(فـي الذكرى الأولى لغياب هشام شرابي)

أدونيسبدعوة من مؤسسة سعادة للثقافة، واللقاء الثقافي الفلسطيني، و"دار نلسن"، تم إحياء الذكرى السنوية الأولى لوفاة المفكر هشام شرابي، في قصر الأونيسكو، وألقيت كلمات لكل من رئيس اللقاء الثقافي الفلسطيني أنيس الصايغ والدكتور كلوفيس مقصود وزميل شرابي في جامعة جورجتاون مايكل هادسون والشاعر أدونيس ووزير الثقافة طارق متري فكلمة للعائلة. وفي ما يأتي النص الحرفي لكلمة أدونيس.

***

في المأثور التاريخي أن بلقيس الملكة سألت سليمان النبي، عندما التقته:

- "ما لون الرب"؟
لا نعرف جواب سليمان، او لعله لم يجب. ولا نعرف إن كانت بلقيس سألته لكي تمتحنه، أم لأمر آخر.
ضحك هشام شرابي عندما رويت له هذا المأثور في أحد لقاءاتنا الأخيرة في بيروت، في بيته المطل على البحر. وشعرت أنه يضحك، مبتهجاً على نحو خاص، بذكاء المرأة بلقيس.
ثم قال فجأة:

- ماذا لو نستعيد لغة بلقيس ونسأل معاً: ما لون عصرنا العربي؟
- لكن من أين نبدأ؟
- نبدأ بصداقتنا التي نشأت بلقائنا في الحزب السوري القومي الاجتماعي.

قلت: ليكن خصوصاً أنني أعد هذه الصداقة مفصلاً أساسيا في تاريخ عملنا المشترك، لا على الصعيد الفكري وحده، وإنما كذلك على الصعيد الشخصي. وأذكر أننا كنا متفقين على أن ما جذبنا الى هذا الحزب، في نشوة بحثنا عن سبل النهوض والتقدم في بلادنا، يتمثل أساسيا في ثلاث أفكار:
الفكرة الاولى هي العلمنة، لكي يمكن التأسيس لمجتمع مدني.

والفكرة الثانية هي السلالة التاريخية لكي يمكن أن نتخطّى الانتماءات العرقية وما قد يرتبط بها من الممارسات العنصرية.
والفكرة الثالثة هي الخلاسية الحضارية، توكيداً على التعدد والتنوع والاختلاف وعلى الانفتاح الخلاق، والتفاعل السمح.
وكانت صداقتنا تنمو، وتتعمق في المناخ الثقافي الذي تخلقه هذه الأفكار او توحي به.
هكذا كانت أفكارنا تتنوع حتى التضاد، أحياناً في قضايا كثيرة ترتبط بنشاط الحزب وأفكار أنطون سعادة ومفهوماته، وكان كل منا يصغي الى الآخر دون أن يتهمه بالانحراف، او يخوّنه، كما كانت العادة جارية. وفي هذا كنّا نؤكد على التعددية داخل الأفق الواحد. وكان كل منا يستطيع أن يقول في ذات نفسه: "الصديق آخر هو أنت"، كما كان يقول سلفنا الكبير أبو حيّان التوحيدي. أو كنّا نمزج، في صداقتنا، بين الحياة والحب، بين الفكر والشعر والغبطة، بحيث لا تكون الحياة التي توحّد بين عاشقين أقل من كوكب آخر يضاف الى أجمل الكواكب.

أعود الى سؤالك: ما لون عصرنا العربي؟
هل نجد هذا اللون في التنمية، وتوفير فرص العمل، وتعزيز النتاج الوطني، على سبيل المثال؟ أم هل نجده في الديموقراطية وقيمها الخاصة بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان؟ أم هل نجده في إنشاء مراكز البحوث العلمية والفنية والفكرية؟ أم هل نجده في إرساء التعددية الحزبية السياسية الفكرية التي تحترم الاختلاف وحقوقه، وتعمل مؤتلفةً من أجل إرساء القيم الإنسانية والحضارية؟
أم ترانا نجده في الناصرية وفي عبد الناصر الذي توّجته القلوب والمشاعر، من المحيط الى الخليج وفقاً للعبارة الشائعة توّجته ملكاً عليها، الناصرية التي لم تكن، كما أثبتت التجربة أكثر من شمعة سرعان ما انطفأت؟
هل نجده في بغداد "الصدّامية"؟ و"الأميركية"، تلك المقبرة العظمى لكل ما هو إنساني وخلاق؟
هل نجده في عسكرة الحياة والمجتمع، بحيث أصبحت الخوذ والدبابات أعلى شأناً من الجامعات ومن الفلسفات والعلوم والفنون، ومن الإنسان نفسه؟
أم ترانا نجد هذا اللون، على العكس، في الطغيان، والقمع، والسجن، والتجويع، والتشريد، والنهب، والتفتت الاجتماعي، والفساد، والقتل؟
وهناك، في هذا الإطار أسئلة كثيرة أخرى، يمكن طرحها وما قدّمته، قدمتهُ، تمثيلاً لا حصراً.
لكن، لن يكون الجواب عن السؤال: ما لون عصرنا العربي، مهما تسامحنا، الا هذا الجواب:
إنه لون الدم والقتل.

لون الخراب غير الجميل.
غير أن السؤال الأكثر إلحاحاً وعمقاً والذي كان يحيرنا معاً هو: هل لمرحلتنا هذه، هل لعصرنا نهاية؟ والجواب الأكثر صحة هو الذي يعطى في ضوء الرؤية الوحدانية التي أسست للثقافة العربية، والتي تهيمن عليها. لا في ضوئها، وحده، وإنما في سياقها كذلك. وسيكون الجواب آنذاك نفياً. فمرحلتنا في منطق هذه الرؤية ليست الا جزءاً من لا نهاية غيبية، من زمن لا يتحرك الا بخطوات الابدية. والفرد فيها لا ينتهي، وإنما يُنهى. ولا يبدأ وإنما يُبدَأ. الغيب أنشأنا، وهو الذي يردنا الى أحضانه. الغيب ماضينا الذي هو حاضرنا والذي سيكون مستقبلنا.
الأول لا يزال يُملي كأنه الأخير.
لا تزال الخلافة تجرّ أذيالها في رؤوسنا وفي ساحتنا وعلى عتباتنا. هكذا تتحرك حياتنا، اليوم، فيما وراء البداية والنهاية تتحرك في فراغ بلا حدّ. كأنها خارج الزمن. بماضيها يُصنع حاضرها وبطين المصادفات يُجبل مستقبلها.
ومشكلة تاريخنا اذاً خلافاً للتاريخ عند معظم الشعوب هي في أنه لا ينتهي. ولأنه لا ينتهي يسير أعمى لا هدف له ولا معنى.
والسؤال هو: ان كان التاريخ كذلك فمن أين للفرد أن يعرف مَن هو؟ مَن أنا؟ مَن نحن؟ هو السؤال الذي يجب البدء به، لكي تُرَجَّ هذه الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم وهذه الثقافة القائمة عليها لكي تُرجَّ من أصولها ومن جميع الاتجاهات وعلى الأصعدة كلها.
هذا السؤال نفسه أججه فينا أنطون سعادة والحزب الذي أسسه وانتمينا اليه وأعطينا للنضال في سبيل مبادئه أجمل وأبهى أحلامنا السياسية والاجتماعية. وكم كنا نتمزق عندما كنا نتطارح أوضاع الحزب السياسية، ونرى أن جميع أنواع الاضطهاد الذي أصاب الحزب لم تكن، على الرغم من وحشيتها، تسوّغ للسياسة الحزبية أن تُدخل الحزب في منطق الثقافة السائدة التي نشأ رفضاً لها، منطق التبعية والالغائية والاقصائية والعنف، المنطق الذي حكم تاريخنا، والذي لا يزال يقود حياتنا السياسية والفكرية بشكل او آخر، قليلاً او كثيراً، ملغياً كل إمكان للعمل في اتجاه التأسيس لتعددية علمانية، حقاً، ديمقراطية حقاً.
وفيما كنا نعمل، كل بطريقته الخاصة، على ان يمارس الحزب الديموقراطية ويقرّ التعددية، كانت الأحداث تعمل أسرع منا. هكذا سبقتنا وَهَمّشتنا أنت وأنا، أو أسقطتنا على جانب الطريق بلغة رفقائنا القدامى. لكنها كذلك جرّت الحزب الى ما لا يمكن وصفه بأقل من أنه كان ضدّ قيمه الفكرية والخلقية، وضد المعنى العميق الذي ينهض عليه. وكنا استناداً الى المعايشة، نلاحظ ان رفقاءنا في الحزب يسلكون ويفكرون بوصفهم لا لبنانيين انعزاليين. أولا- عروبيين وحدويين أكثر منهم بوصفهم سوريين قوميين اجتماعيين. كنا نلاحظ كذلك ان القوميين العرب ليسوا قوميين عرباً، بقدر ما هم لا سوريون أولا - لبنانيون، وان الشيوعيين هم الأضداد، أكثر مما هم الشيوعيون او الماركسيون. كان كل منا محدّداً سلبياً، وكان كل حزب يتميز بالعداء للآخر، لا بإشعاعه العملي والنظري. او بعبارة ثانية، كان نضال كل حزب يتمثل، جوهرياً لا في العمل على تحقيق مبادئه او عيشها، على الأقل، في إطار الحزب، وإنما في العمل على إزاحة أعدائه وتدميرهم.
وما يصح في ميدان السياسة يصح في ميادين الأدب والفن. فالعامل في هذه المجالات لا يعرّف نفسه بهويته الخاصة المنفردة، بقدر ما يعرّفها بالتعارض مع غيره. ولقد أثبتت التجربة ان جميع الأحزاب ليست في حاجة الى الأدب او الفن او الفكر الا بوصفه دعاوة وتبشيراً. فلم يعرف، مثلاً، حزب البعث بكل ثرواته لكي ابدأ به، بوصفه الأقوى، او الحزب الشيوعي، او الحزب السوري القومي الاجتماعي ان يصدر مجلة او جريدة تطرح أسئلة جديدة على الثقافة او تفتح أفقاً جديداً للتساؤل والبحث.
ومما زاد هذا الوضع سواداً وبؤساً ان النظام السياسي الثقافي العربي استطاع ان يجمع حوله الاتجاهات كلها في جوقة ايديولوجية، توحّدت فيها جميع الألسنة في لسان ببغائي واحد.
أعود الى سؤالك يا هشام: ما لون عصرنا؟
لكن، هوذا نحن نتقلّب في شباك سياسية لا ترى، لا تقرأ، لا تعمل. سياسة مسرح للدمى. مسرح ظلال تتداخل في فضاء ريح هوجاء. ونعرف جميعاً ان وراء هذا المسرح الدين والسلطة والمال. كل ما عدا ذلك توهّم وتخييل. مسرح ضد اللغة وضد العقل، وضد الفكر. ضد كل ما يهجس به الإنسان من أجل ان يخلق عالماً إنسانيا كريماً وعادلاً وحراً. وما سيعني اذا الإنسان نفسه؟ لن يكون على هذا المسرح الا دمية او آلة. وماذا ستعني اذاً حقوق الإنسان؟ لن تكون على هذا المسرح الا ألفاظا جوفاء.
ولست أعرف بأية استراتيجية مرحلية او نضالية يمكن ان نسوغ غياب الحريات وغياب السؤال والنقد او السكوت عن ممارسة أفعال قروسطية وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة، او فرض الآراء والمعتقدات على بشر يرفضونها، او النظر الى سلطة النظام بوصفها تمثيلاً لسلطة "الأمة" او "الشعب" او "التوحيد" بين "النظام" و"الوطن".
هكذا لا نرى للعربي في لون عصرنا، الا صورتين: ظالماً او مظلوماً، قاتلاً أو قتيلاً، غنياً أو فقيراً، شبعان او جائعاً، مقيماً أو مهاجراً. وتقترن بهاتين الصورتين صورة ثالثة تُختص بما نسميه الثقافة العربية، تقول للعربي: ان أردت أن تعيش في راحة واطمئنان، فعليك ان تعيش دون أفكار ودون آراء وعليك ان تنسى خصوصاً تلك الغولة البشعة التي تسمى الحرية.
وها هي الحرية ترذل وتُحقّر وتهان بحجّة أو بأخرى: "الأمة"، "القضية"، "المرحلة". غير ان غياب الحرية في الداخل ولّد مزيداً من التبعية للخارج، وغيّب العدالة والمساواة ووحدة المجتمع، وولّد العنف وثقافة العنف، مما أدى، في النتيجة الى تغييب الأمة والقضية. وهذه "النحن" المتوهمة سحقت "الأنا" الحقيقية. فالفرد مجرّد رقم او مجرد اسم. وها هي حركة النحن الشعب أو الأمة كمثل حركة الأنا الشخص، جامدة، هامدة، وها نحن جميعاً، أفراداً وشعوباً، نعيش في فراغ مجروفين وليست لنا أية سيطرة على الزمن الذي يجرّنا وراءه.
تلك هي نتيجة من نتائج النظام البطركي أو الأبوي المفهوم الذي وضعتَه بعيني ناقد بصير، وبصيرة نفاذة. وفي هذا أسست لنظرية نقدية تربطك بتراث فكري نقدي عالٍ. وهي نظرية تتغذى من التداخل الفاعل بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية والتاريخ الحضاري. ولقد ركزت، بخاصة، على فعل المؤسسات في حياة الأفراد الذي يكوّنون المجتمع، وفي أخلاقهم وأفكارهم، وتبعاً لذلك على العلاقات الثقافية والاجتماعية. ولئن صح القول ان المجتمع هو مؤسساته، فإنه قول يجد مصداقيته في دراساتك حيث تتقاطع وتتداخل الفلسفة الاجتماعية والفلسفة الأخلاقية والفلسفة السياسية.
وقد أعطيت أهمية خاصة لمسألة الاعتراف بالفرد، امرأة ورجلاً، بوصفه ذاتاً حرة ومستقلة. مما يقتضي الاعتراف بحق الحميمية الشخصية، حميمية الضمير، والحياة الخاصة، بدءاً بالعاطفة وما يتصل بها من حب وصداقة. وهو اذاً اعتراف يتيح للفرد الثقة بكينونته المستقلة، وبوجوده المتميز. يتيح كذلك الاعتراف بالمساواة بين الأفراد، المساواة التي ينبغي أن يؤكدها القانون وان يوفر لها شروط التحقق والتفتح والنمو. وفي هذه النظرة أعطيتَ للمرأة اهتماماً خاصاً، ونظرت لما يخلّصها من دونية مكانها ومكانتها في النظام الأبوي العربي، ومن هامشيتها واغترابها. المرأة العربية في حاجة كيانية الى ان تسترد هويتها المسلوبة في هذا النظام أنثى سيدة على جسدها، وعضواً عاملاً في المجتمع، سيد رأيه وعمله وفكره. واذا هي في حاجة الى الاعتراف بها قانونياً، واجتماعياً، وثقافياً. المرأة العربية اليوم هي، في الأغلب الأعمّ، وجود كمّي غير فاعل، مستسلم، فهو اذاً خضوع يكاد ان يكون أعمى. إنها اسم آخر مبني للمجهول، تابع، سجين، وضحية. وفي النظرية التي أسست لها ما ينقلها الى موضع الفعل الخلاّق في مختلف الميادين السياسية والاجتماعية والفكرية. ان حياة المرأة العربية تندرج في تاريخ فاجع من الجراح: جراح الحرية والعدالة، جراح القيم والثقافة. ان وضعها يجسّد الجرح النازف الأليم في جسم الحياة العربية. والشرط الأساسي لكي تصح هذه الحياة وترقى الى المستوى الذي يؤهلها للتغيير والتقدم هو ان تبرأ من هذا الجرح. هكذا أسست للضرورة الملحة في دراسة المجتمع العربي ضرورة ان يعاد تشكيل الأطروحات السائدة وان تعاد صياغتها في أفق العمل لتغيير جذري يطيح بنية البطركية الأبوية. فهذه الإطاحة هي في أساس كل تقدم او تغيير حقيقي.
ومن ظواهر السلطة البطركية، خلافاً لما قد يظن، سلطة اللغة العربية، بوصفها تحمل تاريخياً، قيم النظام الأبوي العربي وفكره وشعره. وقد رافقتنا، يوسف الخال وأنا وبقية أصدقائنا الآخرين، في العمل لتهديم هذه السلطة في مجالنا الخاص.
في ضوء نظريتك النقدية للنظام الأبوي العربي، سياسياً واجتماعياً وثقافياً يمكن أن نسأل: هل تفكر المؤسسة الدينية، او هل يفكر الدين بوصفه مؤسسة؟ وهو سؤال كان الواقع هو الذي يُمليه. فقد كان ممثلوه يقدمون فهمهم لقضايا الدين بوصفه الفهم الوحيد والأخير. وكان هذا الفهم نوعاً من التفقه يتحول الى سلطة معرفية، تتحول بدورها الى سلطة سياسية. وكنا نتساءل: ما يكون في مثل هذه الحالة، دور المفكّر بحصر الدلالة في ثقافة تنهض أساسيا على مثل هذا التفقه؟ هل يستسلم له وللقائمين به وعليه؟
والجواب طالما أعلناه وكرّرناه: كلا. لكن عندما كنا ننظر حولنا في حركة الفكر، لم نكن نرى الا الاستسلام، بشكل او بآخر، طوراً باسم السياسة والوضع والحالة، وطوراً باسم المرحلة والظرف، وهو استسلام متواصل، وآخذ في إلغاء الفكر، او في تحويله الى نعم نعم، لا لا أي الى مستنقع لغويّ.
الفكر الخلاق استقصاءٌ تغويه الأقاصي يظل موغلاً الى الأمام لا يوقفه أي حد.
وفي الفكر الخلاّق متعة لا تنحدّ في الذهن وحده، وإنما تشمل الجسد ايضاً. والفكر اذاً يتحرك في عالم لا يحده بالضرورة الشرع ومعاييره، سواء كان شرع المؤسسة الدينية او شرع الحياة اليومية. هكذا يسير الفكر دائماً لا تعرقله المسلّمات أياً كانت، طبيعية او ما ورائية، ولا يتعصّب ولا يتزمّت ولا ينغلق لكن تبقى فيه غصّة، تلك التي تشير الى ان البحث طويل والحياة قصيرة.
غصّة الوقت الضيق، واستحالة الكمال. ويظل في هذا كله، هنا وهناك مخرِّباً بالمعنى النبيل الخلاق لهذه الكلمة، أعني انه لا يُعنى بتقاليد الحكمة العملية، كما تتجلى خصوصاً في المؤسسات السياسية والأكاديمية والاجتماعية وليس له ان يقدم أي حساب الا في إطار المعرفة الحرة والبحث المستقل. وسلطة المعرفة هي وحدها السلطة التي ينحني أمامها الفكر نشوة دائمة نشوة لا تنعش دائماً، خصوصاً في المجتمع العربي لأنها مليئة بالحيرة والتمزق والعذاب ولأنها ضد التيار وضد الامتثال وضد التقيد بالأعراف السائدة.
الجذرية وإعادة الاكتشاف دائماً وابدأ: هذا ما ينبغي ان يصدر عنه الفكر العربي الذي لا أفصله عن العلم والشعر والشعر الذي لا أفصله عن الفكر والعلم، كلٌ بحسب رؤيته، وكلٌ وفقاً لطرق تعبيره.
هكذا تُشقّ المنظومات المغلقة، وتُفتح أبواب جديدة على المجهولات، وتُحرّر اللغة من محمولاتها التقليدية. وهي مهمات تكاد ان تكون مستحيلة في ثقافة تهيمن عليها سياسة الشرع وشرع السياسة. انها الهيمنة التي تنظر الى الشعراء بوصفهم هائمين وفقاً للرؤية الأفلاطونية. علماً ان في هذا الوصف السالب نفسه تكمن بالنسبة اليّ خصائصهم الايجابية ويكمن مجدهم الذي لا مجد الاّ به.
ولئن استمرت هذه الهيمنة، فلن يكون وراءنا، وحولنا، وأمامنا، الا كل ما يمنع الفكر يمنع السؤال، ويحول دون البحث. لا فكر الا حيث لا شيء يمنع الفكر، سواء تمثل هذا الشيء في المؤسسة الدينية او السياسية او السلطوية. قل لي ما فكرك، وما مدى حريتك في هذا الفكر، أقل لك مَن أنت، وما درجة الإنسانية فيك. وما أشقى الإنسان الذي يُفرض عليه ان يمضي حياته خارج السؤال في القمع والجهل.
إنني في حاجة الى سماء أبدية الزرقة لكي أتحمل الحياة، يقول نيتشه. فكيف نتحملها نحن، وليس في سمائنا غير السواد؟
هذه الزرقة رأيتها شخصياً في "الجمر والرماد". عندما أقرأه، أقرأ الثنية، الخفيّ، اللامرئي، وأستشف ما وراء هذا كله. أقرأ الفراغ وما لا يُعاش، وأقرأ ما يعاش: الخبرة، التجربة، الملموس النابض. أقرأ الظن والشك والحيرة.
لماذا أكون ملكة عندما لا أقدر أن أكون امرأة؟ هذا او تقريباً ما قالته الملكة الاسوجية كريستين وتنازلت عن العرش لكي تكون نفسها، لكي تظل امرأة.
لماذا أكون كاتباً عندما لا أقدر ان أقول ما في فكري وما في نفسي؟ هذا او تقريباً السؤال الذي يحرّضنا كتاب "الجمر والرماد" على ان نطرحه دائماً قبل الكتابة وفي أثنائها وبعدها.
حقاً يبدو الموت أحياناً كأنه نوع من القتل:

اذا ما تأملت الزمان وصَرَفه
تيقنت ان الموت نوع من القتل.

يقول المتنبي. فحين لا يجيء الموت كمثل تنفس يتصاعد من رئة الطبيعة لا يعود موتاً. يصبح نوعاً من القتل.
لم يمت هشام شرابي مقتولاً تماماً وإنما مات نصف مقتول: بالسياسة ابنة الزمن، السياسة التي خاضها في صيغتها العملية التي فشلت وبالمرض ابن الموت.
أما من جهة السياسة فقد كان خيراً له اذا قارنا بين ما أعطاه وما أخذه، أن يأخذ بنصيحة فيلسوف يوناني قديم لصاحبه ان يحيا كأنه "يتدلى من سلّة في الفضاء مكتفياً بالنظر الى السماء والشمس"، وهذا ما لم يفعله.
وأما من جهة المرض، فلم يكن له خيار إلا ان يصارعه بالسلاح الأكثر مضاءً: متعة الحياة حتى آخر شهقة فيها وهذا ما فعله.
وفي هذا كان هشام شرابي سقراطياً ينظر الى الحياة ببصره وبصيرته معاً. يرى فناء الشخص جزءاً من الحياة لكنه في الوقت نفسه يرى ان هناك ما يبقى وما يغلب الفناء: الحب، الفن، الصداقة، الإبداع. يبقى كذلك المكان الذي يحضننا لكي نمارس هذا البقاء لكي نحسن بخاصة ان نمارس الحب والكتابة والصداقة.
ما أكثر ما كنا نتحدث عن هذا المكان الذي هو عزلة تُبعثر صاحبها الفرد في الجمع. بدءاً من عزلة أنطون سعادة في عرزاله، واستعادة للأكواخ التي أضاءت ظلام العالم: برميل ديوجين، محبس المعري، تسقيفة هولدرلن، مصحّ نيتشه، كوخ هايدغر. إضافة الى تلك المنافي التي بناها كبار الخلاقين داخل عروقهم وأحشائهم.
كان لهشام شرابي وطن آخر داخل وطنه، فضاء حميم في الذروة من الخصوصية يسهر فيه على حريته كما لو انها طفلة في خطواتها الاولى، في واقع يدب كأنه وحش يتفكك خلية خلية، عضواً عضواً، ويتطاير هباء.
وما هذه اللحظة التي تجمعنا الآن في هذا الليل الشامل الذي يلفّ الخريطة العربية؟ وما نقول، فيما نرى اليها تتشقق وترتطم براءة أرضها بعبث السماء؟ شخصياً أكرر ما قاله سقراط مرة: الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف شيئاً، او لنقل بصيغة أخرى أقل تشاؤماً: "من يقدر أن يتكلّم لا يعرف، ومن يعرف لا يقدر أن يتكلم".
انه عصرنا، وها أنت تخترقه قبلي وتدخل الى ذلك العالم الذي لا عودة منه، والذي ذقنا طعمه الفاجع في كلام جلجامش قبل آلاف من السنين. انه عصر ضياع وشقاء قد لا يكون لهما مثيل، ومع ذلك عشناه وفكرنا، وأحببنا، وكتبنا واحتضنّاه بوصفه مقدمة للأمل والاستبصار حتى ونحن غارقون في رماده .

النهار الثقافي
الأحد 29 كانون الثاني 2006