسة ذكرتنا الثقافية؟ هل يمكن أن نتحدث عن التطوير والتغيير من دون أن نسائل حساسية برامجنا التي تصوغ مؤسساتنا؟ خارج دائرة الحساسية الأدبية هل تستوعب هذه المؤسسة التغيرات والحساسيات الثقافية الجديدة التي تجري داخل دائرة العلوم الإنسانية ؟ هل تستوعب العلاقات الجديدة بين الإنسان ونصوصه وخطاباته وإبداعاته والعالم؟
ما الذي تعنيه تجربة قاسم بالنسبة للنقد الحديث؟ وما الذي تعنيه لهذه المؤسسة؟

-7-

تجربة قاسم وعالمها الموازي:
تختزل تجربة قاسم في أفق فهم المؤسسة التربوية في شعر غامض يستعصي على الفهم، ولكنه أي فهم؟ إنه فهم هذه المؤسسة النابع من حساسيتها الثقافية وطريقة تمثلها التقليدية للغة والعالم والشعر والإنسان.
هل يمكن لهذه الحساسية أن ترى في تجربة قاسم غير ذلك ؟!!
لا يمكن أن نختزل تجربة قاسم في الشعر فقط ونضحي بالسياق الثقافي الذي أنتج عبره قاسم هذا الشعر، ولا يمكن أن نختزل شعره في أدبيته فقط، فتجربته أوسع من ذلك وشعريته أكثر من جمال خالص.
تجربة قاسم تمثل ذاته، أليست الذات جهداً وعملاً وتجربةً ونشاطاً؟!

-8-

تجربة قاسم ليست صوراً جميلة وأخيلة شعرية وإيقاعات بلاغية مجردة من أي قيمة ثقافية أو رؤية كونية، بل هي عالم موازٍ لهذا العالم الذي نعيشه. إن العالم ليس شيئا معطى، أي ليس قطعة من أثاث أو كتلة من حديد أو أسمنت مشكلة بصورة نهائية. بل العالم صورة وتمثلاً ومعنى تبنيه الذات وفق تجربتها فتصوغه في شكل إبداعي يأخذ تسمية شعرية أو فلسفية أو فنية أو روائية.
تأخذ التجربة قيمتها بقدر ما تقترحه علينا من مغايرة، تدفع بحساسيتنا الثقافية؛ لتعيد النظرة في ذاتها من جديد؛ كي نرى الأشياء برؤية مغايرة، ونقيم العلاقات بين الكائنات على أسس مختلفة ونبدع صورة للإنسان غير مألوفة، وبذلك نجدد مفاهيمنا للغة والعالم والحلم والسلطة والكشف والإنسان والصورة والإيقاع.
وتنجح التجربة في تحقيق فرادتها بقدر ما تُميت كورسها، ذلك الصوت الجماعي المهيمن الذي يمارس سلطته الرمزية على الذات الإبداعية تحت مسميات وهمية تُجرِّم كل خروج وتُشوِّه كل حادث طارئ؛ فتغرب التجربة في سياقها الذي نعيش فيه.
يمثل "موت الكورس" في تجربة قاسم إعلاناً عن موت صوت المؤسسة الجماعية المتحكمة في ذائقة الناس وأشكال تلقيهم وطريقة رؤيتهم.
وفي هذا الإعلان اقتراح لحساسية جديدة ترى الأشياء عبر تمثيل جديد للحياة، وعبر هذا التمثيل يمكننا أن نُعيد خلق العالم وأشيائه من جديد.
إن تجربة قاسم تقدم نفسها بوصفها تمثيلاً جديداً لحياة يمكننا عبرها أن نراجع ذواتنا، ونعيد التفكير في الأنساق التي تتحكم في طريقة رؤيتنا.
يخطئ من يظن أن تجربة قاسم تقدم نفسها بوصفها ذائقة شعرية أو أدبية مقطوعة الصلة بأوجه الإنسان الثقافية الأخرى. إن كل استعارة في هذه التجربة تكشف عن علاقة ثقافية وإنسانية مغايرة، وكل مجاز يُقدم إمكاناً جديداً لفهم العالم والإنسان.
إن تجربة قاسم لا تغير العالم بالمعنى الثوري النضالي المباشر، لكنها تقترح مجالاً ثقافياً يفتح العلاقة بين أطراف الاستعارة والمجاز على مساحات جديدة فتغدو الكائنات غير الكائنات.

-9-

عبر هذا الاقتراح يمكن للمؤسسة التربوية أن تعيد صياغة حساسيتها الثقافية، لتمكن مريديها من رؤية عوالم مشيدة برؤى مختلفة.

علاج المسافة

ولكن، لا يمكن ذلك من غير إعادة ترسيم مسافات المخيلة الجماعية، وتلك مسافات خطرة، ولكن قاسم اعتاد أن يشتغل في المسافات الخطرة، وهي المسافات التي تقيمها الثقافة بين المفاهيم والقيم والكائنات والأجناس والكلمات والأشياء، وتوهمنا أنها مسافات تقيمها الطبيعة، وباسم الطبيعة تمارس الثقافة عنفها وإكراهها لتوهمنا أنها وحدها تملك بيقين مطلق حق تقرير المسافات الحقيقية، فتمنح مسافاتها المقدرة حرمة مقدسة.
في مواجهة هذه الحرمة ينتهك المبدع أعتى قوانين الثقافة؛ فالثقافة تفصح عن جوهرها بترسيم مسافات حدودها، وحين تفقد الثقافة القدرة على تقرير المسافات تفقد حقيقتها.
تمارس الثقافة هذا الفعل، فعل ترسيم المسافات وتقريرها وتقديسها، في شتى حقول الإبداع : الشعر واللغة والفلسفة والفن والدين .إلخ. .

قاسم حداد واحد من هؤلاء المبدعين الذين شغلتهم المسافة فراحوا يعالجونها بالشعر: المسافة بين المجاز والحقيقة، المسافة بين القديم والحديث، المسافة بين الواقع الفيزيائي والواقع الافتراضي، المسافة بين الطبيعة والثقافة، المسافة بين الأنا والآخر، المسافة بين الأنوثة والذكورة، المسافة بين الشعر والتكنولوجيا، المسافة بين الثقافة والسياسة، المسافة بين الشكل والمضمون، المسافة بين الحلم و الواقع، المسافة بين المكان والزمان، المسافة بين المتلقي والمبدع، المسافة بين الشعر والفلسفة، المسافة بين الكلمات والأشياء، المسافة بين السلطة والمثقف، المسافة بين الشعر والنثر، المسافة بين النص واللانص

لقد شغلته هذه المسافات بتوتراتها، فتحولت في مخيلته إلى كتلة ملتهبة من الأسئلة التي لا يتيسر الجواب عنها، فراح يغامر بالسفر فيها يلغيها مرة، ويثبتها مرة أخرى، يمددها مرة، ويختزلها مرة أخرى، يُوسِّعُها مرة ويضيقها مرة أخرى، يقرأها مرة ويعيد إنتاجها مرة أخرى.
لقد أصبحت المسافة حدثاً مفهومياً -في مشروعه- قيد المعالجة وإعادة النظر.

الإطار التطبيقي: مجنون قاسم

التمثل مفهوم فلسفي ونفسي ونقدي وثقافي، وقد اكتسب بهذا الانتماء المتعدد غنى معرفياً يمكن عبره قراءة تصوراتنا/تمثلاتنا للعالم والحياة والناس والجماعات والتاريخ والنصوص.
وأعني بالتمثل هنا الفعل الذي تقوم من خلاله الذات باستحضار موضوع ما (حادثة، شخصية، كلمة، قصيدة، لوحة، فيلم، خطاب...إلخ). يتخذ الموضوع حين نستحضره شكلاً معيناً لا يتطابق مع حقيقته الخارجية، لكنه يتطابق مع حقائقنا الداخلية، أي يتطابق مع تأويلنا الذي يستند إلى مسلَّماتنا وفرضياتنا ومعايير حكمنا ووجهة نظرنا وأفكارنا ومفاهيمنا للعالم وأشيائه، أو لنقل يستند إلى ثقافتنا.
ويمكننا أن نجعل مفهوم "التمثل" أقرب إلى فهمنا من خلال علاقة قاسم بحكاية قيس. فحين نقول لقد تمثَّل قاسم حكاية قيس في قصيدته "مجنون ليلى" فإننا لا نعني أنَّ قاسم سرد لنا قصة قيس وليلى كما وردت في كتب الأدب والتاريخ، ولا نعني أنَّ قاسم صاغ هذه القصة شعراً بعد أن كانت منثورةً، بل نعني أنَّ قاسم أعاد صياغة حكاية قيس بأن منحها معنى آخر عبر تأويله الذاتي للحكاية وأفعالها وأحداثها، وهو يستند في هذا التأويل إلى مفاهيمه الراهنة للشعر والحياة والجنون والحب والجمال والحرية والإنسان والأدب واللغة والمجاز. إنَّ الشعراء يتعددون بتعدد هذه المفاهيم، لذلك سيظلون يختلفون في تمثلهم لقيس وحكايته، وسينتجون بهذا التعدد نسخاً مختلفة لقيس، مختلفة مع بعضها ومختلفة مع الأصل الذي يرجعون إليه ليغادروه.
بعد هذه المقدمة يمكننا أن نجيب على سؤالنا: كيف تمثل قاسم قيساً في هذه القصيدة؟
لقد تمثل جنونه حتى جنَّ، راح يتقصى خروجاته على ثقافته، حتى تمثلها جنوناً يستحق الاحتفاء والإعجاب:
جننتني أو جننتَ
هناك مجموعة من الأفعال في القصيدة تعبِّر عن ملامح هذا التمثل وحضوره، وهي: صاغني، زها بي، استوى في يديه، هداني إليه، أشعلني، تهت فيه، اجتاز بي، جننتني.
تتبادل ضمائر قيس وقاسم مهمة إسناد هذه الأفعال إليها، وتحضر هذه الضمائر بكثافة لافتة، وهو حضور يحمل في معناه حضور قيس في قاسم، لقد بلغ هذا الحضور حداً لم يعد قاسم قادر على أن يكتمه، لذلك لا بدَّ من القول، والقول في القصيدة يمثل وحدتها وما بين كل وحدة وأخرى قول آخر، لقد تكررت جملة القول (سأقول عن قيس) أربع مرات. فما فحوى هذا القول؟
القول هنا احتجاج وفضح واحتفاء وإعجاب... احتجاج ضد الثقافة التي تغتال الحب، وفضح لأفعالها واحتفاء بالخروج عليها، وإعجاب بقيس وخروجاته. لقد أعطى هذا التركيب المتعدد للقول، ثقلاً دلالياً بات يفيض بذات الشاعر، حتى غدا صرخة، تقول: سأقول عن قيس، سأقول حكايته كما تمثلتها مفاهيمي للحب والعشق والحس والشعر والإبداع والخروج والمرأة والجمال والحرية، سأحكي اللحظات الإنسانية المكثقة التي أجهضتها الثقافة بسلطتها التي تصادر الحب وتستمرئ حكاياته.. سأحكي لحظات الهوى والامتزاج والشغف والحزن والبكاء والطرد واللذة والجنون.. سأحكيها محتفياً بالذات التي عاشتها وتمثلتها وتعذبت بها.

سأقول عن قيس
عن هوى يسكن النار
عن شاعرٍ صاغني في هواه
عن اللون والاسم والرائحة
عن الختم والفاتحة
كنتُ مثل السديم، استوى في يديه
هداني إليه
برئت من الناس لما بكاني إليهم
زها بي وغنوا الأغاني بأشعاره
فما كان لي أن أقدر هل أشعلني أم طفاني...

لكل هوى ناره التي هي سكنه، هوى المحبين وهوى العاشقين وهوى المبدعين وهوى الخارجين على أقفال ثقافتهم وقوانينها الصارمة... لكل من هؤلاء ناره التي يسكن فيها وتسكن فيه.. إنها نار الإبداع، وتلك نار تضيء بوهجها الحارق دروباً بعيدة لا يراها غير المحترقين بها الذين يسكنونها وتسكنهم. إنها نار تعيد صياغة من تمسُّه، وقد مسَّت نار قيس جسد قاسم، فكيف صاغته؟
هل يمكن لشاعر أن يصوغ شاعر آخر؟ وكيف لشاعر أن يعترف لشاعر آخر سبقه بصياغته إياه؟ كيف يحدث ذلك وقلق التأثير يطارده؟
لا يمكن لذلك أن يحدث إلا حين يصوغ الهوى الهوى، وهنا قاسم استمرأ هوى قيس فراحا يتصايغان، قيس بحكايته وقاسم بتأويلات تمثلاته التي راحت تعطي للحكاية اسمها، ولونها، ورائحتها، أي أنها راحت تعطي للحب هويته المنتهكة، وفيما قاسم يركِّب هذه الهوية، راحت تصوغه فلم يعد قادراً على هوى نارها المثيرة. فأصبح يروي حكاية صاحبها بفاتحتها وخاتمتها، وكأنها حكايته، تلك هي الصياغة التي يفاخر بها قاسم، إنها تركيب لعلاقات جديدة، وبهذا التركيب تغدو الحكاية حكاية جديدة، ألم يعرِّف أرسطو الحكاية بأنها "الفعل، والفعل هو ما يمارسه أشخاص بإقامة علاقات في ما بينهم ينسجونها وتنمو بهم ، فتتشابك وتنعقد وفق منطق خاص بها" لقد نسجت تمثلات قاسم علاقات جديدة، وفق منطقها فأنتجت حكاية لم تقلها الحكايات، وبهذا الاختلاف أصبح لهذا الهوى الذي تسرده الحكاية لوناً يعرف به، واسماً يؤرخه، ورائحة مخمرة في الخيال تدل عليه.

كنتُ مثل السديم، استوى في يديه
هداني إليه

السديم في اللغة هو الضباب الرقيق، أي هو الغيمة قبل أن تتكون، أي الشيء قبل أن يكون ويستوي، وهذا ما تذهب إليه بعض الأساطير اليونانية بقولها "في البدء كان السديم... ومن السديم مصدر الحياة كان الحب إيروس"( ) إنَّ نطفة الحب الخداج التي يحملها قاسم في سديمه استوت واكتملت لحظة اهتدائه لقيس، في هذه اللحظة الأسطورية استوى سديم قاسم واهتدى إلى سرِّ الوجود الذي خلَّد قيساً، إنه الحب الذي به تستوي الكائنات حيواناً (بالمعنى القرآني للحياة).

برئت من الناس لما بكاني إليهم
زها بي وغنوا الأغاني بأشعاره

البراءة فعل إنساني، يتخلَّص من خلاله الشاعر من أثقال أوزار ثقافته، التي تمارس عبر أُناسها عنفها ضدَّ الخارجين على قوانينها الصارمة، ولكن يا لغرابتها، فما تُعاقِب عليه اليوم تثيب عليه غداً، وما ترفضه في مقام تزهو به في مقام آخر، وهذا هو حالها مع قيس تطرب لشعره وتتغنى به، لكنها تمارس أشدَّ أنواع عنفها ضده، وضدَّ إنسانيته.
حين ينتصر شاعر على ثقافته، فإنه يسجِّل نصراً لكل الشعراء وبهذا المعنى "يزهو بهم" بما تفتحه مجازاته من آفاق جديدة، وبهذا المعنى زهو قاسم زهو بمجازات قيس بما هي تعبير مركب يعبِّر عن وقائع إنسانيتنا المركبة والمطاردة.
بقدر ما في سيرة المبدع من قدرة على إشعال أرواحنا بالأمل والمقاومة من أجل أن نحقق إنسانيتنا، بقدر ما فيها من قدرة مضاعفة على أن تقنعنا باليأس والانطفاء بمآلاتها المأساوية التي تنتهي بها حياته/الختم. إذا تمكَّنت هذه السيرة من تسريب هذه القناعة المضمرة فإنها ستطفئنا، من هنا حيرة سؤال قاسم الذي يشبه المناجاة الداخلية... هل أشعله الانتصار والخلود الذي حققته السيرة ببقائها حية؟ أم أطفأته المآلات المأساوية التي انتهت إليها قصة صاحب السيرة؟

سأقول عن قيس
عن جنةٍ بين عيني ضاعت
عن هواءٍ أسعف الطير واستخف بنا واصطفانا
عن كلما هم بي تهت فيه
وباهيت كي نحتفي بالمزيج
عن العشق تلتاع فيه الحجاز
ويشغف في ضفتيه الخليج

كان الرواة يستعينون بـ"عن" ليعطوا لمتونهم المروية مصداقية، وهي ممارسة تاريخية اصطلح على تسميتها بـ"العنعنة"، كانوا يبحثون عن أسماء تضفي على أقوالهم مصداقية، لقد استبدل قاسم عنعنات الرواة بعنعنات المتن، نصَّب ذاته الشعرية راوية وحيدة تروي متن الحكاية كما تمثلتها، من دون أن تستند في قولها إلى ما هو خارج المتن، إنها تروي المتن مستندة إلى حسِّها الإنساني وقدرته على رؤية ما لم يره الرواة عبر عنعناتهم.
"عنعنات" قاسم تحكي من منظور الراوي المشارك الذي عايش الحكاية وامتزج بها وتخلَّق سديمه في فضائها، فراح يروي مآلات عشقها بحرارة، إنه يستعيدها كما لو كانت جنة أضاعتها وحشيتنا المفرطة في صرامتها، وكما لو كانت لحظات اصطفاء روحية تخففت فيها روحيهما مع روح الطير، ليغادروا الأرض وأثقال قوانينها التي تصادر لحظات الحب والبوح. هناك حيث لحظات التعالي تباهي الذوات المصطفاة بالامتزاج والتيهان في بعضها، في هذه اللحظات تتحوَّل أرواحها إلى أسطورة حب تثير إنسانية أهل الأرض، وتتلوع بها أوجاع عشَّاقهم، وتشغف بها ثقافاتهم، إذ تغادر الأسطورة ثقافتها إلى الثقافات الأخرى القريبة منها، لقد شغفت ثقافات الخليج حيث الأدب الفارسي والعربي بأمثولة الحب هذه وراحت ترددها، وتحكي عبرها حالات عشقها.

سأقول عن قيس
عن حزنه القرمزي
عن الليل يتبع خطاه الوئيدة
عن الماء لما يقول القصيدة
بكى لي البكاء،
وهيأ لي هودجاً
وانتحى يسأل الوحش عني
كأني به لا يرى في القوافل غير الخيول الشريدة

تواصل الحكاية شهادتها باستقصاء أقوالها المعبِّرة عن الحالة الإنسانية بأحزانها وبكائها ووحشتها.
"الحزن القرمزي" حزن ألوان الحياة، حين تفقد حيويتها وفرحتها وقدرتها على أن تعبِّر عن حالات العشق بألوانه الزاهية، القرمز بجماله حين يفقد زهوه يشبه العاشق حين يفقد زهوة فرحه، وكأنهما يفقدان زهوتي اللون والفرحة.
"الماء" بأنواعه وحالاته يمثل الحياة بتعددها، ماء الحزن وماء البكاء وماء الضحك، وماء الفرح، وماء الرجل وماء المرأة، في كل هذه الحالات يلجأ الإنسان إلى الماء، ليعبِّر عن إنسانيته، لذلك فحين يفقد الإنسان إحدى حالاته الإنسانية فإنه يفقد ماءها، وحين تفقد جزءاً من مائك تفقد جزءاً من إنسانيتك، بل تفقد إنسانيتك كلها. إنَّ الماء يأخذ لونه (إذ لا لون له) من لون الحالة الإنسانية التي يرافقها.
الماء في كل الحالات الإنسانية هو الذي يقول ويخلق ويعبِّر. وقولٌ لا ماء فيه لا حياة فيه، وخَلْق لا ماء فيه لا حركة فيه، وتعبير لا ماء فيه لا إيحاء له. وقصيدة لا يقولها الماء، قصيدة لا تقولها الحياة، ولا تقول الحياة.
ماء القصيدة، ماء له لونها واسمها ورائحتها، وبهذه الإضافة يفقد الماء حياده، فالماء لا حياد له حين يقول قصيدة تضج بحالات الحياة.

بكى لي البكاء
وهيأ لي هودجاً

البكاء هو قصيدة يكتبها ماء الحزن، لذلك لا يمكنك أن تمتطي هودج الرحيل والخروج، هودج قيس، ما لم تستوعب ماء بكاء قصائده، وكأن هذا الاستيعاب تهيئةٌ للركوب الرمزي فوق هودج التيه في الفيافي، حيث لا أحد غير الوحش المتأنس بالسؤال عن إنسانيتا المطرودة، التي تساكن هذه الوحوش وتستأنس بألفتها.
تمثل هذه الذوات بهوادج رحيلها الخارجة من وحشة الإنسان إلى ألفة الوحش، الخيولَ الشريدة من أسر قوافلها. "الخيول الشريدة" هي تلك الذوات التي لا تستطيع أن تنسجم ولا مُهيَّأة للانسجام مع القوافل المنسجمة مع أوامر ثقافتها ونواهيها.

سأقول عن قيس
عن العامري الذي أنكرته القبيلة
عن دمه المستباح
عن السيف لما انتضاه من القلب
واجتاز بي أرض نجدٍ ليهزم كل السلاح
عن اللذة النادرة
عن الوجد والشوق والشهقة الساهرة
عن الخيل تصهل بي في الليالي
والصهد يغسلني في الصباح
و يا قيس يا قيس
جننتني أو جننت ،
كلانا دم ساهر في بقايا القصيدة

سلاح القلب أخطر سلاح، وعاقبته أشدُّ من عاقبة أيِّ سلاح آخر، فهو يحارب على جبهات الثقافة الرمزية، حيث الأوامر والنواهي المقدسة تُشرِّع قوانينها وأعرافها وتقيم مؤسسات مراقبتها وضبطها، لا يمكن لسلاح يتحدى هذه الجبهات أن يُثاب بغير الإنكار واستباحة الدم والتشريد، هكذا تُنِّكر من يَنكرها، وتستبيح دم من ينتهك حرماتها، وتُشرِّد من لا تجد له مأوى في أرضها.
سلاح القلب بصدقه وحرارته وفرادته وحيويته، قادر على هزيمة كل أسلحة الأوامر والنواهي والزواجر بأدواتها ومؤسساتها وأجهزتها. إنه إنسان بلا صناعة زائفة. لذلك يستطيع أن يجتاز كل الأراضي، ويخترق كل الحصون، ليدكَّها ويهزمها، إنه ينتصر بذاته المتفردة ووجده الحميم وشوقه الصادق، وشهقته الساهرة في وجه النائمين، وبصهد هذا الانتصار وحرارته يغسل في صباح غده الخالد كل الآلام.

و يا قيس يا قيس
جننتني أو جننتَ،
كلانا دم ساهر في بقايا القصيدة

ليس هناك أجمل من لحظات الالتباس بالجنون، إنها لحظات الشعر حيث يتسع لك العالم كما لم يتسع من قبل، لتقول قصيدتك، دم القصيدة جنونها، ومن غير هذا الجنون الساهر لا يمكن أن تحيا القصيدة. الجنون لحظة كما الشعر لحظة، وفي هذه اللحظة تتكشف لمخيلتك ما تحجبه ثقافتك باسم العقل. أليس الجنون حجاب على العقل، حين يحجب الجنون العقل يتدفق دم القصيدة، كان قاسم يكتب في هذه اللحظة، لحظة جنونه بجنون قيس.

i) حاتم عماد، أساطير اليونان، ص53، الدار العربية للكتاب، تونس طرابلس، 1989م