عابد اسماعيل
(سوريا)

هذه اللغة الحزينة، الداكنة، المتواطئة مع الحرب، الباحثة عن استعارة أقوى، وعن رمز أكثر فصاحةً. اللغة التي تفشل دائماً، وتعجز دائماً، وتخون دائماً. اللغة التي فقدت لسانها أمام هذا الدمار الشامل الذي يفتك بلبنان الوحيد، الأعزل. موت يضع نقطة سوداء في نهاية السطر، ويترك حفرة في الاستعارة ذاتها. موت يترك صدوعاً في اللغة، وجروحاً في البلاغة، مثلما يترك، بالطبع، حفرة أمام بناية مهدمة أو في غابة مصعوقة، أو خليج مهجور. يموتون، أيتها اللغة الفاشلة، التي لا تحمي حتى نفسها، يموتون وتشربين نخب موتهم، ثمّ تنتفخين كجثة، أنت الساقطة، المتواطئة، المبذولة على الشاشات، وفي المؤتمرات الصحفية، وفي أروقة القصور والبرلمانات، وخلف كواليس الموت. يتبارى الكذابون والساسة والشعراء والجنرالات والندابون والشامتون في انتهاك جسدك المنهك، المقصوف، والمدمّى. أنت اللغة التي تتعرّض للقصف أيضاً. اللغة الناقصة، التي تعجز عن وصف ما يحدث. أو اللغة التي لا تعبّر أبداً سوى عن نقصها ونقصانها. وهؤلاء هم تجار الموت، يتبارون بتغيير قواعدك ونحوك وصرفك. يتبارون بانتهاك بلاغتك، في سعي مسعور لإسكات الخصم، وإسكات الضحية، وتبرير هذا الموت السريع للبشر والحجر والشجر. أنتِ اللغة التي نكذب ونكتب ونحلم بها، حاملةً صواريخها وقذائفها ومدافعها، تغيرُ على السطور، وتترك حفراً في الذاكرة، والمخيلة، والروح. فالجميع قادر على الكلام إلاّ الضحية. الضحية تلجأ إلى صمتها. الضحية بلا نصّ. وحدهم العسكر، بمسدّساتهم، وقنابلهم، ومدافعهم، ينقضّون عليكِ، تغويهم أبجديتك، لانتقاء أكثر العناوين "شعريةً"، وأكثرها بريقاً، لتسمية حملاتهم العسكرية الدموية، وتقديم طبق الموت، شهياً، مزخرفاً، مبهّراً، إلى كلاب العدم. ثمة أمطار الصيف، وعناقيد الغضب وعاصفة الصحراء، ووو،. وقد تطول قائمة التواطؤ مع الموت، أيتها اللغة المتواطئة، العاهرة، الساقطة، القاتلة كقذيفة طائشة. أنت اللغة التي لا يحكمها معيار، ولا تخضع لقاعدة، ولا تعترف بمعنى، مثل الحرب التي بلا معيار أو قاعدة، أو معنى. كهذه المجزرة التي يرتكبها المتجبّر، المتفوّق، العنصري، البربري ضدّ الصامتين، الهادئين، الأبرياء. إنها لغة العدو الساقطة التي تنهمر فوق المكان وأهله، وهي تشبه، حدّ التطابق، لغة الشقيق السّاقطة، التي تنهمر على المكان وأهله. هنا تتساوى لغة العدو ولغة الشقيق، التي تحتفل بموتنا، بصمتنا. لغة تنام مع الجنرال والشاعر والديكتاتور. لغة تُسلِمُ جسدها إلى الساسة والفقهاء والأيديولوجيين. اللغة التي تسقط باستمرار. مثل نصوصنا التي تسقط الآن. مثل قتلة النصوص، وقتلة البشر، وقتلة الصمت، أولئك الذين يمضغون حبرك، ويلتهمون رموزك، ويبصقون معانيك، في وجوهنا، نحن الذين نموت صامتين. هادئين. هامدين. نموت بلا لغة تستر أجسادنا الممزّقة، بلا كلام يستر صرخاتنا العارية، بلا لغة تداري موتنا الفقير، أمام عدسات الكاميرا. نكفّن جثثنا بعبارات كاذبة، ساقطة. إنه موتنا تحت أنقاض البنايات، وعلى الأرصفة، وتحت هذه السماء الساقطة، المكشوفة للطائرات المغيرة، السعيدة. وهو موتنا في النصوص، بين الفواصل، من نقطة إلى نقطة. لا بدّ للفكرة من صاروخ ينطلق في اللحظة ذاتها، ليصبح للكلام معنى. لم تعد الدلالة كامنة في رقة التلميح، أو قسوة الترميز، أو غموض التأويل. لا بدّ من ترجمة فورية للعبارة، وإقامة حقائق دامغة على الأرض، وقصف الواقع حجراً، حجراً. هنا تصبح اللغة واقعاً، ويصبح الواقعُ لغةً. والواقع واللغة شريكان في جريمة الحرب. العدو يهدّد بكلام ساقط، نمطي، ميت، سرعان ما يتحول إلى حدث. سرعان ما يسقط شقيقك أو صديقك أو جارك أو أمك وتسقط أنت، المتفرج، المتكلّم، المؤلف. تسقط ألف مرة، وتهوي بصاروخ، أو قذيفة، فقط لأن اللغة تريد أن تبرهن على صحة استعاراتها. يجب حماية النص، الذي يأخذ شكل إعلان حرب. فلندمّر وطناً بأكمله، شمالاً جنوباً، شرقاً غرباً. إنه المتكلّم النازي، الإسرائيلي، الذي يحمل صاروخاً. الجنرال الذي يتآمر باللغة، بالكلام، وما أن ينتهي الكلام، يبدأ الواقع بالحدوث. تقصف الطائرة، ويهوي عمود الكهرباء، وتحترق قرية أو مدينة أو وطن، ثمّ ترى الحفرة، تصفر، تحدّق، في هذا النص المتواطئ، الذي يساهم بدوره في ارتكاب الجريمة. ووحدهم الذين بلا نصّ، يموتون. وحدهم لا يكذبون. لكنّ الحفرة، التي خلّفها القصف، تتكلم بآلاف الأفواه، وتتكلم بكلّ الصور، وتتكلّم بالنيابة عن الذين أصيبوا بالخرس. الجميع يجيد استخدام اللغة المسمومة، الداكنة، المتواطئة، التي تحمل الموت إلى الصامتين، الهادئين، الذين بلا نصّ.

طوبى للهادئين، الصامتين، النائمين تحت أنقاض البلاغة. طوبى لبيروت الأقوى من النصّ، الأقوى من اللّغة، الأقوى من الموت.