يمكننا أن نقول الترجمة فعل ثقافي لغوي حضاري، والمترجم رسول التنوير المبعوث بين الحضارات. فمنذ قديم الزمان وحتى العصر الذي نعيش فيه لم تفقد الترجمة ضرورتها أو فاعليتها، لأنها الوعاء الذي يتم من خلاله نقل المعرفة من بلد إلى آخر ومن لغة إلى أخرى.
الترجمة نافذة فكرية ومدخل حضاري على فكر العالم يضمن لهويتنا المزيد من التواصل مع الآخر في كل مجالات إبداعه. ولا نظن أن الترجمة ستفقد أهميتها لسبب آخر هو اتساع مجالات الاتصال بين الشعوب، فالكون قرية صغيرة لا حدود لها ولذلك فهناك حتمية لتطور الترجمة عاما بعد عام.
الترجمة فعل خيانة أصلا وتذكر ثانيا وتنوير ثالثا. هي فعل خيانة لأن النص المترجم يزيد قليلا أو ينقص قليلا عن النص الأصلي. وهي فعل تذكر لأن المترجم يفعل هذا مع نص جيد على الأقل فيحييه في مكان آخر ولغة أخرى ووسط بيئة اجتماعية أخرى. كما أنه فعل تنوير لأن النص المترجم في لغته وبيئته الجديدة يقوم بدور رائد في وعي من يقرأه.
القول إن الترجمة خيانة لم يعد دقيقا، لأن الترجمة مثل أي نشاط إبداعي آخر تقوم على الفهم والحس والتذوق الجمالي، لكن من المؤسف اقتحام صغار النفوس مجال الترجمة دون أن يكونوا مؤهلين لها، دون وعي بما تتطلبه الترجمة من إدراك جمالي ومعرفي موسوعي يجب عليه إتقانه قبل الشروع فيما نطلق عليه "خيانة" الترجمة.
الترجمة إلى العربية إذن فيها مخاطر الترجمة إلى أي لغة أخرى، فلابد للمترجم من معرفة واسعة بالمفردات ومترادفاتها وكذلك تاريخ الألفاظ ومعانيها بدقة شاملة مع إدراك واع بالنحو والصرف، ولا ينبغي للمترجم أن يقدم على الترجمة قبل استكمال أدواته الفنية والتقنية والجمالية الخاصة باللغة المنقول إليها لأنها في نظري أهم من فهمه أسرار اللغة المنقول عنها.
الترجمة تأويل للنص، لذلك فعملية إزاحة النص من لغة إلى أخرى حسب السياق الثقافي والاجتماعي محاولة للتنوير تدفع المجتمعات للأمام بنشر المعرفة، لأن المعرفة عالمية (وإن كانت الكلمة نظرية في أحيان كثيرة). ولأن المعرفة بلا حدود، فينبغي للترجمة أن تكون بلا حدود. ويجب تشجيع المترجمين أكثر من ذي قبل، والوقوف في وجه بعض دور النشر التي تتصرف مع المترجمين كأنها تتفضل عليهم بالنشر بينما تضرب صفحا عن المكاسب التي تنهبها من حصيلة بيع هذه الكتب وتسويقها.
ما يجعل الترجمة مختلفة من مترجم إلى آخر هو جهد اللغة الذي تتم به عملية الترجمة، فالسمات الأسلوبية هي الأساس الذي تختلف به أي ترجمة عن أخرى، وتظهر أهمية الترجمة وجمالها حين يرتدي المترجم قفازا حريريا فيخفي سماته الأسلوبية لصالح سمات مؤلف النص الأصلي.
وأطلق على هذا المترجم اسم "الخائن الأمين"، فالمترجم ينبغي أن يظل أمينا للنص الأصلي محافظا على روحه لكن دون إهدار جماليات اللغة الأخرى المنقول إليها النص، لأن الترجمة عملية نقل من وسيط اجتماعي معين إلى آخر، فهو يخون النص لكن بأمانة.
الترجمة إذن عملية تأويل شخصي خاصة بكل مترجم، حيث تتعدد قراءات النص الأصلي بتعدد ترجماته، لكن عملية التأويل هذه تحتاج لوعي كامل بنظريات الأدب واللغة من طرفيها، مع الإلمام بطرف من المعرفة الموسوعية ليفهم المترجم النص جيدا ويستوعب مكنوناته مع إضافة الهوامش المناسبة التي تغني الأصل.
فكر المترجم وإيديولوجيته يؤثران على اختياراته في الترجمة. فهو يسعى لتقريب النص الأصلي وتوضيحه بأسلوب الفنان لغة وبلاغة. هناك أسئلة تأتي الترجمة استجابة لها فهي تتأثر بالتكوين المعرفي للمترجم الذي يؤثر على خياراته وأدائه ومدى التطابق بين ما يرغب بترجمته وما يرغب بتحقيقه منها.
يمكننا أيضا أن نقول إن الترجمة نوع من القناع، فأنت ترتدي قناع المؤلف الأصلي لتنقل أفكاره بما يوافقه في اللغة المنقول إليها بكل موروثاتها. فأنت في صراع مع الآخر ومتخيل الآخر ومع الذات في الوقت نفسه.
في علاقات الشرق والغرب هناك مشكلة تتعلق بالهوية والاختلاف، ومشكلتنا مع الغرب حضارية في المقام الأول. لكن هناك ضرورة حتمية لتفكيك الهالة المقدسة لما يأتي من الغرب، فليس كل ما يهبط علينا من هناك منزّل من السماء ومن حقنا انتقاده.
وتعتبر الترجمة كاملة حقا لو تمت إضافة تعليقات وحواش إلى النص الأصلي تغني من قيمته وفائدته. لا يجب أن نخاف من سطوة النص الأصلي مهما كانت قيمته، فالمترجم الحق هو الذي يقوم بإنزال الأصل من عليائه ليسهل التعامل معه ويجعل الآخرين يرونه ببساطة، لكن داخل نطاق قيمته لا يحط منها.
أصل كلمة "ترجمة"
أصل كلمة الترجمة عربي أصيل، وإن وصلها من اللغة الأكادية. انحدرت كلمة (ترجمانو) غالبا من الأكادية في اليمن إلى جنوب العراق أو إلى عرب الجزيرة. أما كلمة ترجمة في الآرامية والسريانية والعبرية والحبشية فتأتي بمعنى "تفسير الكلام". في لسان العرب ترجم نقل من لغة إلى أخرى، والترجمان مفسر الكلام، وتأتي كذلك في القاموس المحيط للفيروزابادي بمعنى مشابه، فالترجمان المفسر.
لكن كلمة ترجمة لم تأت بالمعنى الحديث في النصوص القديمة، فقد جاء بالمعجم الوسيط أن ترجم لفلان ذكَرَ ترجمته أي سيرة حياته، والجمع تراجم. وفي مختار الصحاح ترجم فسر ومنه الترجمان والترجمة النقل. ولم يستخدم ابن النديم في الفهرست كلمة ترجمة أبدا بل (النقل) فهو يقول عن ابن المقفع "أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربي".
(وجدير بالذكر أن كتابه الشهير "كليلة ودمنة" الذي قام بترجمته نقلا عن الفارسية قد انتهى به إلى الإعدام صلبا بعد قطع أطرافه خلف خلاف أي ساقه اليمنى مع يده اليسرى ثم ساقه اليسرى مع يده اليمنى، وبعد ذلك ترك جسده في الهواء تأكله الجوارح. وذلك بسبب فقرة واحدة كانت تتعلق بقصة الخلق قيل إنه ارتد فيها، وإن كان ناقل الكفر ليس بكافر كما يقال. لكن هكذا جرت الحوادث).
كما تذكر كلمة ترجمة بمعنى (العنوان) قالوا: كتاب ترجمته كذا (أي عنوانه كذا). ووردت كلمة ترجمان لدى المتنبي بقوله (ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان). وفي بعض اللغات الأخرى نجد معاني مشابهة لكلمة الترجمة، فمثلا باللغة الإندونيسية تعني حمل الطفل أو تبديل ثيابه، وبالألمانية تعني النقل أو العبور، وبالإنجليزية والفرنسية نجدها مشتقة من اللاتينية وتعني الحمل أو النقل.
تاريخ الترجمة
كان الخليفة هارون الرشيد أعظم من شجع الترجمة في عهده، فكان يتم جلب الكتب الإغريقية شراء واستنساخا وغنائم حرب في الطب والهندسة والفلك والرياضيات والفلسفة وغيرها. وقيل إنه كان يكافئ المترجمين بوزن ما ترجموه ذهبا.
أبرز المترجمين العرب القدامى هم: يوحنا بن البطريق وقسطا بن لوقا ويوحنا بن ماسويه. وكان يطلق عليهم لقب "النَقَلَة". حنين بن إسحاق أشهر من ترجم أيام الخليفة المأمون، وقد أسس ما يشبه مدرسة للترجمة ونقل هو وتلاميذه التسعة 57 كتابا.
تلقف الغرب كتب العرب خاصة ابن سينا والخوارزمي وحنين ابن اسحق وعلي بن عباس والرازي وبعض كتب الكندي وثابت بن قرة وابن رشد والغزالي وغيرهم. لكن لا يعرف عن الحملة الصليبية أنها أحضرت معها مترجمين غير المؤرخ وليم الصوري لتسجيل الحملة وبعض الأمراء الصغار الذين تعلموا العربية لأغراض الحرب.
(على النقيض من ذلك الحملة الفرنسية التي أحضرت معها عددا كبيرا من العلماء والمفكرين والدارسين حتى الرسامين لتسجيل كل لحظة من الحملة. وهنا يبرز الفارق بين الكولونيالية الفرنسية وغيرها، فالكولونيالية البريطانية مثلا كانت تعمل على ابتزاز المكان الذي تستعمره حتى الاستنزاف ولا تقوم بتحديثه سوى لأغراضها الحربية التوسعية مثلما حدث مع إنشاء السكك الحديدية في مصر كثاني بلد في العالم بعد إنجلترا مباشرة وذلك فقط لنقل الجنود البريطانيين إلى الهند).
بعد خروج الأندلس قام الكاردينال دوسينيروس بإحراق كل ما تركه العرب من كتب وآثار بل وأجبر من تبقى هناك من عرب على التنصر. لكن منطق التاريخ أغلب، فقد قام الغرب بعد ذلك بنقل كل شيء خلفه العرب إلى لغاتهم حتى شعر الغزل، فشعر التروبادور الأسباني مثلا متأثر بترجمات شعر الغزل العربية، كذلك كتب لوركا كتابه الشعري (الديوان) تأثرا بترجمة الشاعر الأسباني جوميث مختارات من الشعر العربي عام 1928.
ذهب رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا إماما للبعثة التي أرسلها محمد علي باشا للاستفادة من علوم الغرب، وللأسف لم يخرج من هذه البعثة فائدة كبيرة عدا ما قام به ذلك الإمام من تعلم الفرنسية وترجمة بعض الكتب، وحين عاد صنّف كتابا بعنوان "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وفيه نظرات متقدمة ساهمت مع مدرسة الألسن التي أنشأها في بداية صناعة الترجمة في مصر. وهو أيضا الذي أنشأ أول مدرسة لتعليم البنات في الشرق أواخر القرن الثامن عشر.
لكن للأسف معظم ما استفدنا به من بعثات الترجمة في ذلك الوقت كان لصالح الأدب لا العلم، عكس البعثات اليابانية التي ذهبت لأوربا في الفترة نفسها وانصب اهتمامها كله على ترجمة الكتب العلمية، وشتان بين ما صرنا إليه وما صارت إليه اليابان. ويجوز لنا أن نؤكد أن حركة الترجمة العلمية في تقهقر بالغ حتى اليوم.
هناك مسألة نقدية يقال عنها "عودة النص"، فمثلا كتاب (ألف ليلة وليلة) لم يعرفه العرب وهم مؤلفوه الأصليون إلا بعد أن قام الغرب بترجمته في العصور الوسطى وبعد ذلك انتبه إليه أهله ونشروه، وهنا نرى النص الأصلي غريب عن أهله ولم يفطنوا إليه سوى بعد أن ترجمه الآخرون. والكلام نفسه يصح على رباعيات الخيام لكنها هذه المرة مكتوبة بالفارسية.
"فن الشعر" لأرسطو
وسوف أقوم برحلة شيقة مع كتاب "فن الشعر" لأرسطو، للتدليل على تطور صناعة الترجمة لدى العرب مع نموذج واحد فحسب، فقد بدأ العرب بترجمته إلى العربية عام 320 هجرية على يد أبي بشر متى بن يونس القُنائي، وهو من بلدة دير قنا قرب بغداد. ولا يعرف إن كان ترجمه عن السوريانية أو اليونانية لأن اسحق حنين كان قد ترجمه قبل ذلك إلى السوريانية.
ترجمه أيضا يحيى بن عدي ثم لخصه يعقوب ابن اسحق الكندي. ولخصه أيضا أبو نصر الفارابي (رسالة في قوانين صناعة الشعر) وكتب بن سينا ملخصا له كذلك متأثرا بالترجمة التي اعتمد عليها الفارابي. ثم وضع بن رشد تلخيصا لكتاب (فن الشعر)، وكذلك حازم القرطاجني.
حديثا قام المستشرق مرجليوث 1887 بترجمة الكتاب اعتمادا على الترجمة العربية. أما عبد الرحمن بدوي الذي كان يتقن أكثر من 17 لغة عالمية، فقد قام بترجمة الكتاب ترجمة حديثة في الأربعينيات عن اليونانية ومعها نشر الترجمة القديمة التي قام بها متى بن يونس.
وكذلك ترجمه شيخ المترجمين إحسان عباس الذي أعتبر ترجمته لرواية "موبي ديك" للروائي الأمريكي هيرمان ملفيل نموذجا يُحتذى على مدار التاريخ، ومن بعده الناقد الكبير شكري عياد، ثم المترجم إبراهيم حمادة. ويكفي أن نضرب مثالا واحدا على تطور وصيرورة اللغة من تلك الترجمة القديمة، فكلمة التراجيديا مثلا كانت طراغوذيا، وكلمة كوميديا كانت قوموذيا الخ.
مثلث الترجمة
يقول التفكيكيون إن الترجمة فعل حضاري يشتمل على مثلث رؤوسه هي كالتالي: المؤلف/ المترجم/ القارئ. فالمترجم مستقبل ومرسل في الوقت نفسه، وهو بداية ونهاية عملية الاتصال بين المؤلف والقارئ. يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا تتمثل ترجمة المعنى في ذات المبدع، ويمكن إعادة إنتاج هذا المعنى في ذات القارئ من جديد لدى فعل القراءة مع النص الجديد.
يقول اكتافيو باث عن الترجمة إن النصوص كلها جزء من نظام أدبي متصل بأنظمة أخرى، كأنها ترجمات لترجمات. يضيف "كل نص فريد في حد ذاته، وهو في الوقت نفسه ترجمة لنص آخر. ليس هناك نص أصيل كليا لأن اللغة ذاتها من حيث الجوهر هي ترجمة سابقة، أولا للعالم غير الشفوي، وثانيا لأن كل إشارة وكل فقرة ترجمة لإشارة أخرى أو فقرة أخرى. إذن الترجمة ابتكار وعلى هذا فهي تشكل نصا فريدا".
ترجمة الشعر
ينبغي لمترجم الشعر أن يكون شاعرا، فالشاعر يعرف كيفية بناء القصيدة والطرق المثلى لصياغة الجملة الشعرية بل سبكها في إيقاع معين أو حتى وهم إيقاع يضيف به لموسيقى الكلام والنبر والصوتيات الخ. وكلكم رأيتم بعض ترجمات شعرية قام بها غير شعراء فبان النص المنقول هزيلا كأن صاحبه لا يستحق رغم أنه قد يكون حائزا على جائزة نوبل.
هناك مسألة هامة أخرى، هي أن النصوص الشعرية الرائدة تحتاج إلى ترجمة جديدة كل فترة، ولتكن عشر سنين، مثل ديوان "أزهار الشر" لبودلير ودون كيخوته والكوميديا الإلهية، لكن على يد موهوبين. فاللغة ومفاهيم الترجمة تختلف كل فترة فنستطيع رؤية النص بفهم مغاير ورؤية جديدة عن تلك التي كان يراها عليه من سبق وقام بترجمته.
الترجمة إلى العبرية
في نصوص مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل في دمشق، هناك وجهان للمقاطعة: مقاطعة مباشرة ومقاطعة غير مباشرة. لو نظرنا من الجانب الاقتصادي البحت لوجدنا مقاطعة العرب لإسرائيل قد كلفتها 100 مليار دولار حتى الآن.
للأسف تشعبت المقاطعة العربية للدولة العبرية ثلاث شعب: دول ترفض المقاطعة ودول تؤيد المقاطعة ودول بين بين تؤيد التطبيع وتعلق المقاطعة أو تؤيد التطبيع وتخرق المقاطعة. والحل الأمثل هو مقاومة الرافضين مبدأ المقاطعة والبين بين، حتى لا نكون مثل من يرفع سكينا بيد ويمد أخرى من الخلف لمصافحته ومن ثم التجارة معه. وفي عالم الأدب الأمر أخطر.
ماذا يعنينا الآن من ترجمة روايات عربية إلى العبرية، وقد فعلوا ذلك من قبل دون استئذان ودون ندم. هل يقوم هذا الأدب المترجم بتغيير الصيغة التركيبية لوعي الإسرائيلي، ولو حدث فهذه نخبة ضعيفة لا يعول عليها في منطق الصراع.
ألا يعتبر الأمر ترفا إذن لو وافقنا أو اعترضنا على الترجمة. هي لعبة إسرائيلية في هذا الوقت المفصلي من تاريخ العرب مع عنصرية جديدة. هم سيترجمون أو ترجموا بالفعل، فماذا يضير؟ المسألة تحتم أن نساند الفلسطيني حتى لو بصيغة "أضعف الإيمان"، أمام غاصبيه وقَتَلة رُضّعه قبل بالغيه. هناك هولوكوست تتم فصولها الآن بعَنَت من جهة ومقتلة من أخرى، صلف نتيجة صمت وصمت نتيجة عنّة سياسية مستحكمة.
التعددية الثقافية والترجمة
التعددية الثقافية مفهوم ثلاثي: أولا، يؤكد على غنى التنوع الثقافي. ثانيا، يؤكد على النسبية الثقافية فكل شيء في العالم ثقافة والثقافات متعادلة فيما بينها وليس لثقافة أن تطغى على الأخرى. ثالثا، يؤكد على الديمقراطية وضرورة التساوي في الحقوق والفرص مما يعني عدم الاكتفاء بمبدأ التسامح بل تجاوزه إلى مبدأ الاعتراف باختلاف الهويات الثقافية والانتقال من مفهوم فردي للحقوق إلى مفهوم جمعي يبيح للأقليات الخروج من وضعيتها الدونية نتيجة الاستغلال الطويل والاستعباد.
القليل من الاختلاف يحي الوحدة لكن الكثير منه يقتلها. والتعددية مشروعة ما دامت نسبية، لأنها تصبح في هذه الحالة عامل بناء لهوية منفتحة وغنية. لابد للفراشة أن تخرج من الشرنقة حتى لا تختنق، وهكذا آن الأوان للتعددية الثقافية أن تنفتح بحرية كاملة على الهويات المغايرة.
من هنا تأتي ضرورة الترجمة العكسية من العربية إلى الإنجليزية والفرنسية وغيرها من لغات. (ويكفي أسى أن معظم ما يُترجم من الثقافة العربية إلى اللغات السيارة في الغرب يتوافق غالبا مع ما يريد الغرب أن يسمعه عن الشرق والإسلام والأساطير التي تؤكد لهم أن الشرق شرق كما هو، لذلك فهم المنوطون وحدهم بعملية تحديثه وتطويره على هواهم ولو بوسيلة الكوكلة وثقافة الوجبات السريعة "الديرتي فود").
وكان عبد الناصر بعد 1967 قد رفع كلمة أرسطو (اعرف عدوك) شعارا، فقامت عدة جهات بترجمة بعض الكتب العبرية والتعليق عليها، لكن ذلك كله لم يستمر، وفي هذا خلط للمفاهيم وقلب للرؤى السياسية الواجب أن تطلع عليها الجماهير العربية.
المركز والأطراف
قضية المركز والأطراف ذات مصداقية وموضوعية في هذا الظرف التاريخي لكنها قضية لا يجب أن تدوم، لو كان الهدف هو الارتقاء بالثقافة العربية المعاصرة فعلا لا قولا، خاصة في عصر العولمة حيث يسعى الجميع لتشكيل ثقافة إنسانية شاملة لأول مرة في التاريخ البشري.
لقد كانت أثينا مركزا ثم صارت طرفا نتيجة عجزها عن صناعة الحديد. وكانت انجلترا مركزا تتبعه الولايات المتحدة ونرى العكس الآن. وكانت اليابان طرفا هزيلا في مركزية الثقافة الصينية واليوم صارت ندا إن لم تتفوق عليها. وهكذا نرى أن قضية المركز والأطراف مسألة انتقالية مرحلية غير مستقرة، ودوام الحال من المحال.
وبعد مرور أكثر من عقدين على المحاولات والتجارب الكثيرة للترجمة من جهة ما كان يطلق عليه الأطراف في الماضي (مثل الخليج والمغرب العربي) يمكننا أن نرصد سمات إبداعية معينة لما يأتي من ترجمات هذه المناطق، أقل ما نقوله عنها أنها مختلفة عن سمات المراكز القديمة مثل مصر وسوريا ولبنان والعراق الخ.
الترجمة والإنترنت
هناك مشكلة في الترجمة إلى اللغة العربية عبر الإنترنت رغم المحاولات المخلصة التي يقوم بها المصري رائد تعريب الكمبيوتر د. نبيل علي. لكنها لم تنجح حتى الآن سوى في الترجمة الآلية مع النصوص غير الأدبية، نشرات الأخبار المقالات العلمية التقارير الجوية وغيرها من الكلام المباشر.
ولا يجب أن ننسى تلك المحاولات الدؤوبة التي تبذلها شركة صخر العربية للكمبيوتر للترجمة الفورية على شبكة الإنترنت، وربما يعود السبب في ذلك لصعوبة القواعد الأجرومية العربية أكثر من معظم اللغات الأخرى. لكن لا يجب أن نيأس على الإطلاق، فالمستقبل منوط بالإنترنت وتطوراته في العالم كله.
مشروع الترجمة
بينما نجد أن إسرائيل مثلا تقوم بترجمة ما يزيد عن 15.000 كتاب سنويا وهي شبه دولة، نجد أن الدول العربية بأجمعها لا تترجم أكثر من ألف أو ألفي كتاب سنويا مما يدلنا على ذلك الفارق الحضاري الذي يسعى كل منهما لتحقيقه ضمن صراع الوجود. ولو قمنا بإحصاء حتى مجالات الترجمة في كل من الطرفين لوجدنا أن الأول يعمل على توسيع رقعة الترجمة في معظم المجالات، بينما يركز العرب في أحيان كثيرة على الأدب دون الفكر والفلسفة أو العلم بآفاقه الواسعة.
والمأساة أيضا أنه لا يوجد أي نوع من التعاون بين المترجمين في الدول العربية سوى في بعض المراكز الحكومية ببعض الدول التي لديها مشاريع للترجمة، مثل مشروع الألف كتاب في مصر بالستينيات والمشروع القومي للترجمة في المجلس الأعلى للثقافة بمصر حاليا، ومشروع عالم المعرفة في الكويت، ومركز الدراسات في الإمارات، ومشروع الترجمة في بعض دور النشر الخاصة الجادة مثل دار المدى وغيرها، لكنها جميعا لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة. عدا ذلك ليس سوى مشروعات فردية أقرب للعشوائية.
حركة الترجمة إلى العربية إذن تشتمل على قدر كبير من الفوضى. فهناك كتب كثيرة خاصة في المجال الإبداعي تُترجم أكثر من مرة في أكثر من بلد: مثلا رواية (الغريب) لألبير كامي ترجمت 17 مرة، وكثير من روايات ماركيز أو كونديرا وخلافه. حتى ليظن المرء أنه لا يوجد غيرها من كتب تستحق الترجمة.
وأقترح إقامة معرض للكتاب المترجم فقط يتم فيه تقديم جوائز للمترجمين تشجعهم على مواصلة مشروع حياتهم الذي يجلب ذهبا في الغرب بينما لا يجلب سوى الحسرة لدى المترجمين العرب.
إذن نرى أن مشروع الترجمة عند العرب مشروع خاص إلى حد كبير، فهو يخضع لأمزجة وأهواء المترجمين ومدركاتهم الجمالية للنصوص التي يقومون بالترجمة عنها. لكن هناك ضرورة لوجود هيئة عربية عليا للترجمة تتبع جامعة الدول العربية مثلا يتم استشارتها قبل الشروع في إصدار أية ترجمة، حتى لا يحدث تضارب بين النصوص التي تترجم في عدة أماكن دون أن يعلم بعضها عن الآخر شيئا.
ولابد هنا ألا نغمط حق بعض المترجمين العرب الكبار الذين نفذوا مشروعات للترجمة على أكتافهم وحدهم دون معين تقريبا، عبد الرحمن بدوي الذي خطط بنفسه لمشروع "الروائع المائة" نفذ منه ما يزيد عن أربعين كتابا. ثم سامي الدروبي الذي لا يقرأ أحد أعمال دستويفسكي الكاملة ومعظم تولستوي إلا مقرونة باسمه. كذلك الياس بديوي الذي قام بترجمة أطول رواية في تاريخ الإنسانية "البحث عن الزمن المفقود" في عشرة مجلدات كاملة بالإضافة إلى كثير من الكتب المعرفية في مجالات عديدة. والقائمة طويلة فهذه مجرد لوحة شرف.
مشروعي للترجمة
لابد أن تكون الترجمة نوعا من المشروع يتبناه المترجم ضمن مجمل إنتاجه. الهدف الأساسي من الترجمة هو الدعوة إلى قيم الحرية والحوار وإعمال العقل والتحريض على الإبداع. ولا يتطلب فعل الترجمة مجرد معرفة اللغتين المنقول منها والمنقول عنها بل أيضا معرفة بالإيقاع أو وهم الإيقاع على الأقل حتى يتسنى للمترجم تبليغ الأصل إلى الوسيط الجديد مشحونا بما فيه من مشاعر وتصورات وإيقاع ورؤى وخلافه، ومقياس نجاح الترجمة في رأيي على الأقل هو أن يحس القارئ بالنص المترجم كأنه مكتوب بالعربية أصلا لا مترجما أو منقولا عن لغة أخرى.
أحاول أن أعتمد على ذوقي الخاص ومعرفتي بالأدب في اختيار النصوص التي أترجمها، ومقياس الترجمة عندي ليس شهرة الأديب أو المفكر (رغم أنني ترجمت لأكثر من واحد نال جائزة نوبل: رواية جاز لتوني موريسون، مختارات ديريك والكوت شكسبير أمريكا اللاتينية، اكتافيو باث، جنتر جراس وغيرهم) لكن تحدوني رغبة عارمة في أن أطلع الآخرين على العوالم الأدبية لمن لم يُترجم لهم من قبل (ديوان قصائد حب لآن سكستون، رسائل عيد الميلاد لتيد هيوز، ومقالات عراب ما بعد الحداثة "إيهاب حسن" المفكر المصري المقيم بأمريكا، الخ) أو أقوم بترجمة التجارب الروحية الكبيرة في العالم (رباعيات مولانا جلال الدين الرومي والشاعرة السويدية اديت سودرجران ورحلة الحج البوذية لسانتوكا تانيدا) أو أترجم للشعراء الهامشيين في خارطة العالم (أشعار الغجر وأفغانستان وغيرهم) مما يعن لي أحيانا.
في البداية كنت أتوجه للترجمة على أنها سوف تفيدني شعريا، حيث أن طريقتي في كتابة الشعر غامضة نسبيا ولم يكن الكثيرون يستسيغونها، فجربت أن أترجم لهم النماذج الشعرية والتنظيرية التي تفيد في التعامل مع نماذج الغموض في الشعر وحتى لا يدعي أحد أن الشعر لابد أن يكون واضحا كالماء لا عميقا كالعدسة.
بعد ذلك اتسع المشروع عندي ليشتمل على الرواية أيضا، فكانت ترجمتي لرواية "جاز" لتوني موريسون التي كنت أراها قريبة من الشعر الذي أكتبه. فهي مزيج من فوكنر وجيمس جويس وجيمس بولدوين، ولذلك كان عشقي للنص لأن فيه انتصارا لوجهة نظري في الفن وكتابة الشعر بشكل عام.
قد يسألني أحدكم لماذا إذن قمت بترجمة كونديرا وهو المعروف عنه أنه لا يهتم بالمجاز في إبداعاته، بل يكتب جملة عادية تشبه كتابة الجرائد، لكني رأيت فيه نموذجا حديثا لكتابة الرواية حيث لا يقدم كونديرا كتابة أسيانة تتصل بحكاية الذكريات أو التجارب التي يمر بها الكاتب، بل يقدم صورة معرفية بانورامية للشخصيات يستزيد بها القارئ من المعلومات والنقد الجمالي لمفردات الواقع. فكان رأيي أن أقدم روايته الأثيرة التي لم يقدمها أحد قبلي "فالس الوداع" عام 1998.
بعد ذلك جاء ديوان "قصائد حب" للشاعرة الأمريكية آن سكستون، وهي شاعرة شديدة الحسية تتعامل مع أعمق أحاسيس جسمها. وكان ذلك في الوقت الذي أترجم فيه تجربة أخرى شديدة الروحانية هي رباعيات مولانا جلال الدين الرومي التي قدمتها للمرة الأولى في اللغة العربية. وتعاملي مع تجربتين حسية وروحانية في نفس الوقت يدل على أن الإنسان طاقة كبيرة يمكنها أن تستجيب للحالتين معا.
بعد ذلك جاءت إدارتي لتحرير سلسلة "آفاق الترجمة" التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، وهي سلسلة للترجمة رخيصة الثمن (جنيه واحد) لكنها تقدم ترجمات قيّمة للغاية، فقد قمت بإصدار خمسة وخمسين عددا من السلسلة لم أخضع فيها لأحد، بل كان مبتغاي هو تحقيق نموذج حقيقي للعمل العام يمكن احتذاؤه.
وقبل مجيئي بسنة واحدة إلى الإمارات انضممت إلى هيئة المشروع القومي للترجمة الذي يصدره المجلس الأعلى للثقافة في مصر، والتي يشرف عليها د. جابر عصفور. وأعتقد أنني تركت أثرا فيه فقد عهدت إلى فنانين كبيرين لتنفيذ تصميمات الكتب، الفنان منير الشعراني للكتب الفكرية، والفنانة ميسون صقر لكتب النصوص الأدبية.
في النهاية أكلمكم عن آخر أبنائي، ترجمتي لديوان تيد هيوز "رسائل عيد الميلاد"، وهو آخر ديوان أصدره هيوز قبل وفاته بالسرطان بشهرين. كتب الديوان عن زوجته سيلفيا بلاث التي قيل أنه سبب انتحارها. والديوان يقدم تجربة ثرية مليئة بالمجازات المختلفة ويدخل الشعر في مناطق باهرة لم يألفها من قبل.