( 1 )

ناظم عودة

يتجدد الشجار النقدي باستمرار حول احدي القضايا المركزية في الثقافة العربية، إنها قضية الحداثة، بوصفها مجموعة من الأفكار والفرضيات والممارسات التي اخترقت الثقافة العربية شأنها شأن أية ظاهرة أخرى سواء أكانت ثقافة او مادية، وشغلت حيزا كبيرا في إعادة الحديث عن مشكل التراث وعلاقته بإنتاج الفكر الجديد، وعلي الرغم من ان هذه القضية لم تكن وليدة اختراق الحداثة لجسد الثقافة العربية إلا ان مراجعة التراث العربي بعد سلسلة التطورات التي جرت علي نظرية المعرفة منذ مطلع القرن العشرين تمنح المراجعة أهمية خاصة. بيد ان الكلام علي الحداثة الشعرية غالبا ما يأتي، كارتباط شرطي، بمحسناته الجدالية، فيحضر أدونيس، وتحضر معه قصيدة النثر، وتحضر مع هذين الحضورين حضورات ورغبات لا حصر لها. أريد من خلال هذه الدراسة تجلية بعض القضايا في كتابات ابرز من كتب عن أدونيس وعن حداثته، تعقبها دراسة عن قيمة أدونيس بوصفه شاعرا، وبوصفه منظرا، وأريد ان أتحدث عن مفهوم الحداثة ودلالاته في الثقافة الغربية ومن ثم دلالاته في الثقافة العربية، وعن أصول هذا المفهوم ايضا.

لا يمكن النظر الى ما كتبه الدكتور الغذامي عن أدونيس علي انه دراسة تتعلق بشعره او بتنظيراته حسب، وإنما الأمر ابعد من ذلك بكثير، فالرجل يتبنى مشروعا جديدا ذا لباس ثقافي في المقام الأول، فهو يعيد قراءة الثقافة العربية كما يشي بذلك عنوان كتابه النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية وان كان يقتصر علي (النسق) الشعري وحده دون غيره من (الأنساق) الاخري، بيد ان الغذامي يرغب في قراءة أعماله الأخيرة كلها معا، ليؤكد تحولاته النقدية، وليعزز فرضيته المركزية في النقد الثقافي من جهة أخرى. ولكن علينا ان نثمن بعض نظراته في الوقت الذي نحدد بعض التباسات قراءاته، كما نحدد محاذيره المنهجية والثقافية للآخرين التي تسربت بغفلة منه إليه. ولكن قبل ذلك أريد ان أتحدث عن دراسته ما بعد الأدونيسية، شهوة الأصل المنشورة في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة فصول المصرية في عام 1997 وأطلقت عليه الأفق الادونيسي، وأعاد نشرها في كتابه تأنيث القصيدة والقارئ المختلف الصادر عن المركز الثقافي العربي في عام 1999. يقدم الدكتور الغذامي في هذه الدراسة وجهة نظر قائمة علي فرضيتين: الأولى تنمط (قارئ) أدونيس، والثانية تنمط أدونيس نفسه فتجعل منه ذاتا تأليفية واحدة. والشأن الذي لا بد من أخذه بالحسبان إنما هو تلك المسافة المنهجية التي تفصل أدونيس (الشاعر) عن أدونيس (المنظر). وبمقتضي ذلك سيتم تصنيف (قارئ) أدونيس الى: قارئ شعري يتماهى بتخييلات أدونيس، وقارئ معرفي يبحث في الخطاب النظري الذي يصوغه أدونيس بصدد الثقافة العربية عن معرفة فاعلية العقل العربي المعاصر، وعن قدرته علي التلاقح الثقافي مع الآخر. واذا ما ارتضينا بذلك التصنيف فان هذا الإجراء سيسهم في إزالة اللبس المنهجي الذي طالما كان آفة الثقافة العربية. ان أهمية هذا التصنيف تفيدنا في ان أفق انتظار القارئ الأول يختلف عن أفق انتظار القارئ الثاني، فإذا ما كان الأول يستحضر في ذهنه أثناء القراءة الموروث النوعي لجنس الشعر بكل ما يصاحبه من ظواهر فنية وجمالية، فضلا عن رغبة ذات القارئ الشعري في النفاذ الى العالم الوهمي للصورة والتخييل والترميز والموسيقي. وفي هذا وظيفة كان قد أشار إليها قديما أرسطو (التطهير)، وأشار إليها حديثا فرويد (التسامي)، فان الثاني يستحضر في ذهنه الموروث الفكري والثقافي المتمثل في الحركات والنزعات ذات التوجه التجديدي. الأول يمتاز بحضور الذات بقوة، والثاني يمتاز بتغييب الذات ليستحضر المنطق، منطق الفرضية وقدرتها علي التحلي بالموضوعية وبانسجام منطق الخطاب. وفي ضوء هذا الفصل لا يمكن تسويغ تساؤل الغذامي ما جدوى التحديث إذا ما رفض المجتمع وعامة الناس هذا المشروع واقتصرت الحداثة علي نخبوية اصطناعية، هذان سؤالان لا يمكن ان يغيبا عن قارئ أدونيس (1). فإذا ما كان التحديث (ومفهوم التحديث يختلف عن مفهوم الحداثة طبعا، لكن الغذامي يدرجهما في عبارته بمعني واحد، وقد قام جورج بلاندييه (ہ) بوضع فروق أساسية بين المفهومين) يتعلق بالجانب المادي، فالأمر لا صلة له بأدونيس الشاعر البتة، فثمة منظومة كبري تتكون من سلسلة من المشاكل والعقد الاجتماعية المتصلة ببعضها تماثلها في الصفات ذاتها سلسلة سياسية واقتصادية وتكنولوجية، أما إذا كان التحديث يتعلق بالجانب الثقافي، فالمفهوم متسع من جهة، وفرضية الغذامي تعيد الى حلبة الجدل الفكري المقولة الماركسية في (حتمية) التطور والتدهور بين البني التحتية والبني الفوقية من جهة أخرى، ولا اظن ان الأمر يخدم فرضية الغذامي، لان ذلك سوف يستل أدونيس من عجين الاتهام، أما إذا كان المقصود بالتحديث عند الغذامي التحديث الشعري فلا يخفي ان الشعر يشغل حيزا محدودا في بنية الفكر الاجتماعي، ولم يكن عندنا مقياس اجتماعي في النظرية النقدية يقيم نجاح الأعمال الأدبية او إخفاقها، فالمقياس الاجتماعي هو مقياس ذوقي وانطباعي، ولا اظن ان الذوقية والانطباعية تأتلف مع التوجهات النقدية الجديدة للغذامي في مشروعه الثقافي، فتبني الانطباعية يعني رجعية النقد الثقافي نفسه، وعند ذاك ستكون عندنا رجعيتان: الأولى ينسبها الغذامي الى أدونيس، والثانية ينسبها لا شعوريا الى نقده الثقافي. ان المقياس النخبوي الذي يتمسك به الغذامي بوصفه معيارا يقيم به مشروع أدونيس الشعري والحداثي فينعته بالمشروع الرجعي سوف لن يشفع المقياس المضاد (المقياس الجماهيري) لنزار قباني بالتملص من تهمة الرجعية ايضا من لدن الغذامي، يقول: وليس الاثنان معا، نزار وأدونيس، إلا جوابا ثقافيا نسقيا مضادا، وان بدا الأمر علي غير ذلك (2) وهنا يخرج الحكم من كونه حكما علميا الى حكم آخر ذي صفات أخرى.
ويأتي التناقض الآخر فيما كان يشدد عليه الغذامي في فرضية النقد الثقافي وهو مقياس القاعدة الجماهيرية لتلقي الأدب حينما عد ألف ليلة وليلة من الأدب الراقي علي الرغم من عدم اعتراف (المؤسسة الثقافية) بذلك، كما يقول، فمقياس الرقي عنده هو التداول الشعبي الذي تتمتع به هذه الحكايات. ولم يكن ذلك المقياس طارئا في فرضيته فهو يري ان النقد الأدبي (اعلن خروجه من عالم النقاد وذلك في محاضرة له في مؤسسة عبد الحميد شومان الثقافية في الأردن في نهايات 2001) ظل طوال العقود الماضية يعني بالأعمال التي تجيزها (المؤسسة الثقافية) غافلا الأعمال الاخري الأدبية وغير الأدبية التي تتمتع بقاعدة جماهيرية كبيرة كالأغنية والدراما التلفزيونية والرياضة والنكتة والإشاعة. وهذه الأعمال هي المجال التطبيقي الجديد الذي يتوجه إليه (النقد الثقافي)، واذا ما علمنا ان هذه الأعمال الشعبية هي البديل الذي يقترحه أصحاب (ما بعد الحداثة) والمنظرون لهذا الاتجاه ايضا كـ(لسلي فيدلر وإيهاب حسن) فان تقويضا ما سيصيب البناء النظري الذي يؤسس عليه الغذامي مقولاته بشأن أدونيس الحداثي، وبشأن رجعية الحداثة، فإذا ما كانت الحداثة التي تتمتع بنوع من العقلانية (كما يتبين من التصنيفات التي عملها إيهاب حسن(3) في جدول فروق بين الحداثة وما بعد الحداثة) تحظي بهذا الوصف الرجعي، فماذا سيكون وصف نزعة ما بعد الحداثة في تقييم الغذامي؟ الذي يتبنى هو نفسه الأفكار والفرضيات الثقافية لهذه النزعة. ففي الستينات كان فيدلر يتحدى نخبوية التراث الحداثي الراقي، باسم الثقافة الشعبية (4) وتابعه إيهاب حسن في اكتشاف حاجز التحطيم الذاتي الذي كان جزءا من تراث الصمت الأدبي، فن الـPOP والصمت، او ثقافة الجماهير والتفكك (5) ويري إيهاب حسن ايضا ان ما بعد الحداثة اقل مقتا للـ POP.. وأكثر ترحابا بالفن المتدني Kitsch.. (6) وفي جدول الفوارق ما بين الحداثة وما بعد الحداثة الذي عمله إيهاب حسن يمكن ملاحظة ان خصائص الحداثة اقرب الى العقلانية من خصائص ما بعد الحداثة الجانحة الى الفوضى والمطلق واقصى حدود التمرد والتجريب في الأشكال والمعاني والقيم، واستنادا الى ذلك لا يمكن ان يكون مقياس التقييم الذي اقترحه الغذامي مقاربا لدقة الحكم العلمي.
يري الغذامي أن أدونيس يبدو مشغولا انشغالا مصيريا بفكرة الأصل (7) وهذا في رأيه يتعارض مع مبادئ الحداثة. وربما يشير من خلال ذلك الى أزمة الفكر الادونيسي الذي لا يستطيع ان يطرح بديلا للبني الأدبية او الثقافية التي يرفضها. ان قضية (الأصل) عند أدونيس ليست سوي ذلك الصراع الذي ينمي الى تاريخ الفكر الحداثي والمتعلق بطرح الثنائية الشهيرة: الحداثة والتراث، وهنا لا بد من الإشارة الى ان فكرة (الأصل) هي احدي خصائص الحداثة، وفي الوقت نفسه هي احدي خصائص حركات التحديث الغربية والعربية معا، ففي عصر النهضة الأوروبية كانت ثمة عودة الى التراث الإغريقي والروماني، وفي عصر النهضة العربية كانت ثمة عودة الى التراث العربي، وقبل هذا وذاك، كانت حركة تحديث الثقافة العربية في القرن الثاني الهجري وما تلاه تعتمد آلية العودة الى تراث الصحراء اللغوي والأدبي لتحديث أنماط تلك، الثقافة، وعلي هذا الأساس كان رجوع بشار بن برد وأبي نواس الى تراث الصحراء، آي الى الأصل. ولكن ما الرابط بين هذه (العودات) كلها؟ يربط سمير أمين نشأة الحداثة بانعتاق الإنسان من تحكم النظام الكوني، وكذلك بتحول الفكر الفلسفي من فكر ميتافيزيقي الى فكر عقلاني(8). وقد كانت العودة موسومة دائما بالبحث عن ضرب من التوجهات العقلانية، ويعني ذلك أنها تبحث عن إقامة صلة بالتجديد الدائم الذي ينبع من علاقة واعية بالواقع، وهذا ما يفسر إلحاح أبي نواس علي نبذ تقليد تجربة الوقوف علي الأطلال من لدن الشعراء العباسيين، لأنها تجربة خالية من البعد الزمني والبعد المكاني في ممارسة هؤلاء الشعراء، وهذا عامل مهم لجعلها تجربة شبيهة بالتجارب الميتافيزيقية. لا تعني العقلانية هنا ذلك المنطق الذي ينسب لفلسفة ديكارت، بل هي نوع من الوعي المعاصر لطبيعة التحديث، وبكيفية التحديث، وبقدرة التحديث علي الإقناع الجمالي، وبصدق التجربة الفنية، وبحجم الفكر الإنساني الشاخص في هذه التجربة. وهذا ما تجسد في مشروع السياب لتحديث الشعر العربي، فهو يعي مكمن الأزمة ويمتلك القدرة، والمشروع التحديثي الذي قدمه لم يكن مشروعا يتصدره بيان شعري كما فعل كثير من الذين توهموا الشعر والتجديد معا، ودونوا في بياناتهم كل أحلامهم وأوهامهم التي لا تتحقق إلا بالكلام حسب. وقد أراد أدونيس في الثابت والمتحول ان يقوم بجهد فيه كثير من آليات الإحصاء لإبراز الفكر التجديدي، والحركات التجديدية، والأسلوبيات التجديدية ايضا، وهو يعقد صلة دائمة بين الحداثة والتجديد، وربما ينظر اليهما بمنظار واحد، وينبغي ان نعلم ايضا ان هذا العقد الدائم لم يغب عن دعوات أصحاب الحداثة منذ نرفال وبودلير، فالتمرد يأتي بعد سيادة وشيوع التقليد، وبعد اعتياد الذائقة علي نمط من البني والأفكار. ان أدونيس يفرق بين (الأصل) و(التقليد) فالأول عنده يتمثل بالشعر الجاهلي والقرآن الكريم والحديث الشريف، ويتمثل التقليد بـ النتاج الذي استعادهما في العصور اللاحقة بطريقة تنميطية اجترارية (9) وهذا التنميط والاجترار هو الذي جعل أبا نواس يرفض عادة الوقوف علي الأطلال من طرف الشعراء العباسيين وليس من طرف الشعراء الجاهليين. وهو حينما يكون شغوفا بفكرة الأصل لا يعني شغفه بالتقليد كما يظن الغذامي، وإنما يعلن شغفه بالأصل المؤسس للتجديد الذي يشكل هوية ثقافية في تاريخنا. ليست من المدافعين عن الحداثة كمشروع فكري، لكنني أريد القول ان الحداثة ظاهرة تشكلت في التاريخ فهي ظاهرة تاريخية قائمة علي جملة من الاعتبارات، وعلي هذا الأساس فهي مشروطة بظروفها، محدودة بحدود زمنية ترسمها الصيرورة علي خط التطور، فهي تختلف، إذن، من مكان لآخر، من تجربة تاريخية لأخرى (10) وبمقتضي هذا الشرط علينا ان نخضع مشروع الحداثة العربية، في الشعر تحديدا، الى قراءة الخطاب نفسه، قراءة خالية من الموجهات الوجدانية المسبقة، وخالية ايضا من الموجهات التي تريد ان تنسجم مع وضعية ثقافية ذات سلطة كبيرة مثلما أراد الدكتور الغذامي ان ينسجم مع خطاب المؤسسة الثقافية الدينية في بلاده بخصوص صياغة وجهة نظر حيال أدونيس.

في مستهل كتابه: النقد الثقافي، يتساءل الدكتور عبد الله الغذامي: هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟(10). وبعد ان يمضي بالبحث قدما يقرر: ليس الجمالي إلا غطاء تتقنع به الأنساق لتمرر هيمنتها علي الذائفة العامة متوسلة بحراسها الفحول و أدونيس من أبرزهم ولا شك(12). وما يستصفي من فرضية الغذامي في النقد الثقافي هو ان ثمة انساقا ثقافية حاملة عيوبا تحتال بوسيلة ما حتى تتحجب بها وتخفي عيوبها، وليس (الجمالي) سوي احد تلك الأقنعة الزائفة التي تتقنع بها الأنساق بغية الإخفاء، وبمقتضي هذا المستصفي سيعد الغذامي كل دعاوى أدونيس في الحداثة.. خطابا لفظيا لا يؤدي إلا الى مزيد من النسقية الرجعية (13) ويتزامن ذلك كله ومحاولة الغذامي ان يكشف الخلل في الخطاب النقدي، فيقرر ان ما يتراءى لنا جماليا وحداثيا في مقياس الدرس الأدبي هو رجعي ونسقي في مقياس النقد الثقافي (14) وبعد ذلك سيكون الشعر هو المسئول عن شعرنة الذات وشعرنة القيم (15). وبعد هذا التقرير لا يمكن النظر الى افكار الدكتور عبد الله الغذامي بشأن أدونيس وبشأن الحداثة علي إنها افكار نقدية محضة لمشروع الحداثة العربية في الشعر، وإنما الأمر يتعلق بقضية مزدوجة يسعى الغذامي الى بسطها من خلال ما طرحه من فرضيات تتعلق بالنقد الأدبي بوصفه منهجا وبالحداثة بوصفها مشروعا للتجديد. والقضية متلازمة في عرفه وفي دأبه الأخير لإعادة النظر في الاصول الفكرية التي توجه عمل المنهج في النقد بعامة، واذا ما أردنا ان نعرف ما يختبئ ثقافيا خلف إعلان الغذامي رجعية الحداثة العربية ورجعية أدونيس ونزار قباني وغيرهما من الشعراء ينبغي علينا ان نلمّ بالسيرة النقدية للغذامي وبالتحولات التي طرأت علي كتابته النقدية منذ منتصف الثمانينات حتى مشروعه الأخير الذي أطلق عليه: النقد الثقافي، وتلك مسألة أخرى نناقشها لاحقا في إطار الحديث عن منهج الغذامي في النقد الثقافي. ان الاقتباسات الأربعة الآنفة يمكن إجمالها في أربع قضايا أساسية تتفرع الى قضايا أخرى.

  1. رجعية الحداثة العربية.
  2. الجمالي بوصفه قناعا نسقيا.
  3. لفظية الحداثة الادونيسية ورجعيتها النسقية.
  4. شعرنة الذات وشعرنة القيم.

(2)

جماليات أدونيس نخبوية مرة
ومرة ثانية مهيمنة علي الذائقة العامة!

ناظم عودة

يعتمد الغذامي في ما يقرره بشأن الحداثة العربية علي (الشعر) بوصفه وثيقة تاريخية وفكرية صالحة لتكوين صورة حكم نقدي قيمي علي مرحلة ثقافية وفكرية ذات امتداد زماني وذات تنوع في شكل الخطاب وفي مضمونه. ولم يكن ذلك ممكنا من الناحية المنهجية، لان الشعر لا يصح ان يكون وثيقة علي التاريخ بل التاريخ يصح ان يكون وثيقة علي الشعر. وبشأن هذا التساؤل المركزي الأول الذي ما يلبث الغذامي يردده في اكثر من موضع في كتاباته النقدية، يمكن القول ان مشروع الحداثة العربية ينطوي علي أربعة جوانب:

ـ الأول، فكري، يتعلق بمنظومة الأفكار الجديدة التي تتمتع بخواص التفرد والتمرد والتجاوز والغرابة وزحزحة منطق اليقينات، علي النحو الذي حدث مع متنوري النهضة العربية حينما واجهوا افكار دارون واوغست كونت وديكارت وسبينوزا وماركس ونيتشه وسيمون وآخرين، وكان متنورو النهضة يهدفون الى ان يجعلوا العقل يتطور بتطور المعقولات والمحسوسات، ولا ريب في ان هؤلاء المفكرين يتفقون في شيء أساسي وهو مناهضة الركود العقلي في النظر الى الأشياء وفي تفسيرها، ومناهضة منطق التقليد. وانتقلت هذه المناهضة الى المفكرين والإصلاحيين العرب، فقد التفت الشيخ محمد عبدة لفتة نابهة حينما قارن بين عالم الإسلام (الشرق) وعالم المسيحية (الغرب) مقارنة تبين حركة العقل الشرقي والعقل الغربي في التطورات المادية والتاريخية التي حدثت منذ ظهور الإسلام، فهو يري، مثلا، ان الديانة المسيحية بنيت علي المسالمة والمياسرة في كل شيء (1) أما الديانة الإسلامية فقد وضع أساسها علي طلب الغلبة والشوكة والافتتاح والعدة ورفض كل قانون يخالف شريعتها ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاة علي تنفيذ أحكامها، والناظر في أصول هذه الديانة ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكما لا ريبة فيه بان المعتقدين بها لابد ان يكونوا أول ملة حربية في العالم، وان يسبقوا جميع الملل الى اختراع الآلات القاتلة وإتقان العلوم العسكرية (2) لكن الأمر معكوس كما يري الشيخ، فالأمم المسالمة تحولت الى أمم حربية أنشأت صناعات راقية واتجهت الى استعمار الشعوب، والأمم الحربية التي كانت راقية الصناعة (وهو يضرب مثلا بمحمود الغزنوي الذي استعمل المدافع في حربه ضد الهند وادخل إليها الإسلام في الوقت الذي كان الغرب لا يعرف شيئا عن صناعة المدافع) أصبحت لا تعرف شيئا عنها في العصر الحديث (3) ولا يترك الشيخ محمد عبدة ذلك دون ذكر للمسببات، فهو يرد تلك الصحوة الصناعية الى الصراع الذي دار بين الأباطرة الرومان والمسيحية فانفسح لهم مجال الفكر.. وكانت براعتهم في الفن العسكري واختراع آلات الحرب والدفاع مساوقة لبراعتهم في سائر الفنون (4) إما المسلمون فبعد ان نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، واخذوا عن كل كمال حربي حظا، وضربوا في كل فخار عسكري بسهم.. ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه، وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر، وضربت في الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال (5).
ـ الثاني، نظري، يتعلق باستيعاب النظرية والوقوف عند بعض معضلاتها، ومن ثم محاولة الطرح النظري الخاص، علي النحو الذي جسدته كتابات طه حسين وسلامة موسي ومحمد مندور وعباس محمود العقاد ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ومحمد النويهي ونازك الملائكة (الناقدة) وحسين مروة وغالي شكري وآخرين. ونحن هنا أمام تنوع نظري يشمل المنهج التاريخي المعدل بفرضيات (ديكارت) العقلانية، او المنهج التاريخي المعدل بفرضيات (لانسون) التي تلح علي إبراز الجانب الروحي القومي، او المنهج القائم علي توجهات إيديولوجية اشتراكية وماركسية، او المنهج الذي انبهر بفرضيات فرويد التي أسست علما لتأويل العالم اللاشعوري المتجسد في السلوك الإنساني، او المنهج الذي يمكن تسميته بالمنهج (الفيلولوجي) القائم علي تفسيرات لغوية حسب. وعلي ذلك فنحن أمام حداثات نقدية مختلفة لا يمكن تنميطها في نمط واحد. وتوضح لنا معرفة ذلك الاختلاف رؤية أدق في توصيف الجانب الرجعي في مشروع الحداثة العربية، وهنا يكمن اعتراضي علي مسعى الدكتور الغذامي الى تنميط نماذج الحداثة والنظر إليها نظرة واحدة محصورة في أدونيس وحده.

ـ الثالث. مادي، يتعلق بعملية تحديث المجتمع العربي من النواحي المادية والتقنية.

ـ الرابع، جمالي، يتعلق بتحديث الوسائل والأشكال الفنية للتعبير عن عالم الروح، علي النحو الذي جسده السياب ونازك والبياتي والحيدري في حركة الشعر الحر في العراق، وعلينا ان نقر هنا ان ذلك لم يحدث دونما موطئات، كمحاولات علي احمد باكثير ومحاولات لويس عوض في بلوتولاند، ودونما أصول تراثية ايضا، كالمحاولات التي تقرن حركة الشعر الحر بشعر البند.
وقد أوجدت هذه الجوانب الأربعة مجالا للتصادم بين القديم والحديث، علي النحو الذي جري بين انطون فرح ومحمد عبدة، او بين انطون فرح وجمال الدين الأفغاني، وما تمخض عن هذا الحوار من ولادة مفاهيم وأفكار جديدة بشأن علاقة الدين بالسلطة او الديمقراطية والحكم او التوجه العلماني او العدالة او الحقوق الفردية. وقد تمخض ذلك الحوار بين السلفيين والليبراليين عن رؤية جديدة للواقع وللفكر تعطي دفعا للحياة الى الأمام، لا يمكن وصفها بالرجعية. وكذلك تساؤلات طه حسين بشأن اليقينيات المنهجية في دراسة الأدب الجاهلي وما دار بينه وبين التيار السلفي من جدال قد أحدثت انعطافا في طبيعة الدراسات الأدبية، علي الرغم مما قيل بشأنهما (انطون فرح وطه حسين). وهذا هو قانون الأفكار الجديدة بعضها يثير اسئلة وبعضها يؤسس وبعضها يندثر. ولم تكن حركة الشعر الحر في العراق اقل جلبة فقد تألب الشعراء والنقاد والمثقفون العراقيون والعرب ضد هذه الحركة التجديدية، لكنها لم تكن حركة طارئة بل حركة تعي مكمن الأزمة في القصيدة العربية، وقد ترك ذلك الوعي وتكريسه شعريا أثارا في تاريخ الشعر العربي لا يمكن تقليل شأنها. وبعد ذلك يصبح من التعميم اللامنهجي القول برجعية الحداثة العربية، ولكن الغذامي ينظر الى الحداثة العربية من منظور شعرية أدونيس حسب، ومن اجتزاءات مختزلة تتمحور في حديثه عن الأنا الادونيسية بتضخماتها المسرفة بالتعالي الأسطوري في تفرد هذه الذات وتميزها الخرافي، فهي تري ذاتها بأنها: أنا العالم مكتوبا، وأنا المعني، وأنا الموت، وأنا سماء وأتكلم لغة الأرض، وإنما التموج، وأنا النور، وأنا الأشكال كلها، وأنا الداعية والحجة (6) ويشعر الغذامي بالحرج حين يلتفت الى نفسه فيجدها تحاكم المتخيل محاكمة عقلية صارمة شبيهة بمحاكمة السفسطائيين من لدن سقراط فما كان تهويما بلاغيا في نظر سقراط تحول الى مبادئ براغماتية في نظر برتراند رسل، وبصدد ذلك يقول الغذامي مبررا حرجه ويجب علينا هنا ان نحتاط لأنفسنا فلا يأخذنا الوهم الى ابعد مما يصح، اذ ليس من الصحيح ان نتصور ان هذه المقولات مجرد تعبيرات شعرية مجازية (7).
وهو يري أنها ليست كذلك لأنها مكرورة عن شعراء سبقوا أدونيس إليها (8) ولأنها تتكرر عند أدونيس في خطابه التنظيري تماما مثلما هي في أشعاره (9). واذا ما اقتنعنا بهذين السببين فسنري ان تكرارها يكرس كونها شعرية متخيلة ذات أغراض دلالية لا تتطابق بالضرورة مع ما يرمي إليه الغذامي، ولا يعني هذا التكريس ان المتخيل ضد العقل، لكننا لا بد ان نحترز من خداع الوسيلة المتخيلة، فقولنا: أنا الموت، له تفسير عقلي يختلف عن تفسيره التخيلي، فالأول يباشر الدلالة منذ اللحظة الأولى، والثاني لا يباشرها إلا بعد ان يستحضر لها مسوغات التأثير والاستجابة. وهذا شرط لا بد من وضعه في الحسبان في النقد الثقافي ولا أقول في النقد الجمالي. وعلي وفق هذا الشرط يمكن ان ننفي الصفة اللفظية عن حداثة أدونيس من جهة ونؤكدها من جهة أخرى. ولكن كيف؟ لا يمكن الحكم علي تجربة أدودنس الشعرية والقول فيها أنها محض حداثة لفظية، لأنها تختزن تصورا جديدا للعالم وللأشياء من وجهة نظر أدونيس نفسه، المثقف الذي قرأ التراث والمعاصرة في أطروحة أكاديمية فوضع يده علي كل الحركات التي تغاير وتختلف عن السائد من ناحية لغة الخطاب، ومن ناحية الخطاب نفسه، وعلي هذا الأساس لا بد ان نقترح تاريخا للروح ايضا حتى نعاين التطورات التي حدثت في عالم الروح مثلما نعاين التطورات التي حدثت في عالم المادة ايضا، فقد كان أدونيس يبحث في اللغة عن وسائل أخرى تعبر بدقة عن قلق الروح الذي لا ينضب. ان هذا الافتراض يؤكد لفظية حداثة أدونيس في مضمار الشعر الذي ينأى عن كل شكل من أشكال الحداثة حينما لا تكون البداية من تحديث اللغة نفسها. واذا ما كان الغذامي يرمي الى ان افكار أدونيس التجديدية لم تتحقق في واقع الحياة الثقافية فكأنها محض ألفاظ فارغة من المحتوي الواقعي فان التنبؤ بالنتائج قبل المقدمات لا يجوز من الناحية المنطقية، وهنا يمكن التساؤل، هل من الممكن ان يحجم المشرع القانوني لمجرد ان يخطر في خاطره استحالة تطبيق شرعته؟ ان عامل الزمان وما يحوط به من ظروف وأحداث وتطورات شرط منهجي في كل محاولة لدراسة بناء ثقافي او أدبي، فعامل الزمان هو الذي يجعل الغذامي يغفل عن رؤية (النسقية) في خطاب أدونيس في فترة سابقة وهو الذي جعله ايضا يتنبه لها فيما بعد.
وعودا علي بدء باتجاه الغطاء الجمالي الذي يقرره الغذامي أريد ان اكشف عن طريقته في توجيه الكلام الى الوجهة التي يريدها هو نفسه، لا الى ما يريدها المقتضي المنهجي، فهو مثلا يؤكد نخبوية حداثة أدونيس، كما مر في القسم الأول من هذه الدراسة ليؤكد حكما آخر غير الحكم الذي يقرره الآن، فأدونيس النخبوي تحول الى احد الحراس الفحول علي الذائقة العامة بحسب تعبير الغذامي، فالأمر، إذن يتغير بحسب مشيئته، مرة جماليات أدونيس نخبوية ومرة مهيمنة علي الذائقة العامة. ومرة يري في اسم أدونيس انه يخضع للأب وينصاع للتعليمات (10) ومرة يقول هذا المسمي الرسمي الذي اختاره صاحبه رافضا الاسم الذي منحه له أهله (11). ولا يقتصر الأمر هنا علي الغذامي حسب وإنما يشمل قراءة عبد العزيز حمودة وفوزي كريم وآخرين، ففي الوقت الذي يري الدكتور عبد العزيز حمودة ان الحداثيين ومنهم أدونيس يعتنقون فكرة القطيعة المعرفية مع التراث، وهو يؤاخذهم علي ذلك، فان الغذامي يؤاخذ أدونيس علي انبهاره بفكرة (الأصل) فهو دائم البحث عن أصل. وفي الوقت الذي يري الغذامي (الأنا الطاغية) المتضخمة لدي أدونيس، ويري ان تفحيل الذات مبالغ فيه، يري فوزي كريم عكس ذلك فهو يدعوه الى ما اسماه (التجربة الروحية الفردية) في كتابه ثياب الإمبراطور، وسنتحدث لاحقا عن عبد العزيز حمودة وفوزي كريم وآخرين في إطار مراجعة مشروع الحداثة العربية.

ناقد وأكاديمي من العراق يقيم في الأردن