عبد الزهرة الركابي
(العراق)

كزار حنتوشيعتقد الكثير من النقاد العراقيين ان الشعر العراقي في مجمله كان غنائيا وان انعطافاته نحو الأسطورة والرمز المتعدد بدلالاته التاريخية والدينية والتناصية، هي حالات متحركة ولا تشكل وقفات ثابتة في هذا الشعر، إلا ان هذه الغنائية عموما أضافت للشعر العراقي في بعض استثناءاته هالة من الجاذبية التي يشعر من خلالها المتذوق انه أمام محاورة ذاتية يؤديها الشاعر بلغته المحكية من دون تكلف وانتقاء

وأوضح نموذج في تجسيد استهلالنا الآنف نجده عند الشاعر كزار حنتوش وهو من جبل السبعينيات الشعري في العراق، وفي نفس الوقت يعتبر شعره أعمق وأعذب ما كتبه شعراء الصعلكة في الجيل المذكور، ان لم أقل منذ جيل الستينيات وحتى الأجيال اللاحقة، حتى ان أحد الموسوعيين العراقيين (كاظم البديري) وصفه بالقول: انه شاعر عالمي من الديوانية.

والديوانية هي مدينة الشاعر التي تقع جنوبي بغداد في منطقة الفرات الأوسط، وهي المدينة التي انطلقت منها شرارة ثورة العشرين 1920 الشعبية ضد الاحتلال البريطاني، وقد كانت هذه المدينة الغافية على (شط الحلة) وهو نهر فرعي من نهر الفرات الكبير، تعد ملهمة لاستعاراته واستذكاراته وتوصيفاته والتقاطاته الصورية البارعة والخاطفة في آن، حيث كان شعره مزحوما بمرور ضواحيها مثل (الدغارة، عفك، وغيرهما) وأحيائها (الحي الجمهوري، الحي العصري، وغيرهما) كما ان شعره لا يخلو من استذكار مدن ومناطق ورموز مختلفة من عموم العراق وفقا لاسقاطاته وانتقالاته الدافقة:

<الزرقة في النجم العالي والخمرة في الكأس، ها.. صرت أليفا كحمام (الكاظم)، ها.. استلقت روحك كثريات (العباس)، أنت أساسك طيب، وقماطك اخضر كالخباز، ارفع نخب الشعب.. تبسم، وارسم محبوبك فوق الغيم شجيرة أس، ها.. لا تغتظ من هذي الدنيا، ستظل رهيفا كالنخلة، وعدوك محني الرأس، فلتقرع من أجلك <يا جندي كل الأجراس>، الكاظم: مرقد الإمام موسى بن جعفر الكاظم، العباس: مرقد الأمام العباس بن علي بن أبي طالب.

ويعتمد الشاعر على توظيف المستحيل او الاستحالة من خلال ربط صوره المستحيلة مع الصور الرمزية والواقعية معا، وهو يريد من هذا الربط ان يجد عزاء لطموحاته المستحيلة او التي لم تتحقق او حتى انه يعمد إلى تبرير خرافي من خلال استخدام المثل الدارج الذي يتسق مع هذا التبرير، لكنه في هذه الإسقاطات التبريرية كان يخاطب مدينته او وطنه، مخاطبة تشي عتبا وندما من الخذلان الذي واجهه في مناطحاته الفارغة، بما يوحي للقارئ انه كان يخوض حربا او حروبا خاسرة او هو يريد ان يظهر بصورة دون كيشوت ولكن ليس مع طواحين الهواء وإنما يخوض حروبه مع المستحيل:

<غنمت لها تفاحا في غير الموسم، كتبت لها شعرا فوق التين، ناطحت لأجل (الديوانية) أوغادا، بقرون من طين، سرقت لها شالا من قمر (الغراف) الأخضر، عافتني... عافتني منكرا كالقنديل يعاشر نهرا كدرا، والريح هبوب، عافتني... ان ورد ملح الأرض تعال، ان لمعت شمس الدنيا خضراء تعال، وإذا (حنتوش) الطيب عاد من القر.. تعال.. ياما أخذتني (الديوانية) للنهر وردتني عطشان..)، الديوانية: مدينة الشاعر، الغراف: نهر فرعي في جنوب العراق، حنتوش: والد الشاعر.

استعارات محلية

تمتاز الصور الشعرية لدى كزار حنتوش بثوريتها الوصفية إلى جانب استعاراته الحية من البيئة الإنسانية المحلية والعالمية برموزها المعروفة، في محاولة وصفية واقعية وخرافية، لإيجاد صورة مقاربة بين حياته اليومية وسيرة ذاتية لأحد المشاهير، وهنا يريد في الصورة الشعرية إبراز جانب القوة بغض النظر عن ماهية ونوعية هذه القوة، أي انه شاعر مزحوم بالقوة التي يراها بمنظار الهيبة التي يفتقدها جسده النحيف، ولربما اراد القفز بهذا الجسد إلى فضاء القوة المتخيلة وإسقاطها على قوة واقعية او معروفة تاريخيا:

<الديك الملعون، ملأ البيت صياحا، وإطار عصافير النوم، قمت أطارده بكتاب (كفاحي)، لكن أمام الجامع في ذات اللحظة، ملأ الحارة ورعا، وتوعدها بالويل، فانكمشت روحي كقميص الخباز، ليس أمامي الا ان أتمطى كعجوز بعد القيلولة... وأقوم، ... ولبست قميصي الأزرق.. عفوا ازرق كان، اللون.. اما الآن، ولففت الساقين بسروال بني مشهور جدا، في الديوانية منذ شتاءات تسع، و... خرجت إلى الحرية>، كفاحي: كتاب هتلر.

هذه الغنائية الشعرية أصبحت مرتبطة ارتباطا تراجيديا بمسيرته الذاتية، وقد تكون هذه صفة جمالية لا سيما اذا ما اسقط عليها رموزا محلية ومعروفة او مشهورة في مدينته او وطنه او منطقته، حيث اكثر في صوره الشعرية التقاط الحياة اليومية بتفاصيلها الجذابة وغير المضجرة، أي انه يمنح الصورة النفس اليومي، ويجعلها بالتالي حياة عامة لمنطقته وبيئته بكل ما تحمل من تنافر وتناقض وغرابة وبساطة، وهذه الصورة المتموجة بكل هذه العوامل هي صورة غير مألوفة في التعبير والتوصيف:

<سنة مرت، والدنيا صارت غير الدنيا في (الحي الجمهوري)، اقلع (مكطوف) عن السكر، اصطادت (حورية) زوجا من دائرة (الصابو)، والرجل الماكر ذو اللحية، راح إلى (الشطرة) تتبعه اللعنات، سنة مرت: أفلس بائع (ورد لسان الثور)، وأغاني (ام كلثوم)، باتت لا تعجب الا رزام البلدية، لكن الشاعر (ك. الحنتوش)، ظل على حاله، أعزب متلافا.. غير مرتب الفراش الأعزب..)، الحي الجمهوري: الحي الذي يقيم فيه الشاعر في مدينة الديوانية، مكطوف: اسم رجل، حورية: اسم امرأة، الطابو: دائرة شؤون العقارات، الشطرة: مدينة في جنوب العراق، ورد لسان الثور: نوع من الحلويات.
لا تغيب استذكارات الشاعر في التطرق إلى أسماء أصدقائه وزملائه، وخصوصا الذين يمدونه بالعون او الذين يجدهم عندما تضيق به الدنيا بما رحبت، انه شاعر الاستذكار، هذا الاستذكار الذي يمده بمدد الشعر دون انطفاء لجذوة الأمل التي صاحبت انبعاث موهبته من ركام الجوع والمعاناة:
<امشي ريانا.. كزهور تحت النارنج، صوب صديقي الشاعر، المعدة تكفيها حفنة باقلاء.. وعدس، والروح ستكفيها اشعار كرستال، للصائغ يوسف، ولدي من الأحزان، ما يكفي كي أسكر بالمجان، والجيب هو الآخر، أفلا يكفيه دفتر شيكات، من بنك (السياب) الذهبي؟>، الصائغ يوسف: الشاعر يوسف الصائغ.

لم يكن الشاعر كزار حنتوش غريبا على كتب السطور، فهو ابن مدينتي (الديوانية)، وكان في مرحلة من الثمانينات لصيقا بي عندما كنت في بغداد، وقد تناولت شعره في اكثر من كتابة، بالإضافة إلى إجراء الحوارات معه للصحافة العراقية آنذاك، واذكر انه قال لي في احد هذه الحوارات اعتدادا بشاعريته: انا أفضل شاعر في جيل السبعينات.

يذكر ان جيل السبعينات كان يضم شعراء جيدين أمثال زاهر الجيزاني وخزعل الماجدي وسلام كاظم وعبد الزهرة زكي وفاروق يوسف ورعد عبد القادر وصاحب الشاهر.. وغيرهم، الا ان كزار حنتوش يظل شاعرا مهما في الجيل الشعري المذكور، وتكمن أهميته في عمق الصورة الشعرية وجاذبية المفردة المحلية التي يستخدمها، على الرغم من ان الشعراء الذين ذكرتهم لكل واحد منهم تجربة متميزة.

ان (حلاوة) القصيدة عند كزار حنتوش تتمثل في مرارتها وألمها، مع التنويه إلى انه ينكر مثل هذه (الحلاوة) من خلال التأكيد على المرارة التي تتخلل مجمل قصائده، وهو يستغرب وجود هذه (الحلاوة) متسائلا: من أين يأتي العسل إلى قصائدي والدم يهدر كالسيل في شوارع العراق والبعض اتخذوا العراق مطية لبلوغ المآرب والأحزاب تتكالب على المغانم وبعض الأدباء والثوريين غيروا اتجاه مقاعدهم نحو اتجاه رياح التاريخ التي قد تغير هي بدورها الاتجاه فيصعق هؤلاء ويهوون إلى قرارة العدم، وكيف لا أأنس بالحنظل اذ أرى نفرا من هؤلاء.. وقد ارتدوا بزة جيفارا او استعاروا لحية الشهيد الصدر.. علما أنهم إلى وقت قريب كانوا يبصقون في سجل جيفارا الثوري، وينتفون لحية الشهيد الصدر وحاشاه.. أنهم اللعنة التي تحيل قصائدي إلى هيكل للألم والمرارة فليكن الألم رديفا لنا وليكن العسل لأولئك الدببة الذين يسحقون بشراسة كل ما هو خير وجميل في هذا العالم؟.

السفير
2006/11/23


أقرأ أيضاً: