أسامة عبد الرزاق الشحماني
(العراق/زيورخ)

الشاعر الكبير محمود البريكان، آنية الصمت التي تشكلت وانكسرت في جنوب العراق لتكشف عن تجربة شعرية خاصة ومتفردة خاض فيها البريكان لوحده ليعكس القلق الوجودي للإنسان، والهم الكوني الذي يخطفه أحيانا من عالم الواقع الى عالم الميتافيزيقا.

ان أي قراءة متأملة في القليل الذي نشر من الكثير غير المنشور من شعر البريكان تكشف عن معالم تجربة تعني بالإنسان جوهرا.. بغض النظر عن سياقه التاريخي او جنسه او انتمائه او موقفه، لذا فهي تجربة شعرية تفتقد في مضمونها لظلال أي شاعر آخر، وان كانت العملية الإبداعية بشكل عام لا بد لها من الاتكاء علي ارث سابق، علي ان نصوص البريكان تتفرد بأبعاد رؤيوية مغايرة، قد تصل الى حد الالتباس عند القارئ غير المتمرس، ولا سيما ان البريكان يخاطب قارئا خاصا اذ يقول:

اشتق من ذاتي قارئا علة غراري واعلم ان الآخرين أحرار (1) ومن هنا كانت لغة البريكان الشعرية ذات فاعلية رمزية تتعامل مع الذهن مباشرة لأنها نابعة من الإمعان الادراكي في الوجود الذي ينزع الى دلالات مجردة تتشكل علي أساسها نصوص تبرز فيها الكثير من الظواهر الفنية، ومن بينها ظاهرة الغموض بوصفه خاصة فنية، فهو في نصوص البريكان غير مفتعل، أي انه مضاف للنص بقصد التعمية او التضليل، او ناتج عن تشوش وارتباك في الرؤية، فيظهر بشكل مضطرب ودونما مدلول، وإنما هو غموض يغذي شعرية النص لأنه نابع من استقلال القدرة الإيحائية للغة واستثمار بعدها الرمزي لنقل حالات الشعور المشوبة بشيء من الغموض ففي قصيدته مشاهد مجهرية (2) نقرأ:

جزر غامضة
تترجرج في مائج زئبقي
كالفقاعات تبرز او تختفي.
الخطوط.. تتحرك مسرعة
المساحات.. دوامة تتحول أشكالها.
قطعٌ عائمة من غلائل قوس قزح
سدم تتكون.. تشعل أشباحها أرجوان الفضاء
سدم تتحلل.. عبر رماد الفراغ.

تتجلي هنا صورة شعرية معقدة تكد ذهن المتلقي لأنها تجعله يتبعها في مساحة ذهنية غامضة تقوم علي استعارات بعيدة لتلغي الحدود بين الأشياء وكأنها انعكاس صادق للمتغيرات الضخمة التي تحرك العالم علي كافة الأصعدة وموقف الإنسان من هذه المتغيرات.. ولا شك ان التطور التكنولوجي السريع لم يؤد فقط الى زيادة سرعة تغير الأمزجة بل أدى كذلك الى تغير الاهتمام فيما يتعلق بمعايير الذوق الجمالي، وبالعودة الى المعني المباشر للنص نلاحظ انه ينقلنا الى ما يحدث تحت عدسة (المجهر) من تصادم وتلون مجموعة من الأحياء التي لا تدركها الحواس علي ان مجهر الشاعر في النص هو رمز للإدراك العميق الموجه نحو الوجود وما يكشفه هذا الإدراك من اضطراب في الحركة، وضباب في الرؤية المحددة للأشياء انه أزمة المدرك لحقيقة الوجود التي تثيره وتستفزه لمعرفتها.

وفي قصيدته الكهف العميق (3) نلمح اختزالا لكل ما يلف مفردة الكهف من غموض، بوصفها حيزا مكانيا يرتبط في ذهن المتلقي بتاريخ الإنسانية الأسطوري ومراحل تطوره، فضلا عن ارتباطها بالفكر.. الديني، لذا فهي رمز لارث كبير يستحضره المتلقي او يتبادر لذهنه لحظة سماعها، تقدم لغة هذا النص شعرية خاصة بغموض هذه المفردة:

تختم الظلمات مداخله،
الوحوش الخفية تحرسه،
الزمن ساكن يترشح كالقطرة من الماء
كهف الصخور القديم
مشبع برذاذ من الملح
تلتف فيه أفاعي المياه الزجاجية الناعمة.
كهف الصخور القديم يتشعب في باطن الأرض
منحتا للعصور.. متحفا للغرائب..
مملكة للظلام.

لقد كان لتركيز الصورة واختزالها في النص أهمية بارزة في إضفاء مسحة فنية، لم تخل من الغموض علي ذلك الكهف ذي العزلة والسكون الأبدي.

ومما يميز ظاهرة الغموض في نصوص البريكان هو اقترابها من الحس الصوفي الذي يقوم علي تجارب منفردة وحالات وجدانية ذات أبعاد روحية تتخطي حدود الواقع المألوف لذلك كانت رؤيته الشعرية شاملة لكل تجارب الإنسان المألوفة وغير المألوفة ومن هذه النصوص قصيدته: جلسة الأشباح (4) التي تجمع عناصر بنائية عديدة اذ تنبني علي نسق القص ويظهر فيها الحوار معبرا عن صراع بين صوتين مختلفين في الاتجاه. بالإضافة الى ظهور المونولوغ الداخلي ليجسد الوضع النفسي الذي تعيشه الشخصية، وفي هذه النقطة يظهر الاغتراب (الصوفي) لهذه الشخصية، إما منبع غموض النص فيكمن في الجو العام الذي يحكمه فيظهر وكأنه مشهد حلمي قصير يسرد بتجرد تام عن أنا الشاعر ويشبه طبيعة التوتر والاختزال التي تحكم الأحلام اذ يسلط الضوء علي مكان مبهم ولقطة سريعة خاصة تنكشف فيها أوضاع الشخصيات المكونة للحدث. يبدأ هذا النص بسؤال قوي:

لماذا؟ قالت الببغاء
مال القفص الأخضر اذ اهتزت.
تلاشت ذبذبات القفص الأخضر
وقالت مرة أخرى.. لماذا؟

يشكل مستهل النص بؤرة دلالية مركزية، ومفتاحا رئيسيا لفهم المعطيات الرمزية التي يقوم عليها النسيج الحكائي للنص وأول هذه المعطيات ما يحيلنا إليه العنوان جلسة الأشباح بوصفه يعبر عن عالم ينطوي علي كثير من الغموض، ويعالج بافتراضات معينة نمط تشكل هذا العالم الذي ينزع للخفاء عن عالم الإنسان.
واذا أكملنا النص تتضح لنا دلالة الغموض من خلال الحوار الهادئ الذي يحدث بين القطبين:

أطبق الصمت.. تلاشي هو في مقعده بين المجلات
وضاعت هي في مرآتها.
قالت: لقد فات علي ما يظهر الوقت
قال: أظنه فات وسوف يفوت يوميا.
وبعد هنيهة.. قالت:
إلا تخرج للحفلة؟.. وأنت؟
أنا سأبقي. بعد ان افرغ من شعري اظن أحوك شيئا ما.

يستمر الحوار بين الشخصيتين، رجل مشتت متلاش، وامرأة منشغلة ضائعة في مرآتها، بنسق زمني منظم ليعكس عدم احتفاء شخصية الرجل بأي مكان يُقترح عليه من قبل المرأة، وفي الوقت نفسه يظهر قلقه وعدم استقراره في المكان الذي يحكمه فينجلي اغتراب الشخصية ورغبتها في الانفلات من الإطار الزمكاني.. وهذا ما تكشفه خاتمة النص:

تأمل جسمه مستغربا، وخياله المائل علي المرآة.
حدّق لحظة في بضع أزهار من الورق الملون،
في الجدار اللامع العاري، وفي رقة الستر وتيار الريح
وقال لنفسه: يمكن ان اذهب.. الى الليل،
الى ناحية من غير تحديد..
لماذا؟ قالت الببغاء في نبرة تهديد
وهزت ظهرها الأحدب.

تأتي خاتمة النص بصوت الببغاء واستفسارها الذي بدأت به في المستهل، وهنا يثار المتلقي ويستفز تجاه هذا السؤال لأنه فهم سبب الاستفسار الأول في مستهل النص حين وصل الى خاتمته وهنا تظهر دائرية المعني التي شكلها بناء النص بمستوي يمكن ان يوصفه بالغموض علي المستوي البنائي ذلك لما ظهر فيه من تنفيذ ذهني تشترك فيه مجموعة أنساق متضافرة فيما بينها لتجسد مستوي شعريتها وانسجامها الدلالي.

وهكذا فقد كانت ظاهرة الغموض في نصوص البريكان حية وماثلة في الأذهان لأنها متجاوزة للأشكال العميقة، وغير أسيرة للإيقاعات الرتيبة والمنطق النمطي المباشر الذي يخاطب العواطف الميتة.

الغموض في نصوص البريكان ينبني علي قيمة فكرية فاعلة تستعين بالإشارة حينا وبالرمز حينا آخرا، وتعتمد علي ركائز قوية من الوعي الشعري والمعرفة والفهم الفلسفي في تأويل التجربة الإنسانية، وهنا تكمن الانعطافة الشعرية التي حققها البريكان في استيعابه لظاهرة الغموض في الوجود والتعبير عنها شعريا ولعل ذلك مما ينفرد به عن مجايليه ولا سيما ان هناك من وصف تجربة البريكان الشعرية بأنها من ابرز ملامح الظاهرة التجريدية في الشعر العربي الحديث (5).

ناقد من العراق يقيم في زيورخ