(فازت بجائزة بوليتزر الأميركية)

عابد إسماعيل
(سوريا)

كلوديا إمرسونأناقة العبارة، ودقة الملاحظة، ووضوح الرؤيا، قيمٌ شعرية جمالية تميز أسلوب الشاعرة الأميركية كلوديا إمرسون، الفائزة بجائزة بوليتزر للشعر لهذا العام، عن ديوانها (زوجة راحلة). هذه القيم كان سبق وطرحها عزرا باوند في بدايات القرن الماضي، عبر سلسلة بيانات شعرية أسّست لما سُمي «الصُورية» (Imagism)، وهي النزعة التجريبية التي تعتمد جوهرياً على إحياء الصورة، وتكثيف الدلالة، واختصار الومضة الشعرية. ومن أبرز ممثليها هيلدا دوليتل وويليام كارلوس ويليامز وآمي لويل، إضافة إلى الشاعر باوند نفسه الذي كتب نصوصاً شعرية مكثفة لا تتجاوز السطرين كما في قصيدة (في محطة الميترو)، التي تحاكي بنية قصيدة الهايكو اليابانية. ويمكن أن نضيف اسم ماريان مور، أبرز شاعرات أميركا في النصف الأول من القرن العشرين، والتي ترأست تحرير مجلة The Dial أشهر المجلات الشعرية بين عامي 1925-1929، وعرّفت الجمهور الأميركي بإليوت وستيفنس وباوند وغيرهم. وقد نادت مور بضرورة غسل العبارة الشعرية من أثقالها الأيديولوجية، وتنقية أفقها البلاغي من شوائب التنظير الأخلاقي. ولم يكن مفهوم إليوت عن «المعادل الموضوعي» بعيداً عن هذا الانشغال العام بالنص بصفته أثراً فنياً بالدرجة الأولى، يجب أن يظل معزولاً عن شجون مؤلفه، ومستقلاً عن تضخّم ذاته المبدعة، وهذا ما أشاعه النقد الجديد في أميركا، عبر مفاهيم نقدية متطورة، ظهرت في أواسط الثلاثينات، وبشّر بها نقاد من أمثال إليوت وإمبسون وريتشاردز. إلى هذا الخط الشعري تنتمي حساسية كلوديا إمرسون، التي لم تنج البتة من تأثير أسلافها الكبار، بخاصة في الجانب المتعلق بلغتها الشعرية التي تتسم بالتكثيف والدقة، والابتعاد عن التنظير الفلسفي، الجاف والعقيم. في قصيدة لها بعنوان «إسطبل»، تغيب ا، /نا الشعرية، أو الذات المبدعة، ويحضر معادلها الموضوعي في شكل صور وصفية متتالية، ترسم برهافة عالية الفضاء الداخلي للمكان: «حدوةُ حصانٍ صدئة معلّقة على مسمارٍ فوق الباب … قلادةٌ تهتزّ، أنشوطةٌ عتيقة فارغة. صمتٌ ينتظرُ انكسارَه تحت وقعِ حافرٍ،/ اهتزازُ رسنٍ ثقيل/ … غير أن عظامَ هذا المكان نُظّفت منذ وقتٍ طويل». تكاد تقترب هذه القصيدة، في بنيتها وحركتها الداخلية، من مناخ قصيدة الهايكو، عبر تركيزها على الصورة الهادئة، الحيادية، الخالية من الإنشاء البلاغي، واستثمارها لمعايير التشكيل الفوتوغرافي الصامت، الذي يضمر توتراً، ولا يفصح عنه أو يصرّح به.

لم تكن إمرسون، المولودة عام 1957، تعلم أن مسيرتها الشعرية ستبدأ داخل متجر لبيع الكتب المستعملة، حين قررت تغيير مسار حياتها، بعد نيلها إجازة في الأدب من جامعة فرجينيا، عام 1979. كانت الشاعرة قد عملت في وظائف مختلفة، بدأتها في إحدى مكاتب البريد كمشرفة متنقّلة، توزع الرسائل في الضواحي، ومن ثم كمعلّمة موقتة، وكمديرة لمكتبة عمومية، ولاحقاً كمالكة لمتجر للكتب المستعملة، قبل أن ينتهي بها المطاف أستاذة لمادة الشعر في قسم الكتابة الإبداعية في جامعة ماري واشنطن. في متجرها كانت إمرسون تجد الوقت الكافي لقراءة سيلفيا بلاث وماريان مور وتوني موريسون وغيرهن، حيث اعتادت قضاء ساعات طويلة وحيدة تقرأ الكتب، أثناء عزوف الزبائن عن الشراء. إنّ ساعات العزلة الطويلة بين مئات العناوين قد أيقظت حنين إمرسون إلى الشعر، وتتذكّر الشاعرة بوجه خاص كتابين تركا أثراً بالغاً في نفسها هما (رسائل إلى شاعر شاب) للشاعر الألماني ريلكه و (مذكرات العزلة) لماري سارتون. نشرت الشاعرة ديوانها الأول عام 1997، تحت عنوان (فرعون، فرعون)، تبعه ديوان ثان بعنوان (ريش: مرثية) عام 2002، ثمّ كتابها الأخير، (زوجة راحلة)، من منشورات جامعة لويزيانا، 2005، الذي فاجأ الوسط الأدبي في أميركا بلغته السهلة، الأليفة، وموضوعاته العاطفية الأثيرة، وتركيزه خصوصاً على موضوعة اختفاء الأنثى، رمزياً واجتماعياً وعاطفياً، وإصرارها على العودة، أو الانبعاث من رمادها، وخلخلة المستقر والراكد في الثقافة السائدة.

في ديوانها المذكور، تسجّل الشاعرة سيرة انفصالها عن زوجها، بعد تسعة عشر عاماً قضتها معه، والبدء بحياة جديدة مع زوج جديد. لكنها، في العمق، تختبر رمزياً ونفسياً حالات عودة المرأة الغائبة، أو الراحلة، واقتحامها مكان سكناها الذي شهد ولادة حبها الأول، حيث تحتله الآن امرأة أخرى، جديدة. في أكثر من قصيدة نرى الزوجة الراحلة تخاطب زوجها السابق، ومن ثم تخاطب نفسها، في سلسلة اعترافات عاطفية حارّة، تأخذ شكل ومضات شعرية مكثفة. وعلى رغم سنوات الحرمان الذي عاشته الزوجة الراحلة، لكنها تظل تبكي بحرقة لحظات حب حقيقية شاطرت فيها زوجها الأول ذكريات لا تُنسى. في قصيدة (منحوتة) توجّه إمرسون عدسة الكاميرا إلى بهو المنزل المهجور الذي غادرته الزوجة، فنسمع أصداء غياب تتردّد في كل زاوية، وطيف امرأة يمرّ صامتاً، لا مرئياً، «بلا شكلٍ، مثل ضبابٍ يعبرُ الجدران». وتتعمد إمرسون التركيز على تفاصيل حميمة، من أثاث وصور وثياب وجدران، تحولها إلى رموزٍ مضيئة تؤلّف صورة المرأة الغائبة، مثل مجوهراتها المتروكة، أو صورة عرسها المعلقة على الحائط، أو ثيابها المطوية في الخزانة، أو شعرها «العالق بين أسنان الفرشاة»، وحتى الصليب الذي تعودت ارتداءه كعلامة إيمان. وبسبب قوة هذا الغياب، يظل طيفها يزور المكان، كأنما في رحلة تفقّد أو مراجعة للذات، فتزور السرير نفسه الذي تعودت النوم فيه مع زوجها، ما يجعل الزوجة الجديدة، التي أخذت مكانها، تحتجّ في سرّها قائلةً: «كأننا ننام تحت ظلّها،/ الذي يتحرك معنا، ناعماً، وداكناً».

كلوديا إمرسون تختبر شعرياً عالم الأنثى وتناقضاته، وتنضمّ بقوة إلى تقليد شعري نسوي يمتدّ إبداعياً إلى الشاعرة الأميركية إميلي ديكنسون، التي حوّلت عزلتها الرهيبة قصائد تنضحُ بالألم والتأمّل. وما نيلها جائزة بوليتزر المرموقة سوى تأكيد على موهبة شعرية أصيلة تسير في الخط الطليعي نفسه الذي كان قد بدأه إليوت وباوند في بدايات القرن الماضي، في سياق التأسيس لحداثة شعرية عالمية، قائمة على التجريب وارتياد المجهول.

الحياة - 18/10/2006