في مستهل سنوات التسعينات وفي أحد مقاهي مدينة مراكش اجتمع ثلة من الشعراء حول فناجين القهوة للتفكير في إطلاق مجلة شعرية غير عادية. كانت الفكرة تبدو مجنونة وعلي قدر كبير من الدعابة. حول المائدة كان هناك سعد سرحان الشاعر الذي يشاكس اللغة علي طريقته الخاصة وأستاذ الرياضيات الــذي يدرس العميان معادلاته المعقدة، ياسين عدنان الشاعر الذي فاز بجائزة اتحاد الكتاب للشعراء الشباب لديوان أطلق عليه اسم مانكان وأستاذ اللغة الإنكليزية في مجاهل مدينة وارزازات ، هشام فهمي الشاعر العاطل من العمل والمقبل علي الحــياة بشـهية لا توصف والمتسكع بين ديسكوتيكات مراكش ومقاهيها بقصائده ومخطوطاته، طه عدنان توأم ياسين عدنان في الشعر والذي يقيم في بروكسيل ويشـتغل في الصحافة هناك، والخطاط الفرساوي الذي كتب قصائد الغارة بخطه الجميل وقايضنا خطوطه بثمن القهوة!
وكان الاتفاق أن نطلق العدد الأول من الغارة الشعرية، التي ستتحول في ما بعد إلي إشاعة شعرية كبيرة في العالم العربي. الجميع سمع بها أو قرأ إعلاناً بصدور أحد أعدادها في القدس العربي أو بعض المجلات العربية الوافدة من الخارج، لكن القليل فقط من القراء في المغرب أمسك بها بين يديه. اختارت الغارة الشعرية أن تظل مجلة غير قانونية نظراً إلي أنها لا تملك ترقيماً دولياً ولا إيداعا قانونياً، ومع ذلك تسافر بكل حرية إلي صناديق بريد الشعراء في كل الأقطار.
ولعل النقد الذي واجه المجلة لم يحطم الغارة الشعرية كما كان متوقعاً بل جعلها تستمر إلي الآن، علي رغم أن الصحافة الأدبية المغربية فضلت عدم الحديث عنها لاعتبارها مجرد نزوة سريالية لاطفت مخيلات بعض الشعراء الشباب... وهي تخرج علينا مع نهاية هذه الألفية بطريقة مختلفة لمواراة جثة هذا القرن المثخنة بالحروب والمجاعات والأحقاد تحت تراب النسيان.
اختارت الغارة الشعرية أن تحوّل عددها الأخير إلي بطاقات بريدية يكتبها عشرون شاعراً من مختلف بلدان العالم لتوديع هذا القرن. وكتبت البطاقات بالعربية والفرنسية والإنكليزية والأسبانية وأرسلت إلي الشعراء الذين تملك الغارة الشعرية عناوينهم في مختلف بقاع العالم. وأنجز لوحات البطاقات الفنان التشكيلي صلاح بنجكان في شكل يتناغم مع روح القصائد وإيقاعاتها المختلفة.
اختار الشاعر البحريني قاسم حداد الذي تحمس لتجربة الغارة الشعرية منذ أعدادها الأولي إلي جانب سعدي يوسف وآخرين، أن يودع هذا القرن قائلاً: أيتها النار /يا مليكة الوقت /أين أخبئك /والهشيم سيد المكان ؟ .
وبينما يكشف قاسم حداد عن خوفه علي مستقبل النار والملياني عن ذكرياته المتبقية يكشف هشام فهمي في بطاقته في وداع القرن عن نياته الإجرامية قائلاً: سنطلقهم /وسنختار بينهم /من سيأتينا برأس الليل .
ويختار أمجد ناصر الشاعر الأردني المقيم في لندن أن يؤبن القرن بسؤال: لمن إذاً /بيدين أوصلتا الجبابرة إلي البيت /وقدمت المفتاح /تنصب الأيام فخاخها /في ارتفاع المهج /وانقطاع الأنفاس؟ .
وفيما يحلم الشعراء المغاربة بإفراط كبير في النية بإصدار دواوينهم عن دار توبقال أو دار الساقي لا يكلف سعد سرحان نفسه مع نهاية هذه الألفية سوي تمني الموت بأسنان كاملة: لأجلك يا تفاحة الموت /لأجل دودتك النهمة /أحلم أن أموت /بكامل أسناني .
لكن اليائس الكبير بين كل الذين كتبوا بطاقاتهم الشعرية هو ياسين عدنان الذي يعترف أنه لم يعد قادراً علي الحب ولا علي المشي خلف هذه الجنازة المسماة الحياة: سئمتك أيها العالم /سئمت العيش بالتقسيط /سئمت صباح الخير والبرد /والثرثرات الجرداء /سئمت المشي في هذه الجنازة /الفادحة التي تسمي، عزاء، حياة /ولم أعد قادراً علي الحب .
إنها تحية شعرية إلي قرن يكاد يخلو من الشعر. مئة سنة من تطاحن البشرية بالحديد والنار غاب فيها الشعور الإنساني بالجمال والرهافة والحب. هل يمكن أن يفيد الشعر شيئاً خلال الألفية التي نظلّ عليها وجلين؟ إنه السؤال الخطير الذي تطرحه بطاقات الغارة الشعرية ، ويبدو أن السنوات المقبلة ستجيب عنه بوضوح مفترض!
المصدر : جردة الزمان
08-02-2001